وركبت آلة الزمن لأعود بها إلى وطني وإلى زمني موقنا بأن ثقافة العربي في القرن العشرين، هي بالضرورة امتداد لثقافة العربي في القرن العاشر مع القرون التي سبقته، والقرون التي لحقته من امتداد التاريخ العربي، إلا أن مر الزمن الذي يخرج من جذع الشجرة فروعا تنتمي إليه، ولكنها من جهة أخرى تنفرد بخصائصها، فكذلك يفعل الزمن بشجرة الثقافة في أمة بعينها، تظل الفروع تنبثق من جذعها لتجمع بين انتمائها إلى ذلك الجذع وانفرادها بوجودها الخاص.
ولنتعلم من درسنا من عبرة تاريخنا؛ فقد كانت هنالك ثقافة عربية في العصر الجاهلي قوامها الشعر، مع إضافات نثرية هي في طبيعتها أقرب إلى الشعر، ثم كانت هناك ثقافة عربية فيما جاء بعد نزول الإسلام، فإذا باللغة العربية لا تقصر نفسها على الشعر، بل تمد فروعها لتشمل ميادين لم يكن مثقف العصر الجاهلي يحلم بها، فظهر النثر على نطاق واسع، ونستطيع القول إن البطل الحقيقي في تثبيت النثر أداة للإبداع الثقافي جنبا إلى جنب مع الشعر هو الجاحظ، حتى إذا ما استقرت العبارة النثرية وازدهرت، رأينا الفكر العربي يتدفق به أنهارا أنهارا، فهذا فقه وهذا كتاب في علم من علوم اللغة وذلك كتاب في النقد الأدبي، ورابع في الفلسفة وخامس في التاريخ وسادس في وصف الرحلات، وسابع في علم الفلك وثامن في علم الضوء وتاسع في علم الكيمياء، وعاشر في علم من علوم الرياضة وحادي عشر وثاني عشر، إلى ما شئت من عدد.
ولقد كان للقوم عندئذ، برغم هذه الكثرة الكثيرة في تفجر الفروع من جذع الشجرة الثقافية، مشكلة حول التراث العربي شبيهة جدا بمشكلتنا اليوم حول التراث العربي، إلا أنهم عرفوا كيف يحصرون المشكلة في حدودها، إذ حصروها في موضوع اللغة وحدها، دون أن يجعلوها تمتد لتزج أنفها في الميادين الثقافية الجديدة، التي نشأت عندما أرادوا أن يدرسوا اللغة دراسة علمية شاملة كاملة، فكان لا بد لهم عندئذ من الوقوع على معيار يجعلونه فيصلا بين ما هو صواب وما هو خطأ في استعمالات اللغة، وانشقوا حول هذا المعيار منبهين تركز أحدهما في علماء البصرة وتركز الآخر في علماء الكوفة؛ فأما الأولون فقد أرادوا أن يقيموا أساسا عقليا لمعرفة الصحيح من الفاسد، وفي هذه الحالة يكون من حقهم الحكم على أقوال السابقين من أبناء العصر الجاهلي.
فيقولون مثلا: إن فلانا قد أخطأ في اللفظة الفلانية أو في تركيب الجملة الفلانية، بناء على المعيار العقلي الذي وضعوه أو حاولوا وضعه، وأما علماء الكوفة فقد رأوا غير ذلك؛ إذ رأوا أن المعيار هو ما قاله أولئك السابقون، فالصحيح هو ما قالوه والخطأ هو ما لم يقولوه، وبناء على ذلك يصبح من التناقض أن تصف واحدا من السابقين بالخطأ؛ لأنه هو هو معيار الصواب، وغني عن الذكر أن نعلل هذا الاختلاف بين المذهبين؛ إذ يكفي أن نتذكر بأن علماء الكوفة كانوا جميعا عربا خلصا، في حين كان علماء البصرة على مقربة من التأثر بالفرس، ومن هنا رغب أهل الكوفة في أن يحافظوا على أن يكون للعربي وحده سلطة الحكم على صحيح اللغة ماذا يكون، وأما علماء البصرة فقد أرادوا التخلص من أولوية العربي في أحكام اللغة، فاحتكموا إلى «العقل» وحده يقيمون المعيار على أساسه.
