وتطرح الهند جانبا، فقد كتب الأب الشيخ فرديناند إلى ابنه «رسالة مبللة بالدموع يحدث فيها عن شيبته (وعن بلوغه الثالثة والسبعين من سنيه أرمل أصم)، وعن دنو أجله وعن طمعه في رؤية ولده»، والآن يسأله صديق له عن سبب عدم ذهابه إلى الهند، فيجيبه عن سؤاله هازلا: «لقد أردت أن أخدم في الهند تحت الراية الإنكليزية، ثم فكرت فيما أصابني به الهنود من أذى.» فبهذه النتيجة البوميرانية انتهت خطته في السياحة العالمية على الطريقة البايرونية.
وروائية المالك الشريف في الولاية هي التي تهدف إلى الحركة والألهية، فتسخر الحكومة إلى هذا الغرض مهما حدث من سوء، ويبلغ الثلاثين من عمره فيقول في رسالة له: «أعيش في الريف وحيدا منذ خمس سنين، ولكنني غدوت غير صابر على حياة العزلة شريفا ريفيا، فأتحرق لأعرف هل أعود إلى الإدارة أو أقوم برحلات طويلة، وتراني مستعدا لشنق نفسي تخلصا من سأم الانفراد هنا، ويخيل إلي أن هذه هي حال المثقف الذي يعيش عزيبا في الريف.» وحوالي ذلك التاريخ يكتب في مذكرته: «قمت بأمور حسابية في النهار كله، وقمت بجولة راكبا وماشيا في النهار كله تحت وهج الشمس، فالحق أن الحياة تبدو كفانوس سحري.» ويرغب في حين آخر أن ينتحل لنفسه حياة الخواص فيقيد اسم عساسه
16
ومصفيه باسم حارس الليل والخادم المقطر.
وتتحول عدمية الطالب إلى سوداء شديدة في فارس وحيد في قصره، «فتجدني منذ حضوري هنا فاقد الحس أدبيا تقريبا، وأقوم بأعمالي في الأوقات المقررة، ولكن من غير اكتراث خاص، وأحاول أن أجعل الحياة مقبولة لدى أجرائي، وألاحظ - غير غاضب - ما يأتونه من اختلاسي، وفي الصباح أكون عسيرا وبعد الغداء أكون يسيرا، ويتألف رفقائي من الكلاب والخيل وأشراف الأرياف، ولي حرمة عند هؤلاء لقدرتي على القراءة بسهولة، ولادثاري كرجل في كل حين، ولاستطاعتي تقطيع القنيصة كقصاب، ولامتطائي صهوة الجواد بسهولة وإقدام، ولتدخيني سجاير كبيرة، ولاقتداري على الشرب معتدل الدم على حين يقع ضيوفي تحت المائدة، ومن المؤسف أنني لا أبلغ درجة السكر، مع أن ذاكرتي تخبرني بأن هذه هي حالة سارة، وهكذا أعيش كساعة عظيمة من غير رغائب خاصة، أو مخاوف خاصة، وتبصر حياتي مملوءة انسجاما وطافحة غما.»
ويغوص أحيانا في عشرة الخواص، ويرجع من رحلة في بحر الشمال الذي يصفه بالمحبوب، ويبلغ ما خسره هنالك من المال حول مائدة الميسر ما يسر معه أن يقول: «كنت حسن التصرف في الحدود فلم أدفع ضريبة دخول.»
والآن تتزوج أخته فيزيد فؤاده كدرا أكثر من قبل، وقد كان عاشقا لها، وقد ظل مغرما بها مدى حياته، ويعدها عنوان الذكاء والكياسة ما دامت فتاة تعبث بغلظته عبثا عجيبا، ويقضي عدة شهور عند أبيه الشائب قارئا مدخنا آكلا شلقا
17 «ممثلا معه أحيانا رواية يحب أن يدعوها بصيد الثعلب»، ويصف لأخته إحاطة الصيادين والكلاب السلوقية في يوم ماطر بارد لغابة صنوبر صغيرة مشتملة على شرذمة من العجائز المحتطبات - كما هو معلوم - ويصف لأخته كيف يخرج رئيس القنص من الأصوات الحلقية الغريبة ما يحمل به الثعلب الوهمي على الخروج، «فيسأل الوالد بسذاجة عن مشاهدتي ذلك، فأجيبه بكلمة: كلا، مبديا أقصى الدهش، ويدوم ذلك ثلاث ساعات أو أربع ساعات، فإذا ما انقضت هذه المدة زرنا بستان البرتقال مرتين، وزرنا الزريبة
18
مرة واحدة في اليوم الواحد، وفي كل ساعة نقابل بين موازين الحرارة في الردهة، وننقر زجاجها فنعلم أن الجو جميل، ونجعل ساعتنا الدقاقة من الاتساق مع الشمس ما تدق به معا على حين تتأخر ساعة المكتبة دقة واحدة.» وهو بعد أن يتندر بمرارة على ذلك الوجه يحرض أخته على الكتابة إلى الأب عن أعمالها الصغيرة، «فتحدثه عن الخيل وعن سلوك الخدم وعن صرير الأبواب وإغلاق النوافذ وعن أمور أخرى، وهو لا يطيق أن يدعى بالأب لنفوره من هذه الكلمة.»
صفحه نامشخص