الكتاب: البرهان فى تناسب سور القرآن (ويسمى: البرهان فى ترتيب سور القرآن)
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفى: ٧٠٨هـ)
تحقيق: محمد شعباني
دار النشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب
عام النشر: ١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 178
المقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم تسليمًا
قال الشيخ الإمام، العالم العَلَم الأوحد الصدر الجليل، المحدث الناقد
المحقق، حبر التأويل وكاشف أسرار التنزيل، أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن
الزبير الثقفي العاصمي ﵀
الحمد لله الحكيم العليم، العلي العظيم، ذي الفضل العميم والجود
القديم، الذي ابتدأ الإنسان بالنعم فُرادى ومثنى، وخلقه في أحسن تقويم بعد
كونه نطفة من مني تُمنى، وخصه بمزية التشريف والتكريم، أهّله لتلقي خطابه، وهيأه لتحمل فرقانه العزيز وكتابه، وقد قال سبحانه فيه: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) .
والصلاة على محمد نبيه المعظم ورسوله المصطفى المكرم، المخصوص
بالكتاب، والفاتح لأولي البصائر - بما أيد به من الأعلام الباهرة والحجج
القاطعة القاهرة - مستغلق ذلك الباب، فأوضح السبيل للسالك، فلن يهلك على الله بعد بيانه إلّا هالك، وأنى بسلوك ذلك الباب لمن حقت عليه كلمة العذاب، وقد قال سبحانه: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) .
وبعد، فإني اعتبرت قوله ﷺ: " ما من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
1 / 179
وتأملت ما أيد به ﵇ من المعجزات سوى القرآن، فإذا
بدروب لا يحصيها العد، ولا كاد تنحصر بالحد، وقد قال ﷺ: "وإنما كان الذي أوتيت وحيًا"
يشير إلى دليل القرآن، وما خص به ﷺ من ساطع ذلك البرهان، وما ذاك إلا لكون معجزته أوضح وأحكم، وأهدى وأقوم، فإنما ضمنت إلى - الدلالة والشهادة إيضاح الطربق وأعلمت بحال كل فريق، ثم زادت بنقائها للمعتبر ومشاهدتها للمدَّكر، وقد اضطر من تأخر فيما
سواها للخبر، وليس كالعيان، فلله ما أعظمها معجزة باقية مدى الدهور
والأزمان، وللمشاهدة حال لا ينكر وتعريف لا يتنكر، وفرق بين ما عرف
بالمشاهدة وبين ما علم بالدليل، وحسبك سوال نبي الله الخليل.
فالحمد لله الذي جمع لهذه الأمة الأمرين وخصها بالاعتبارين، فمن
معجزات نبينا ﷺ المستوضح اعتبارا بالبيان، والمشاهد حسا بالعيان، وكما أن من تعامى في حياته ﷺ عن نبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من معجزاته
ملوم مدحور، مأزرر غير مأجور، فكذلك من تعامى عن آيات الكثاب وكأن لم يقرع أذنه قارع من هذا الباب، ولهذا نبه تعالى بقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ"، وبقوله: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"، وجهات اعتباره كثيرة، ولسلف هذه الأمة وخلفها مسالك في ذلك شهيرة.
وإني تأملت منها - بفضل الله - وجوه ارتباطاته وتلاحم سوره وآياته إلى
ما يلتحم مع هذا القبيل
1 / 180
عجائب شواهد التنزيل فعلقت في ذلك ما قدر لي
"ثم قطعت بى قواطع الأيام عن تتميم رومى من ذلك وعملي، فاقتصرت بحكم الاضطرار في هذا الاختصار على توجيه ترتيب السور، وإن لم أر في هذا الضرب شيئا لمن تقدم وغبر، وإنما بدر لبعضهم توجيه ارتباط آيات في مواضع مفترقات، وذلك في الباب أوضح، ومجال الكلام فيه أفسح وأسرخ.
أما تعلق السور على ما ترتبب في الإمام، واتفق عليه الصحابة الأعلام
فمما لم يتعرض له فيما أعلم، ولا قرع أحد هذا الباب ممن تأخر أو تقدم، فإن صلى أحد بعد فهذه الإقامة، أو أتمَّ فمرتبط حتما بهذه الإمامة، فإن أنصف فلابد أن ينشد إذعانا للحق وإنابة:
فلو قَبل مبكاها بَكت صبابة
ولما كمل لي بفضل الله الأمل من جليل هذا العمل، غريبا في بابه، رفيعا
في نصابه، موفى التحرير، معدوم النظير، تحصل بمطالعته العلم اليقين، ويفصح بشهادته أن العاقبة للمتقين، والله ينفع فيه بالنية من مرضاته الأُمنيَّة بمنه ويمنه.
