بسمارك :
إنك - يا صاحب الجلالة - مصدر الجرأة بتفويضك ذلك المنصب إلي، ولك يا صاحب الجلالة، ألا تبقيني في ذلك المنصب إذا لم أثبت أنني ابن بجدته، ولا أرى المنصب فوق طاقتي ما لم أجربه، وإذا كان لديك يا صاحب الجلالة من الجرأة ما تأمر به كان لدي من الجرأة ما أطيع به.
الملك :
لنجرب إذن.
وقبل ثلاث عشرة سنة من تلك المحاورة التي أعادت بسمارك إلى خدمة الدولة؛ كان بسمارك قد اعتزل الخدمة بأن بلغ الرئيس الأول بواسطة الحاجب أن يذهب بلا عودة، واليوم يكتب إلى زوجه قائلا: «إنك تألمين من أن أولياء الأمور لا يجدون عملا لي، وإليك الآن ذلك المنصب الذي هو أهم ما في خدمنا الدبلمية فوسد إلي فوق ما كنت أنتظر وفوق ما كنت أود.»
وعلى ما كان من إظهاره في ذلك الكتاب تحريض زوجه إياه على مطالبته بالتقدم، وألمها من عدم تعيينه حتى ذلك الحين؛ داوم على قوله هادئا: «إنني لم أطلب هذا المنصب، والمولى هو الذي أراده، وما علي إلا أن أقبله، ولا أستطيع أن أتملص منه. ومن النذالة رفضه. وإني لأدعو رب الرحمة من صميم فؤادي أن يهيئ كل شيء من غير إلقاء بسعادتنا العتيدة إلى الخطر ومن غير إضرار بروحي.» وينتقل في الأيام القليلة الآتية إلى ضرب آخر من الآراء فيوصي بإحضار سترته الحريرية وفروده التي لا يستطيع أن يقوم بمنصب دبلمي بدونها، وهو ينبئ زوجه بأنه لا يبقى في منصب من الدرجة الثانية إلا لبضعة أشهر ثم يغدو سفيرا بسرعة.
والآن يأتي دور حنة في بث الشكاوى، وهو يجيب عن ذلك بقوله: «ولم هذا الغم، أجل، إن العيش في بلد أجنبي مبهج، ولكنني أكاد أبكي عندما أفكر في حياة الريف الهادئة معك ومع الباقين، في تلك الحياة التي أبصرها حلما لطويل زمن على ما يحتمل والتي تبدو لي رائعة إلى الغاية في الساعة الراهنة. وطني نفسك على قضاء الشتاء معي بين الأصحاب، وإلا فأين أدفئ فؤادي؟ ومن المحتمل، ومن الراجح، أنني لا أقصد وطني لسنوات كثيرة إلا زائرا مستعجلا مأذونا، غير أنني جندي لله فيجب أن أذهب إلى حيث أوجه، وما يصنعه الله فهو جميل، وليكن هذا المبدأ رائدنا في المستقبل، وأشعر بشوق عظيم إليكم كلكم وإلى الربيع الأخضر وإلى الحياة في الريف؛ فقلبي حزين، واليوم وقت الظهر ذهبت لمقابلة الجنرال غرلاخ، وإني لأتلقى منه معلومات عن المعاهدات والملوك؛ إذ رأيت تحت النوافذ نمو شجيرات الكستناء والليلك التي تحركها الرياح، إذ سمعت تغريد البلابل فخيل إلي أنني معك عند نافذة غرفة الطعام وأن الرصيف هو الذي أبصرت، فلم أدر ماذا يكون غرلاخ، وقد أخذت كتابك أمس مساء، وقد بلغت من الشجن
13
والحنين إليكم جميعا ما سكبت به عبرات كثيرة حين قصدت السرير. وفي فرانكفورت يدفع إلي في الوقت الحاضر ثلاثمائة تالير راتبا، وأبدو مستشارا خاصا عما قليل، وأعد ذلك سخرية يجازيني الله بها على ما كان من تهكمي بالمستشارين الخاصين. ويا ليتني أضمك بين ذراعي، ولو دقيقة واحدة، فأعرب لك عن درجة حبي لك وأسألك العفو عن كل سيئة فرطت مني يا فؤادي. ويزعجني ذلك التمييز المفاجئ، وأود أن أكون بجانبك أكثر مما في أي وقت، وأحبك أكثر مما في أي وقت يا حبيبتي!»
تلك هي الأفكار المتضاربة التي تتجاذب ذهنه إقبالا وإدبارا، وليلق الرب الحنان، وليوجب عطف مضاعف، سكينة في قلب ذلك النصراني المكروب عند تحقيق مقاصده، والعزوف عن الاعتراف الصريح بغاياته على ما فيها من صواب وأدب ومناسبة، وماذا؟ أبسمارك خائف؟ لا ريب في عدم وجله من السلطان ومن الكفاح، ومن المحتمل أن تكون قد أخافته تلك المرقاة الإدارية التي نفر من منظرها أيام شبابه، وهو يجزع منها وإن لم يتسور ذروتها بعد، وهو يفزع من آمره، ومن رفع تقرير إليه والمثول بين يديه إذا ما حمله عليه، وتأبى كبرياؤه الإذعان، وفي هذا سر شوقه المفاجئ إلى الحياة الريفية الهادئة التي هجرها منذ سنين، وفي هذا سر رغبته الثائرة في العثور على السعادة والسلام بين ذراعي حنة، غير أن غرلاخ حاضر، فيزود تلميذه بالنصائح ويحثه على السفر وإن لم يكن لذلك آخر، ويضيف الدبلمي الحديث بسمارك الذيل الآتي إلى كتاب يرسله إلى زوجه:
صفحه نامشخص