فلم يعبأ ددف بكلامه وسأله: في أي بقعة كانت ترى؟ - شمال معبد أبيس. - ترى هل ما تزال تذهب إلى هناك؟ - وما الداعي إلى تساؤلك أيها الضابط؟
فتحيرت في عيني ددف نظرة ملتهبة، فقال نافا: هل قضي أن يصيب السهم الأخوين في أسبوع واحد؟
فقطب ددف جبينه وعاد إلى تأمل الصورة، فقال نافا: لا تنس أنها فلاحة.
فتمتم ددف قائلا : بل ربة جميلة.
فقال نافا ضاحكا: واها يا ددف العزيز، لقد أصابني السهم فترديت في قصر كامادي، وأخشى إن كان أصابك أن تقع على كوخ متهدم! ...
16
كان اليوم يحمل طابع الأحلام، فلدى عصره وضع ددف الصورة على صدره، وذهب إلى شاطئ النيل واكترى قاربا اتجه به صوب الشمال ...
ولم يكن يعي ما يفعل، ولا يقدر عاقبة تصرفه، وكل ما يمكن قوله أنه مسه سحر الافتتان فأطاع وحيه وأصاخ إلى ندائه، فانطلق يعدو إلى غايته المجهولة مدفوعا بعاطفة قهارة لا تقاوم، فقد أصابه مس من الافتتان، واستقر الافتتان في قلب شجاع لا يهاب الموت، جسور لا يلوي على المخاطر، فكان من الطبيعي أن ينطلق لأنه ليس من عادته أن ينكمش، وليكن ما يكون ...
وراح القارب يشق الماء مدفوعا بقوة التيار وشدة الساعدين الفتيين، وجعل ددف يرسل بناظريه إلى الشاطئ يبحثان عن ضالته، فما رأتا أول الأمر إلا حدائق قصور أغنياء منف التي تهبط إلى سطح النيل بدرجات رخامية. وسار فراسخ لا يرى سوى الحقول المنبسطة حتى لمح عن بعد حديقة القصر الفرعوني، فمال بقاربه إلى وسط النهر ليبتعد عن منطقة الحرس النيلي، ثم عرج مرة أخرى إلى الشاطئ عند مقام معبد أبيس، ثم أوغل شمالا محاذيا للبقعة التي لا ترى الناس إلا في المواسم والأعياد. وكاد يشفي على اليأس والقنوط لولا أن رأى على بعد قريب قطيعا من الفلاحات يجلسن على الشاطئ تاركات سيقانهن في الماء الجاري، فخفق قلبه خفقة شديدة طردت القنوط طردا، والتمعت عيناه بنور الأمل البهيج، فاشتد ساعده وحول القارب إلى الشاطئ، وكان كلما قطع ذراعا التفت إليهن وأمعن النظر، فلما أن دنا منهن واستطاع أن يرى وجوههن فرت من فمه صيحة خافتة، كصيحة الأعمى الذي ترد إليه نعمة الإبصار على حين فجأة، وذاق غبطة الغريق الذي صادفت قدماه صخرة ناتئة وقد أشفى على الغرق؛ فقد رأى الفلاحة المنشودة، صاحبة الصورة التي على قلبه، جالسة على الشاطئ وسط هالة من أترابها، وكان كل شيء - كما قلنا - موسوما بروح الأحلام، فرسا القارب قريبا منهن، ووقف فيه ددف بقامته الفارعة وبزته البيضاء الأنيقة، يتيه بجسم كأنه تمثال القوة المعبود، وجمال فاتن كأنه إله النيل انحسرت عنه أمواجه القدسية، وجعل يرنو إلى ذات الوجه الملائكي بوجه شفه الهيام والافتتان، فتولت الحيرة الفلاحة، ومضت تقلب عينيها في وجوه صويحباتها، ومضين يقلبن أعينهن في وجهها المشرق، وكن يظننه عابرا، فلما رأينه واقفا سحبن سيقانهن من النيل، وارتدين صنادلهن وتولاهن الإنكار.
فقفز ددف من القارب فصار على بعد ذراع منهن، وقال للفلاحة بصوت رقيق: طيب الرب مساءك أيتها الفلاحة الجميلة.
صفحه نامشخص