* بسم الله الرحمن الرحيم
* الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين
* وآله الطاهرين
صفحه ۴
مقدمة الطبعة الأولى
* دراسة العقائد للأخذ بالموقف الحق
إن الوقوف على آراء وعقائد المذاهب المختلفة وتحليلها ، ومعرفة أدلتها من أفضل أنواع الدراسة والتحقيق ، فهو السبيل الأفضل لمعرفة الرأي الأصوب ، والموقف الأحق بالأخذ والاتباع ، وهو الأسلوب الذي سلكه القرآن الكريم في مواجهاته العقائدية مع أصحاب المذاهب والاتجاهات الفكرية المضادة وقد حث عليه إذ قال تعالى : ( قل هاتوا برهانكم ) أو قال : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ).
وقد كان المسلمون هم السباقين إلى هذا المنهج وهذا الأسلوب من الدراسة والتحقيق ، ولهذا نرى في المكتبات والدراسات الإسلامية كتبا في الفقه المقارن ، والعقائد المقارنة ، وغير ذلك من حقول المعرفة والثقافة.
ونظرا لأهمية هذا الأسلوب في عصرنا الحاضر طلبت مني « لجنة إدارة الحوزة العلمية » في قم المقدسة ، إلقاء سلسلة محاضرات في آراء ومعتقدات الطوائف المختلفة التي شهدتها الساحة الفكرية الإسلامية في العصور اللاحقة لوفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، وذلك في إطار من التحليل ، والمقارنة والدراسة والتقييم ، فلبيت هذا الطلب وتم بتوفيق الله تعالى إلقاء مجموعة من المحاضرات في هذا المجال ، ليكون مقدمة للمرحلة التخصصية.
ثم حبذت لجنة الإدارة طبع ونشر هذه المحاضرات حتى يستفيد منه عامة
صفحه ۵
طلاب الدراسات الإسلامية ، فأخرجتها في عدة أجزاء ، وهذا هو الجزء الأول الذي يقدم للقراء.
فشكرا لهذه اللجنة على اهتمامها بهذه العلوم ، ووفقها الله للمزيد من تقديم الخدمات الثقافية المفيدة إنه سميع مجيب الدعاء.
هذا ، والرجاء من القراء الكرام تزويدنا بنقدهم البناء حتى تكتمل هذه المباحث بإذنه تعالى.
صفحه ۶
مقدمة الطبعة الثانية
* مؤرخ العقائد ومسؤوليته الخطيرة
التاريخ من العلوم الإنسانية التي اهتم بها البشر منذ فجر الحضارة ، وقد قام إنسان كل عصر وجيل بضبط الحوادث التي عاصرها وعايشها أو تقدمت عليه ، بمختلف الوسائل من أبسطها إلى أعقدها حيث كان يسجل الحوادث ، يوما بالنقش على الأحجار والجدران ، ويوما بالكتابة على الجلود والعظام وجريد النخل ، ويوما بالتحرير على القراطيس والأوراق حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحاضر من وسائل الإعلام والنشر.
وقد قدم بعمله هذا إلى الأجيال المتأخرة كنزا ثمينا ، ورصيدا فكريا غاليا وغنيا وتجارب ملؤها العبر والدروس ، والمواعظ والنصائح التي لا يوجد نظيرها في أي مختبر من مختبرات العالم سوى في هذا المختبر ( التاريخ ).
( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ).
وربما يتصور متصور أن تسجيل التاريخ وضبط الحوادث أمر سهل لا يستدعي سوى الشعور بالوقائع ، ومعرفة اللغة والكتابة ، ولكنني أعتقد ككثير ممن لهم إلمام بالمسائل التاريخية أن كتابة التاريخ الحقيقي الصحيح الذي يمكن أن يكون مساقط العبر والاعتبار ، ومهابط الوعظ والنصح ، أمر مشكل جدا ، لأن الهدف من تسجيل الحوادث ، هو : إراءتها للأجيال المتأخرة على ما هي عليه سواء أكانت الحوادث بعامة خصوصياتها موافقة مع ميوله
صفحه ۷
ونزعاته أم لا ، وسواء أكانت لصالح المؤرخ وقومه أم لا; ومن المعلوم أن القيام بذلك ، يتوقف على كون المؤرخ رجلا موضوعيا متبنيا للحقيقة ، ومحبا لها أكثر من حبه لنفسه ونفيسه ومصالحه ، ولكن هذا النمط نادر بين المؤرخين ولا يقوم به منهم إلا الأمثل فالأمثل ولا يأتي بمثله الزمان إلا في الفينة بعد الأخرى; ولأجل ذلك قل المؤرخون الموضوعيون المنصفون ، فإن أكثرهم يركزون على ما يروقهم وما يلائم أهواءهم والمذهب الذي يعتنقونه ، ويتركون ما سوى ذلك ، وليس هذا شيئا محتاجا إلى البرهنة والاستدلال ، بل يتضح بالرجوع إلى ما ألف من التواريخ أيام الدولتين : الأموية والعباسية ، فكل يخدم الحكومة التي كانت تعاصره وتدر عليه الرزق ، ومن ثم صارت التواريخ علبة المتناقضات ، وما ذاك إلا لأن الكاتب لم يراع واجبه الأخلاقي والاجتماعي وقبل كل شيء مسؤوليته الدينية.