1 / 181
باب التعريف بترتيب السور
وهل ذلك بتوتيف من الشارع ﷺ أم هو من فعل الصحابة؟
اعلم أولا أن ترتيب الآيات في سورها وقع بتوقيف ﷺ وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين، وإنما اختلف في ترتيب السور على ما هي عليه
وكما ثبت في الإمام مصحف عمان بن عفان ﵁ الذي بعث بنسخة إلى الآفاق، وأطبقت الصحابة على موافقة عثمان في ترتيب سوره وعمله فيه، فذهب مالك، والقاضي أبو بكر بن الطيب. فيما اعتمده واستقر عليه مذهبه من قوليه، والجمهور من العلماء، إلى أن تريب السور إنما وقع باجتهاد الصحابة، وأن رسول الله ﷺ فوض ذلك إلى أمته بعده، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن ذلك إنما
وقع بتوقيفه عدوط وأمره، ولكل من الطائفتين جهات تعلق، وكلا القولين والحمد لله لا يقدح في الدين، ولا يثمر إلا اليقين، فأقول مستعينا بالله سبحانه:
1 / 182
اعلم أن الأمر في ذلك كيفما قدر فلابد من رعي التناسب، والتفات
التواصل والتجاذب، فإن كان بتوقيف منه ﷺ، فلا مجال للخصم بعد ذلك التحديد الجليل والرسم، وإن كان مما فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده فقد أعمل الكل من الصحابة في ذلك جهده، وهم الأعلياء بعلمه، والمسلم لهم في وعيه وفهمه، والعارفون بأسباب نزول الآيات، ومواقع الكلمات، وإنما ألفوا القرآن على ما
كانوا يسمعونه من رسول الله ﷺ وهذا قول مالك ضي الله عنه في حكاية بعضهم عنه، ومالك أحد القائلين بأن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين كما تقدم عنه، فكيف مادار الأمر، فمنه ﷺ عرف ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا
جليل ذلك النظر، فإذًا إنما الخلاف هل ذلك يتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقى لهم فيه مجال للنظر؟ فهذا موضع الخلاف.
فإن قيل إذَا كانوا قد سمعوا منه ﷺ استقر عليه ترتيبه ففيم إذًا عملوا الأنظار، وأي مجال بقي لهم بعد للاختيار؟
فالجواب أنا قد روينا في صحيح مسلم عن حذيفة رضى الله عنه قال: صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة فافتتح
بالبقرة، فقلت يركع عند المائة؟ ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران....... الحديث.
فلما كان ﷺ ربما فعل هذا إرادة التوسعة على الأمة، وبيانا لجليل تلك النعمة، كان محلا للتوقف حتى استقر النظر على وعى من كان من فعله الأكثر
فهذا محل اجتهادهم في المسألة والله اعلم.
ثم يشهد لما بنينا كتابنا هذا عليه ما روينا في مصنف ابن أبي شيبة عن
أناس من أهل المدينة قال الحكم: أرى منهم أبا جعفر قال: كان رسول الله ﷺ
1 / 183
يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين، فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين
ويحرضهم، وأما صورة المنافقين فيؤيس بها المنافقين ويوبخهم.
وحكى الخطابى أن الصحابة لما اجتمعوا على القرآن، وضعوا سورة القدر
عقيب العلق، واستدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكتابة في قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)
إشارة إلى قوله: اقرأ، قال القاضى أبو بكر بن العربي. وهذا
بديع جدا، قلت: ومن ظن ممن اعتمد القول بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة
أنهم لم يراعوا في ذلك التناسب والاشتباه فقد سقطت مخاطبته، وإلا فما المراعى
وترتيب النزول غير ملحوظ في ذلك بالقطع، بل هذا معلوم في ترتيب آي اقرآن، الواقع ترتيبها بأمره ﵇ وتوقيفه بغير خلاف، ألا ترى أن سورة البقرة من المدني
وقد تقدمت سور القرآن بتوقيفه ﵇ في الصحيح المقطوع به، وتقدم المدني على المكي في ترتيب السور والآي كثير جدا، فإذا سقط تعلق الضمان بترتيب النزول
لم يبق إلى رعي التناسب والاشتباه، وارتباط النظائر والاشباه.
