وأشرت إلى أولادي، فهاج بي الجمع كله، لا أدري لماذا؟
بوبي
وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها، وكنت أركب «الأمنيبوس» ففتحت الباب وإذا بها أمامي، وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر وإلى جانبها صاحب لي، جالس كالدمية. فغضضت الطرف؛ أعني أني حولت عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالإعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ، ومقت أيضا، ولكني كتمت ذلك وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني؛ لظني أنها قد تكون زوجه أو أخته أو قريبته، أو حبيبه، ولكنه كان تمثالا مبنيا أو منحوتا من الحجر لا إنسانا حيا من لحم ودم. فمضيت عنه إلى آخر مقعد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له، وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيني وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجة أو قريبة، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يبتلى بقرابته، وإنه لا حق له في زحامها على مقعدها، وإن من سوء الأدب ألا يفسح لها.
ورثيت لها، وأشفقت عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرق، ولا يطرف له جفن، وهممت مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فإن النساء - ككل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعت وحفظت من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحيانا أن يعطي الحلق لمن ليس له أذن ...
وبلغت «محطتي» فنزلت، ومنحت السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة، فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فإذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة أو الاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفت فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعت معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيرا وخطوه متقاربا، ورفعته عن الأرض ، ووقفت أمسح له شعره الناعم، لأستريح.
وسمعت صوتا رخيما يقول لي: «أشكرك، هذا منك غاية المروءة.»
فدرت وقلت بسرعة: «العفو ... أستغفر الله.»
قالت الفتاة: «منتهى اللطف ولا شك.»
فلم أدر ماذا أقول، وكنت أنا أحمل الكلب، وهي تحمل معطفي - كما تبينت فيما بعد - ولكني لم أكن أرى أو أدرك شيئا، سوى أن لساني قد انعقد، وأني فقدت القدرة على الكلام.
وعادت الفتاة تقول: «صحيح، أنا متشكرة جدا.»
صفحه نامشخص