** تاريخ العقائد وتسجيل الفرق
هذا فيما يرجع إلى مطلق التاريخ والوقائع التي يواجهها المؤرخ في كل عصر ومصر سواء أكانت راجعة إلى الملوك والساسة ، أو السوقة والشعوب ، وأما تبيين عقائد الأمم ومذاهبها التي كانت تدين أو تتمذهب بها على ما هي عليه ، فذاك أمر صعب مستصعب ، وأشكل من القيام بالرسالة المتقدمة في مجال تسجيل الحوادث وضبط الوقائع ، وما هذا إلا لأن المؤلف في هاتيك المجالات إلا ما شذ مشدود إلى نزعات دينية وعقائد قومية ترسخت في ذهنه ونفسه وروحه ، والفكرة الدينية صحيحة كانت أو باطلة من أحب الأشياء عند الإنسان وربما يضحي في سبيلها بأثمن الأشياء وأغلاها.
هذا من جهة ومن جهة أخرى : إن القيام بهذه المهمة في مجال تاريخ العقائد يتوقف على تحلي المؤرخ بالشجاعة الأدبية والعلمية حتى يتمكن بهما من البحث الموضوعي حول عقائد الشعوب وعرضها على ما هي عليه ، والقيام بهذا الواجب عند فقدان هذين العاملين مشكل جدا ، ومن ثم يتحمل مؤرخ العقائد مسؤولية جسيمة أمام الله أولا ، وأمام وجدانه ثانيا ، وأمام الأجيال القادمة والتاريخ ثالثا.
صفحه ۸
ومن المؤسف أن أكثر من قام بتدوين عقائد الملل لم يتجرد عن أهوائه وميوله ومصالحه الشخصية وغلبت نزعاته وعواطفه الدينية وتعصباته الباطلة على تبني الواقع وإراءة الحقيقة ، فترى أن أكثرهم يكتب عقيدة نحلته بشكل مرغوب منمق ويحاول أن يصحح ما لا يصح ولو بتحريف التاريخ وإنكار المسلمات ، وأما إذا أراد الكتابة عن عقائد الآخرين فلا يستطيع أن يكن عداءه لها ، ولهذا يحاول أن يعرضها بصورة مشوهة ، فيأتي في غضون كلامه بنسب مفتعلة وآراء مختلقة وأكاذيب جمة نزولا على حكم العاطفة الدينية الكاذبة ، أو اعتمادا على الكتب التي لا يصح الاعتماد عليها ، أو تساهلا في ضبط العقائد والمذاهب ، إلى غير ذلك من العوامل التي صارت سببا لحيرة الأجيال المتأخرة في مجال التعرف على عقائد الأقوام والملل ، وضلالها وإساءة الظن فيها.
وأخص من بين تلك العوامل ، الاكتفاء في تبيين عقائد قوم بالرجوع إلى كتب خصومهم وأعدائهم ، وهذا داء عم أكثر مؤرخي العقائد والنحل ، نظير من ألف من الأشاعرة في ضبط عقائد المعتزلة ، فهم يكتبون عن المعتزلة في ضوء ما وجدوه في كتاب إمام الحنابلة ( أحمد بن حنبل ) أو إمامهم ( أبو الحسن الأشعري ) فينسبون إليهم أمورا لا تجد لها أثرا في كتبهم ، بل تجد نقيضه فيها ، ولأجل ذلك صارت المعتزلة مهضومة الحق.
