مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول: التائه
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثاني: الطموح
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الجزء الثالث: الباني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الرابع: المسيطر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الجزء الخامس: المبعد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
فهرس التواريخ
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الجزء الأول: التائه
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الجزء الثاني: الطموح
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الجزء الثالث: الباني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الرابع: المسيطر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الجزء الخامس: المبعد
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
فهرس التواريخ
بسمارك
بسمارك
حياة مكافح
تأليف
إميل لودفيغ
ترجمة
عادل زعيتر
إلى جرهرت هوتمن مع المودة والإكرام.
موشيا، صيف 1926 (المؤلف)
مقدمة المترجم
هذه هي ترجمة كتاب «بسمارك» للكاتب الألماني الكبير «إميل لودفيغ». وربما كان هذا السفر أعمق ما وضع لودفيغ من كتب التراجم وأدق، ولا نستثني من ذلك كتاب «نابليون» الذي امتاز بحسن التحليل، ولا كتاب «ابن الإنسان» الذي امتاز بقوة الوصف. والكتب الثلاثة هذه هي خير ما ألف لودفيغ من رسائل السير على ما نرى. ولا عجب؛ فموضوع الكتاب ألماني يشغل بال الألمان والعالم بأسره، والكاتب ألماني لم يأل جهدا في أسر أفئدة الناس أجمعين.
والمؤلف يقول: «ولما حلت سنة 1911 حاولت أن أقف حيال أسطورة هذا الوزير الحديدي في رسالة نفسية، عارضا فيها بطريق الوصف طبيعة عدت من الألغاز، ثم انقضت عشر سنوات فوضعت رواية مؤلفة من ثلاثة فصول عن بسمارك طامعا أن تمثل على المسرح الألماني. ويختلف السفر الوصفي الحاضر عن ذلك السفر غير السياسي الباكر. وليس في هذا الكتاب اللاحق ما هو مقتبس من ذلك الكتاب السابق؛ فما في هذا الكتاب من عرض لبسمارك فقد تم على نور جديد، ولا تبصر في الكتابين من أوجه الشبه سوى الصورة الأساسية التي تجلت بها تلك الطبيعة المعقدة. ومما اقتضى وضع كتاب جديد عن بسمارك أكثر ملاءمة لأصول النقد؛ ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة من نشر وثائق قاطعة ومذكرات مفيدة، وما اتفق لنا من النضج.»
وعلى كثرة ما يتردد اسم «بسمارك» في الرسائل والصحف، وعلى كثرة ما يدور اسم «بسمارك» على الألسن، وعلى ما مثله بسمارك من الدور العظيم في تاريخ العالم، عطلت العربية من كتاب كبير أو صغير عن حياة هذا الإمام في السياسة، عن تاريخ هذا الذي لم يتحرج أحد فلاسفة
1
فرنسة من وصفه ب «صاحب الدماغ القدير المتصرف في المصير.»
وبسمارك هو الذي جعل من ضعف ألمانية قوة، وبسمارك هو الباني للإمبراطورية الألمانية والموجد لألمانية الحديثة والرافع لذكرها والمعلي لشأنها والمظهر لها فوق الجميع، وبسمارك هو الجامع لأجزاء ألمانية بعد تفرق والموحد لأقطارها بعد شتات، فإذا ما ذكر قيام الدول وتأسيس الجامعات وتوحيد ما اختلف من الجهات؛ كان بسمارك أول من يبدو للأعين نبراسا يهتدى به وللأبصار قبسا يسار على نوره.
وقد بلغ ما شاده بسمارك من القوة درجة لم تسطع أن تدكه حربان طاحنتان؛ فالأساس متين والأصول ثابتة، وإذا ما قطعت الفروع أخرجت السوق شطأ أقوى مما كان؛ كما ثبت بعد الحرب العالمية الأولى، وكما يلوح بعد الحرب العالمية الثانية. ولو خلا من الرعونة من قبضوا على زمام الأمور في ألمانية بعد بسمارك، وبين تينك الحربين أيضا، فكان لهم مثل ما له من اتساع الأفق وأصالة الرأي؛ ما أصيبت ألمانية بغلب بعد طويل جهاد وعظيم دفاع، ولظلت ألمانية أول دولة في العالم على ما يحتمل.
والمؤلف في هذا الكتاب - كما في كتاب نابليون - سار مع بسمارك سيرا طبيعيا من ولادته إلى وفاته بأسلوب أخاذ مؤثر لم يسبقه إليه أحد. ولا نرى أن نسهب في بيان ما وجدناه من إبهام والتباس وغموض في هذا الكتاب، ولا في بيان ما بذلناه من جهود مضاعفة في جعل عبارة الكتاب واضحة جهد المستطيع؛ فذلك يقدره قراء كتب لودفيغ، ولا نرى أن نضع مقدمة مطولة نعرض فيها مناحي الكتاب؛ لما قصدناه من ترك ذلك للقارئ، وإنما نذكر أن هذا الكتاب هو خير ما أخرج للناس عن بسمارك - على ما نعتقد.
نقدم هذا الكتاب إلى الأمة العربية في وقت هي في أشد الاحتياج إلى مثله؛ فلعل العرب يبصرون من مطالعته كيف تقام الجامعات وكيف توحد الشعوب والدول على أسس صحيحة بعيدة عن الرئاء والشعوذة والكيد والتخاذل والمظاهر الخادعة، قائمة على الإيمان والإخلاص والبذل والتضحية والجهاد الصادق. فإذا كنت قد نقلت هذا الكتاب إلى العربية نقلا يكاد يكون حرفيا معتمدا على ترجمته إلى الفرنسية والإنكليزية، فإنني أكون قد نلت ما أرجو. «نابلس»، عادل زعيتر
مقدمة المؤلف
واضح غامض، كامل العدة، منير في سحر،
1
هذا هو بسمارك الذي يشابه ما رسمه رنبرانت
2
من الصور، فيجب وصفه بمثل ما في هذه الصور. وبسمارك هو الذي أحاطته شحناء الفرق منذ ثمانين سنة بضياء البرق، وبسمارك هو الذي أحب قليلا في حياته؛ لما كان من قلة حبه للآخرين، وبسمارك هو الذي قضي عليه بعد مماته بأن يبدو تمثالا؛ لما كان من عسر اكتناه سرائره، فكان بين الألمان كرولان
3
منحوتا من صوان.
وغرض هذا السفر هو وضع صورة لمناضل ووصف انتصاراته وغواياته،
4
وفي هذا السفر سيوصف بسمارك بصاحب سجية مملوءة بما صدرت عنه أفعاله من عجب وشجاعة وحقد. وبينما ترى اليوم فريقا من الألمان يغالي في تمجيد بسمارك ترى فريقا آخر يدينه. ونحن نرى أن ندرس حياته درسا عميقا ما قررت هذه الحياة مصير ألمانية وما وجب على الألمان معرفة خلقه كما هو لا كما شوهه ما دار حوله من التقديس والتدنيس.
ورجل التاريخ ذلك هو، على الدوام، أحكم من طريقته وأعقد من صورته. ولا نجد أن نسير على غرار المحافل العلمية فنثقل وصفه بالحواشي والمذكرات، بل يجدر بزماننا أن تعرض الأخلاق العامة فيه عرضا ماثلا، وأن يستخرج منها للعالم بأسره مثل ودرس، والمرء رجلا يتعذر فصله عنه قطبا سياسيا، فمشاعره وأعماله متلازمة متفاعلة، وحياته الخاصة وحياته العامة كلتاهما متسايرة متجارية. وواجب المتفنن هو في صنع الشيء الواحد من المواد التي يأتي بها الباحث الفاحص.
وقف نشوء حياة بسمارك الخاصة في الثلاثين من عمره تقريبا، واحتمل في خمس عشرة سنة من ذلك أعنف هياج واضطراب، ولم يحدث بعد ذلك سوى عمق في خطوطه الأصلية؛ فمن أجل هذا يجب تفصيل وصف شبابه، أي دور محياه
5
غير السياسي، وقد اقتصرت تراجمه على بضع صفحات عن هذا الدور.
وكلين هاتنجن - الذي لم يعرف قدره - هو الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يجيد وصف بسمارك وصفا نفسيا مستعينا بالوثائق التي أمكن الوصول إليها في زمنه. ولما حلت سنة 1911 حاولت أن أقف حيال أسطورة هذا الوزير الحديدي في رسالة نفسية، عارضا فيها - بطريق الوصف - طبيعة عدت من الألغاز. ثم انقضت عشر سنوات فوضعت رواية مؤلفة من ثلاثة فصول عن بسمارك طامعا أن تمثل على المسرح الألماني.
ويختلف السفر الوصفي الحاضر عن ذلك السفر غير السياسي الباكر، وليس في هذا الكتاب اللاحق ما هو مقتبس من ذلك الكتاب السابق؛ فما في هذا الكتاب من عرض لبسمارك فقد تم على نور جديد. ولا تبصر في الكتابين من أوجه الشبه سوى الصورة الأساسية التي تجلت بها تلك الطبيعة المعقدة، ومما اقتضى وضع كتاب جديد عن بسمارك أكثر ملاءمة لأصول النقد، ما أسفرت عنه الحرب الأخيرة من نشر وثائق قاطعة ومذكرات مفيدة، وما اتفق لنا من النضج.
وبدا أمر بسمارك الواضح الغامض أكثر وقفا للنظر مما كان عليه بعد تلك الأسانيد؛ فالذي يحاول اكتناه مكافح - بدلا من نحت تمثال له - يظل دهشا أمام تلك الحياة التي هي نسيج من نضال مستمر ونصر عارض وحرص دائم وعدم قناعة مستمرة، ومن حكمة في أكثر الأزمان وخطأ في بعض الأحيان، ومن عبقرية حتى في العماية والضلال.
الجزء الأول
التائه
بسمارك ذو مزاج تضنيه الحياة، ولكن الراحة تقتله.
أ. كيزر لنغ
الفصل الأول
في الصيف، تحت أشجار البلوط القديمة بالحديقة يلعب صبي أشقر بادن، حاد العينين قاتم الناظرين، هو في السنة الرابعة من عمره، ولكنه يبدو في السادسة من سنيه حين يحفر بمجرفته الأرض فيملأ عربة اليد فيقلبها بالقرب من الحوض حيث يبني بهمة حصنا من الحجر والتراب، والبستاني إذا ما أراد رد الصبي إلى البيت وقت الغداء صلب الصبي وغضب.
ذلك بيت ريفي عادي، كان منزلا لفلاح ثري، لا مسكنا لوجيه سري، ذلك بيت خشبي وضيع عاطل من الزخرف مؤلف من طبقة واحدة خلا وسطه حيث تبدو طبقة ثانية ذات خمس نوافذ، والصبي حينما ينظر من نافذته في الطبقة الأولى يمتد بصره ساكتا صامتا إلى سهل ذي بر
1
ضارب إلى صفرة، والريح حينما تهب من تلقاء بوميرانية، تهز رءوس السنابل الثقيلة فيتموج الحقل وتظهر فيه أخاديد، والأب حينما يأخذ الابن إلى القرية يقول له: «كل هذا لنا!» والأب قد ورث - حين كانت سن الابن سنة واحدة - نحو ألفي فدان في كنيبهوف، فعدل عن شونهاوزن وسكسونية إلى بوميرانية الغربية.
والصبي إذا ما رافق أباه ذكر قوله: «كل هذا لنا!» ما دامت القرية واستغلالها أمرا واحدا، ولا تبصر هنالك فلاحين، بل تبصر عمالا مرتبطين في الضيعة
2
مقيمين بأكواخ حقيرة مماثلين تحت سقفها التبنية للفدادين
3
أكثر ما للفعلة مرضيا عن وضعهم ذلك من سادتهم أولئك، وهنا معمل الجير
4
وهنالك الكير،
5
وينساب الصبي في الحظيرة عند البقر فيقول له براند البقار الهرم البالغ من العمر تسعين سنة: «حذار أيها الشريف! فليس من العسير أن تضع البقرة قرنها في عينك، والبقرة تداوم على أكلها هادئة من غير أن تبصر ذلك، ولكن مع فقد باصرتك!»
ويقول ذلك الهرم: «أيها الشريف!» بلهجته العامية، ويمضي سبعون عاما، فيذكر بسمارك ذلك البقار الواقعي الذي كان يقص عليه من أنباء الملك فردريك ولهلم الأول، فيروي أنه رآه في كوسترين قبل الملك فردريك الكبير بزمن طويل.
وفي أيام الأعياد يدخل الأب وابنه البهو ذا النوافذ الثلاث، فيقص الأب على ابنه هذا أحاديث لما يبدو في البهو من صور بعض الأجداد اللابسين خوذا والحاملين سلاحا والناظرين بعبوس ووقار من صورهم ذات الأطر المعلقة على الجدر. والواقع هو أن معظم أولئك الأجداد كانوا أصحاب الحكم في الإلبة مدة تزيد على خمسمائة عام، فإذا ما حدث الأب ابنه البكر، الذي هو في السنة التاسعة من عمره فيقدر على وعي ما يقال له؛ أصغى الابن الأصغر إلى الحديث، وماذا يسمع؟ هو يسمع أن أجداد أبيه كانوا من الفرسان وفق صورهم في البهو، وأنهم كانوا يسكنون البروج والقصور عدة قرون، وأنهم كانوا يملكون من الفدادين من يحرثون أراضيهم وأنهم كانوا يمارسون شئون الأمن والعدل، وأنهم - منذ القديم وفي أيام الآحاد - كانوا يجلسون على كراسي من خشب السنديان بصدر الكنيسة منفصلين عن خدمهم وبقية أتباعهم كما لا يزال حفدتهم يصنعون.
ومن المحتمل أن روى الهر فرديناند فون بسمارك لابنه أن أشراف المارش القديم أولئك كانوا من المتغلبين، لا من الندماء، وأنهم كانوا من الرماة - في أكثر الأحايين - أولم يكره أحد الأمراء الناخبين آل بسمارك منذ طويل زمن على التنزل عن غاباتهم الرائعة فيقبلوا - مغبونين - شونهاوزن بدلا منها؟ ومنذ مائة سنة يحاول الملك أن يفرض ضريبة على أملاك أشراف المارش القديم، فيضع جد فرديناند الأكبر نفسه على رأسهم محتجا على «تنزيل إمارة حرة إلى ولاية هزيلة خاضعة للإتاوة».