1 / 184
وتدبر بعقلك وضوح ذلك في عدة سور كالأنفال وبراءة، والطلاق والتحريم، والتكوير والانفطار، والضحى وألم نشرح، والفيل وقريش، والمعوذتين إلى غير هذه السور مما لا يتوقف في وضوحه من له أدنى نظر.
وقد مال القاضى أبو محمد عبد الحق بن عطية. ﵀ في ترتيب
السور إلى القول بالتفصيل.
وهو أن كثيرا من سور القرآن قد كان علم ترتيبها في
أيامه ﷺ كالسبع الطوال، والحواميم، والمفصل، وأشار كلامه إلى أن مما سوى ذلك
يمكن أن يكون ﵇ فوض فيه الأمر إلى الأمة بعده، ولم يقطع القاضى أبو محمد في هذا القسم الثاني بشىء.
وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ
قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله، على أن ما مهدناه من المراعاة في الترتيب حاصل لا محالة على كل قول، ولنورد هنا بعض ما يشهد بظاهره من الآثار لما قاله القاضى أبو محمد على ما نطنا به فمن ذلك:
قوله ﵇: (اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) . في حديث
خرجه مسلم وغيره، وخرج أيضا قوله ﷺ: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران.
1 / 185
وفي مصنف ابن أبى شيبة عن معبد بن خالد. قال: (صلى رسول الله ﷺ بالسبع الطوال في ركعة، وفيه أنه ﵇ (كان يجمع المفصل في ركعة.
وفي صحيح البخارى عن عبد الرحمن بن زيد قال سمعت عبد الله بن مسعود
يقول في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأولى، وهن من تلادى، فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها.
وفي صحيح البخارى أيضا عن عائشة أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق،وقل أعوذ برب الناس..... الحديث.
وفي المصنف عن عمر أنه قرأ في ركعة واحدة ألم تر كيف فعل ربك
بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش، وروى أنهما في مصحف أبى غير مفصول بينهما
1 / 186
بالبسملة.
قلت والوارد من هذا عن النبي ﷺ وعن كبار الصحابة قبل كتب المصحف كثير ومروى من طرق شتى، في أحوال مختلفة، فإن قيل فقد كان يجب على ما أشرت إليه أن يكون القول بالتوقيف أكثر وأشهر، والأمر على خلاف ذلك، فإن مالكا ﵀، والقاضى أبا بكر من المتكلمين وأكثر أهل العلم قائلون بأن ترتيب السور اجتهاد من الصحابة وقد مر.
فالجواب أن الآثار المستفيضة والمقطوع به منها، إنما ورد ذلك في الأكثر ولم
يرد فيما بين كل سورتين سورتين، ولا شك أنه إذا بقي بعض ذلك لاجتهادهم ولو فيما بين سورتين، جرى المقول المشهور عليه وصح اعتماده، ثم أن الآثار إنما وقعت بفعل، لا بقول وأمر يحصل منه الوقيف. فإذا قد آل الأمر إلى أن تلك الآثار هي مستند اجتهادهم وأصل اتفاقهم، وهذا أراد مالك ﵀ بقوله: وإنما
ألفوا القران على ما كانوا يسمعونه من رسول الله ﷿، وهذا القدر كاف في المقصود، والحمد لله رب العالمين.
سورة أم القرآن
قد ذكر الناس كيفية تضمنها مجملا لما تفصل في الكتاب العزيز
1 / 187
بجملته.
وهو أوضح وجه في تقدمها سوره الكريمة. ثم هي مما يلزم المسلمين
حفظه، ولابد للمصلين من قرائتها، ثم افتتاحها بحمد الله سبحانه. وقد
شرع في ابتداءات الأمور، وأوضح الشرع فضل ذلك وأخذ به كل خطيب
ومتكلم، وفيها تعقيب الحمد لله سبحانه بذكر صفاته الحسنى والإشارة إلى إرسال الرسل في قوله، "اهدنا" وقوله "صراط الذين أنعمت عليهم "، وقد قال تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام ٩٥) وذكر افتراق الخلق بذكر المهتدين، وذكر المغضوب عليهم ولا الضالين، وإن ملاك الهدى بيده، "وإياك نستعين " وهذا كله أشفى شيء في بيان التقديم.