وليست المعتزلة هي الفرقة الوحيدة التي تعرضت لمثل هذا الهضم ، بل قد تحملت الشيعة الإمامية القسط الأوفر من الاضطهاد والهضم ، وكأن أصحاب المقالات والفرق اتفقت كلمتهم على الكتابة عنهم من دون مراجعة ولو عابرة إلى مصادرهم ومؤلفاتهم ، وكأن عرض الشيعة حلال ينهبه كل من استولى عليه بقلمه وبيانه ، والقوم يكتبون عن الشيعة كل شيء وليس عندهم من الشيعة شيء سوى كتب أعدائهم وخصمائهم ومن لا يحتج به في باب القضاء والحجاج.
وها نحن نقدم نموذجا في هذا الباب ونشير إلى كتابين أحدهما لبعض المتقدمين والآخر لبعض المعاصرين ، فنرى كيف أنهما تساهلا في عرض عقائد الشيعة ونزلا على حكم العاطفة ، ورمياها بكل فرية ، وكأن الصدور مملوءة بالحقد والعداء ، وإليك البيان :
صفحه ۹
** الشهرستاني وكتابه « الملل والنحل »
إن كتاب « الملل والنحل » للمتكلم الأشعري « أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني » ( المتوفى سنة 548 ) من الكتب المشهورة في هذا الباب وأكثرها تداولا بين أترابه ، ولعل كثيرا من أهل العلم لا يعرفون كتابا في هذا الموضوع سواه.
ومع هذه الشهرة ترى في طيات الكتاب نسبا مفتعلة وآراء مختلقة عندما يعرف الشيعة ، مما يندى له الجبين ، ويخجل القلم من تحريره وتسطيره ، وإليك بعض ما نسبه إليهم :
1. من خصائص الشيعة القول بالتناسخ والحلول والتشبيه. (1)
2. إن الإمام الهادي عليه السلام عاشر الأئمة الاثني عشر توفي بقم ومشهده هناك. (2)
3. إن هشام بن الحكم كان يقول : إن لله جسما ذا أبعاض في سبعة أشبار بشبر نفسه في مكان مخصوص وجهة مخصوصة. (3)
4. إن عليا إله واجب الطاعة (4)!!
إلى غير ذلك من النسب الكاذبة التي نسبها إلى متكلم الشيعة ربيب بيت الإمام جعفر الصادق عليه السلام « هشام بن الحكم » وإلى نظرائه كهشام بن سالم وزرارة ابن أعين ومحمد بن النعمان ويونس بن عبدالرحمن.
هذا مع العلم بأن هؤلاء أعاظم الشيعة كانوا يقتفون أثر أئمتهم ولم يكونوا يعتنقون مبدأ إلا بعد عرضه عليهم ، ومن المعلوم أن أئمة أهل البيت
صفحه ۱۰
وهم دعاة التنزيه كانوا يكافحون البدع اليهودية والمسيحية والمجوسية التي كانت تدور بين أندية أهل الحديث حتى قيل : « التوحيد والعدل علويان والتجسيم والجبر أمويان ».
فمن راجع كتب الشيعة وأحاديث أئمتهم يجد أنهم حكموا بكفر القائلين بالتناسخ والحلول والتشبيه وإلوهية غيره سبحانه ، فكيف ينسب هذا الكاتب بصلف ووقاحة هذه الأمور إلى تلاميذ قرناء الكتاب وأعداله؟!!
وأعجب من ذلك أنه يختلق للشيعة فرقا لم تسمع بها أذن الدهر وإنما توجد في كتب أعدائهم ، فمن هشامية إلى زرارية إلى يونسية إلى ... من الفرق التي لا توجد لا في كتب القصاصين المحترفين للكذب ، ولا في علب العطارين.
والشيعة وعلماؤهم وفي مقدمتهم السيد الشريف المرتضى يكذبون هذه الفرق ، وقد شطبوا على وجودها بقلم عريض وهم لا يعرفونها وإنما اختلقتها الأوهام لإسقاط الشيعة من عيون الناس.
هذا بعض ما يوجد في هذا الكتاب وأعجب منه أنه يعرف الإمام الهادي عليه السلام الإمام العاشر للشيعة بأنه مدفون بقم مع أنه دفن بسامراء يزوره القريب والبعيد ، وقد دفن إلى جنبه ولده الزكي « الحسن بن علي » ، والتواريخ والمعاجم طافحة بذكرهما وموضع قبرهما. (1)
هذا نموذج من زلات هذا المؤرخ وهو من القدماء.
