وشملت مصر من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال حركة نشاط عظيم واسعة النطاق، وكان الجند يحشدون في كل مكان، وكانت السفن الكبيرة تمخر عباب النيل آتية من الشمال والجنوب، محملة بالجند والأسلحة والمؤن قاصدة إلى منف العظيمة ذات الأسوار البيضاء، فازدحمت بهم ثكنات العاصمة وأسواقها، وضج جوها بصلصلة أسلحتهم الثقيلة وأنغام أناشيدهم الحماسية، فعلم القاصي والداني بأن حربا على الأبواب، وأن أبناء النيل ينشطون للذود عن سلامة وطنهم.
وفي فترة الاستعداد سافر الأمير أبوور إلى مقاطعته لأمور تتعلق بالحرب والاستعداد لها، وتلقى القائد ددف خبر سفره بقلب لم تنسه هموم الواجب أشجانه وهواجسه، فساءل نفسه ترى هل فاز الأمير السعيد بأمانيه الخاصة، فوزه في مهمته السياسية العامة، وهل عاد إلى مقاطعته سعيدا بإعلان الحرب، وإبرام ميثاق الهوى؟ ترى ما الذي حدث بينه وبين الأميرة الجميلة ذات الدل والكبرياء؟ ماذا شهدت خمائل حديقة القصر الفرعوني من مناظر الهوى؟ وماذا سمعت أطياره من مناجاة الحب وهمساته؟ هل رأت الأميرة المتكبرة إذ تذل للناموس الذي لا يعرف الرحمة ولا يترفق بالكبرياء؟ وهل سمعتها إذ تبوح بأنات الجوى باللسان الذي تعود الأمر والنهي؟
ولكن صبرا فغدا يذهب للقتال، وإنه ليذهب بقلب لا يهاب الموت، ونفس تهوى المخاطر، وروح تتوق إلى المغامرات والأهوال، ليته يحقق النصر لوطنه ويدفع حياته ثمنا للنصر والمجد، فيقوم بواجبه كجندي ويخلد إلى الراحة التي ينشدها قلبه المعذب. يا له من خاطر جميل حري بأن تنزع إليه النفس الباسلة إذ غررت بها أماني الحب الغرور! ولكن كيف يودع الوطن وداعا لا رجعة منه، دون أن يحظى منها بنظرة أخيرة؟ وهل كان حبه لهوا ولعبا؟ إن قلبه ليشتاق إلى رؤية قلبها اشتياقا أليما، وإن نظرة من وجهها لأعز عنده من نور البصر، ونعمة السمع، وطيب الحياة، وهل أحس بأفراح الدنيا وبهجة الحياة إلا على ضوء وجهها الحبيب؟ فلا بد من رؤيتها ومحادثتها، وهو طلب يعز على الأحياء جميعا، ولكن ما أيسره على طالب الموت ...
ولم يدر القائد الشاب كيف يحقق أمنيته المنشودة، ومرت أيام الاستعداد القلائل سراعا حتى جاء اليوم الذي تقرر أن يسير الجيش غداة غده، وأرادت الآلهة أن تهبه بعد عسره يسرا، وأن تدني إليه ما أرهقه طلبه يأسا، فجاءت الأميرة تزور شقيقها زيارة من زيارات المفاجأة، وكان الأمير قد ذهب لتفتيش الثكنات الحربية. وعلم رئيس الحرس بمقدم الأميرة فخف طائرا إلى انتظارها، ولم تغب الأميرة طويلا داخل القصر فظهرت بوجهها الفتان، وكان في توديعها كبير الحجاب، وأقبل عليها الشاب بجسارة لم تؤاته في محضرها إلا مرة واحدة على شاطئ النيل، وأدى لها التحية العسكرية، ثم سار في معيتها بمفرده بعد أن تخلف كبير الحجاب عند مدخل القصر، وكان يتأخر عنها مقدار خطوتين، فاستطاع أن يملي عينيه من حسن قامتها ورشاقة قدها وفتنة حركاتها، والتهب صدره عطفا ووجدا، وتمنى لو يفرش لها قلبه تطؤه بقدميها، ليحس في سويدائه بوقع خطاها ولمس أناملها وتردد أنفاسها. يا عجبا! إن حكمة الطبيعة لا تخلو من فكاهة ممتعة، انظر إليها كيف توطئ الفوز لهذا الفارس على جميع القوى الجبارة، وانظر إليها كيف تذل عنقه لهذا المخلوق الدقيق البديع الذي لم يخلق لطعان!
وكانا يقطعان الممشى الطويل - المزدان جانباه بالورود والرياحين والتماثيل والمسلات - بخطى وئيدة، وكانت السفينة الفرعونية ترى عن بعد راسية إلى أدراج الحديقة، فتولى الجزع قلب الشاب، وكبر عليه أن تذهب من بين يديه دون كلمة وداع، وكان قلبه يضيق بكلمة يود أن يلقيها إلى مسمعيها المحبوبين، ولكن جمودها لم يدع له فرصة للكلام، ورأى المسافة تقصر والسفينة تقترب، فاشتد به الجزع وطغت عليه موجة من الاستهتار حلت عقدة لسانه، فقال لها بصوت متهدج: كم أنا سعيد يا صاحبة السمو لأني رأيتك قبل الرحيل غدا.
فبدا عليها كأنها بوغتت بقوله، وحدجته بنظرة استغراب قاسية وقالت: لقد بلغت أيها القائد مكانة رفيعة ... فما لي أراك تقامر بمجدك ومستقبلك!
فقال باستهانة: المجد والمستقبل يا صاحبة السمو؟! إن الموت يردهما إلى الهوان.
فقالت باحتقار: أرى أن والدي جعل على رأس جيشه قائدا يستحوذ على روحه قنوط الموت لا النصر والظفر!
فاندفع الدم إلى وجهه الجميل وقال بإباء: إني أعرف واجبي يا صاحبة السمو، وسأقوم به كما ينبغي لقائد مصري شرفته الآلهة بنيل ثقة مولاه، وسأبذل حياتي ثمنا له.
فهزت منكبيها وقالت: إن الرجل الشجاع لا ينسى ماضيه ولا يخرق تقاليده لواذا بالموت.
صفحه نامشخص