6
وقبل أن يموت الملك أعطى ابنه فردريك الشاب جدولا بأسماء الأسر الأربع المتمردة فذكر فيه آل بسمارك ب «أنهم أشدها زهوا وأجدرها بأن تخشى.»
وكان جد الصبي شريب خمر وصيادا قديرا؛ فقد أصمى
7
في سنة واحدة 154 وعلا كبيرا. ويشابه الصبي جده هذا أكثر من مشابهته لأي رجل كان، وقد عاد أبوه لا يكون فارسا. ومن الواقع أن الجد بعد من الفروسية، فلما ماتت زوجه الفتاة قبل فرتر بقليل نشر مرثية مؤثرة غالى فيها بوصفها ووصف قرانه بها. وتلميذ جان جاك روسو، هذا الذي لم يرد أن يجعل من أبنائه «غير أربعة رجال صالحين» كان يدعوهم بأصدقائه وكان يقرأ رسائلهم مسرورا إذا ما عنوا بأسلوبهم، وكانت لديه مكتبة كاملة مشتملة على أفضل الآثار. وعدم الحرص، مع البطالة، هو ما ورثه عنه فرديناند (والد بسمارك) وإخوته؛ فهم، وإن كانوا جميعهم يذهبون إلى الحرب، لم يقصدوا البلاط راضين بحياتهم المنزلية.
والآن يقوم فرديناند بتربية ولديه الصغيرين في كنيبهوف، ولا غرو إذن أن يترك الخدمة منذ المعركة الأولى ابنا للثالثة والعشرين من عمره، ويبلغ الملك من الغضب ما ينزع به رتبته قائدا لمائة من الفرسان ويحظر عليه لبس بزته العسكرية، فلم يعدهما إليه إلا بعد وقت كبير، حتى إن أبا بسمارك لم يعد إلى الجندية في أحرج الأدوار، بل أهل
8
في أواسط سنة 1806 حين خلع الإمبراطور فرنسوا تاج الإمبراطورية الألمانية عن رأسه، وهو لم يغادر عزلته الريفية أيام معركة ينا، ولا أيام حرب الخلاص فيمتشق حسامه
9
في تلك السبيل، مع أنه كان يتمتع بصحة جيدة ولم يكد يجاوز الأربعين من عمره.
وكان فردريك الكبير قد كلم ذلك القليل الميل إلى القتال والضخم الجثة والحاد الطبع كابنه والقوي الشكيمة والرجل العاطفي في صغره، فكانت هذه حكايته البروسية الوحيدة، وكان أبوه محبا للثقافة الفرنسية فرباه نبيلا مع تحلل من الأوهام الطبقية، وهو لما اتفق له من هذه التربية كان رصينا مدى حياته سيدا لمنزله مع اقتصاد في المطاليب ومخاطبة لصبيته كما لو كانوا شبابا، وكان مرحا كريم الطبع رغيد العيش غير مكترث لأملاكه ما قام بإدارتها ناظر. وكان ولوعا بالصيد وشرب الخمر ما ظلت معاقرة
10
الراح
11
ديدن
12
آل بسمارك منذ قرون. وإليك بعض ما في كتبه من كلمات جديرة بالقيد:
اليوم عيد ميلاد أوتو، وفي هذه الليلة فزر كبش جميل لنا، يا له من جو كريه! ... يبدو لي أن خمر مدوك والرين غير مؤثرة في بدرجة الكفاية، فتراني أتعاطى رحيق
13
بورتو وشيري طامعا في شيء من التحسن، ولا أحرم نفسي قوي القهوة (غير مغض عن المحار
14
والكبد الدسم ... إلخ)، وعلى ما أتعاطاه من هذه الأدوية الصالحة تبصرني أكتلي،
15
فليس من الحسن أن يشيب الإنسان.
وهو حين كان في الخامسة والثلاثين من سنيه قد تزوج فتاة في السنة السابعة عشرة من عمرها فتتصف هذه الفتاة بالملاحة مع طول أنف وذكاء عين وحدة ملامح ونفوذ نظر؛ أي بما يدل هذا الخطيب على ما في طبيعة هذه الخطيبة من عناصر مختلفة عما عنده، ومن جبلة هذه المخطوبة اعتدال العقل وشدة الحرص، وقد كان أجدادها - ويدعون بآل منكن - أساتذة حقوق وتاريخ مدة قرن فنقلوا هذه الخلال إلى أبيها فكان فرعا لتلك الدوحة الإنسانية، وفي عهد فردريك كان منكن مستشارا للقصر فرئيسا للعدل، ثم خسر حظوته في سنة 1792 أيام غضب ذلك الملك على والد بسمارك، وما كان منكن ليعود إلى خدمة مولاه الثالث إلا في سنة 1800، فهنالك وجه سهام النقد إلى جبروت فردريك الكبير مطالبا مولاه بأن يقيد سلطانه بنفسه، مصرا على أن تكون المسئولية من نصيب الوزراء، منتحلا شأن المصلح كالبارون فون شتاين الذي امتدح منكن بأنه حر صميمي، ومن أبيها هذا ورثت أم بسمارك ذكاءها وبصرها بالأمور، فكان الصواب شعارها وكانت تحب حياة المدن والنفائس والبلاط على خلاف زوجها، وزوجها هذا كان راغبا في العيش والعزلة، وزوجته هذه كانت راغبة في الظهور وفي أن تعد شيئا مذكورا.
وعن أمه تلك ورث أوتوفون بسمارك حكمته وذكاءه واعتداله مع حب السيطرة الجم الذي لم يحرك ساكن أحد من آله قبله، وعن أبيه ذلك ورث أوتوفون بسمارك مزاجه وخلقه، فما انتقل إليه من ناحية أبيه ومن ناحية أمه جاء مصدقا لنظرية شوبنهاور.
الفصل الثاني
وضعت الأم ابنها البكر، وتضع ابنها أوتوفون بسمارك بعد ذلك بخمس سنين، وكان ذلك أيام عودة الإمبراطور نابليون من جزيرة إلبة، وكان ذلك حين حبوط مؤتمر فينة وارتباط بروسية في أوروبة بحلف جديد، وفي اليوم الثاني من أبريل سنة 1815 يصدر الإمبراطور بباريس بيانا ضد ذلك الحلف، وفي ذلك اليوم يمكن البرليني أن يقرأ في جريدة فوسيش إعلانا عن ولادة ابن للهر فون بسمارك بكنيبهوف، ويبصر الصبي في أمه خصما له منذ أوائل عمره فيبتعد عنها في صباه، وعلى ما كان من حبه العجيب لآله لم يبد في سنواته الأخيرة غير ما يؤكد ذلك أمام الغرباء، فلا تجد في مئات الأحاديث القلبية التي نطق بها كلمة واحدة ملائمة لأمه، وهو قد وصفها في شيبته بالمتعلمة التي لم تعن بتربيته قط، وهو قد تكلم عنها بمرارة، فقال: «لم يكن لديها غير القليل من ذلك الشعور الذي يدعوه أهل برلين برقة الشمائل ... فكان يلوح لي - في الغالب - أنها كانت شديدة فاترة نحوي.»
ولذلك الحقد الذي يرجع إلى أيام طفولته سببان، وهما: أن أمه كانت تستقبل أضيافا في الشتاء، فكان أبوه يضحي بسريره نظرا إلى ضيق وسائله، فلم يسطع الصبي أن يعفو لأمه ذلك، وأن الصبي كان قد تكلم بزهو عن صورة جد لأبيه ذات يوم، فأخفت أمه، التي هي من الطبقة الوسطى، تلك الصورة كسرا لعجبه الأريستوقراطي، فيا لهول تلك الأوقات للولد! ويا لخطر نتائجها!
والخيلاء أبرز ما يبدو في أقدم ذكرياته؛ ومن ذلك أن هرب ذات مرة حينما أساء أخوه الأكبر معاملته، وهو لم يمسك إلا تائها تحت الزيزفون. وفي مرة أخرى كان في البيت زائرون فاختار مكانا له في زاوية فسمع غير واحد منهم يقول مع تردد: «قد يكون هذا ابنا للمنزل أو ابنة له.»
فيقول بسمارك: «قد أجبتهم عن ذلك قائلا - بلا حياء: أيها السيد إن هذا ابن. فدهشوا لذلك.»
ولم تكن تربيته في المدرسة أحسن من ذلك؛ فقد قضى ما بين السنة الثامنة والسنة الثالثة عشرة من عمره تلميذا داخليا في معهد بلامان ببرلين؛ فما انفك مع العمر يبدي ضغنه على تلك السنوات. ومن قوله:
صرت غريبا في بيت والدي منذ نعومة أظفاري، فلم أجدني فيه بالحقيقة، وقامت تربيتي منذ البداءة على المبدأ القائل باتباع كل شيء لكمال الذهن وبتوقف كل شيء على تحصيل المعارف الوضعية بسرعة.
وهو - إذ عد أمه آمرة ناهية في البيت - كان يراها مسئولة عن كل ما كابده من الشدائد في ذلك المعهد الداخلي، وهو لم يفتأ يتوجع من ذلك الخبز اليابس الذي كان يطعمه هنالك، ومن تلك التربية الإسبارطية التي كانت تفرض عليه هنالك، ومن تلك الثياب الخفيفة التي كان يحمل على لبسها في الشتاء «خلافا للطبيعة» هنالك، وهو لم يزل يذكر في الثمانين من عمره «أنه كان ينبه بوخز السيف».
وما كان يلوح من القومية الألمانية، وما كان يصدر عن أتباع ياهن
1
من اندفاع حر، وما كان من حقد على طبقة الأشراف، وما كان عرضة له من تهجم معلميه عليه بسبب انتسابه إلى النبلاء، فأمور كانت تقوي فيه، وقد كان في السنة العاشرة من عمره، ميله الغريزي إلى طبقته وتثير فيه حقدا على الأفكار الحرة التي كان يجدها بادية لدى أمه.
قال بسمارك: «كنت لا أتناول من الطعام حتى الشبع ما لم أكن ضيفا في مكان ما، وما كنا نأكله من اللحم فمثل المطاط على الدوام، وكان علينا أن ننهض من الفراش في منتصف الساعة السادسة صباحا، وأن نكتب فيما بين الساعة السادسة والساعة السابعة، وكنا نضطهد بأشد ما يسوم وكلاء الضباط به الجنود، وما كنا نصاب به من الضربات في الأذرع حين المسايفة
2
فتبقى آثار رضه ظاهرة أياما بأسرها.»
ويود الولد أن يعود إلى كنيبهوف، ويبلغ الكمد
3
في ولهلمستراس غايته؛ فهي غامرة
4
غير عامرة، وى! لو شيدت المدرسة في مكان المباني العامة حيث يمر الملك أحيانا ما كان ذلك سيئا، ولكن كل شيء خارج أبواب المدينة ينطوي على غم وعزلة، «فإذا ما أبصرت من النافذة بقرا يثير الأرض فكرت في كنيبهوف وأنفي راغم.» وهكذا تراه يقضي أيام السنة ناظرا إلى العطل طامعا في قضائها بمنزله.
وما أشد المشاعر التي تزعزع الصبي عندما تكتب أمه فتقول: إنها راغبة في قضاء شهر يوليو في مكان ذي مياه، وإن على الأولاد أن يبقوا في برلين، ويحدث هذا صيفا بعد صيف، فتمضي سنوات من غير أن يقيض للأولاد فرصة رؤية البيت والحديقة والحقل والأنبار
5
والزراب
6
والكير والقرية. وبسمارك قد دعا ذلك فيما بعد بحياة الإصلاحية (سجن الإصلاح)، وما كان يصدر عن أمه وما كانت ترغب فيه وما كانت تعلمه فكان يلوح في صغره أمرا كريها.
وهو كلما كبر أبصر ما يجر إليه نشاط أمه وحرصها من ضرر في الاقتصاد؛ فهي تدخل في كل سنة آلات جديدة ومناهج جديدة إلى كنيبهوف قاصدة بذلك تجديد ما نهكه زوجها وأفسده بإهماله، ثم حملت بعلها هذا على قضاء الشتاء في برلين، فأقاما بأوبرنبلاتز فكان لها بذلك عيش رفيع واختلاط بالعالم، وما كان أوتو لينسى ذهاب أمه مع أبيه متبرجة لتحضر سهرة الوزير.
وقد قال: «يتمثل لي ذلك كما لو وقع اليوم، فأذكر ما كان من لبسها قفازا طويلا وثوبا قصيرا، وما كان من تدلي خصل شعرها على أطرافها، وما كان من نصب ريشة نعامة كبيرة على رأسها.»
ومن أمه سمع - للمرة الأولى - ما تتخذه المعارضة الحرة من عبارات تعقيب، ولم يجاوز دور المراهقة حينما أهرع إلى يوستي باحثا عن صحف باريس الخاصة بثورة يوليو، وهو بسبب أمه عرف كيف يزدري هذه الأمور.
وكتب يقول في أخريات سنيه: «إذا ما أحضرني الخادم من المدرسة في عيد ميلاد والدتي وجدت غرفتها مملوءة بسوسن
7
الوادي الذي كانت تحبه على الخصوص، وبما يهدى إليها من الثياب والكتب واللعب، ثم يحل وقت الغداء فيتناوله كثير من شبان الموظفين ... ومن الشيوخ المناهيم
8
الحاملين أوسمة وأوشحة ... ثم تأتي بي الخادمة إلى ركن فتعطيني مقدارا من الخبياري
9
والمعجونات وما إلى ذلك من الأطعمة التي تضعها جانبا فتؤذي معدتي، وما أكثر ما يسرقه أولئك الخدم! ... ولم يتفق لي من التربية ما هو لائق ... وكانت أمي ولوعا بالزيارات فلم تبال بنا إلا قليلا ... وتبصر، على العموم، تعاقب جيلين: أحدهما مخبوط والآخر غير مخبوط، وهذا ما هو واقع في أسرتي على الأقل، وأعدني من الجيل المخبوط.»