1 / 189
سورة البقرة
لما قال العبد بتوفيق ربه "اهدنا الصراط المستقيم " قيل له: "ذلك الكتاب
لا ريب فيه " (آية ٢) هو مطلوبك وفيه أربك، وهو الصراط المستقيم "هدى للمتقين " (آية ٢) القائلين اهدنا الصراط المستقيم والخائفين من حال الفريقين المغضوب عليهم ولا الضالين، فاتخذوا وقاية من العذاب خوف ربهم وتقواه بامتثال أمره ونهيه، ثم أشير من الأعمال إلى ما يستحق سائرها من قبيلي البدنيات والماليات بيانا للصراط المستقيم فقيل في وصف المتقين أنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
وحصل من هذا حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، في مهد التفسير عند ضم ما ورد هنا
إلى قوله: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ" (العنكبوت ٤٣)
ووقع الفعل صريحا والترك إيماء للتناسب المبين حيث ذكر، ثم بين لهم قدر النعمة عليهم في طلب الهدى من الله في قولهم "اهدنا" قيل: "إن الذين كفروا.... الآية.
1 / 190
ليعلموا أن الهدى من عنده فيلحوا في الطلب ويتبرؤوا من ادعاء حول
أو قوة.
تم نبهوا على الإخلاص، وأن يكون قولهم "اهدنا الصراط " صادرا عن يقين
وإخلاص حتى لا يشبهوا من يقول: "آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمومنين "، وبسط لهم حال هؤلاء في ثلاث عشرة آية ما يوضح لهم طريق
الهدى الواضح، إذ حذروا من شكك هؤلاء وحيرتهم فقالوا: اهدنا عن يقين
وإخلاص، ثم أعقب ذلك الدلائل المشاهدة من جعل الأرض فراشا والسماء بناء وإنزال الماء وإخراج النبات وذلك كله أمر مشاهد يصل إليه كل عاقل بأول وهلة.
ثم أعقب بابتداء الخلق وهو قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
وذلك كله مبين لقوله "رب العالمين ملك يوم الدين " إذ من البدأة تعلم العودة لمن تدبر، وقد نبه تعالى بتكرر النبات.
ثم ذكر أحوال بني إسرائيل وإمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة
وذلك مبين سعة رحمته، وأعلم تعالى أن أفعالهم تلك مما أعقبهم أن "ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله " (البقرة: ٦١) تحذيرا لمن طلب سلوك الطريق المستقيم من حالهم، وإعلاما لعباده أن المتقين المستجاب لهم عند قولهم "اهدنا" ليسوا في شيء من ذلك لأنهم قالوا اهدنا عن يقين وإخلاص متبرين من المساوىء.
ثم أعقب تعالى تفصيل أحوال هؤلاء بقوله: "وإذا ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن "البقرة ١٢٤) ليبين أحوال المصطفى من أهل الصراط المستقيم فأنبأ تعالى بحال إبراهيم، وإتمام ما ابتلاه به من غير توقف ولا بحث عن علة، وهي أسنى أحوال العباد، وفي طرف من حال من قدم من بني إسرائيل وهذا الموضع مما يعضد ما ظهر في قصة أمر بنى إسرائيل في ذبح البقرة من وجوه الحكمة،
فتوقفوا وشددوا بعد إسائتهم الأدب مع نببهم فأورثهم ذلك نكالا وبعدا.
1 / 191
فالصراط المستقيم حال إبراهيم ﵇ ومن ذكر من الأنبياء والرسل
"أولئك الذين هدى الله " (الأنعام ٩٥) وهم المنعم عليهم.
ثم أعقب ذلك بما نسبوا لإبراهيم وبنيه المصطفين بعد أن بين حاله فقال:
"أم يقولون أن إبراهيم ... الآية (البقرة: ١٤٠) وبين فساد اليهودية والنصرانية وبرأ نبيه إبراهيم والأنبياء عن ذلك، وأوضح أن الصراط المستقيم هو ما كانوا عليه لا اليهودية ولا النصرانية.