فلو أننا تعلمنا الدرس من أسلافنا فيما يختص بالتراث وموقفنا منه، لكان طريقنا واضحا أمامنا فطريقهم هو طريقنا، وهو أن نحصر مشكلة التراث فيما ورثناه عنهم، لكن هذا الذي ورثناه هو قطرة من بحر العلوم وميادين الفكر وأشكال الأدب والفن، مما استحدث بعدهم تماما كالذي رأيناه من فرق بعيد بين مجال القول في العصر الجاهلي ومجالاته الكثيرة التي ظهرت بعد ظهور الإسلام، على أن تلك الحالات الجديدة لم تنبثق كلها دفعة واحدة في لحظة واحدة، بل أخذت تزداد فروعا على تعاقب القرون، فهل نضل سواء السبيل في يومنا هذا إذ نحن قصرنا مشكلة التراث على التراث، وأما ما استحدث من علوم وفنون فنخرجه من مواضع الإشكال، إن طريق القدماء هو طريقنا، ولكن أضيف إلى ثقافة الإنسان فكر جديد.
ضمائر العلماء
هذا حديث لا أصدر فيه عن فكر نظري بحت، فليس هو من ذلك النوع الذي أستمد خيوطه من داخل النفس، وهي على فطرتها البكر، ثم أنسج تلك الخيوط في ديباجة، أقرأ سطورها ولا يقرؤها معي أحد سواي، وكأنها صفحة عرضت لصاحبها في رؤى أحلامه، لا بل هو حديث أستخرجه من لحم الخبرة الحية، ومن أعصابها التي طالما ارتعشت كلما احترقت بأسياخ من حديد ملتهب، نعم فمن تلك الخبرة أستقي هذا الحديث خيوطا خيوطا، ثم ديباجة منسوجة ومسطورا عليها بأحرف من نار.
وأبدأ بتلك اللحظة منذ عشرات السنين، حين جلست في مكتبة جامعية على أرض لم تكن أرضنا، وتحت سماء لم تكن سماءنا، أقرأ كتابا عرفته من إشارة إليه وردت بالحرف الدقيق في هامش صفحة من مرجع علمي، لجأت إليه وكان الكتاب عن الفكر العربي قديمه وحديثه، ولم أكد أستكمل فرحتي بما ذكره المؤلف الإنجليزي، عن الفكر العربي في عصوره الأولى، حيث كان للعلماء ما يثير العجب، من جلد، وصبر، وصدق، وإخلاص وزهد إلا عن الحقيقة العلمية يتعقبونها في مخابئها، أو إن شئت اختصارا لعظمة هؤلاء العلماء من العرب الأقدمين، فقل إنهم ليبهروننا بما حملت أفئدتهم من «ضمير علمي»، لا يخلي بينهم وبين الراحة سبيلا، حتى يبلغوا مأربهم البعيد؛ أقول إن فرحتي بهذا الذي ذكره مؤلف الكتاب عن أسلافنا من العلماء، حتى أخذ مني الغم ما أخذ، حين استطرد المؤلف في حديثه، ليعقد مقارنة بين «العلماء» العرب في وقتنا هذا وأولئك السلف، وهي مقارنة يمكن تلخيصها أيضا في كلمة واحدة، وهي أن الضمير العلمي قد خفت صوته - بالقياس إلى نظيره عند الأقدمين - حتى ليتعذر سمعه عند صاحبه، وربما كان هذا نتيجة جزئية من ظاهرة عامة، هي «المظهرية» الطاغية، بحيث يبدو العربي على شيء غير الذي يخفيه، وتطبيق ذلك على الحياة العلمية، هو أن يكتفي العالم بأن يبدو للناس وكأنه عالم، ولا يؤرقه بعد ذلك أن يعلم بينه وبين نفسه أن الأمر معه قد غلب عليه الخطف السريع من هنا ومن هناك، ولا يتعذر عليه بعد ذلك أن يضم الحواشي والفهارس، التي يشحنها شحنا بأسماء «المراجع» من مختلف اللغات، شهادة له بأنه قد عانى ما يعانيه العلماء.