ويقضي أوتو ما بين السنة الثانية عشرة والسنة السابعة عشرة من عمره في مدرسة غراو كلوستر، فيرى هنالك ما تلقنه الطبقة الوسطى من حقد شديد على طبقة الأشراف فيغدو زهوه الأريستوقراطي أبعد غورا، والآن يعيش أوتو في منزل أبويه ببرلين بين طيش أمه في الشتاء واشتراك أبيه في ذلك عن حلم، فإذا حل فصل الصيف أصبح في المنزل وحيدا مع أخيه الذي هو أكبر منه بخمس سنين والذي «يتورط، وهو طالب حينئذ، في الحياة الجسدية» وإذا عدوت أخاه هذا لم تجد له رفيقا في المنزل غير معلم وخادم، فتراه إذن عاطلا من المرشد الخلقي، موكولا إلى نفسه في سنيه الحرجة، وإذا عدوت أباه لم تجد أمامه، بين السنة السابعة والسنة السابعة عشرة من عمره، من يصلح أن يكون قدوة له أو من يحبه. وهل ترى ما يدعو إلى العجب بعد أن تعلم أنه صار خالع العذار قبل الأوان؟
ويروي الابن أن الأب «لم يكن نصرانيا» وكانت الأم ضربا من الاتصالية،
10
ولم يواظب أي واحد منهما على الذهاب إلى الكنيسة، وقد تلقى أبناؤها أفكار شليرماشر النقاد الذي عرف الصلاة بأنها مرحلة إلى السحر فلم يوص بها إلا لتأثيرها المطهر. ومما ذكره أوتو أن أمه كانت تتعصب لسويدنبرغ ولنبوءة بريفورست ولنظريات مسمر «فيعارض هذا ما تتصف به نفسه من وضوح فاتر» وتعتقد أمه أنها ملهمة، وترى - مع ذلك - أن بعلها فرديناند وحده هو الذي لا يستطيع أن تحتال عليه في ذلك، وإن كانت تنظر إليه من عل؛ لما يلازمه من أغاليط نحوية، وزوجها هذا قال لصديق له - بما عرف عنه من تهكم: «إنها لم تسطع بإلهامها أن تبصر ما يعتور ثمن الصوف من نزول في آخر السوق أكثر مما في أولها.»
ومن الطبيعي أن يكون الأب - خلافا للأم - راضيا عن أولاده على الدوام.
الأب: «ترونني فخورا دوما بأخباركم، وقد كان آل بولوف عندنا في الأمس فأطلعتهم عليها فشعرت بسرور حقيقي حينما سمعتهم يثنون عليكم.»
الأم: «انظر إلى من حولك واسمع ما يقال عن التربية المتينة تجد أنه يعوزك أمور كثيرة قبل أن تستطيع أن تدعي أنك رجل مثقف.»
وفي السنة الرابعة عشرة من عمره يقع أوتو ذات يوم عن الحصان فتقول له أمه: «أي بني أوتو العزيز! يقول أبوك إن حصانك لم يكن دلوقا
11
كما ترى، وإنك سقطت لأنك كنت على السرج كرزمة من رثاث،
12
فإذا ما تلافيت الأمر لم تجد ما يزعجك.»
فبمثل تلك اللهجة يجعل الأبوان والأساتذة من أنفسهم مضحكين أو مكروهين، فغباوة كتلك مما يصدم الزهو الفطري فيغدو الولد به متكبرا غير منطقي، والألمانية هي التي برع فيها الابن، والابن لم يلمع حتى في التاريخ، والخامسة عشرة من ثمانية عشرة هي مرتبته في علم البيان، وفي جدول لعلاماته يعزر «من أجل تطاوله
13 ... ولم ينزع إلى ما يجب عليه من توقير أساتذته»، وهو - دوما - يحاول النوم طويل زمن في الصباح، وهو لا يشعر بانشراح إلا في ساعة متأخرة من النهار، وهو يظل من عصبيي المزاج مدى حياته؛ فالحق أن بسمارك رجل مساء.
وأخت بسمارك الصغرى - مالوينشن - هي التي كانت تسري عن فتائه
14
القاتم؛ هي دونه سنا باثنتي عشرة سنة، هي بهجة أبويها، هي ألعوبة إخوتها.
وفي الرابعة عشرة من سنيه يقول بسمارك في كتاب له: «إن مالوينشن تتكلم باللغتين: الألمانية والفرنسية، كما يشاء هواها، وهي تعرفك جيدا.»
ويبلغ بسمارك السنة الخامسة عشرة من عمره، فيباح له أن يقضي عطله الكبرى في المنزل، ويطيب له «أن يتلهى قليل الساعات مع زوجة أحد المالكين المجاورين الحسناء»، ويبلغ بسمارك السنة السادسة عشرة من عمره فتكون له مغامرة في مركبة بريد مع «قهرمانة
15
جميلة» منحرفة المزاج قليلا، فيغمى عليها فتقع بين ذراعيه، وهذا إلى ما كان من إيصائه أخاه بأن يرسل على حسابه «علامة حب» مغفلة إلى جارة ذات دلال. وتجد سمة الشك حتى على رسائله التي كان يكتبها في الريف ابنا للخامسة عشرة من سنيه؛ ومن ذلك:
فر من السجن، ذات يوم جمعة، ثلاثة فتيان كثيري الرجاء، فكان أحدهم حارقا متعمدا، وكان الثاني قاطع طريق وكان الثالث لصا ... وفي المساء تخرج كتيبة كنيبهوف الملكية المسلحة المؤلفة من خمسة وعشرين مقاتلا؛ لتعقب أولئك الغيلان ... ويستحوذ الذعر على جنودنا حينما التقت مفرزتان فتساءلتا يائستين، ولكن مع فزع، فلم يجرؤ أحد منهما على الجواب.
وأحوال مثل تلك مما يؤدي - بين السنة السابعة عشرة من عمره والسنة الثامنة عشرة من عمره - إلى إنكاره العقيدة والفكر إنكارا مطلقا، ويشتق معتقده السياسي الوجيز الأول من ارتيابه العام، فلما غادر المدرسة في السابعة عشرة من سنيه وفي ذلك الحين توفي غوته، «كان عند عدم نزوعه إلى النظام الجمهوري قانعا - على الأقل - بأن الجمهورية هي أقرب طرز الحكومة إلى الصواب، فيأتي بتحفظات حول خضوع ملايين الآدميين لرجل واحد خضوعا مستمرا ... وتبقى هذه التأملات ضمن نطاق الآراء النظرية، فلم تكن من القوة بحيث تقوض ميلي الغريزي إلى الملكية البروسية، وتبقى عواطفي التاريخية بجانب السلطة.» وهو يعد هرموديوس
16
وبروتوس
17
مجرمين عاصيين، ومما كان يغضبه أن يقاوم الإمبراطور أمير ألماني.
ولم تتجل تلك المشاعر الغامضة حول الدولة تجليا واضحا بالحقيقة غير مرتين - على ما يذكر - ويلائم تانك الحالان سجيته وتعين على سبر غوره؛ وبيان الأمر هو أنه كان يشعر أيام طلبه بمعارضة في نفسه لأسلوب الخطب البرلمانية، فيقول إنه يحس «نفورا من مطالعة الخطب البرلمانية؛ لما هي مملوءة به من الشتائم الشديدة ... التي كان أبطال أوميرس
18
يطربون منها قبل النزال.» وهو لكرهه الثرثرة السياسية كان حتى في ذلك الحين يمقت العمل الهادئ فيراه صنوا للإحساس الحماسي.
وبسمارك ذلك يدين ولهلم تل
19
فيقول: «أرى أنه أقرب إلى الطبيعة والنبل قتل تل للحاكم النمسوي من فوره بدلا من توجيه سهمه إلى الصبي الذي يمكن أقدر النبالة أن يصيبه دون التفاحة؛ وذلك لما ينطوي عليه من سخط على نظام ظالم؛ فالاكتنان
20
والاكتمان
21
مما لا يروقني.»
ومخالفته للدين أمر بين، فاسمع ما يقوله يوم تثبيت عماده عند بلوغه السنة السادسة عشرة من عمره: «عدلت، لا عن عدم اكتراث، بل عن كبير تأمل، عن الصلاة في كل مساء وفق عادتي منذ طفولتي؛ وذلك لما أراه من مناقضة الصلاة لفكري حول الذات الإلهية، فأقول في نفسي إما أن يكون الله هو الذي يخلق كل شيء بقدرته مستقلا عن أفكاري ورغائبي ... وإما أن تكون إرادتي مستقلة عن إرادة الله، فيكون من الانتفاخ أن يعتقد تأثر الله بدعواتنا.»
والذي يقف النظر فيما تقدم هو طراز برهنته، وما كان من نشوئه ملحدا وما كان من بلوغه بطبيعته ارتيابا يتعذر عليه أن يصبح معه مؤمنا من تلقاء نفسه؛ فأمر يتوقف عليه وعلى والديه، ولكن ما أقامه من دليل في مقتبل عمره فينم على أنه واقعي غطريس لا ينحني أمام أية قدرة عالية إلا بقدر ما تتطلبه الأحوال، ويسوغ ذلك الفتى إنكاره مع اجتنابه التجديف
22
على الله جهرا، وهو كسياسي حقيقي يلقي على الله مسئولية عدم الصلاة له، وهكذا ينتحل شهادة حسن حال تنطوي على سخرية، وهو يضع الرب ب «إما ... وإما» تجاه برهان قاطع تجاه برهان قاطع ذي حدين لا عهد للرب بمثله، وليس إجلاله التقليدي بالذي يقلل ثقته بنفسه.
ذلك هو وضع بسمارك للمرة الأولى في حضرة مليك.
الفصل الثالث
شاب يجوب السوق بخطا بطيئة ووقار مصنوع، وما عليه من نحافة فيكفي وحده ليجذب الأبصار إليه. هو يلبس رداء الزينة وعمرة
1
غريبة الشكل، هو يدير عصاه حول رأسه، هو يضع غليونا
2
طويلا في فمه، فإذا ما نادى «أريل» فرك ركبته كلب ضخم أصفر، هو يتوجه إلى جامعة غوتنجن فيمثل أمام رئيسها الذي دعا إليه التلاميذ بسبب سلوكهم غير اللائق ولباسهم غير المناسب، ويمر بعض رفقائه بالقرب منه لابسين ثيابا عادية وعمرات تقليدية ملونة فيضحكون، ويتحداهم تلميذ السنة الأولى ذلك من فوره، ويسوي أسنهم الأمر، ويكون لما يبديه من عزم في هذا الفصل الأول بالغ الأثر، ويدعى، ويعرض عليه أن ينتسب إلى الفرقة، ولا يلبث أن يصير عضوا فعالا فيها.
والمباغتة كانت مقصده الأول عند وصول إلى جامعة غوتنجن، ولدينا وصف حي له في الرواية التي دبجها يراع رفيقه في الطلب الأمريكي جون لوثروب موتلي، فنشرها بعد سنوات قليلة من ذلك الحين، وبسمارك في هذه الرواية هو أوتوفون رابنمارك، وموتلي يقول: «هو شاب صغير ... هو لم يتم السابعة عشرة من سنيه، ولكن مع نضج في السجية ... هو يعلو جميع من عرفتهم علوا لا يقاس به غيره ... ومن النادر أن رأيت من هو غير خلاب أكثر منه ... وإن سمت درايته ... بدأت أظنه حسن المظهر نوعا ما، فوجدته ذا شعر أشعث وسط بين الأحمر والأسمر، ووجدت وجهه أنمش، ووجدت عينيه عاطلتين من اللون في المركز فتخفهما شريطة حمراء كما يبدو، ووجدت ندبة كبيرة، بقية لمبارزة جديدة، ممتدة من أرنبته
3
إلى حافة أذنه اليمنى ومخاطة بأربع عشرة غرزة ... وقد حلق أحد حاجبيه حديثا فدل وجهه على خلق عجيب فريد في بابه، وقد كان وجهه نحيلا غير كامل النمو ، ولكن مع طول محتمل ... وكان يلبس معطفا مشوشا بلا طوق ولا أزرار خاليا من الشكل والهندام، وكان يلبس سروالا وحذاء ذا كعب حديدي وذا مهماز هائل، وكانت قبته،
4
وتكاد تعطل من الربطة، منثنية على كتفيه، وكان شعره متدليا على أذنيه وعنقه، وكان تعهد شاربيه غير المعيني الهيأة يوجب إكمال جهاز محياه،
5
وكان يحمل حول صدره حساما عظيما.»
ومما رواه موتلي - أيضا - أن «رابنمارك» كان يعزف على البيان والكمان، وأنه كان يتكلم بأربع لغات، وأنه يعبر عما في نفسه بفطنة إذا ما كانا وحدهما معا.
ومن قول بسمارك: «إنني بمثل ذلك السلوك والسب وما إليه؛ كنت أريد الانتساب إلى أحسن فرقة، ولكن جميع ذلك ليس سوى لعب صبي، وقد كان لدي وقت واسع، وقد أردت جلب رفقائي إلى هنا كما أقود الناس فيما بعد.» ومن قوله مع اليمين إنه لن يموت قبل انقضاء عشرين سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فهو إذا ما بلغ هذا كانت أمامه اثنتا عشرة سنة أخرى، ومن قول ذلك الروائي الفتى بعد ذلك الفصل: «تبصر جوهر بطل يبذر هنا»، وذلك قبل أن يكشف هذا الجوهر للمرة الأولى بعشر سنين.
وما في طالب السنة الأولى ذلك من إقدام وكبرياء وفجور وهيف وعنف مع سلامة نفس، فيناقض مع عند التلاميذ الآخرين، وهو يدعى في الحانة بكندسكوبف وكسوب وأشيل، وهو يعرف بالشذوذ وبالبروسي الشرقي وبالذي لا يجرح. وهو يدل على «غنى صوانه» بمعطفه الأخضر التفاحي ذي الرفرفين الطويلين وبسترته المخملية المزينة بأزرار صدفية. لا بلبس النسيج الصوفي المخطط والقبعة - على حسب عادة تلاميذ ذلك الحين - وهو بعد أن يشرب كثيرا من خمر الرين ومادر يغادر الحانة؛ ليستحم في النهر ليلا. وهو يعزر على الدوام من أجل تدخينه بلا إذن ومن أجل ما يأتيه من شجار وشغب. وهو يحتقر دروس الأساتذة بأكثر مما يصنع رفقاؤه، وهو ينام دوما عاريا؛ لما يؤدي إليه الكتان من تهييج بشرته، وهو يجتنب الهزوء به لما يوجبه ذلك من إثارته فورا، فيخرج في كل مرة من الصراع منصورا، وهو قد قام بخمس وعشرين مبارزة في فصوله المدرسية الثلاثة الأولى، فلم يجرح في غير واحدة منها، فله بذلك عظيم تأثير في الأسن منه، وله بذلك سريع بلوغ لغايته، فيخشى جانبه.
