فقال: «معاذ الله أن يكون ذلك. وما وزيرك يا أمير المؤمنين إلا من بعض مواليك يتفانى في مصلحة دولتك. ذلك هو عهدي به.»
وكان يتخاطبان والفرسان يسيران متحاذيين بين الأشجار الباسقة وقد تشابكت أغصانها، تظلل الطرق، فبعدا عن المدينة وهما يسيران إلى غير مكان مقصود. واتفق عند ذلك أنهما أشرفا على ضيعة (عزبة) عامرة، ومواش كثيرة، وعمارة حسنة، يدور طريقها حول الضيعة. فدارا حولها حتى اقتربا من بابها، فنظر الرشيد إلى بيدرها وكثرة الغلال فيه، وما يسرح من الماشية الكثيرة حوله، والتفت إلى إسماعيل وقال: «لمن هذه الضيعة يا إسماعيل؟»
فعلم إسماعيل أنها لجعفر، وقد أراد الرشيد أن يتخذ ذلك حجة على ما يريد من الطعن عليه فقال: «هي لأخيك جعفر بن يحيى.»
فتنفس الرشيد الصعداء وقال: «ولو سألتك عن سائر ما في هذه الضاحية من الضياع
هذا الجواب؛ لأن الذي دعوته أخي قد ملك أهله كل ما يحيط ببغداد من الضياع والبساتين. أرأيت كيف أغنينا هؤلاء البرامكة وأفقرنا أولادنا، وأغفلنا أمرهم حتى صارت البلاد لهم، وأصبحت مواكبهم أعظم من مواكبنا، وأموالهم أكثر من أموالنا؟ وإذا كانت هذه ضياعهم قرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟»
فشق على إسماعيل ذلك القول غيرة منه على سلامة الدولة فقال: «إنما البرامكة عبيدك وخدمك، وما ضياعهم وكل ما يملكون إلا لك.»
وكان الرشيد لا يتوقع من إسماعيل دفاعا عن رجل كان بالأمس سببا في فشله، فسمت منزلته في عينيه، ولكن ساءه دفاعه؛ لأنه كان يتوقع منه أن يجاريه فيما ينويه، شأن كل غاضب مستبد، فنظر إلى إسماعيل نظرة جبار عنيد، وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما وقال: «أراك حسن الظن بأعدائي، وتحسبهم عبيدا لي، والبرامكة يعدون بني هاشم عبيدهم، وأنهم هم أصحاب الدولة، وأن لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أصحاب الفضل عليهم فيها.»
فلم ير إسماعيل أن يدافع أكثر من ذلك لئلا يتحول غضب الرشيد إليه، فقال: «إن أمير المؤمنين أبصر بخدمه وعبيده.»
فأدرك الرشيد أنه خشي غضبه، ولم يصرح بما في نفسه فأحب أن يسمع رأيه فقال: «ليس لذلك صحبتك يا عماه، ولا هذا عهدي بك. هل تسايرني وتجاريني خوفا من غضبي؟»
فتحير إسماعيل في أمره وتردد بين أن يجيبه أو يبقى على الكتمان. ومع ما يعلم من منزلته عند الرشيد، لم يكن ليطلق لنفسه الحرية إلا وهو يحاذر من غضبه؛ إذ لا يستبعد أن ينقلب الرشيد عليه إذا تبادر إلى ذهنه سوء الظن به. وهذا جعفر لم يبلغ أحد ما بلغه من الدالة والنفوذ حتى صار الرشيد يدعوه أخاه، ويدعو والده يحيى أباه، فلما شك فيه أصبحت حياته
صفحه نامشخص