فوقف المعمار أمام رب العرش وكان وجهه يتلألأ بأنوار الفرح، ثم قال: مولاي واهب الحياة ومنبع النور، اليوم أشبع إخلاصي لذاتكم العليا بالعمل المجيد، وأتوج حياتي في خدمتكم بالأثر الخالد، فأنال في ساعة سعيدة واحدة ما يتمناه المخلص من إخلاصه، والفنان من فنه؛ فلقد شاءت الآلهة التي يتعلق كل خلق بمشيئتها أن أزف اليوم إلى ذاتكم المعبودة بشرى الانتهاء من أعظم أثر أقيم على أرض النيل منذ عصر الآلهة، وأكبر بناء أشرقت عليه شمس مصر منذ أشرقت على الوادي. ويقيني يا مولاي، أنه سيظل باقيا على الأجيال مقرونا باسمكم المقدس، منسوبا لعهدكم المجيد، حافظا لروحكم الإلهية، معلنا عن جهاد الملايين من أيدي مصر العاملة، وعبقرية العشرات من رءوسها النابهة، وإنه اليوم لعمل مجيد لا نظير له، وغدا هو المثوى لأجل روح حكمت أرض مصر، وبعد غد وإلى أبد الآبدين هو المعبد الذي تأتلف في ساحته قلوب الملايين من عبادك، يسعون إليه من الجنوب ومن الشمال.
وسكت الفنان الخالد لحظة ريثما شجعته ابتسامة الملك، ثم استطرد: لقد شيد اليوم يا مولاي شعار مصر الخالد، وعنوانها الصادق؛ فهو ابن القوة التي تربط شمالها بجنوبها، وهو وليد الصبر الذي يغمر صدور بنيها جميعا من الضارب الأرض بفأسه إلى الكاتب على الطرس بقلمه، وهو وحي الدين الذي تخفق به قلوب أهلها، وهو مثال العبقرية التي جعلت من وطننا سيدا على الأرض التي تسبح الشمس حولها في السفينة المقدسة، وسيظل أبدا الوحي الخالد الذي يهبط على قلوب المصريين فيؤيدها بالقوة، ويلهمها الصبر، ويحثها على الدين ويدفعها إلى الإبداع.
وكان الملك يصغي إلى الفنان وعلى فمه ابتسامة رضا، ويرنو بعينيه النافذتين إلى وجهه المكتسي ببهاء الحماس والفرح. فلما انتهى قال له: إني أهنئك أيها المعمار على نبوغك المنعدم النظير، وأشكرك على العمل المجيد الذي شيدت لملكك ووطنك مما يوجب لك التقدير والحمد، ولسوف أحتفل بآياتك الكبرى احتفالا مهيبا يليق بعظمتها وخلودها.
وكان المعمار يحني الرأس وينصت إلى ثناء فرعون، كأنما ينصت إلى لحن إلهي.
واحتفل فرعون بالهرم احتفالا رسميا شعبيا مهيبا، شهدت فيه الهضبة المقدسة من الخلق أضعاف ما شهدت من جميع العمال الأشداء، ولكنهم لم يحملوا إليها هذه المرة الفئوس والعدد، ولكن حملوا الأعلام وأغصان الزيتون وسعف النخل والرياحين، وتغنوا بالأناشيد المقدسة الطاهرة. وصنع الجند بين تلك الجموع طريقا عظيما يمتد من وادي الأبدية، ويميل شرقا ثم يدور حول الهرم، ويعرج غربا حتى يصب في وادي الأبدية مرة أخرى. وفي ذاك الطريق سارت الهيئات الرسمية للطواف بالبناء الكبير، تتقدمها جموع الكهنة بطبقاتهم المختلفة والنبلاء والسراة، ثم اخترقت الطريق فرق الجيش المعسكر في منف من ركبان ومشاة، ثم بدا للعيان موكب فرعون والأمراء، فولى العباد وجوههم شطره، وهتفوا له من أعماق القلوب، وانحنوا انحناءة واحدة كأنهم في صلاة هو قبلتها.
وحيا فرعون الهرم بكلمة موجزة، وباركه الرئيس خوميني، ثم عاد الركب الفرعوني وانفضت الهيئات الرسمية. أما جموع الشعب فجعلت تطوف بالبناء الكبير مهللة مكبرة هاتفة منشدة، ولم تتفرق جموعها إلا حين سكب الفجر بهاءه وبث روحه الهادئ السحري في أرض الوادي الزبرجدية.
وفي ذاك المساء دعا فرعون الأمراء والصحابة المقربين إلى جناحه الخاص، وكان الجو ميالا إلى البرودة فاستقبلهم في بهو استقباله العظيم، حيث جلسوا على مقاعد من الذهب الخالص.
وكان فرعون على صلابته ومتانة بنيانه يبدو على نظرة عينيه شعوره بالتبعات العظيمة الملقاة على عاتقه. وكان ظاهر الملك لم يتغير حقا، أما باطنه فقد طرأ عليه من طوارئ الزمان ما لم يخف عن أعين المقربين أمثال رعخعوف وخوميني وميرابو وأربو، فلاحظوا مثلا أن الملك يزهد قليلا قليلا في الرياضة غير مستثن ما كان منها أحبها إلى قلبه كالصيد والطرد، وأنه يميل إلى التشاؤم والتفكير والقراءة، فكان ربما طلع عليه الفجر وهو جالس في مخدعه يقرأ كتب اللاهوت وفلسفة قاقمنا، وتطورت فكاهته الأولى إلى سخرية لا تخلو من سوء الظن والريبة.
كان أعجب ما في ذلك المساء - وهو ما أعجز الحسبان - أن يبدو على الملك آي من الهم والقلق، ذاك المساء الذي احتفل فيه بأعظم عمل في التاريخ. وكان أشد الناس قلقا لذلك المعمار ميرابو، ولم يتمالك أن سأل مولاه: ما بال مولاي بادي الانشغال؟
فنظر إليه الملك بشيء من السخرية وقال له متسائلا: وهل عرف التاريخ ملكا خالي البال؟
صفحه نامشخص