وهلم معي إلى نموذج آخر وهو من متأخري القوم ومتنوريهم ، العائشين في عصر النور والأمانة التاريخية والعلمية.
** النشار وكتابه « نشأة الفكر الفلسفي »
الكتاب للدكتور « علي سامي النشار » يقع في ثلاثة أجزاء أو أزيد ، وقد
صفحه ۱۱
خص الجزء الثاني من كتابه ببيان عقائد الشيعة وهو يحاول في مقدمته أن يكتب عن عقائد الفرق بصورة محايدة ، وهو يقول في مقدمة الطبعة السادسة :
ولكني ما زلت أرى أن التفسير الموضوعي المحايد هو أهم تفسير في دراسة الفكر عامة والفكر الإسلامي خاصة. (1)
وربما يتصور الإنسان أن لما ذكره مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، ولكنه عندما يسبر الكتاب ويلاحظ ما في غضونه من النسب إلى الشيعة يقف على أن ما ذكره في المقدمة واجهة ستر بها كل ما في الكتاب من العداء المستكن وأنه لا يريد إلا إبطال عقائد الشيعة ولو بالنسب الباطلة ، والحق أن الدكتور النشار وضع منشاره على حياة الشيعة تاريخا وعقيدة ، ولا يرسم عن تلك الطائفة إلا أمورا مشوهة وعقائد باطلة ، والكتاب يحتاج جدا إلى نظارة التنقيب ، وإليك نموذجا من نسبه المفتعلة :
1 يقول عند البحث عن الإيمان : ونلحظ أن في رأي « جهم » عنصرا شيعيا ، فالإيمان عند الشيعة هو معرفة بالقلب فقط. (2)
2 إن الرجل يصر على إنكار كون علي (ع) رائد الفكر الفلسفي في الإسلام حتى جر عداؤه لعلي (ع) إلى إنكار النص الذي صدر عنه في منصرفه عن « صفين » حول القضاء والقدر وذهب إلى أن النص موضوع ، قائلا بأن الذين أرادوا أن يحاربوا أهل السنة في الروايات التي رووها عن علي (ع) حول القدر ، التجأوا إلى وضع هذا النص ، وقد زعم أن جاعل هذا النص هو المعتزلة. (3)
أما كون علي (ع) رائد الفكر العقلي فنترك البحث فيه إلى آونة أخرى ويكفينا في ذلك تراثه الوحيد : « نهج البلاغة » وأما كون النص مجعولا من جانب المعتزلة فهذا ناجم من جهله بمصادر نهج البلاغة فقد رواها علماء الشيعة
صفحه ۱۲
أنفسهم بلا توسيط أحد من المعتزلة ، وسيوافيك بيانه في هذا الجزء عند البحث عن الرسائل الثلاث حول القدر.
والذي أوقعه في هذا الخبط والخلط لدى عرض تاريخ الشيعة وعقائدهم هو أنه اعتمد في دراسته على كتب خصمائهم وأعدائهم من دون أن يعتمد على مصادر الشيعة المتوفرة ، إلا قليلا لا يكفي.
فاعتمد أولا على كتاب « أبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي » ( المتوفى عام 377 ) باسم « التنبيه والردعلى أهل الأهواء والبدع » نشر عام 1399 ، والكاتب حنبلي حشوي قد حشد في كتابه شيئا كثيرا من الأكاذيب ونسب أصولا إلى الصحابة والتابعين بسند مزور كما سيوافيك بيانه في هذا الجزء.
أفيصح في ميزان النصفة الكتابة عن أمة كبيرة يعدون ربع المسلمين بالنقل عن كاتب حشوي وكتاب حشو؟!
والعجب أن الدكتور عرفه بأنه أول من كتب حول الشيعة من أهل السنة مع أن الإمام الأشعري أسبق منه ، فقد كتب عن الشيعة في « مقالات الإسلاميين » شيئا كثيرا ، وقد توفي الإمام عام 324 وعلى احتمال ضعيف 330 فكيف يكون الملطي أول من كتب حول الشيعة من أهل السنة؟!!