وعلى المائدة، حيث يفضل أن يتغدى، يتكلم بخمس لغات، والسيد البوميراني ذلك لا يعاشر غير غرباء لذلك، ويتخذ من فوره صديقين فيظلان ثابتين مدى حياته؛ وذلك لما لا يكون بينه وبينهما من نفور سياسي كما بينه وبين الآخرين الذين خالطهم في شبابه، وذانك الصديقان هما: موتلي الأمريكي المرح الكيس
6
الطليق من كل وهم، والكونت كيزرلنغ الكورلندي الزاهد الرشيد، ويبقى هذان الرجلان صاحبين وحيدين لبسمارك حتى شيبته، ويصبح مولي الذي لم يكتب إلا في عهد فتائه
7
مؤرخا وسياسيا، ويصبح كيزرلنغ عالما طبيعيا فلا يشترك في الحياة العامة. وكلا الرجلين أسن من بسمارك وأهدأ وأنسق، ويجد بسمارك فيهما ما يعوزه من التواضع وما ليس لدى الألمان الذين يعرفهم من الحرية، وكلا الرجلين لم يكن عضوا عاملا في «الفرقة».
وما افترض دراسته له من الحقوق فمن شأنه أن يجعل منه سياسيا، وكان من آمال أمه ذات الحرص أن ترى ابنها يسير على غرار أبيها. وفكر كهذا من سمات الطبقة الوسطى، وهو جدير بآل منكن، وهو غريب في الحقيقة عن آل بسمارك الذين لم يخدم أحد منهم مليكه بغير السيف حتى الآن، والأم لذلك لم تجد ما يحفزها إلى مناهضة ولدها، وللولد هذا لم يكن غير قليل ميل إلى وظيفة ضابط، وكان من الممكن أن يكيف كما يراد في سنوات الفجور المترجحة بين السابعة عشرة والعشرين من عمره؛ لما لم يكن لإرادته أي وجهة في ذلك الدور.
وبسمارك من الناحية السياسية أيضا كان من عدم الاكتراث ما لا يسير معه وراء ميوله الأولى، فهو منذ البداءة قد اجتنب جمعيات الطلبة الذين كانوا يشربون وينشدون على شرف الإمبراطور والإمبراطورية؛ «لأنهم كان يذمون ما يرى ذلك الطالب من المبارزات وشرب الجعة»، والذين كانت تعوزهم أوضاع الجمعيات الصالحة، وهو قد اعتزل الأوساط التي كانت تشاطر وحدها في ذلك الحين فكرة الريخ سائرا مع مزاجه ومناحيه، ولكنه إذا ما حدث أن استهزئ حول المائدة بالتلاميذ البروسيين - وهذا ما يندر وقوعه في هانوفر - لم يلبث أن يدعو إلى المبارزة ستة من رفقائه مدافعا عن قرار بلوخر في واترلو بحرارة فيقول بعضهم: «إن تلميذ الصف الأول يتكلم كما في زمن فريتز القديم!»
وما كان ليبالي بالمسائل القومية كما يلوح، وما كان ليحضر درس أشهر الأساتذة في هذا الموضوع، وكان يحب أن يشارك رفقاءه الأمريكيين في احتفالهم بيوم الاستقلال وأن يشرب معهم نخب الحرية، ولكن أحد هؤلاء يتكلم عن انقسام ألمانية فيراهن بسمارك على خمس وعشرين زجاجة من خمر الشنبانية بأن الوحدة الألمانية ستتحقق في خمس وعشرين سنة، فمن يخسر الرهان يجاوز البحر ليشربها مع الآخرين، وهو لم يخطئ في غير ثلاث عشرة سنة من العد.
والشكل هو الذي يعنى به في كل شيء وقبل كل شيء، فيقول لأخيه الملازم آنئذ: «لا تكتب إلى المنزل بقسوة، فبلاط كنيبهوف أكثر استعدادا للكياسة السياسية والمدالسة
8
الدبلمية مما للغلظة العسكرية.»
ويكلف المظهر والملبس وطراز العيش مالا كثيرا، فلما قضى سنة في الجامعة «حدثت أمور غير مستحبة بيني وبين والدي الذي كان يرفض أداء ديوني ... وما كانت قلة النقد بالأمر الخطير ما دمت أتمتع باعتبار مالي واسع أستطيع أن أعيش به داعرا، والمسألة هي أنني أبدو شاحبا مريضا، فإذا غدوت في البيت في عيد الميلاد عزا والدي ذلك - بحكم الطبع - إلى قلة الغذاء، فأصرح له إذ ذاك مؤكدا مندفعا بأن اعتناقي الإسلام أحب إلي من موتي جوعا، ويقضى الأمر.» أفلم يولد التلميذ الذي يكتب ذلك دبلميا؟ فما ترى من مداراة الرجال ووزن الأسباب واستغلال الوضع وتسويغ كل عمل مع جعل الخصم مسئولا فينطوي على جميع عناصر الدبلمية، ولم تكن الأم التي أضناها سلوك ابنها لتدرك وجودة غريزة صادقة توجه طموحها من أجل أوتو.
ويعود إلى المنزل ذلك الفتى، البالغ من العمر ثماني عشرة سنة، مريضا مضنى فاقد النشاط، كالشاب غوتة، فيسترد عافيته بفضل راحته الريفية وأطعمته البيتية، فيريد أن يستمر على دراسته، ببرلين في هذه المرة مع سابق قنوط أمه منه «وأمي تفضل الآن أن ألبس البزة العسكرية الزرقاء وأهرع إلى الدفاع عن الوطن في باب الهال؛ وأنهض من الفراش متأخرا في هذا اليوم، فألوح لها راغبا عن أية دراسة كانت.» أجل، إنه راغب عنها، غير أنه رغبته في البزة العسكرية أقل مما في الدراسة، ويعاشر ابن عم له اسمه بلانكنبرغ ويعاشر رون الشاب، ويلاقيهما بعدئذ في أحسم الأوقات، ولكن مع بقاء كيزرلنغ وموتلي رفيقيه المفضلين، ويسكن مع موتلي، ويسر إذ يرى هذا الأمريكي لابسا قبة على طريقة بايرون مع شيء من الألمانية، فيترجم فاوست أو حين يركز هذا الأمريكي رجليه على قضيب النافذة فيرى الناس من الأسفل خفه الأحمر، ولا يفقد بسمارك وعيه إلا بعد أن يكون قد جادل صديقه ذلك هزيعا
9
من الليل، فيلجأ هذا الصديق في الصباح إلى البحث حول «إمكان مقايسة بايرون بغوتة»، وما يتصف به موتلي من الجمال والنجل
10
والظرف والأنس، فكان يجذب إليه الألمان. وقل مثل هذا عن كيزرلنغ الذي كان بسمارك يعجب بحسنه وألفته ونبوغه في العزف على البيان أكثر مما بذكائه، والحق أنه كان يستطيع أن يدق على ألحان بتهوفن عدة ساعات. وألحان بتهوفن هي التي كانت تحرك ساكن ذلك التلميذ المنهوك.
ويلوح أنه لا دواء لبسمارك، ولا يتفلت شيء من هزوئه حتى نفسه على الأقل، ويقول في كتاب إلى صديق له: «أنتظر فأعيش هنا كنبيل وأغدو ذخرا ثمينا وأتكلم الفرنسية كثيرا وأقضي معظم وقتي في شئون زينتي وأقضي ما يبقى منه في الزيارات وفي صحبة صديقتي القديمة القنينة، وأقضي المساء في الصف الأول من دار التمثيل فأبدي أقصى ما يمكن من المجون ... وهكذا أتبرم بما فيه الكفاية ... ومن غوتنجن تجد هنا ذلك المكسال (ش)، وهنا تجد دوحة
11
الأريستوقراطية التي يعوزها كل شيء لتصنع رجلا، لتصنع حاجبا، لا قفلا أمام فوهة، وهنا تجدها مغتبطة بمعاشرة ثلاثين ابن عم لها فلا ترى ما يؤخذون عليه ... هم لا يأكلون ولا يشربون، فماذا يصنعون إذن؟ إنهم يعدون أجدادهم!»
وهل يمكن احتقار الرجال بأبعد من ذلك؟ إنه يزدري الطبقة والصلات والبطالة والتكلف لديه ولدى قريبه، ولكنه لا يبدي أي رغبة في إصلاح نفسه، وهو في فؤاده أسف على ضعفه فقط، وما يبقى له بعد ذلك؟ صل السيف والزواج!
واسمع ما يكتبه من مزرعة أبيه: «وها أنا ذا أفكر في رفض وزارة الخارجية، فأتلهى بسيفي أيام الطلب، ثم أتزوج فأنجب بأولاد وأحرث الأرض وأقضي على عادات فلاحي بأن أقطر مقادير كثيرة من المسكرات، فإذا ما قيض لك ذات يوم في خلال عشر سنين أن تزور هذه البقعة من العالم وجدت ضابطا زراعيا بادنا ذا شاربين كبيرين شاتما مقسما أن يهز الأرض كارها للفرنسيين ضاربا كلابه وخدمه بقسوة عندما تغضبه زوجته، وسألبس سروالا من وثر
12
فأجعل من نفسي أضحوكة في سوق الصوف بستتين، فأقوم شاربي بالبرم وأبيع صوفي بثمن أقل مما يجب بتاليرين
13
عندما أخاطب بالسيد البارون، وسأشرب نخب الملك في عيد ميلاده وأرفع صوتي بقولي «يعيش!» وسأكثر من الشرب وسأتكلم عن الغلال وعن الخيل على الدوام.»
ويكره بسمارك الزواج فيقيه ذلك منه، ولا تناقض هذه الكراهية خطباته المكررة، بل جاء حل هذه الخطبات دليلا على تلك الكراهية، ويروي موتلي أن بسمارك «يخضع في أمر الحب لغرائزه من غير كبير اكتراث.» وهو في الوقت نفسه «يقع في أشراك الغرام دوما.» وفي تلك الأيام يقول لنا بسمارك إنه كان يزاول أمور الزواج «أو إنه كان علي أن أفعل ذلك لو كانت ميولي الحسية تدوم زمنا طويلا، ولكن الأجمل هو أنني أزدري النساء ببرودة في كل وقت، فيخدع الناس أنفسهم على هذا الوجه.»
ويبلغ العشرين من عمره فيعده معيد، فيجاوز بنجاح امتحان النقابة، ويزاول القانون في محكمة برلين البلدية لقليل زمن، ويزيد اشمئزازه من مثل هذه الحماقات، وهو لم يواظب على ذلك لكيلا يكره على الجندية من فوره؛ وذلك لقوله: «إنني قاومت ظافرا رغائب أبوي الملحة في ذلك المضمار.» وهو على ما لا تجد له ندا
14
في السباحة والمسايفة، ينفر من التمرين العسكري، وهو على العكس يذعن لأمر الذهاب إلى المحكمة، «وليس لدي كبير شوق إلى ذلك الذهاب، بيد أن والدي يودان ذلك، والحق معهم لما قد يؤدي إليه ذلك من تقدمي.» وفي قاعة لهو المحكمة يعجب أمير بروسية بقامة القانوني الشاب أوتو، وقد كان عمره ضعفي عمر أوتو، فيسأله: «لم لا تكون جنديا؟»
بسمارك :
ذلك لما لا أنتظره من ارتقاء في الجيش يا صاحب السمو الملكي.
الأمير :
والآن أشك في أن يكتب لك تقدم في ممارسة القانون.
ومن خلال هذه المحاورة الأولى بين ولهلم وبسمارك، ومن خلال تلك الكلمات المتبادلة في قاعة لهو، نبصر اختلاف طبيعتيهما؛ فأحدهما جندي من كل وجه، والآخر على خلاف ذلك، وفيما ترى الأمير يدهش من عدم انتفاع رجل جميل المظهر بمظهره في أجمل مهن الدنيا؛ ترى ذلك الرجل يوارب فيكلمه عن عدم الرقي، وتمضي أعوام ويكتم أوتو السبب الحقيقي من ولهلم في الغالب مداريا شعور ولهلم العسكري.
ومع ذلك تبصر برلين وعملها الرسمي ومنظر فقهائها المتنافسين ومنظر حياة المحكمة وتأملات المهنة، مما يخرج ذلك القانوني الناشئ من جحوده، فيرى ما يمكن بلوغه من المعالي، ويطلع واحدا أو اثنين من أصدقائه للمرة الأولى على شيء من طموحه الخفي المستتر خلف مجونه، وهو قد أكثر من الحديث حول ذلك ما ادكر
15
معه كيزرلنغ كلماته الآتية بعد عشرين سنة: «لا غنية عن الدستور في طريق الشرف الظاهر هذا، ولكن أليس على المرء أن يكون تقيا باطنا؟» ويضيف إلى ذلك قوله متبسما: «لقد أردت أن أزور حملة أوسمة الصليب حاجا حكيما.»
وعلى ذلك أفلم يبصر بسمارك البالغ عشرين عاما من عمره ما لا يبلغ بدونه شيء في أيامنا ببروسية الحديثة؟ هنالك دستور يزدريه في صميم فؤاده، وهنالك تقوى تعوزه في الحقيقة، وتنطوي تلك الذكريات على صدق لا مراء فيه، وما وصفه كيزرلنغ في ذلك الحين، كما صنع الحاج الحكيم، فيدل على درجة حلم صديقه بما تنم عليه الأوسمة من سلطان إن لم يدل على حبه لهذه الأوسمة نفسها، ولكن هل على المرء أن يكون تقيا في باطنه؟ هذا يعني أن على المرء أن يكون تقيا، وهو إذ ليس كذلك كان ذلك «هراء» فدعنا نملأ كئوسنا إذن.