ثم ذكرهم بوحدانيته تعالى "وإلهكم إله واحد" (البقرة: ١٦٣) ثم نبه على
الاعتبار ودلائل التوحيد، وبين حال من اعتمد سواه جل وتعالى فقال: "إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" (البقرة: ١٦٦) وبين سوء حال المشركين وأنهم لاحقون باليهود والنصارى في انحرافهم عن الصراط المستقيم وحيدتهم عن الجادة، ووقع تنبيه هؤلاء بدون ما ضمنه تنبيه بنى إسرائيل من التقريع والتوبيخ لفرقان ما بينهم لأن كفر هؤلاء تعنيت بعد مشاهدة الآيات "وجعلنا قلوبهم قاسية".
ومتى بين شيء في الكتاب العزيز من أحوال النصارى فليس على ما ورد
مثله في (بني إشرائيل) لا ذكر، وخطاب مشركي العرب فيما أشير إليه دون
خطاب الفريقين إذ قد تقدم لهم (ذكر) ما لم يتقدم للعرب، وبشروا في. كتبهم وليس لمشركي العرب (مثل ذلك)، والزيغ عن الهدى شامل للكل، وليسوا في شيء من الصراط المستقيم، مع أن أسؤا الأحوال حال من أضله الله على علم) .. وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد (البقرة: ١٧٦ (.
وهنا انتهى ذكر ما حذر منه ونهى عنه من أراد سلوك الصراط المستقيم،
وبيان حال من حاد عنه وتنكبه، وظن أنه على شىء، وضم مفترق أصناف الزائغين في
1 / 192
أصناف ثلاثة وهم: اليهود، والنصارى، وأهل الشرك، وبهم يلحق سائر من تنكب فيلحق باليهود منافقو أمتنا ممن ارتاب بعد إظهار إيمانه وفَعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم، وبالمشركين من جعل لله ندا (أو اعتقد) فعلا لغيره تعالى على غير طريقة الكسب، والمجوس لاحقون بأهل الشرك، والشرك أكثر هذه الطرق السيئة تشعبا، ولهذا قال ﷺ:
"الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل "،
ومن فعل أفعال من ذكر ولم ينته به الأمر إلى مفارقة دينه والخروج في شيء من اعتقاده خيف عليه أن يكون ذلك وسيلة إلى اللحوق بمن تشبه به وإلى هذا أشار ﵇ بقوله "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا".
إلى أشباه هذا من الأحاديث.
ثم ذكر تعالى من أول آية "ليس البر" (١٧٧) ما لزم - المتقين لما بين لهم ما
هو خروج عن الصراط المستقيم، وحذروا منها عقب ذكر ما يلزمهم، فابتدىء من هناك بذكر الأحكام إلى قوله: "آمن الرسول " خاتمة السور، وفصل لهم كثيرا مما كلفوه، فذكر الإيمان وفصل تفصيلا لم يتقدم، وأعقب بذكر الصدقة وموقعها على التفصيل، وفي ذكر إتيان المال عقب الإيمان إشعارا بما فيه السلامة من فتنة المال
"إنما أموالكم وأولاكم فتنة" التغابن: ١٥)، وإشارة من الآية إلى أنه يبعد حب المال بل يستحيل وجوده ممن أحب الله سبحانه، وأن محبة الله تعالى تهون عليه كل شىء "لا تمدن عينيك.... إلى "لا نسألك رزقا" (طه: ١٣١ - ١٣٢)، ثم ذكر الزكاة والصيام والحج والجهاد إلى غير ذلك من الأحكام كالنكاح والطلاق والعدد والحيض والرضاع والحدود والربا والبيوع إلى ما تخلل هذه الآيات من تفاصيل
1 / 193
الأحكام ومجملها، وقدم منها الوفاء بالعهد والصبر، لأن ذلك يحتاجِ إليه في كل الأعمال، وما تخلل هذه الآيات من لدن قوله: "وليس البر" إلى قوله "آمن الرسول "
مما ليس من قبيل الإلزام. والتكليف فلسبب أوجب ذكره
ولتعلق أو نسق استدعاه
ولما بين سبحانه أن الكتاب هو الصراط المستقيم، وذكر افتراق الأمم
كما شاء، وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيرا من حالهم ونهيا عن مرتكبهم وحصل قبيل التروك بجملته وانحصار التاركين، وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود، أعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال تعالى: "آمن الرسول "
فاعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا:.