واعتمد ثانيا على كتاب « الفرق بين الفرق » لأبي منصور عبد القاهر البغدادي ( المتوفى عام 429 ) ومن راجع هذا الكتاب لمس منه مضافا إلى البذاءة في اللسان تعصبا في بيان عقائد الفرق ونوقفك على نموذج من هذا ، فقد قال في خلال بيان أصناف فرق السنة والجماعة : ولم يكن بحمد الله ومنه في الروافض و... إمام في الفقه ولا إمام في رواية الحديث ولا إمام في اللغة والنحو ، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ولا إمام في الوعظ والتذكير ولا إمام في التأويل والتفسير ، وإنما كان أئمة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنة والجماعة. (1)
وقال في موضع آخر :
صفحه ۱۳
هذا أدب الرجل وسيرته في الكتاب كله ، ونحن نمر عليه مرور الكرام ونقول : الدعوى الأولى دعوى بلا بينة وبرهان وإنكار وجود الأئمة في مجالات هذه العلوم بين الشيعة كإنكار البديهيات ، ولا نطيل الكلام في رده بذكر أسماء أئمتهم في مختلف المجالات والأمور ، وكفانا في ذلك كتاب « تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام » تأليف السيد حسن الصدر ( المتوفى عام 1354 ).
غير أني أتعجب من هذه الفرية القارصة ، وكيف نفى وجود شخصيات علمية عند الشيعة مع أنه كان معاصرا للشيخ المفيد ( المتوفى عام 413 ) الذي يقول في حقه اليافعي : كان عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة ، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. (2)
ويعرفه ابن كثير في تاريخه بقوله : كان مجلسه يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف. (3)
كيف يقول ذلك وبيئة بغداد تجمع بينه وبين الشريف المرتضى ( المتوفى عام 436 ) الذي يعرفه ابن خلكان في تاريخه ويقول : كان إماما في علم الكلام والأدب والشعر. (4)
وقال الثعالبي : قد انتهت الرئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل. (5)
واعتمد ثالثا على كتاب « الفصل في الملل والأهواء والنحل » تأليف « ابن حزم » الأندلسي الظاهري ( المتوفى 456 ) وكفى في التعرف على نفسية
صفحه ۱۴
هذا الرجل وشذوذه أنه صوب فعل قاتل الإمام أمير المؤمنين بحجة أنه كان مجتهدا متأولا مثابا في عمله هذا ، وإليك نص عبارته :
« إن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا ( رضي الله عنه ) إلا متأولا مجتهدا مقدرا أنه على صواب ، وفي ذلك يقول « عمران بن حطان » شاعر الصفرية :
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلاليبلغ من ذي العرش رضوانا » (1)
والقارئ الكريم جد عليم بأنه لا قيمة لهذا الاجتهاد الذي يؤدي إلى قتل الإمام المفترض طاعته بالنص أولا ، وبإجماع الأمة ثانيا ، ولنعم ما أجاب به معاصره القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الشافعي فقال :
يا ضربة من شقي ما أراد بها
إلا ليهدم للإسلام أركانا (2)
فإذا كان هذا حال المؤلف ونفسيته ونزعاته ، فكيف يكون حال من استند إلى مثله غير أن الجنس إلى الجنس يميل؟!!
** منهجنا في دراسة المذاهب
فلأجل هذا الخبط والتخليط في أكثر كتب الملل والنحل خصوصا في كتاب إمام الأشاعرة « مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين » ولا سيما في ما يرجع إلى المعتزلة والشيعة فإنه الأساس لكل من كتب بعده ، ك « الفرق بين الفرق » لعبد القاهر البغدادي و « الملل والنحل » للشهرستاني وغيرهما من المتأخرين ، فقد توخينا أن لا نعزو إلى مذهب شيئا إلا بعد الوقوف عليه في كتبهم المؤلفة بأيدي أساطينهم وأقلام علمائهم ، ولا نكتب عن طائفة إلا بعد توفير المصادر واستحضار المنابع والرجوع إليها بدقة وإمعان.
إن منهجنا في دراسة المذاهب وعقائد الفرق يبتني على دعامتين :
** الأولى
صفحه ۱۵
** الثانية :
هو سرد العقائد من دون نقد أو تحليل ، وكأنهم زعموا أن واجب المؤرخ لا يتعدى بيان الحوادث في التاريخ ، وعرض العقائد في مجال الملل والنحل ، وكأن إحقاق الحق واجب المتكلم فقط ، ونحن ضربنا عن هذا صفحا وتوخينا بيان الحق على وجه يناسب كتاب « الملل والنحل » ، وهذا هو المنهج الذي مشينا عليه في أجزاء الكتاب كلها ، وهو تحقيق الموضوع الذي طرح للبحث من جانب كل فرقة وملة.