وإذا أردنا أن نعرف أن ما في قلب بسمارك هو خصم لطموحه، وإذا أردنا أن نرى زهوه الثابت الذي يناهض به ذلك الطموح؛ لم يكن علينا إلا أن نستمع إلى حديثه الكتابي مع صديقه الثالث شرلاخ الذي عرفه منذ أيام غوتنجن والذي كان يراسله صريحا، ولكن على قلة، والذي كتب إليه أيام تمرينه المهني يقول له معترفا: «إن ما كان من إكراه طموحي - الذي كان أقل عنفا تجاه وجهة أخرى - إياي على مهنة لا عهد لي بها سابقا يحفزني إلى سلوك سبيل لا مثيل لها في حياتي فأتخذ جميع الوسائل التي أجدها نافعة لتقدمي، ولا أدري هل أنت مقيم على الابتسام من حماقتي وأنت خلف قدح من خمر شرلاخبرجر،
16
ألا إن هذه هي حال نفسية لا أمنع نفسي من وصفها بالسعادة مع عدم أسف عليها، ألا إنني بلغت في هذا الحين من الافتتان بالعمل ما يساورني معه سرور لا نفع فيه كضياع للوقت.»
ولكنه لم ينشب أن يرى ذلك كله موجبا للسخرية، فقد أضاف إليه قوله: «إنني إذا رجعت البصر إلى حياتي وجدتها أمرا موجبا للرثاء في الحقيقة، وأقضي نهاري فيما لا يهمني من الدراسات، وأبدي في أوساط المحكمة والموظفين المسائية ارتياحا لا أحسه أو أرغب فيه لعدم دناءتي، ومن الصعب أن أعتقد أن بلوغي التام للغايات التي أسعى إليها ونيلي أكبر لقب وأعظم وسام وأرقى مقام في ألمانية مما يمكن أن أكافأ به على ما ألاقيه من حصر مادي وأدبي ناشئ عن مثل ذلك العيش، أجل، إنني أشعر في الغالب بضرورة استبدالي المحراث بالقلم وكيس الصيد بالمحفظة، غير أن صنع ذلك يروقني على الدوام.»
وهكذا يناهض عجبه الموروث عن أبيه ما ورثه عن أمه من طموح ويطارده في زاوية، وإذ إن ما فيه من ثقة بنفسه يصرفه عن الشك في نجاح ما يبدأ به من أمر فإنه يبصر منذ البداءة عدم وجود قيمة جوهرية لذلك النجاح.
والآن يبحث عن النجاح مع ذلك، فتراه يحسب أسرع الوسائل لنيله، ويقدم نفسه إلى الرين ويستقر بالمنزل صيفا بأسره للمرة الأولى في حياته، معدا فيه أجوبة عن وثيقتي امتحان؛ تمهيدا لارتقائه في النقابة، ويصنع ذلك عن عزم، لا عن كبير أثرة، ويصنع ذلك لأنه غادر المدينة ووجد نفسه هادئة مطمئنة في نهاية الأمر.
ويبلغ ذلك السيد الحادية والعشرين من سنيه، فانظر إليه في شونهاوزن حيث عاد أبوه الآن، «فهنالك تبصر بناء ذا ثلاثين غرفة، وتبصر اثنتين من هذه الغرف ذاتي أثاث، وتبصر زرابي شرقية رائعة رثة، لا يكاد لونها الأصلي يبدو، وتبصر ما لا يحصيه عد من الجرذان، وتبصر مواقد تلعب فيها الريح، أي تبصر قصر أجدادي الذي يهدف كل شيء فيه إلى إنماء السوداء. أي تبصر قصر أجدادي الذي تعنى به قهرمانة واهنة ممرضة لوالدي البالغ من عمره خمسا وستين سنة ملاعبة له، والآن أعد نفسي للفحص، وأستمع للعنادل،
17
وأتمرن على الرماية، وأقرأ كتب فولتير ورسائل سبينوزا في الأخلاق ... وتروي لي طاهيتنا القديمة أن الفلاحين يسألون عني بقولهم: ماذا يصنع معلمنا الشاب المسكين في هذه الدنيا؟ ولذا لا تجدني راضيا عن شيء كوجودي هنا، وأنام ست ساعات فقط، وأشعر بلذة في المطالعة؛ أي أتمتع بأمرين كنت أظن تعذرهما علي، وأعتقد أن سبب جميع هذا هو ما كان من شدة غرامي في الشتاء الأخير ... ومما لا يروقني أن أفصل على ذلك الوجه عن هدوئي الفلسفي وعن تهكمي. واها! واها! ستقول: ذلك ولع تعس، تلك عزلة، تلك سوداء ... إلخ، والدنو ممكن، ولست مبال بشيء مع ذلك، وأحلل علل الحب وفق مبادئ سبينوزا حتى أعالجه باعتدال في المستقبل.»
ويجمع بسمارك فؤاده القلق للمرة الأولى ولبضعة أسابيع، بعض الجمع تحت دوح
18
الزيزفون والبلوط وتحت أنظار أب طيب، وبفضل عناية فلاحة أريبة، وبفضل عمل متصل، فعاد مزاجه لا ينم على خلع عذار ، بل يدل على رصانة، وكأن سبينوزا يبارك ذلك، فلا يرى تعليم المحلل بفطرته غير أساليب التحليل.
وينال بسمارك أحسن شهادة وأطيب توصية فيذهب إلى إكس لا شابل حيث أرادت أمه، ورئيس هذه المستعمرة البروسية الجديدة كان من آل أرنيم الذين يرجع أصلهم إلى المارش القديم، وأمه تلك رأت أنه إذا ما قضى هنالك أكثر من سنتين سار على أثر جده منكن.
الفصل الرابع
كانت إكس لا شابل في ذلك الحين محطة ماء معدني وملتقى لثلاث بلدان، وكانت تعج بالأجانب الذين يقصدونها لتبديد الوقت والمال، وكيف يستطيع مفتون في الحادية والعشرين من عمره أن يمارس القانون في بناء حكومي هنالك؟ وكان الكونت أرنيم ممتازا ذا أطوار إنكليزية، فيتقبل ابن وطنه كولي عهد، فيسدي إليه بعد الغداء بنصائح خاصة ويرسم له خطة ثمينة يستطيع القانوني الشاب أوتو أن يجاوز بها جميع المراحل بسرعة فيصل إلى منصب نائب قاض، وهنالك يبدأ الدبلمي الحدث
1
عمله «فيتساوى في الأهمية عندي أن يعين مقامي في سان بطرسبرغ أو في ريودوجانيرو.»
بيد أن الغطريس أوتو الذي لم يأل أبواه جهدا في إنالته ذلك الحظ، يزدري ركاب السرج الذي يعرض عليه ليرتقي منه، فيفضل أن يدور بجواده مع فتيات إنكليزيات فيقع وترض أعضاؤه فيعاوده نفوره من الحياة فيقرأ فوق سريره رسالة الواجبات لشيشرون، ويطالع كتاب سبينوزا العزيز عليه، ويتلو قصة ريشارد الثالث ورواية هملت، ثم يشفى ويدع الحكومة وشأنها، ويصول في ملاذ العصر ويحول بأحمق مما كان عليه، ويثير دهش رفقائه حول المائدة بالتهامه 150 محارا وإبدائه لهم أحسن الطرق في شيها.
2
ومن قوله: «والآن يتألف المتكئون على مائدتي من سبعة عشر إنكليزيا ومن فرنسيين ومن شخصي الصغير، ونجلس على أقصى حد أريستوقراطي؛ أي بالقرب من دوك كليفلاند ودوكتها وابنة أخيهما المس رسل التي هي أنيسة جذابة.»
وتلائم ذوقه لورا، تلك الحسناء الهيفاء الإنكليزية والابنة لدوك، فلما غادرت إكس كانت خطيبة لأوتو، وكان أوتو خطيبا لها سرا.
أجل، ولكن كيف يكون لديه من المال ما يستعين به على تزوجها ؟ وتتراكم ديونه كما في الروايات.
وهو في الوقت نفسه يسمع عن آله أمورا تفزعه، وهو بعد ذلك بقليل وقت يعاشر امرأة في الثلاثين من عمرها معاشرة غرام، ثم يلج دورا جديدا، وذلك كله مع صبابة إلى الوطن وشوق إلى زمجرة الأبوين، ومع مجون وديون، ومع صيد وجديد خطط، «وقد علمت ضرورة ملاحظة نفسي، فلا تزال ترى روائية في شخصي.» وهذه هي العبارة الوحيدة التي صدرت بخطه في ذلك الدور، فتلقي نورا على مشاعره الهائجة،
3
وتقطع خطباته من تلقاء نفسها.
وفي الصيف تفتنه امرأة إنكليزية أخرى اسمها إيزابل لورين، وهي وإن كانت دون لورا محتدا
4
تفوقها جمالا، هي ابنة قسيس، هي شقراء، هي هيفاء، وينال عطلة أسبوعين ويتجاهل ما عليه من ديون عظيمة في إكس، ويتبع إيزابل في ويسبادن حيث يلاقي لورا مرة أخرى لما بينها وبين إيزابل من صداقة، ويجد الوضع حادا إلى الغاية، ويغدو عاشقا لخطيبته الثانية، ويكتب إلى صديقه:
أنبئك عابرا أنني خاطب مفكر في أن أدخل عهد الزواج مثلك، وذلك بأن أتزوج فتاة إنكليزية شقراء باهرة الجمال وإن لم تعرف كلمة ألمانية واحدة، وسأرافق أسرتها إلى سويسرة، وسأودعها في ميلانو، مسرعا إلى أبوي اللذين لم أرهما منذ سنتين، وعليك أن تذهب معي إلى إنكلترة لتحضر عرسي في الربيع.
ويساوره كبرياء آله، ويظهر أنه فوق غيره من الموظفين فلم يفكر في الكتابة إلى رئيسه العطوف في إكس لا شابل إلا بعد شهرين معتذرا له عن غيابه بسبب «أمور تهمه شخصيا على الخصوص»، مطالبا بعطلة أخرى معربا عن عزمه على «الاستعفاء الرسمي من فوره»، وتزيد غربة آله عنه مقدارا فمقدارا، ويمنع أبوه النقود عنه، وتغدو أمه المريضة غضبى، فلما عاد في آخر الأمر لم يكن لديه دانق
5
واحد، فقاسم غريبا ركوب عربته فوجده كريها، وماذا حدث؟
فاسمع قوله: «كان لدي أكبر حظ لمزاولة أروع مهنة، ومن المحتمل أن كان طموحي الذي هو دليلي يستمر على توجيهي لطويل زمن، أو في كل زمن، لو لم توجب غادة إنكليزية باهرة الجمال انحرافي عن وجهتي، ولو لم تجرني على أثرها فوق بحار أجنبية ستة أشهر، وقد حملتها على وقف المركب في آخر المطاف فخضعت، ولكن غنيمتي أخذت مني بعد شهرين، فقد قبض عليها زعيم
6
خمسيني أبتر الذراع صاحب لأربعة حصن ولدخل خمسة عشر ألف تالير، وهكذا أعود إلى بوميرانية بادي الإنفاض
7
مريض الفؤاد، مجررا في مركب ثقيل كريه.»
ويصبح مريضا كالمرة الأولى، ويبلغ من توتر الأعصاب درجة يقترف بها أغاليط لغوية كثيرة فيما يكتب من رسائل، ويغدو كامل الكبو،
8
فذلك أمر الولد الذي بدد أبواه أحلامه، فيعود إلى منزلهما حيث يلم بها الغم، ويستحوذ حزن شديد على الأم؛ لما كان من تأخر ثراء الأسرة، وتجمع قواها لتعد عملا لولدها مرة أخرى، وتنال له وظيفة في إدارة بوتسدام بعد أن سرحه أرنيم من إكس لا شابل ساخرا لما كان من إبداء البارون الشاب «نشاطا مضنيا، ولما كان من إتيانه جهودا لاغية في صلاته العصرية بإكس لا شابل»، ويلوح التقرير الرسمي عنه أقل لطفا، فمن هذا التقرير عرف في بوتسدام أن الفندقي الذي كان البارون الشاب أوتو يتناول عنده وجباته
9
يطالبه هو وغيره بمئات التاليرات وأنه لم يتوار عن إكس لا شابل إلا بسبب ديونه.
وعن ذلك يجيب المتهم بسمارك متكبرا حين يقول: «ليس من مقاصدي أن أعرض حسابا عن شئوني الشخصية على إدارة إكس لا شابل الملكية، وسأقدم شكوى حول قحة التدخل هذه في حقوقي الخاصة.» ويخاطب الأب في أمر تلك الديون فيغضب، ويرفض في نهاية الأمر أن يستمر على المراسلة في هذا الموضوع، فكان هذا آية على الاستقلال الذي يتمتع به أولئك السادة تجاه سلطان حكومة يستخفون بها مستعلين، ويرجعون إليها وفق منافعهم مستمدين، ويقبل بسمارك في إدارة بوتسدام مع ذلك، وذلك بفضل ما حبي به من حماية، وبفضل ما أعطي من عهد خطي بأن يقوم بوظيفته نشيطا غيورا.
وما كان تصرف أوتو الشاب في بوتسدام أحسن مما في إكس؛ فما رآه من صغر رقعة المديرية ومن هزال البطانة وحذلقة الرؤساء والتدقيق في ساعات الحضور، فقد أسفر بعد ثلاثة أشهر عن تواريه بلا إذن، وما يحدق بأملاك أبيه من دمار فيلوح قريبا، وتمرض أمه في الحقيقة، ولا ينظر أحد إلى ذلك بعين الجد ما حصرت عنايتها في نفسها، وفي نفسها فقط، ويعجز أبوه الشائب من فوره عن إدارة ما يملك، ويقول الأب بإجارة العقار، وتقول الأم بصنع السكر، وفي برلين يرى الطبيب أنها مصابة بالسرطان، وفي برلين تبقى للمداواة، ويكون ابنها بجانبها في الغالب، وتموت بعد مدة، ويحقد عليها لحملها إياه على تلاوة كتب في التصوف بصوت عال عند وسادتها.
