وكانت زايا في حالة بائسة من الخور الجسماني والفزع النفسي، فتاقت نفسها إلى حجرة تخلو فيها إلى نفسها، واستدلت بشرطي على فندق متواضع تبيت فيه بقية ليلها. ولما وجدت نفسها والطفل لا ثالث لهما، تنهدت تنهدة عميقة وارتمت على السرير.
وكأنما أطلقت - باستلقائها - العنان لألم جسمها ومخاوف قلبها، ولكن مخاوف القلب طغت على آلام الجسم واستبدت بشعورها. كانت ذاهبة الفؤاد مذعورة النفس لا تبرح مخيلتها صورة سيدتها النفساء التي خطفت طفلها، وتركتها على عربة ضالة وسط الصحراء، تغشاها الظلمات وتحيط بها الوحشة ويطبق عليها رجال سلب ونهب لا تعرف قلوبهم الرحمة ولا الشفقة، ولعلها الآن أسيرة بين أيديهم يسومونها سوء العذاب، ويفرضون عليها الرق والعبودية، وهي تبث الآلهة شجوها وذلها وتشكو إليها ما لاقت من غدر ويأس وما تلقى من عذاب.
وازدادت زايا عذابا وخوفا، ومضت تتقلب على فراشها ذات اليمين وذات الشمال، وأشباح فعلتها النكراء تطاردها مطاردة عنيفة وتنهال عليها بالوخز والألم والرعب، واستصرخت النوم العزيز لينقذها من ويل ليلتها الوبيل، ولكنها تقلبت كثيرا وسهدت طويلا، وذاقت مر العذاب والخوف قبل أن يرفق النوم بجفنيها وينتزعها من الجحيم الذي أصلاها نار العذاب، فنامت متعبة منهوكة القوة مقلقلة النفس.
واستيقظت على عويل الطفل، وكانت أشعة الشمس تنفذ من كوة الحجرة وتفرش أرضها بساطا من الأنوار، فحنت على الطفل وهزته بلطف وقبلت فمه بحنان، وكان النوم قد شفى أسقامها، وطمأن نفسها، وإن لم يخل قلبها من قلق ونفسها من عذاب، ولكن الطفل استطاع أن يحول شعورها إليه فأنقذها من عذاب الليل وويله، وحاولت ملاطفته ولكنه زاد في العويل، وواجهت بغتة مشكلة تغذيته وتحيرت من أمرها، ولكنها فطنت إلى الحل الواحد، فقامت إلى باب حجرتها وصفقت بيديها فجاءتها امرأة عجوز تسألها عما تريد، فطلبت منها نصف رطل من لبن الماعز.
وحملت ددف بين ذراعيها وذرعت به الحجرة ذهابا وجيئة، ووضعت حلمة ثديها في فمه تلهيه وتصبره، ثم نظرت إلى وجهه الجميل وصاحت بنشوة فرح مفاجئ كأنه تسلل إلى قلبها خلسة في غفلة عن الهجوم: تبسم يا ددف ... تبسم وقر عينا فسترى والدك بعد حين قليل.
وسرعان ما تنهدت وقالت لنفسها بخوف: ترى هل أفوز به رغم كل شيء؟
لقد انتهى أمر أمه الحقيقية وكذا أمر أبيه!
أما أمه فقد أخذها البدو أسيرة، وما كانت تستطيع هي - أي زايا - أن تفعل شيئا لإنقاذها. ولو ترددت لحظة أخرى عن الهرب لوقعت معها غنيمة باردة في أيدي البدو المعتدين، فلا يجوز أن تحمل نفسها وزر جريمة لم ترتكبها ولم تعن على ارتكابها، وأما أبوه فلا شك أن قتله جنود فرعون انتقاما منه لتهريبه زوجه وطفله.
وارتاحت إلى تفكيرها هذا فعاودته مرة أخرى لترضي نفسها وضميرها، وتقضي على أشباح الخوف ونحس الآلام، فرجعت تحدث نفسها بأنها أحسنت صنعا بالهروب وخطف الطفل، ولو أنها لبثت إلى جانب سيدتها ما استطاعت أن تدفع عنها شر العدا ولهلكت معها، وما كان في مقدورها أن تحملها وتدب بها، ولم يكن من الرحمة أن تترك الطفل بين أحضانها حتى يقتله رجال سيناء؛ فقد أحسنت صنعا بالهرب وأحسنت صنعا بخطف ددف ولا خوف عليها، ولا ينبغي أن تحزن!
ما أعذب هذا التفكير، بل ما أجمل أن ينتهي بها إلى أنها أم ددف دون شريك!
صفحه نامشخص