ولأجل ذلك أصبح الكتاب : كتابا كلاميا أولا ، وتاريخيا للعقائد والمذاهب ثانيا ، وموسوعة لبيان حالات رجالهم وشخصياتهم وتاريخ نشوئهم ثالثا.
وأرجو منه سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه وأن يصوننا من الزلة في الرأي والقول والفعل والعمل.
وأما الفرق التي دار حولها البحث والنقد فهي على سبيل الفهرس :
1 « أهل الحديث والحنابلة » الذين يعبر عنهم في عصرنا هذا ب « السلفية » حتى صارت هذه الكلمة شعارا لهم ، وكأن « السلف » معصوم من الزلة متحرر من الخطأ.
2 « الأشاعرة » آراؤهم وأفكارهم وترجمة مفكريهم ومحققيهم ، وإنما قدمنا هذه الفرقة على « المعتزلة » مع أن الشيخ الأشعري مؤسس هذا المذهب كان معتزليا ثم تاب عن الاعتزال ورجع إلى مذهب الإمام « أحمد بن حنبل » وأسس مذهبا معتدلا بين المذهبين وإنما قدمناه لأجل الصلة القويمة بين المذهبين : « أهل الحديث » و « الأشاعرة ».
3 الحركات الرجعية في القرون الأولى كالمرجئة والجهمية والكرامية والظاهرية ، وسيوافيك أن آراءهم وأفكارهم في هذه القرون كانت رجعية بحتة تخالف منطق العقل الذي تعتمد عليه المعتزلة ، ومنطق الكتاب والسنة الذي يعرج عليهما الحنابلة ، وأما الذي تولى كبرها فسوف يظهر لك في ذلك الفصل.
صفحه ۱۶
4 « القدرية » أسلاف المعتزلة كمعبد بن عبد الله الجهني ( المتوفى عام 80 ) وغيلان الدمشقي المقتول بدمشق بأمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 105 ، وقد اتهم هؤلاء بنفي القدر الوارد في الكتاب والسنة ، وقد قلنا إن الاتهام في غير محله ، وهؤلاء كانوا دعاة الحرية والاختيار لا نفاة القدر الذي جاء في الآثار الصحيحة. نعم كانوا يرفضون القدر السالب للاختيار الحاكم على حرية الإنسان وإختياره ، بل حتى على الله سبحانه ، وكأن القدر إله ثان مسلط على كل شيء حتى إرادة الله وفي الوقت نفسه حنق على الإنسان ، فهو يدخل من يشاء الجنة ، ويدخل من يشاء الجحيم بلا ملاك ولا مبرر.
5 « الماتريدية » آراؤهم ورجالهم ، وهؤلاء والأشاعرة صنوان أو رضيعان يرتضعان من ثدي واحد ، ولكن « الماتريدية » أقرب إلى المعتزلة من الأشاعرة ، وقد وافقوا في كثير من المسائل ، المعتزلة.
6 « المعتزلة » منهجهم وآراؤهم ورجالهم.
7 « الخوارج » تاريخهم وعقائدهم.
8 « الوهابية » نشوؤها ومؤسسها ومعتقداتها.
9 « الشيعة الزيدية والإسماعيلية » ، ونبحث عن الباطنية في هذا الفصل.
10 « الشيعة الإمامية » الاثنا عشرية.
تلك عشرة كاملة.
* * *
وأقدم كتابي هذا لكل طالب للحق والحقيقة ، ولكل متعطش للتعرف على الواقع بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات الجاهلية والتعصبات الباطلة ، ولا أشك في أن لفيفا من الأمة سيقدرون عملي هذا غير أن المتطرفين من الطوائف الإسلامية يعدونه تفريقا للأمة وشقا لعصاها ، وكأنهم يرون التقارب الظاهري والتصفيق في المجامع والمجالس هو روح الوحدة وسنادها ، وهم في غفلة عن أن التعرف على المذاهب على ما هي عليه ، من عوامل التقريب
صفحه ۱۷
وتوحيد الكلمة وعود الأخوة الإسلامية إلى المجتمع الديني ، وعلى كل تقدير فلا أطلب رضا هؤلاء ، ولا أعتمد عليه ولا أخشى سخط الآخرين ولا أخافه ، ورائدي هو رضوانه تعالى لا غير.
( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ). (1)
صفحه ۱۸
بسم الله الرحمن الرحيم
الملل والنحل في المؤلفات الإسلامية
لقد قام ثلة من علماء المسلمين بتدوين كتب مفصلة أو مختصرة في هذا المضمار ، فكشفوا عن مصادر الآراء ومواردها ، وجمعوا واردها وشاردها ، وما ألفوه حول تبيين العقائد والنحل على أصناف نشير إليها :
أ. ما يتناول جميع الشرائع والمذاهب العالمية ، إسلامية كانت أو غيرها ، ومن هذا القسم :
1 « الفصل في الملل والأهواء والنحل » لإمام المذهب الظاهري ، أبي محمد علي بن حزم الظاهري ( المتوفى عام 456 ).
2 « الملل والنحل » لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ( 479 548 ).
ب. ما يتناول خصوص الفرق الإسلامية ، ومن هذا القسم :
1 « مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين » تأليف شيخ الأشاعرة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( المتوفى عام 324 ).
2 « التنبيه والرد » لأبي الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي ( المتوفى عام 377 ).
3 « الفرق بين الفرق » تأليف الشيخ عبد القاهر بن طاهر بن محمد
صفحه ۱۹
البغدادي الإسفرائيني التميمي ( المتوفى سنة 429 ).
4 « التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة » لطاهر بن محمد الإسفرائيني ( المتوفى عام 471 ) المطبوع بمصر عام 1374.
5 « الفرق الإسلامية » ذيل كتاب « شرح المواقف » للكرماني ( المتوفى عام 786 ) وقد طبع في بغداد عام 1973م.
ج. ما يتناول خصوص مذهب من المذاهب الإسلامية ، ومن هذا القسم :
1 « فرق الشيعة » ، تأليف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث للهجرة ، وقد بين فيه فرق أهل الإمامة.
2 « فرق الشيعة » (1) للشيخ أبي القاسم سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي ( المتوفى عام 299 أو 301 ).
وقد طبعت هذه الكتب ووزعت في العالم ، وهي متاحة لكل من أراد معرفة هذه المذاهب والمقالات والآراء والأفكار ، ولنقدم قبل الورود في البحث أمورا تفيد القراء الكرام وطلاب هذه المعرفة :
** 1 الملة والنحلة في اللغة
الملة بمعنى الطريقة ، والمراد هنا السنن المأخوذة والمقتبسة من الآخرين ، ولأجل ذلك يضيفها القرآن إلى الرسل والأقوام إذ يقول مثلا : ( بل ملة إبراهيم حنيفا ) (البقرة : 135)، وقوله : ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ) (يوسف : 37) ولا تستعمل مضافة إلى الله ولا إلى آحاد أمة نبي بل إلى نفس النبي ، ويقال ملة إبراهيم وملة محمد (ص) ولا يقال : ملة الله.
وأما النحلة فهي على ما في « لسان العرب » بمعنى الدعوى ، والنسبة بينها وبين الدين أنها تستعمل في الباطل كثيرا ، مثل كلمة « انتحال المبطلين »
صفحه ۲۰
والمقصود من الكلمتين في هذا العلم هو الطرق والمناهج العقائدية سواء أكانت حقا أم باطلا.
وهناك اتصال وثيق بين علم الكلام وعلم الملل والنحل ، ووزان علم الملل والنحل بالنسبة إلى علم العقائد والكلام ، وزان تاريخ العلم بالنسبة إلى العلم نفسه ، نظير الفلسفة وتاريخها ، فالفلسفة تطرح الموضوعات الفلسفية على بساط البحث ، فتقيم برهانا على ما تتبناه بينما يشرح تاريخ الفلسفة المناهج الفكرية التي نجمت في فترات مختلفة ، من دون تركيز على رأي أو تبني عقيدة خاصة في كثير من الأحيان.
ومثله علم الكلام بالنسبة إلى الملل والنحل ، فالأول يبحث عن المسائل العقائدية التي ترجع إلى المبدأ والمعاد وما يلحقهما من المباحث ويوجه عنايته إلى إثبات فكرة خاصة في موضوع معين ونقد الآراء المضادة له ، ولكن الثاني يطرح المناهج الكلامية المؤسسة طيلة قرون من دون أن يتحيز إلى منهج دون منهج غالبا ، وهمه هو عرض هذه الأسس الفكرية على رواد الفكر والمعرفة.