ويا ليته يعفى من الخدمة العسكرية! ويبلغ الثالثة والعشرين من سنيه فيقول في كتاب إلى أبيه: «لقد حبط ما سعيت إليه في برلين أخيرا لإعفائي، ويجعلونني آمل ترك الخدمة بعد قليل زمن بسبب ما في عضلات ذراعي اليمنى من ضعف نتيجة لضربة سيف، وأزعم أن مما يؤلمني مد ذراعي إلى الأمام، ولكن هذا ليس علة خطيرة مع الأسف، وليس الأمر في أن أدخل قبل الميعاد بأسبوعين أو ثلاثة أشهر، فلا بد من ختام التدريب استعدادا للاشتراك في العرض؛ ولذلك فإنني سأؤخر وقت ابتدائي بالخدمة إلى شهر مارس مثلا؛ أي إلى أقصى ما يمكن من المدة، ومن ثم تبصر ما كان يساور بسمارك الفتى المفتول الساعدين من فتور حول الجندية، ومن ثم تبصر تظاهره بما لم يكن فيه بالحقيقة من ضعف عضلي طمعا في تركها، والعامل في ذلك هو عدم احتمال هذا الأستاذ في الفروسية والمسايفة والرماية لكل إكراه، فأقام بذلك دليلا جديدا على إقدامه الذاتي وبأسه الشخصي، وليس زهوه بالذي ينثني، وهو لم يعتم أن تصادم هو والضباط حينما وجب عليه أن يكون من جنود الحرس، «فما أنا بالذي يطيق السير تحت إمرة ضابط».»
وفي تلك الأثناء تسير الأمور في البيت من سيئ إلى ما هو أسوأ منه؛ فربة المنزل مريضة مدللة، والولدان في الخدمة العسكرية، ولا ينتجان شيئا ويحتاجان إلى نقود، ولا يقدر الأب على إجابتهما إلى طلبهما فيستدينان بفائدة 12 في المائة، ويؤدي كل ذلك إلى أزمة، وفي تلك الأثناء يعن خاطر، ومن أين؟ ومن يقدر على بيانه؟ أمن الأم المحتضرة، أم من الأب المضطرب، أم من أرشد الأخوين الذي ما فتئ يداوم على دروسه، أم من ذلك البطال الذي لا يميل إلى أي عمل كان؟ ومهما يكن الأمر فإنهم أبصروا من خلال ورطتهم أن يذهب الأولاد إلى الريف لإنقاذ الأسرة من الإفلاس، ومما لا مراء فيه أن سير بسمارك الموجب لليأس قد عجل الأزمة، وبسمارك هذا قد ذهب إلى أمه وأخبرها بأنه لا مناص له من عمل شيء.
ويكتب الأب إلى ابنه الأكبر قوله: «إن أوتو بلغ من كرهه لوظيفته في الحكومة ما يحفزه إلى النفور من الحياة، ولو كرس معظم سنيه للوظيفة لأصبح رئيسا مع ألفي تالير راتبا على ما يحتمل، ولكن لا شيء يرجى من الطالع، وقد التمس من أمه أن تجد له عملا يقوم به، وهو يرى أن نعود إلى صنع السكر وأن نرسله إلى مغدبرغ ليتعلمه ثم أن نعهد إليه في إدارة المصنع بكنيبهوف، وإن مما يزعجني كثيرا أن أجده تعسا إلى الغاية، وقد رأيت في كنيبهوف درجة اكتراثك للزراعة، وأبصر ما ينتظرنا من البوار إذا ما بقيت في برلين، فتراني قد عزمت على نقل كنيبهوف إليكما واكتفائي بدخل شونهاوزن.» وريثما يحدث ذلك وجب على الأخوين أن يجاوزا الامتحان.
ولا يعسر ذلك القرار على الأب اللين البالغ سبعين سنة من عمره، وتعود موافقة الأم عليه إلى دنو وقت البوار، وإلى انحلال صحتها على ما يحتمل، ويقترب أجل الأم، ونودع هذه المرأة الطموح التي توفيت بعد بضعة أشهر من تاريخ ذلك القرار، وقد كان عمرها خمسين سنة، وكانت أسيفة مصابة في جميع آمالها بأولادها فتفكر في أبيها غير مبصرة تحقيق هذه الأماني بعد ثلاثين عاما بما يقضي بالعجب.
بسمارك في سنة 1826.
ويرى الأقارب الأباعد الذين لم يبدوا استعدادا لمد يد العون أن يظهروا توجعهم، وترانا مدينين لكتاب ابنة عم موزعة للنصائح بجواب بسمارك المهم الصريح الذي حلل فيه نفسه بأشد مما فعل في حياته، وبسمارك كان عاشقا لها قبل سنة أو سنتين، وبهذا نرى سر تسويغه لهذه المرأة ما صنع، وبسمارك أدرك ما لهذا الجواب من خطر فاحتفظ بمسودته، ثم أرسل هذه المسودة إلى خطيبته بعد عشر سنين لتكون وثيقة لترجمة حاله، قال بسمارك:
إن ما كان منذ البداءة من عدم ملاءمة الإدارة والأعمال الرسمية لي، وما كان من عدم عدي الوظيفة، وإحدى الوزارات أيضا؛ عامل سعادة لي، وما كان من اعتقادي أن زراعة البر
10
مصدر احترام ككتابة المراسيم الإدارية إن لم تزد عليها، وما كان من حفز طموحي إياي إلى القيادة أكثر مما إلى الطاعة لأمور لا سبب لها غير ذوقي، وما الموظف البروسي إلا كالموسيقي في جوقة، فسواء عليه أعزف على الكمان أم على المثلث من غير أن يرى المجموعة ويؤثر فيه، لا ينبغي له سوى إنجاز فصله كما هو مكتوب له، بيد أنني أود أن أعزف كما أجده صالحا أو لا أعزف أبدا ...
والحق أن حب الوطن هو الذي يدفع أقطاب السياسة القليلين المشهورين في البلدان ذات النظام الملكي المطلق على الخصوص، إلى سلوك سبيل الخدم العامة، وفي الغالب يتجلى الباعث في الحرص وحب القيادة والطمع في إعجاب الناس والرغبة في الشهرة، ولا أرى غير الاعتراف بأنني لست مبرأ من هذا الهوى، فأجد كثيرا من المميزات، كالتي يتصف بها الجندي في ميدان الوغى والقطب السياسي في البلد الحر مثل بيل وأوكونيل وميرابو ... إلخ، والرجل الذي يمثل دورا في الانقلابات السياسية، مما يستهويني ويجتذبني اجتذاب النور للبعوض.
وأراني أقل انجذابا إلى كل نجاح يأتيني من الطرق المعبدة بالامتحانات والدسائس والوثائق والقدم وعطف الرؤساء، وأجد - مع ذلك - أويقات لا أفكر فيها من غير أسف على المسرات الزاهية التي تنتظرني في الخدمة العامة والانشراح الذي يتفق له من الاعتراف الرسمي بقابلياتي حينما أرتقي بسرعة، والانبساط الذي يلائم عزتي وقتما أعد رجلا ماهرا نافعا، والمجد الباطني الذي يحف بي وبآلي في نهاية الأمر، ويبهرني جميع ذلك كثيرا إذا ما شربت زجاجة خمر جيدة، وأحتاج إلى تأمل دقيق رزين لأبصر ذلك من الوهم والعجب الذي يحكى انتفاخ المغناج بفعل لباسه أو غرور الغني بفعل ماله، ومن الغفلة واللغو أن يبحث المرء عن السعادة في رأي الآخرين، ومن الواجب أن يعيش الرجل الرشيد من أجل نفسه ومن أجل ما يراه صدقا وحقا، لا من أجل تأثيره في الآخرين، ولا من أجل ما يقال عنه في الحياة وبعد الممات.
والخلاصة هي أنني لست خاليا من الطموح، وإن كنت أعده سيئا كبقية الأهواء أو أكثر منها حماقة؛ وذلك لأنني إذا ما سلمت أمري إليه أوجب علي أن أضحي بجميع نشاطي واستقلالي من غير أن يضمن قناعة دائمة، حتى في أسعد الأحوال، ومهما بلغت من النجاح لم يكن لدي من الدخل ما يكفي لاحتياجاتي ولفتح بيت لي ما لم أبلغ الأربعين وأصبح رئيسا، فهنالك أكون قد هزلت بغبار الأضابير
11
وأصبت بالسوداء وصرت مريض الصدر والبطن بسبب جلوسي المستمر، فأحتاج إلى زوج تمرضني.
ولست أغوى بما يساورني من تلك الفوائد الزهيدة ومن رغبة كبيرة في أن أدعى بالسيد الرئيس ومن وثوقي بأن أكون نافعا للبلد بنسبة ما أكلفه مع الزيادة، فقد عزمت على حفظ استقلالي ونشاطي وهمتي، وعلى عدم التضحية بقواي الحيوية، مع وجود ألوف من الأشخاص، ومنهم الأكفياء، من يعدون تلك الأمور ثمينة فيفرحون بشغل المنصب الذي أتركه لهم مختارا.
ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر كبره وبصره وزريه وجسوره فتتألف من هذه الأمور عناصر خلقه وعوامل نجاحه وأصل عطله من حس السعادة وأسباب عراكه الأدبي القادم، ومن تلك الوثيقة الأولى عن نفس بسمارك يظهر احتقاره لكل حقير وصورة هزلية للطموح الطامع في أن يدعى بالسيد الرئيس ذات يوم مهما كلفه الأمر. وهو بذلك لا يعتقد سعادة الموظف الذي يكون له رئيس دائم مع عطل من الحرية، وفي ذلك آية على ما يواثب شابا في الثالثة والعشرين من سنيه من حال روحية يعارض بها ما يبهر بالهوى، والغرور بالصيت، والاشتراك بالانفراد ، والمقام بالسلطان، وذلك مع تركه القارئ يبصر ذلك التلذذ العصبي بنعم الحياة نتيجة لأثر الكحول، وقد رأينا ذلك الرجل الريفي الذي يود أن يقوي بدنه، وأن يضع صحته فوق المهنة، والغابة والصيد فوق الكرسي والمكتب.
وفوق كل ذلك نبصر فتى ذا عجب لا يوصف راغبا عن إطاعة أي كان شاعرا مقدما بتفه أي مكافأة تقتضي تضحيته بحريته، ويا للعزة التي يدفع بها دليل حب الوطن ويطرح بها الأوهام القومية والمسائل الحكومية التي تحل أو تبسط لينفذ واثقا كلمة الميل والهوى في القلب، وهو إذا ما منح سلطان الطاغية انقض انقضاض البعوض على الضياء ليقود ويشتهر، لا لتحقيق فكرة، غير أن هذا لا يمكن الآن في سوى الدول الحرة كإنكلترة، وفيما هو يدون ذلك كتابة تجد بيل، الذي كان رئيسا للوزارة بالأمس، يجاهد في مجلس النواب من أجل حرية المبادلة ضد حزبه الخاص، وتجد أوكونيل يجاهد - أيضا - من أجل استقلال إيرلندة، فذانك ثوريان، لم يعولا على غير نشاطهما ورأيهما الخاص، لا على رغائب مليك، وكلاهما دعا إلى انقلاب، حتى إن ميرابو أراد تحديد امتيازات النظام الملكي، ولكنك ترى في بروسية، ولكنك ترى هنا، ولكنك ترى في هذه البقعة الألمانية العاطلة من دستور، العاطلة من مجلس شيوخ ومجلس نواب؛ أن ذلك كله حلم بارون خيالي يحاول عبثا إحداث حركة سياسية.
تلك هي صورة عن بسمارك، ويشعر هذا المولود طاغية بقواه الخاصة التي لا يحفزه إليها ولاؤه للملك ولا خوفه من الله ولا مسئوليته تجاه المجتمع، هو وحيد، هو عظيم، هو يزدري الرجال، وينتظر هذا المكافح، هذا الثوري الفارغ الصبر، تبديلا، ويحتقر هذا المغامر كل ما هو راكد، ولا يود نشاطه العصبي الإدارة، بل يود التحويل، وهو يرغب في القيادة كما يشاء، وهو لا يصفح عمن يعلوه.
الفصل الخامس
بيوت العمال المستطيلة بكنيبهوف مغطاة بالتبن، وفي كل واحد من اثني عشر من هذه البيوت يسكن أربع أسر، وهذه الأسر فقيرة إلى الغاية، ولا يكاد الرجل منها يكسب تاليرا في الشهر الواحد، وعلى الرجل أن يعمل عدة أيام من السنة بلا عوض، ولأولئك مساكن وحطب وأفدنة ثلاثة ومرعى وعلف وحب، ولهم عون في الموسم السيئ إذا ما أراد سيدهم، وإذ إن كنيبهوف ضرب من الإمارات الإقطاعية؛ فإن السيد فيها يعد رئيسا للشرطة ورئيسا للعدل ورئيسا للكنيسة، وله كرسي في مجلس الولاية وله أن يبدو حاكما فيباح له أن يساعد من يود ويؤذي من يريد، وفي الواقع لم يكن لأولئك الفلاحين حقوق ولا ضمانات حتى سنة 1840، بل كانوا عبيدا متصفين بولاء العبيد، وأجداد هؤلاء كانوا يخدمون أجداد سيدهم الكريم.
ويعاملهم بسمارك وديا ويظل لهم سيدا، ويرسل صديق له كتابا يقول فيه: «حقا إنك أوتو المحبوب، حقا إنك الشريف الذي يحمل قلبا عطوفا على رجاله، ومما يسرني أن يحدث رجالي عني بأطيب القول كما يحدثون عنك.»
ولكن الفلاح يرغب ذات يوم عن الاصطفاف ليدعه يمر، ويسفر ذلك عن اصطدام هائل، وتقاوم عربة الفلاح وتحطم عربة السيد على الطريق، ويمكن تمثل ما ينجم عن ذلك من النتائج، وهو يوضح من البداءة كيف يسير بهذا النوع الجديد من الحياة، وهو يقول في كتاب يرسله إلى صديقه إنه عازم على أن يكون «سيدا، لا خادما، وعلى ألا ينسخ الرسائل.»