ومضت بعد ذلك أعوام وأعوام، نسيت فيها ذلك الكتاب ومؤلفه، ولم يبق لي في الذاكرة إلا ما كنت قد أحسسته في نفسي عندئذ من حسرة حزينة، لم يخفف حدتها إلا وهم أوهمني بأنه - أعني مؤلف ذلك الكتاب - مستشرق مغرض كذاب، ولعلي اندفعت إلى تلك العداوة الهوجاء، التي لا تفرق بين حق وباطل، ضد مستشرق درس الفكر العربي من قديمه إلى حديثه، كنت متأثرا بما عبئت به من قراءات معادية للمستشرقين، قرأتها لبعض كتابنا قبل سفري، ولم أكن قد وعيت بعد إلى أي حد يملأ هؤلاء الكتاب أقلامهم بمداد الكراهية لما يجهلونه، فهم يميلون بالعاطفة أولا، ثم يكتبون ما يشبع تلك العاطفة لديهم سواء أصدقت أقلامهم أم كذبت، وكيف لهم أن يعرفوا وأن يفرقوا بين الأبيض والأسود، إذا كانوا يستبيحون الكتابة فيما لم يقرءوا عنه سطرا واحدا، معتمدين كل الاعتماد على إشاعات يتناقلونها جاهلا عن جاهل، ولو أنهم قرءوا، ودرسوا، وتدبروا ما قرءوه ودرسوه، لكان الأرجح أن يجدوا عند المستشرقين صوابا ممزوجا بخطأ، أو خطأ ممزوجا بصواب، وأن الأمر ليس كله ضلالا وتضليلا، وإلا فمن ذا الذي ينكر أن لبعض هؤلاء المستشرقين - والكبار منهم على وجه الخصوص - بحوثا في الفكر العربي، وفي الأدب العربي، لها من النفاذ ما كشف لنا نحن العرب، كنوزا من فكرنا ومن أدبنا، لم نكن لندركها بكل هذه الدقة والوضوح اللذين انكشف بهما ما انكشف، من ذا الذي ينكر أن المشتغلين بهما بتحقيق التراث، قد أخذوا عن هؤلاء المستشرقين شيئا من الأسس المنهجية في عملية التحقيق، من ذا الذي ينكر على أولئك الباحثين أنهم هم الذين قاموا في العصر الحديث بأهم الترجمات التي نقلت بها عيون من عيون تراثنا، علما، وتاريخا، وأدبا وشعرا، إلى هذه اللغة أو تلك من لغات الغرب؟ على أن هذا الجانب الإيجابي كله ليس هو الذي يعنيني الآن، وإنما الذي يعنيني بالدرجة الأولى هو أننا قد ألفنا أن نهاجم كاتبا أو كتابا، دون أن نكون قد قرأنا للكاتب أو من الكتاب حرفا واحدا، ثم لم يقتصر الأمر في ذلك على مستشرقين، بل تجاوز هذا إلى أن يهاجم بعضنا بعضا فيما لم نقرأه؛ فالإشاعة وحدها تكفينا يلقفها لسان عن لسان وينقلها قلم عن قلم، وإذا أنت تعقبت الموقف إلى أوائله وجدت المسألة كلها - في كثير جدا من الأحيان - حقدا أعمى في أول الأمر، ولد وهما في الرءوس، ثم انتقل الوهم إلى السادة «العلماء»، وإلى حملة الأقلام من صفوة الكاتبين، فإذا لحظ من لحظ عن الثقافة العربية الحديثة أنها - بالقياس إلى الثقافة العربية في عصور مجدها القديم - أنها قد باتت فاترة ضعيفة، ينقصها العمل العظيم الذي يتحقق له شيء من البقاء، لقوته، ودقته وشموله؛ ولأنه - فوق ذلك - ينم عن «ضمير علمي» عند صاحبه، لم يكن يأذن له بالتساهل في البحث عن حقيقة ما يكتب عنه، أو يجيز له أن يكتفي في إسناده على إشاعة تناقلتها الأفواه، لا سيما إذا كانت رائحة الحقد والكراهية والتعصب والضغينة تفوح منها حتى لتزكم الأنوف؛ أقول إنه إذا لحظ من لحظ نقصا كهذا في ثقافتنا العربية الحديثة، فلا ينبغي لنا أن نسرع إلى قذفه بالشتائم، عن جهالة، وإنه لأولى لنا ثم أولى أن نتمهل حتى نتبين حقيقة الأمر، لعلنا واجدون عند من تقدم إلينا بفكرة، ما قد ينفع. فما هو ذلك الشيء الذي يطلقون عليه اسم «الضمير العلمي»، والذي زعم لنا الزاعم بأننا قد فقدنا أكثره ، فافتقدناه منذ فترة ليست بالقصيرة حتى لأصبح غيابه يبيض في حياتنا ويفرخ، بحيث اختلطت أمامنا السبل، ولم نعد ندري لمن نصيخ بسمعنا لنستمع، ولمن نصم الآذان عن باطل يريد نشره فينا عن غير علم؟ إن «الضمير العلمي» جانب من الضمير العام، إلا أنه اختص برقابته أمانة «العلماء» فيما يطالبون به الناس، وأما الضمير العام، فهو كما تدل كلمة «ضمير» نفسها، محكمة «مضمرة» لا يراها الناس بل ولا يراها حاملها، ولكنه يسمع صوتها؛ إذ هي تأمره بهذا وتنهاه عن ذاك، على أن أمرها ونهيها - بالطبع - لا يضمنان التنفيذ فهناك قوة أخرى في طبيعة الإنسان هي قوة الإرادة، فإما وجدت تدريبا يعصمها من الزلل ويروضها على الإذعان لما يمليه الضمير، من أمر ومن نهي، وإما تركت تلك الإرادة التي هي بذاتها قوة عمياء لتجمح مع نزواتها؛ وعندئذ يأمر الضمير وينهى، ولكن أوامره ونواهيه تذهب أدراج الرياح، وأمره ونهيه في مجال التفكير العلمي، يدوران حول أمانة الصدق فلا يأخذ العالم بفكرة، إلا إذا استوثق أولا أنه على علم صحيح بمداخلها ومخارجها وأنه يفهمها حق الفهم، في حدود ما يستطيعه؛ إذ إن للبشر حدودا تقيدهم، ومن ذلك نستدل نتيجة هامة، وهي أن الضمير - في مجال العلم وغيره - محكمة تخص صاحبها في فرديته، فقد تجيء ضمائر الناس في جماعة من الناس ملتقية بأفرادها عند حكم واحد، وقد يشذ ضمير بصاحبه إلى فكرة، أو إلى فعل، لا تقره عليه الجماعة، وهنا يجب أن يستمع إلى حكم ضميره هو في مواجهة آخرين، وبغير ذلك لا نتصور كيف ينشأ بين الناس مصلح، ينعطف بهم نحو اتجاه مغاير لما كانوا عليه، إن مثل هذا المصلح عندما يصيح في الناس صيحته الأولى، لا بد بالضرورة أن يشذ وحده عن المألوف، ولم يكونوا قلائل في التاريخ، أولئك الذين شذوا بفكرهم عن مألوف الناس شذوذا يتجه بهم نحو ما هو أصلح وأكثر تقدما، فحدث الصراع بينه وبينهم وإما انتصر هو بقوة فكرته ومضاء عزيمته، وإما انتصر عليه جمهور فضاعت على الحق فرصة الظهور، وأرجئ ذلك إلى حين يشاء له الله ظهورا على باطل، وإن ذلك المؤلف الذي قرأت له كتابه عن الفكر العربي في سيرته الطويلة من قديمه إلى حديثه، ليزعم أن ذلك الفكر في مرحلته الحديثة، قد غاب عنه الكثير من سلطة الضمير العلمي في أوامره ونواهيه، على خلاف ما كانت عليه الحال في القرون التسعة الأولى من تاريخه، ولقد كنت على خطأ ظالم - أنا كاتب هذه الكلمات - حين قرأت ما كتبه ذلك المؤلف عن حياتنا الثقافية في مرحلتها الحديثة، فسارعت إلى اتهامه بما تعلمته من بعض كتابنا من رمي المؤلفين الغرباء بجهالة قبل مراجعة ما كتبوه على واقع حياتنا، ولبث هذا الخطأ الظالم يلازمني حتى وقعت فريسة في شباك الظالمين، الذين حرموا هداية «الضمير»، فاستباحوا أحكاما يطلقونها دون أن تكون لديهم ذرة من علم بما راحوا يطلقون عليه أحكامهم تلك، فإذا تناولت في إيجاز قضيتي معهم، أو قضيتهم معي، فلن يكون ذلك من قبيل العناية بأمر خاص بقدر ما هو أمر عام، يمس حياتنا الثقافية وضرورة تحديثها وتنقيتها من شوائبها، فلقد حدث لي في أول الأربعينيات، أن نشرت مقالة في عيد الهجرة النبوية، وأذكر أني جعلت عنوان مقالتي تلك «هجرة الروح»، واستلهمت فيها هجرة الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
صفحه نامشخص