وقد بلغت زايا الأربعين ولم تنل منها السنون إلا قليلا، فاحتفظت بمعالم جمالها، وكمل نضجها، وصارت السيادة والكرامة من طباعها الثابتة؛ فمن يرها تقوم على قصر بشارو لا يجر له على بال أنها تلك التي كانت زوجا للعامل كاردا وخادما للسيدة رده ديديت، بل هي نفسها أدرجت ذكريات الماضي أكفان النسيان، ومنعت الذاكرة من التسلل إلى زوايا التاريخ المنطوي، لتتمتع بسعادتها الأولى - أمومتها لددف - متعة خالصة، والحق أن حناياها كانت تهفو إليه كأنه سكنها تسعة أشهر، كما كان أعز آمالها أن تراه رجلا مجيدا سعيدا.
وفي ذلك الوقت كان خنى قد قطع مرحلة طويلة في تعليمه العالي، ولم يبق أمامه سوى ثلاث سنوات للتخصص، ولما كان الشاب بطبعه ميالا إلى الدراسة والتعمق في أسرار الكون؛ فقد اختار اللاهوت وآثر الانخراط في سلك الكهنوت، ولم يكن الأمر متوقفا على محض اختياره؛ لأن الكهنوت علم عزيز لا يلج أبوابه إلا من يجتاز - بعد إتمامه الدراسة العالية بما فيها التخصص - اختبارات نظرية، وعلمية شاقة، عدة سنوات في أحد المعابد، ولكن قوبل طلب خنى بالعطف لما أبداه في أثناء حياته الدراسية من الذكاء والفطنة والأخلاق النبيلة، وكأنه لم يرث من والده إلا صوته الأجش الأجوف، وفيما عدا ذلك كان نحيفا دقيق القسمات هادئ الملامح، تذكر صورته بصورة أمه التي اتصفت بالورع والتدين.
وكان في ذلك على النقيض من شقيقه نافا الذي ورث عن والده جسمه البدين ووجهه الممتلئ، والكثير من أعماق روحه، فكان طيبا مرحا، وكان من حسن حظه أن خرجت قسماته أدق من قسمات والده الغليظة الثقيلة، وقد حاز الشاب أعلى شهادة في فن الرسم والتصوير، واكترى - بمعونة والده - بيتا صغيرا في شارع سنفرو - وهو أهم شوارع منف التجارية - وجعله محلا لعمله، ومقاما لمعرض آياته الفنية. وكتب على لافتة بالخط الهيروغليفي الجميل: «نافا بن بشارو إجازة معهد خوفو للفنون الجميلة.» ومضى يعمل ويحلم وينتظر صابرا جمهور الطالبين والمعجبين. ولم ينج جاموركا من فعل الزمن فنما وضخم وقصر شعره الأسود الذي كان مسبلا، وتبدت على وجهه آي القوة والشدة، وعلى أنيابه بينات القسوة والويل، وأجش صوته واخشوشن، فكان إذا نبح دوى نباحه دويا، وبعث الرعب في أفئدة القطط والثعالب والذئاب، وأعلن للملأ أن حارس قصر المفتش ساهر، وكان على صلابته وشدته أرق من النسيم على صاحبه وحبيبه ددف، الذي زادت الأيام ما بينهما توثقا ومودة، فكان إذا ناداه لبى، وإذا أمره أطاع، وإذا انتهره ذل وسكن، بل إنهما استغنيا بنجوى السرائر عن لغة الظاهر، فكان جاموركا يحس بمجيء ددف إلى البيت إحساسا خفيا، فيهرع إلى لقائه ولما يره. وكان يتعارف على باطنه بقدرة عجيبة قد تخون أقرب الناس إليه، فكان يعرف حالات رضاه فيقبل عليه ملاعبا، ويقفز واضعا يديه على منطقة وزرته، كما كان يحس بحالات تعبه أو ضيقه فيسكن بين قدميه مكتفيا بتحريك ذنبه.
أما ددف فقد بلغ الاثني عشر عاما من عمره، وجاء الوقت الذي ينبغي أن يختار فيه وجهته التي يوليها في الحياة، والحق أنه إلى ما قبل ذلك بقليل لم يجر تفكيره في تلك المسألة الخطيرة، وكان الغلام يبدي نشاطا عاما محمودا، وقد خدع خنى بتشوقه إلى الفلسفة حتى حسبه كاهنا، وحسب الكهنوت مستقبله دون غيره. ولكن نافا - وكان بحكم فنه أنفذ بصرا - كان يشاهده وهو يسبح وهو يجري وهو يرقص، وكان يرى جسمه النامي وقده الممشوق؛ فيقول لنفسه وهو يكسوه بخياله اللباس الحربي: «يا له من جندي!» وكان نافا عظيم التأثير في ددف للحب المتبادل بينهما، فوجهه ذاك التوجيه الذي باركته زايا وتحمست له، ومنذ ذاك اليوم ولا شيء يجذب عيني زايا في الأعياد مثلما يجذبهما منظر الجنود والفرسان وفصائل الجيش.
ولم يكن بشارو ليحفل بما يختار ددف من فنون الحياة؛ فهو لم يتدخل مطلقا في حرية اختيار خنى أو نافا لمستقبلهما، ولكنه وجد ميلا إلى التأمل فقال لددف - وكانوا جميعا جلوسا في الحجرة الصيفية - وهو يربت بلطف على كرشه العظيم: ددف، ددف الذي كان يحبو بالأمس القريب! ددف أضحى يجهد رأسه الصغير في التفكير في اختيار سبيل له في الحياة ينهجه كرجل مسئول! لقد دار الزمان دورة غادرة، حنانك أيها الزمان، رفقا ببشارو أو رفقا به حتى يكمل بناء الهرم، فإنك لن تجد له خلفا صالحا.
وقالت زايا تعلن رغبتها: لا داعي لكثرة الأسئلة؛ فإن من ينظر إلى وجه ددف الجميل وقامته الفارعة وقوامه المعتدل لا يرتاب لحظة في أنه يرى ضابطا من ضباط العجلات الفرعونية.
وابتسم ددف إلى أمه التي وافق حديثها هواه، وذكر فرقة العجلات التي رآها تشق طرق منف - يوم عيد بتاح - في صفوف متحاذية منتظمة لا تشذ عنها يمينا أو شمالا، ولا إلى الأمام ولا إلى الخلف، والفرسان على العربات منتصبون، لا يميلون ولا يضطربون كأنهم مسلات مشيدة، ترمقهم الأبصار وترنو إليهم عيون الحسان.
ولكن خنى لم يرض عن اختيار زايا وقال بصوته الغليظ الذي يشبه صوت أبيه: كلا يا أماه، إن ددف كاهن بالفطرة، وطالما وضح لي استعداده للتعلم وميله للعلم والمعرفة، وطالما ألحت علي أسئلته الكثيرة الدالة على الفطنة والذكاء؛ فمكانه المختار جامعة بتاح لا المدرسة الحربية، ما رأيك يا ددف؟
وكان ددف شجاعا صريحا، لا يتردد عن إبداء رأيه فقال: يؤسفني أن أخيب رجاءك هذه المرة أيها الأخ، ولكن الحق أني راغب في الجندية.
فوجم خنى، أما نافا فقد ضحك ضحكة عالية وقال لددف: أحسنت الاختيار يا ددف. فما صورتك إلا صورة جندي، هكذا أقنعني خيالي ... ولو أنك اخترت في الحياة فنا آخر لذقت مر الخيبة وتزعزعت ثقتي بنفسي.
صفحه نامشخص