وعلى ما كان من حبه القلبي لأخيه لم تدم شركتهما زمنا طويلا؛ فما كان بسمارك ليطيق العيش مع أحد مساو له في الحقوق، فاقتسما الميراث بعد وقت قصير لذلك، والأمر هو كما جاء في كتاب له: «إنني أكاد أقتسم الميراث مع أخي لما وجدته من مشتر يعرض ثمنا عاليا، فهذا هو عزمي.» ثم يعمل كل من الأخوين على إطفاء الدين بتؤدة ومشقة.
وأراد بسمارك أن يعرف شيئا عن الزراعة فقضى من جديد بضعة أشهر في الجامعة، وحضر دروس كيمياء في غريفسفالد وإلدينا، وحمل كيزرلنغ على إرسال كتب في النبات إليه، ووجد طبيبا يعلمه قليلا من الكيمياء. وتقع مبارزات جديدة ومصادمات مع الشرطة، ويغدو غير تلميذ، ولا يغدو سيد نفسه من جميع الوجوه، ويجلس حول المائدة بين كبار الملاكين الذين أتوا إلى السوق، «وأصغي إليهم كثيرا، ثم أفكر فيما يقولون وأحلم ليلا حول البيدر
1
والسماد وجرامة البر».
2
ويحافظ على لهجته التهكمية في الحقيقة، ولكنه إذا ما صار في ملكه «مع ما في ابن المصر
3
الصالح للكتابة من جهل تام»، حاول أن يرفع مستوى زراعته جهد الاستطاعة، وجلب عددا من الكتب بواسطة الجمعيات الزراعية في الولاية، وأمسك حسابه بنفسه مع كبير عناية، ومسألة القروض التي تؤخذ وتدفع هي أهم ما في دفاتره، وتعوزه النقود في الغالب، لا على الدوام، ويسافر فيرفه عن نفسه وينفق عن سعة، ويقامر في الحين بعد الحين، ولكن مع اعتدال في المقدار، وهو يدخل إلى الحساب جميع نفقاته الخاصة كما يدخل إليه ما يكسب وما يخسر حول مائدة الميسر، ويرافقه خولي
4
أو لا يرافقه، فيطوف أحيانا راكبا حصانا، فيعلم ويفحص ويرتب، ويسر على ظهر جواده كالب، وهكذا يتعلم كيف يعرف العوام والفلاحين والتجار وحقائق الأرض وكيف يقدر قيمة الوقت والجزئيات، وينمي ذاكرته بما يثير العجب، ويقوم لسانه بمائة استعارة زراعية، وفي هذه الحياة العملية يزيد تقديره للوقائع ويزيد ازدراؤه للآراء، فإذا ما عاد إلى منزله عشاء أخذ يطالع ويشرب كئوس الشنبانية والبورتو بكثرة.
وتمضي تسع سنين فيقضي بسمارك ثلاثة أرباعها في الأرياف على ما يحتمل، وبسمارك يقول: «ترجع معارفي العامة إلى ذلك الدور الذي لم يكن لدي ما أصنعه فيه فوجدت عند وصولي إلى ملكي مكتبة كاملة فالتهمتها.» ويقرأ كثيرا من كتب التاريخ، ولا سيما تاريخ إنكلترة، ويقرأ ما تيسر من علم الاجتماع حتى كتب لويس بلان، ويقرأ غير قليل في اللغات الأجنبية، ويقرأ كتب شكسبير - على الخصوص - وكان الكتاب المفضلون لديه هم بايرون ولينو وبولفير. وهو قد كون في العزلة، والعزلة هي التي كونته، وفي العزلة وجد أوقاتا سعيدة فلم يكن لأحد أن يزعجه فيها. ومما كتب: «لا بد من الإقامة بعاصمة أو بالريف.»
وفي سنتين يروق ذلك العمل هذا الرجل البالغ خمسا وعشرين سنة من عمره «بسبب استقلاله» بيد أن هذا الوهم لم يعتم أن تبدد ، فاسمع قوله: «لقد علمتني التجربة أن أعرف عبث الكلام حول السعادة الأركادية
5
في حياة خصصت للزراعة، مع إمساك الدفاتر بالطريقة المزدوجة، ومع المباحث الكيماوية.» ويود التنوع فيمتطي الخيل أو يذهب إلى الصيد أو يزور جيرانه ثم يهمهم فيقول: «لأن يشتري هؤلاء غلالي أفضل من أن أدعى إلى الغداء معهم، حتى إن أحدا منهم لم ينظر إلى خرافي، والأثمان تهبط في برلين يوما بعد يوم.» ويركب زورقا أحيانا فيصطاد بطا، ولكن زجاجة الشنبانية لا تفارقه أبدا، ويقرأ كتب بايرون في الفينة بعد الفينة، ويناقض سلوكه كرجل دنيوي سلوك المالكين الآخرين كل مكان، فقد قام بسياحات طويلة وكان في دار القضاء، وهو يعرف أن يتكلم بطلاوة، وهو يركب الخيل بجرأة، وهو ذو إقدام مع النساء، وهو لديه غير سبب ليسخر من أولئك الناس، «فإذا ما سئل أحدهم عن صحته أجاب بقوله: إنها جيدة جدا، ولكنني ألمت في هذا الشتاء من الجلبة.»
6
ويكسف صيته شيئا فشيئا؛ وذلك لأنه كلما ضجر حاول أن يتلهى بدعابات مشئومة وأن يلقي الحيرة في نفوس الآخرين ممن يعيش بينهم، وتصبح الخدمة العسكرية ذاتها ألهية لديه، ويغدو ملازما مساعدا في كتيبة الرماة، ويشترك في التمرينات، وتعيش أخته الصغرى عنده الآن، وتثب معه في العربة، ويسوق العربة بأسرع ما يمكن على الرغم من حصاني الركوب اللذين قرنهما بالمجر بقوة. وهو إذا عاد من منادمة على الشراب في ساعة متأخرة من الليل كبا غير مرة، ولم يرجع إلى وعيه إلا بعد حين، ويستحم كثيرا ويسبح غالبا، وعليه في كل وقت أن يتغلب على أثر البرد أولا. وهو يجد خليلات في جميع الطبقات، وهو يهزأ بأولئك الذين يعيشون رسميا مع أزواجهم، ومما حدث يوما أن تأخر أصدقاء له عن الحضور في الساعة المقررة من الصباح، ومما حدث أن أراد هؤلاء أن يداعبوه فسدوا بابهم بصوان الثياب، ويطلق الرصاص من النافذة المفتوحة على سقف الغرفة حتى يتساقط الجص عليهم، ويتغدى ويجلس على متكأ، ويطلق النار على الهدف متعمدا، وما كان ليزعج من إتلافه خشب الجدار بذلك، ويسقط سائسه في الماء وينقذه مجازفا بحياته.
وإذا ما زاره شخص عرض عليه رحيق الشنبانية وراح بورتو، ثم قال له: أعن نفسك، وبعد منادمة كتلك يذهب - ذات يوم - إلى الدسكرة
7
المجاورة مارا عدة ساعات من طرق وحلة فيغتم الجمع الأنيق من مظهره المخزي، وهكذا ينال لقب السيد المجنون، وإن لم يكن مجنونا في الحقيقة، وهو ينال هذا اللقب بسبب شدة نهمه وكثرة شربه وطراز صبره، ويدعوه المدرعون فيطلب منه أن يأخذ الرشفة الأولى من القعب
8
الذي يعدل زجاجة كاملة فيجرع ما فيه دفعة واحدة مثيرا دهش عشرائه، وعلى ما كان من عدم انشراحه حتى ذلك الحين يقول لنا: «إن معدتي ظلت أربعة أسابيع أحسن مما كانت عليه.» ويتكلم أحيانا عن سياسة العاصمة مع عدم احترام على الدوام، ويمضي قليل وقت فيجد الفتيات الكونتسات من الممتع دعوتهن إلى الغداء، ولكن وجودهن حول المائدة بجانب فون بسمارك مما يؤلم أمهاتهن.
ويصبح ذات حين موضوع قول في الصحف؛ فقد نشرت إحدى صحف الساحل البلطي الحرة شكوى من الضرر الذي يحدثه أشراف بوميرانية بحصنهم الإنكليزية وكلابهم السلوقية حين الصيد في الحقول التي لا يحميها شيء غير المالك نفسه، ويحاول بسمارك الذي يرفض المحرر نشر جوابه فيصل إلينا هذا الجواب مسودة مع كثير ترميج
9
أن يثبت أن تلك المواكب لا توجب أي أذى في المزروعات، وأنها تنفع في تحسين جنس الخيل، وأن الحصن هي ألمانية، وأن السياط وحدها هي إنكليزية، وأنه يود «أن يفضح كثيرا من كبار الأشرار الذين يجلبون سياطا من إنكلترة فضلا عن صابون الحلاقة والقمصان والجبن المعروف بالشستري.» ثم يهاجم كاتب تلك المقالة فيقول إن عوامل شخصية لا عوامل جدية، هي التي حفزته إلى كتابتها. ومن الواقع أن كان اسمه الخاص وفروده قبضته، ومن الواقع أن تناول المسائل الاجتماعية والسياسية، فقال: «إن مما أعلمه جيدا أن يبدو أشخاص لابسون معاطف حمرا مستوون على صهوات
10
الجياد سائرون في مواكب صيد مع كلاب سلوقية مطاردين أرنبا، راضون عن أنفسهم وعن عملهم ، فيمقتهم الأرانب ومن ليس قانعا بنفسه ولا بالعالم، ومن هو لابس ثيابا سودا، ومن ليس عنده خيل ولا كلاب ولا قنص ولا هوس إلى الرياضة.» وقال: «إنه من طبقة أولئك الأشراف الذين يقوم امتيازهم الشامل على إضافة كلمة «فون» إلى أسمائهم، كسحاب مركوم تنقله قوى الدهر الغامض الأمر فيحجب عن ألمانية الحزينة شمس المساواة المدنية والاجتماعية.» ثم ختم كلامه بقوله: «إنه ترك للبوميراني من المنافع ومن الحرية الشخصية ما يمكنه أن يتلهى معه بماله كما يشاء.»
ذلك هو أول اعتراف سياسي صدر عن بسمارك أيام كان في الثامنة والعشرين من سنيه بسبب بعض الأرانب وجذامة
11
بعض الحقول، ولكن مع تعزير أولئك الذين يريدون تحدي امتيازه، وبذلك يسير خطوة إلى الأمام، وبذلك لا يقف بسمارك عند الدفاع عن طبقته العليا، بل تبصره يهزأ بالطبقة الدنيا التي لا صيد لديها مع جوابه الخبيث القائل إنه ليس عندها أي هوس إلى القنص، وبسمارك يقابل بين الأرنب وابن الطبقة الوسطى أو الفلاح الذي ينظر حاسدا على الموكب حين مروره مسرعا، ولو سأله أحدهما تعويضا عادلا لأعطاه إياه من فوره، ولكن مهاجمة امتيازاته عند صولة المبادئ الجديدة مما يحمله - في الحال - على التسلح بسلاح أجداده. ولم تكن كلمات بسمارك السياسية الأولى إلا كلمات رجل يجاهد في سبيل طبقته.
وقبيل ذلك يقوده السأم إلى خطبته الثالثة، وخطيبته في هذه المرة هي ابنة من الجوار اسمها أوتيلي فون بوتكامر، وتعارض أمها في زواجها به، وفي ذلك يقول: «مضت خمسة عشر يوما فتشاجرت مع أم خطيبتي التي أرى من الإنصاف أن أصفها بأخبث امرأة عرفتها في حياتي، والتي لم تبصر أنها بلغت من الكبر ما لا ينبغي أن تعشق معه.» وتود هذه السيدة أن تفرق بين الخطيبين سنة كاملة لسوء سمعة أوتوفون بسمارك، ويتوسط أبوه فرديناند في الأمر كتابة. وأوتو هو الذي أملى ذلك الكتاب السياسي - كما هو واضح - ولا يسعنا غير الضحك حينما نقرأ فيه وصفه لنفسه بأنه «ذو حيوية وعقل عند الإغضاء عن كبريائه»، بيد أن الحماة ظلت صعبة المراس، فأملت على ابنتها (خلافا لما هو مألوف في كنيبهوف) كتابا مؤذيا جائرا.
ويسقط في يد بسمارك بسبب الإهانة على الخصوص، لا بسبب تلك الفتاة التي نسيها في غضون السنة تقريبا، ويرى بسمارك أن «مما ينافي عزته أن يبدي ألم فؤاد جريح، وأن يفرج عن نفسه بإطلاق نار على الإخوان»، ويسيح ويقصد من سياحته «أن يزيل غمه في البلدان الأجنبية»، ويصرح بعد ذلك بقوله: «إنني بلغت من فتور الهمة ما أعد به من السعادة العظيمة ذلك الذي جعلني أغضب على القدر.» ولكن ذلك الجرح ظل ذا أثر عميق في كرامته، فلما انقضت أربعة أعوام أرادت الأم وابنتها تسوية الأمر وإعداد الزواج، فأبى ذلك وقد قال لصديق له: «إن ما كان من مساورة تلك المشاعر في سنوات لإحساسي المهان ومن إخفار ذمتي ومن إخزاء كبريائي ترك في بقية مرارة لا أظنني قادرا على استئصالها. ومما يعسر علي أن أنسى - بعض النسيان - سبا مؤثرا مع رغبتي الصادقة.» وفي ذلك الحين يقول مؤكدا: «إنني لا أستطيع أن أحب.» وهكذا تبصر رسوخ الزهو والحقد في قلب يبدو الغرام والتضحية غريبين عنه في الساعة الراهنة.
وتسوقه تلك السياحة التي قام بها في السنة السابعة والعشرين من عمره إلى إنكلترة في بدء الأمر، وينزل إلى البر في هول، ويبدي ملاحظات حول الصفير يوم الأحد، ويعود إلى السفينة من فوره، ويتوجه إلى اسكتلندة، ثم يبصر خارج مجلس اللوردات بلندن حصن ركوب تنتظر هؤلاء «بدلا من العربات»، ويبصر أناسا من الوجوه يمرون مسرعين على ظهور الخيل فيؤثر ذلك كله في نفسه كثيرا، ويقيد كل شيء خاص بعالمه، ويقول في كتاب يرسله إلى أبيه: «إن ما يخصص من العلف لخيل فرسان يورك التي لم تشتغل حتى الآن هو بوشل
12
جلبان واثنا عشر رطل تبن. ويبدو لي عدم الأهراء
13
أمرا غريبا، ويجعل القمح في كدس يترجح طوله بين اثني عشر أونا
14
وخمسين أونا على ما يحتمل، ولا تجد بجانب الهواء المغطى سوى هري صغير من مدر.»