"سمعنا وأطعنا"
لا كقول بني إسرائيل "سمعنا عصينا"
وأنه أثابهم على إيمانهم برفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان عنهم فقال: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"
فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال.
أخذا وتركا، وبيان شرف من أخذ به، وسوء حال من تنكب عنه، وكأن العباد لما عُلِّموا (أن يقولوا) اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة قيل لهم عليكم بالكتاب إجابة لسؤالهم، ثم - بين لهم حال من سلك ما طلبوه، فكان قد قيل لهم أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين من شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين من أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين من شأنهم وأمرهم.
1 / 194
فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء
مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا، وأن (ينسحب إيمانه) على كل ذلك
وأن يسلم الأمر لله الذي يَطلب منه الهداية ويتضرع إليه بأن لا يواخذه لما
يثمره الخطأ والنسيان وألا يُحمله ما ليس في وسعه وأن يعفو عنه إلى آخر السؤال.
سورة آل عمران
اتصالها بسورة البقرة والله أعلم من جهات:
إحداها ما تبين في صدر السورة مما هو إحالة على ما ضمن في سورة
البقرة بأسرها.
1 / 195
ثانيها الإشارة في صدر السورة أيضا إلى أن الصراط المستقيم قد بين
شأنه لمن تقدم في كتبهم، وأن هذا (الكتاب) جاء مصدقا لها
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ)
ليبين لأمة محمد ﷺ، أن من تقدمهم قد بين لهم "وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا".
والثالثة قصة عيسى ﵇، وابتداء أمره من غير أب والاعتبار به
نظير الاعتبار بآدم ﵇، ولهذا أشار قوله تعالى: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم (آل عمران: ٣٩) كما اتبعت قصة آدم بذكر بني إسرائيل لوقوففم من تلك القصة. على ما لم تكن العرب تعرفه وأنذروا وحذروا، واتبعت أيضا قصة عيسى ﵇ بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة حسبما نبسط بعد، ولنبين وجه الانفصال من صدر السورة فأقول مستعينا بالله.
إن قوله سبحانه: نزل عليك الكتاب "بيان لحال الكتاب الذى هو هدى للمتقين ولما بين افتراق الأمم بحسب السابقة إلى أصناف ثلاثة، وذكر من تعنيت بني
1 / 196
إسرائيل وتوقفهم ما تقدم، أخبر تعالى هنا أنه أنزل عليهم التوراة وأنزل بعده
الإنجيل وأن كل ذلك هدى لمن وفق.
ثم أشار قوله تعالى: "إن الله لا يخفى عليه شىء" (آل عمران: ٥) إلى
ما تقدم من تفصيل أخبارهم، فكان الكلام في قوة أن لو قيل أتخفى عليه
مرتكبات العباد وهو مصورهم في الأرحام والمطلع عليهم حيث لا يطلع عليهم غيره.
ثم لما بلغ الكلام هنا، كأن قد قيل فكيف طرأ عليهم مع وجود الكتاب
فأخبر تعالى بشأن الكتاب، وأنه محكم ومتشابه وكذا غيره من الكتب والله
أعلم..
1 / 197
فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ المتشابه والتعلق به، وهذا بيان قوله: "يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا (البقرة: ٢٦) وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقا وأوضح بيانا، إذ قد أوضح أحوال المختلفين، ومن أين أتي عليهم مع وجود الكتب، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم، وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر لا طريق إلى تنكب الصراط، فنهوا حين علموا الدعاء من قوله "وإياك نستعين ".
ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبدًا ففيه معظم البيان، ومنه ينشأ
الشرك الأكبر، إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها "والله خلقكم وما تعملون " (الصافات: ٩٦)، فمن التنبيه "إن الذين كفروا" (البقرة: ٦) ومنه "يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا" (البقرة: ٢٦) ومنه "آمن الرسول" إلى خاتمتها) .
هذا من جلى التنبيه ومحكمه، ومما يرجع إليه ويحرز معناه بعد اعتباره
(وإلهكم إله واحد) وقوله: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم "
(البقرة: ٢٥٥)، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية
غيره، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى: "إن الذين كفروا بآيات
الله لهم عذاب شديد. (آل عمران: ٤) ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها.
سورة النساء
لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم ﵇ من غير أب
ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها - مع ما ذكر في صدرها أمر عيسى ﵇
1 / 198