وإن شئت قلت : إن علم الملل والنحل يتعرض للموضوعات الكلامية المبحوث عنها في علم الكلام ويشرحها ويعرض الآراء المختلفة حولها من دون القضاء بينها ، وإما علم الكلام فهو يتخذ موضوعات خاصة للبحث ويبدي المؤلف نظره الخاص فيها ويركز على رأيه بإقامة البرهان.
** 3 قيمة الكتب المؤلفة في هذا المضمار
لا شك أن للكتب المؤلفة في هذا المضمار ، مكانة في الأوساط العلمية وأن المؤلفين في الملل والنحل قد تحملوا جهودا كثيرة في الإحاطة بالمناهج الفكرية الرائجة في الملأ العلمي خصوصا الأوائل منهم ، غير أنه لا يمكن الاعتماد على هذه الكتب بصورة مطلقة ، وذلك لأنا نرى أنهم يذكرون فرقا للشيعة الإمامية لم يسمع الدهر بأسمائها كما لم يسمع بآراء أصحابها قط.
صفحه ۲۱
فهذا إمام الأشاعرة يذكر للشيعة الغالية خمس عشرة فرقة ، وللشيعة الإمامية أربعا وعشرين فرقة ، وينسب إليهم القول بالتجسيم ، وغير ذلك من الآراء والعقائد السخيفة ، ويقسم الزيدية إلى ست فرق ، وقد أخذ عنه من جاء بعده ممن ألف في هذا المجال.
فإذا كان حاله وحال من نسج على منواله كالبغدادي في « الفرق بين الفرق » والشهرستاني في « الملل النحل » في تلك المواضع التي نحن أعرف منهم بها بهذا المنوال ، فكيف حالهم فيما ينقلونه عن سائر أصحاب الشرائع من اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة والبوذيين وغيرهم؟! ولأجل ذلك يجب أن تكون نسبة القول إلى أصحابها مقرونة بالاحتياط والتثبت والرجوع إلى مؤلفات نفس الفرق.
يقول المحقق المعاصر الشيخ محمد زاهد الكوثري في تقديمه لكتاب « التبصير في الدين » : والعالم المحتاط لدينه لا ينسب إلى فرقة من الفرق ما لم يره في الكتب المردودة عليهم ، الثابتة عنهم أو في كتب الثقات من أهل العلم المتثبتين في عزو الأقاويل ، ولا يلزمهم إلا ما هو لازم قولهم لزوما بينا لم يصرح قائله بالتبري من ذلك اللازم. (1)
وقد تصفحنا أكثر ما كتبه أحمد بن تيمية في « المسائل الكبرى » عن الشيعة وغيرهم وفي كتابه « منهاج السنة » عن خصوص الشيعة ، فوجدناهما مليئين بالأخطاء ، لو لم نقل بالكذب والوضع.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه يقع الكلام في فصول :
صفحه ۲۲
الفصل الأول
افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة
روى أصحاب الصحاح والمسانيد ومؤلفو الملل والنحل عن النبي الأكرم (ص) أنه قال : « إن أمتي تفترق على ثلاث وسبعين فرقة » وقد اشتهر هذا الحديث بين المتكلمين وغيرهم حتى الشعراء والأدباء.
وتحقيق الحديث يتوقف على البحث في جهات أربع :
1 هل الحديث نقل بسند صحيح قابل للاحتجاج به ، أو لا؟
2 ما هو النص الصادر عن النبي الأكرم (ص) في هذا المجال ، فإن نصوص الحديث في ذلك المجال مختلفة؟
3 ما هي الفرقة الناجية من هذه الفرق المختلفة ، فإن النبي قد نص على نجاة فرقة واحدة ، كما سيأتيك نصه؟
4 ما هي الفرق الاثنتان والسبعون التي أخبر النبي (ص) بنشوئها من بعده؟ وهل بلغ عدد الفرق والطوائف الإسلامية إلى هذا الحد؟
فإليك البحث في هذه الجهات الأربع :
أ. سند الحديث
روي الحديث المذكور في الصحاح والمسانيد بأسانيد مختلفة ، وقد قام
صفحه ۲۳