والشيخ يجلس أمام بيته على كرسيه ذي العجلتين، والشيخ يدعهم يمرون أمامه عارضا لجميعهم، فلما مد لوكانوس إلى بسمارك يده التي كان قد سلم بها كتاب العزل إليه «جمد الأمير كالتمثال، فلم تتحرك عضلة في وجهه كما لو كان شاخصا إلى ثغرة في الفضاء.» ويقف لوكانوس أمامه مختلج الوجه، ثم يدرك لوكانوس الأمر وينصرف، ويفكر المضيف حول المائدة في توجيهه آخر إنذار إلى ضيفه وخصمه الذي لن يراه مرة أخرى، ويستوحي اعتزازه التقليدي فيبدأ للمرة الأولى بعد سبع سنين بمحادثة الإمبراطور حول السياسة العالمية، ويحول ولهلم الحديث إلى مزاح، ويحاول بسمارك الرجوع إلى حيث وصل، ويأتي الإمبراطور بنكتة أخرى، ويذعر رجال البلاط، ويقول الشاب مولتكه همسا: «يا للهول!»
ثم يتحول بسمارك إلى نبي، ويشعر بسمارك بأن الساعة تمضي، وبأن حياته تنقضي، وبأنه لن يبصر الشاب الذي اغتصب منه إمبراطوريته مع أنها ثمرة جهاده في حياته، ويرى بسمارك أن هذا العاهل سيضيع البلاد ويخسر تاجه - عاجلا كان ذلك أو آجلا - وأن من الواجب أن يخبر بالخطر الذي يسير إليه قدما، فربما يهزه صوت المحتضر، وهنالك يقول بسمارك بغتة وبصوت يسمعه كل من كان حول المائدة: «يا صاحب الجلالة، يمكنكم - لا ريب - أن تصنعوا ما تودون ما دام هؤلاء رجالكم، ولو حدث غير هذا لتغيرت الأمور.» ويبدو الإمبراطور أصم، ويثرثر الإمبراطور وينصرف.
ويرسل القطب السياسي الشيخ إنذاراته ونبوءاته تباعا أمام خلصائه، فيؤثر هذا في كل واحد من هؤلاء، ومن ذلك قوله:
إذا ما أحسنت سياسة البلاد أمكن الحكومة اجتناب الحرب القادمة، وإذا ما أسيئت سياستها دامت تلك الحرب سبع سنين على ما يحتمل، والمدفعية هي التي تقرر مصير الحروب القادمة، ويمكن أن تستبدل المدفعية بالجيوش لدى الضرورة، فيجب صنع المدافع في أيام السلم، وقد تعلن روسية النظام الجمهوري في وقت أقرب مما يظن، والعمل أكثر نيلا للانتصارات في الكفاح بينه وبين رأس المال، ولا يلبث هذا أن يحدث في كل مكان يكون للعمال فيه حق التصويت، وسيكون النصر النهائي الحاسم للعمال.
وما وجهه بسمارك إلى ألمانية من إنذارات فجميعه وليد شجاعة وإقدام، وقد بلغ بسمارك من صفاء النفس ما صار يمكنه أن يتهم معه نفسه، ومن قوله: «قد يكون الوجه الذي قمت به بوظيفتي علة ما يبصر في ألمانية من عدم حزم، وقد يكون ذلك سبب ما ينمو في ألمانية من الوصولية والملق على حساب الكرامة، وكل شيء يتوقف على تقوية الريشتاغ، وهذا لا يتم إلا بانتخاب نواب مطلقي الاستقلال، والريشتاغ ينحط، فإذا داوم على انحطاطه بدا المنظر قاتما لا ريب، وأعتقد أن الأزمات القادمة أشد خطرا من كل ما حدث، ولم أزل أرى ألا يطاع أحد خير من أن تحاول قيادة الآخرين. وإن شئتم فقولوا إنني كنت ذا رأي جمهوري، ولعل الله يهيئ لألمانية دور مجد بعد دور بوار، ولا مراء في أن ذلك سيقوم على أساس جمهوري.»
الفصل الحادي عشر
بسمارك أتى من الغابة وإليها يعود، وبسمارك ماتت زوجه وأصدقاؤه، وماتت خيله وكلابه، وعاد لا يبالي بأولاده ولا بحفدته، ونزع منه السلطان، وغدا غضبه على ضياع سلطانه لا يهزه، وصار يقاسي آلاما في أعضائه؛ لبلوغه من الكبر عتيا،
1
والآن يلزم جانب الصمت ذلك الذي بلغ الثمانين من سنيه وهو يفتن العالم بما يكتب، والآن لا يكاد هذا الشيخ يشرب، والآن يجلس على كرسيه مستمعا لثرثرة الشبان، والآن لا يبدو غير ظل لبسمارك!
ولم تزل الغابة ذات أثر كبير في حياة بسمارك عند مجاوزته سنواته الأخيرة، وصار بسمارك في الثالثة والثمانين من عمره ولما ينفك عن السير في الغابة صامتا غير مبال بسوى أفكاره الخاصة، وقد قال: «ليس لي الآن غير الغابة ملجأ.» وأصبح بسمارك لا يلتفت إلى الحقول موليا وجهه شطر شجر الصنوبر الذي غرسه في دوغلاس منذ سنين منجذبا إلى المغارس وإلى أقسام الغابة المشتملة على أقدم الأشجار التي يهز النسيم أوراقها فيسمع لها حفيف، وتتجمع الزرازير وراء المنزل، فيقول: «إنها تعقد مجلسا شعبيا لاقتراب الربيع.» وينتظر ظهورها على المصطبة مساء عارفا كل واحد منها، «ولم يأت غير خمسة منها مع أن عددها سبعة، ويكون رئيسها آخر ما يحضر، ويمكنها أن تنام وتنهض بلا ألم.» ثم يذهب إلى الحوض ويفكر في أقوم الطرق لتسوية ما بين الإوز والبط والجرذان من خصام دائم، ويريد أحد ضيوفه أن يخرج لابسا عمرة
صفحه نامشخص