15
ثم يثني بسمارك على «لطف الإنكليز وأدبهم الجم الذي يفوق ما أنتظره، حتى إنك إذا ما كلمت العوام وجدت فيهم تهذيبا وتواضعا وذكاء.» ويروق بسمارك ما لدى الإنكليز من شهوة طعام فطرية، فيقول في ذلك الكتاب: «ذلك هو بلد النهماء، وفي ذلك البلد لا يقدم إليك الطعام أجزاء، وفي ذلك البلد تجد أمامك حين الفطور - أيضا - أطعمة هائلة لا تخطر ببالك، فتقتطع منها ما تود وتأكل منها ما تريد من غير أن يضاف شيء إلى حسابك.» ولا يدرك أمر تلك الملاحظات التي أبداها لأبيه حول الطعام النفيس الوافر إلا إذا عرفنا ما اشتملت عليه رسائله من نصوص كثيرة، بحث فيها عن ملاذ المائدة بجد عظيم حتى أواخر أيامه.
ويبدو أن من في الدار أقل تأثرا بروح السيطرة من ذلك السائح الذي وصل إلى سويسرة، فيطلب من أبيه وأخيه دفع ما استحق من الضرائب، وكان لا بد من مطالبة هذا أو ذلك بنقد، «أو من المساومة بالقمح أو المسكرات، فآمل راجيا أن تنظر إلى هذا الأمر المستعجل بعين العناية كما لو كان خاصا بك.»
ويعود فيجد ما يغضبه من فوره، وماذا يصنع في هذا الخرق؟ إن بوميرانية بلد ضيق، وألمانية بلد كئيب، والناس في الخارج أحب إلى النفس.
ويجلس بجانب الموقد، ويقرأ ديوان بايرون، وينسخ أكثر قصائد هذا الشاعر الإنكليزي تحديا، ثم يفكر في تقليد هذا اللورد، ويخبط ذلك الديوان مع دفتر الحساب، ويفكر في رحلة يقوم بها مع رفيق المدرسة أرنيم «في مصر وسورية، وفيما هو أبعد من ذلك - على ما يحتمل - على أن تسير التدابير التي أبصرها حول ما أملك كما أروم. ويلوح لي أن أمثل دور الآسيوي بضع سنين؛ لأحدث تغييرا في زخرف روايتي ولأدخن سجايري على الغنج، بدلا من الريغا.» ولكن ذلك الرفيق يعدل عن مغامرات السياحة تلك مولعا بأخت بسمارك الحسناء مالوين البالغة من العمر سبع عشرة سنة.
وتطرح الهند جانبا، فقد كتب الأب الشيخ فرديناند إلى ابنه «رسالة مبللة بالدموع يحدث فيها عن شيبته (وعن بلوغه الثالثة والسبعين من سنيه أرمل أصم)، وعن دنو أجله وعن طمعه في رؤية ولده»، والآن يسأله صديق له عن سبب عدم ذهابه إلى الهند، فيجيبه عن سؤاله هازلا: «لقد أردت أن أخدم في الهند تحت الراية الإنكليزية، ثم فكرت فيما أصابني به الهنود من أذى.» فبهذه النتيجة البوميرانية انتهت خطته في السياحة العالمية على الطريقة البايرونية.
وروائية المالك الشريف في الولاية هي التي تهدف إلى الحركة والألهية، فتسخر الحكومة إلى هذا الغرض مهما حدث من سوء، ويبلغ الثلاثين من عمره فيقول في رسالة له: «أعيش في الريف وحيدا منذ خمس سنين، ولكنني غدوت غير صابر على حياة العزلة شريفا ريفيا، فأتحرق لأعرف هل أعود إلى الإدارة أو أقوم برحلات طويلة، وتراني مستعدا لشنق نفسي تخلصا من سأم الانفراد هنا، ويخيل إلي أن هذه هي حال المثقف الذي يعيش عزيبا في الريف.» وحوالي ذلك التاريخ يكتب في مذكرته: «قمت بأمور حسابية في النهار كله، وقمت بجولة راكبا وماشيا في النهار كله تحت وهج الشمس، فالحق أن الحياة تبدو كفانوس سحري.» ويرغب في حين آخر أن ينتحل لنفسه حياة الخواص فيقيد اسم عساسه
16
ومصفيه باسم حارس الليل والخادم المقطر.
وتتحول عدمية الطالب إلى سوداء شديدة في فارس وحيد في قصره، «فتجدني منذ حضوري هنا فاقد الحس أدبيا تقريبا، وأقوم بأعمالي في الأوقات المقررة، ولكن من غير اكتراث خاص، وأحاول أن أجعل الحياة مقبولة لدى أجرائي، وألاحظ - غير غاضب - ما يأتونه من اختلاسي، وفي الصباح أكون عسيرا وبعد الغداء أكون يسيرا، ويتألف رفقائي من الكلاب والخيل وأشراف الأرياف، ولي حرمة عند هؤلاء لقدرتي على القراءة بسهولة، ولادثاري كرجل في كل حين، ولاستطاعتي تقطيع القنيصة كقصاب، ولامتطائي صهوة الجواد بسهولة وإقدام، ولتدخيني سجاير كبيرة، ولاقتداري على الشرب معتدل الدم على حين يقع ضيوفي تحت المائدة، ومن المؤسف أنني لا أبلغ درجة السكر، مع أن ذاكرتي تخبرني بأن هذه هي حالة سارة، وهكذا أعيش كساعة عظيمة من غير رغائب خاصة، أو مخاوف خاصة، وتبصر حياتي مملوءة انسجاما وطافحة غما.»
ويغوص أحيانا في عشرة الخواص، ويرجع من رحلة في بحر الشمال الذي يصفه بالمحبوب، ويبلغ ما خسره هنالك من المال حول مائدة الميسر ما يسر معه أن يقول: «كنت حسن التصرف في الحدود فلم أدفع ضريبة دخول.»
والآن تتزوج أخته فيزيد فؤاده كدرا أكثر من قبل، وقد كان عاشقا لها، وقد ظل مغرما بها مدى حياته، ويعدها عنوان الذكاء والكياسة ما دامت فتاة تعبث بغلظته عبثا عجيبا، ويقضي عدة شهور عند أبيه الشائب قارئا مدخنا آكلا شلقا
17 «ممثلا معه أحيانا رواية يحب أن يدعوها بصيد الثعلب»، ويصف لأخته إحاطة الصيادين والكلاب السلوقية في يوم ماطر بارد لغابة صنوبر صغيرة مشتملة على شرذمة من العجائز المحتطبات - كما هو معلوم - ويصف لأخته كيف يخرج رئيس القنص من الأصوات الحلقية الغريبة ما يحمل به الثعلب الوهمي على الخروج، «فيسأل الوالد بسذاجة عن مشاهدتي ذلك، فأجيبه بكلمة: كلا، مبديا أقصى الدهش، ويدوم ذلك ثلاث ساعات أو أربع ساعات، فإذا ما انقضت هذه المدة زرنا بستان البرتقال مرتين، وزرنا الزريبة
18
مرة واحدة في اليوم الواحد، وفي كل ساعة نقابل بين موازين الحرارة في الردهة، وننقر زجاجها فنعلم أن الجو جميل، ونجعل ساعتنا الدقاقة من الاتساق مع الشمس ما تدق به معا على حين تتأخر ساعة المكتبة دقة واحدة.» وهو بعد أن يتندر بمرارة على ذلك الوجه يحرض أخته على الكتابة إلى الأب عن أعمالها الصغيرة، «فتحدثه عن الخيل وعن سلوك الخدم وعن صرير الأبواب وإغلاق النوافذ وعن أمور أخرى، وهو لا يطيق أن يدعى بالأب لنفوره من هذه الكلمة.»
وهكذا ينمو الصلاح والسأم والتسامح والغم على مقياس ضيق في قلبه، فلا غرو إذا ما حاول في الثلاثين من سنيه أن يعود إلى خدم الدولة للمرة الثالثة، «وذلك لأحرر نفسي من متاعب بيئتي التي تبغض الحياة إلي.» ويكتب ذلك الفتى الشريف إلى رئيس براندبرغ الأول معتزا؛ إذ يقول: «غدت أحوالي لا توجب إقامتي بالريف في الوقت الحاضر؛ فالآن يمكنني أن أسير مع ميلي إلى خدمة الدولة.» أفلا يقال بعد ذلك: إنه يفترض انتظار الدولة عرض نفسه عليها فقط؟
وتدوم التجربة الثالثة أسبوعين، ولم تكد هذه المدة تنقضي حتى تصادم هو ورئيسه. ويكتب الرئيس الأول قائلا مذعورا: «لقد مرت علي أمور كثيرة في حياتي، فلم أر حتى الآن اقتراف رجل قانوني لثلاث وستين أغلوطة.» وله من المعاذير المألوفة ما يغادر معه وظيفته بسرعة، وهو إذ لم يقابله الرئيس من فوره، قال للخادم: «بلغ الرئيس أنني ذاهب غير آيب.»
19
وفي مساء ذلك اليوم يجتمع بالرئيس في وليمة فيسألهما بعض الحضور: «أيعرف أحدكما الآخر؟»
بسمارك :
لم يكن لي شرف ذلك!
ويقدم بسمارك نفسه ويعرب عن عظيم سروره بذلك اللقاء!
وما كاد بسمارك يصل إلى منزله حتى دون مشاعره كتابة، قائلا إنه قام بتلك التجربة «كنشر نفساني للخشب؛ وذلك لأعيد الصحة إلى دماغي بعد أن رهل
20
قليلا في الوظيفة بسبب نمطية العمل كما هي العادة. وما أبداه رؤسائي الرسميون من تعاظم عقيم وعطف سخيف فكان غير محتمل لدي أكثر مما في أي زمن بعد أن فقدت عادته منذ زمن طويل.» وهو لم يعتم أن مرض من العمل هو و«خيلي أيضا» حتى بعد أن حل محل أخيه عمدة للناحية، ولسرعان ما ترك هذا العمل كذلك. «وهكذا ركبت نهر الحياة عاطلا من الإرادة ومن أي خدف
21
خلا عطف الفينة،
22
ولست أبالي بالشاطئ الذي ستقذفني الأمواج إليه.»
الفصل السادس
ظلت البياتية
1
صاحبة الحظوة بين أشراف الأرياف في بوميرانية زمنا طويلا، وتخرج في المدرسة الحربية فون تادن تريغلاف وصهره لودفيغ غرلاخ، وأخو هذا الأخير القائد العزيز على الملك والمسمى بوتكامر رينفيلد والبارون سنيفت بلساخ، وغدا هؤلاء ضباطا في حرب الإنقاذ، واعتنق هؤلاء جميعهم ذلك المذهب في برلين فنقلوه إلى بلدهم بوميرانية رافضين الكنيسة الحرة، جالبين من بعيد قسيسين مصدقين بهم، واعظين في ديارهم وقراهم، هادين عمالهم، مستغفرين تائبين محاضرين راغبين في أن يحدث عنهم بغيظ أو استطلاع، ولم يفتهم أن يتكلموا عن جزر المحبة.
وكانت ماري فون تادن فتاة حسناء ذات حبور وذات ولوع، وكانت مطربة شهاءة،
2
مع تمنع، وقد قرأت آثار جان بول وشعر برنتانو وأوقعت على ألحان مندلسن، وفيما كانت خطيبة للشاب موريتز بلانكنبرغ تعرفت بصديقه فون بسمارك أيام رسمه خططا للسياحة في آسية، ومن الطبيعي أن تقع في هواه من غير إقرار ومع حبها بأن يكرمها بدعوتها خطيبة صديقه، ومن قولها: «إن قوامه الممتاز وسناءه البدني والأدبي مما كان يجتذبني على الدوام، ولكنني كنت أشعر بأنني أزلق معه على جليد رقيق قد يثقب في كل حين.» ولا تعرف هذه العاشقة أين هي عندما تكون في حضرته، وهي تحس أنه عبقري حقا، ومن المحتمل أن تشعر بأنه شيطان، وقد يستنبط من اعترافها ذلك وجود بضعة عشر كتابا صبيانيا أرسلتها من بوميرانية فلم تنته إلينا، وذلك هو الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا فنرى منه درجة تأثير أوتو بسمارك في فتاة عاشقة كما يجب أيام كان في الثلاثين من سنيه، وبسمارك ذلك قد عد من الشرفاء، فبدا لتلك الغادة في بوميرانية مثل ميفيستوفل
3
غواية.
وهي إذ كانت ابنة بياتي مؤمن حاولت أن تسير أختا له كفتاة تصطاد بصنارة
4
في مرفأ، وهي بعد حديث طويل له معها ومع أمها في تريغلاف تكتب إلى خطيبها قائلة:
لم أسمع قط بوجود شخص يحلل إلحاده أو مذهبه في وحدة الوجود بمثل تلك الحرية والصراحة. وما يساور أوتو من آراء كامدة لا ترضيه فأمر تعرفه، ولا مراء في إخلاصه، وفي هذا ما يشجع إلى الغاية، وهو لا يزال، مع ذلك، ذا خوف أمام ما لديه عن الله من وهم. وهو يذكر جيدا تلك الليلة التي أحياها بآخر صلاة له منقطعا عن ذلك بعدئذ متعمدا. وما يزهو به المؤمنون من أن الحق فيما يعتقدون، ومن عظمة الله الذي لن يبالي بمخلوق حقير مثله، ومن جحوده التام، ومن ميله البعيد إلى الإيمان، ومن عدم اكتراثه للمسرة والألم، ومن غمه الذي لا يسبر غوره، ومن فراغه الذي لا قعر له، فمما يبعده عن العقيدة التي هو عاطل منها في الحقيقة، ومن قوله: إن على الله أن يأخذ بناصيتي أو يدخل الإيمان إلى فؤادي من غير أن أساعد على ذلك أو من غير أن أكون راغبا في ذلك، هو قد كان كثير الهيجان، محمر الوجه حينا بعد حين، ولكن مع عجزه عن الإفلات، هو لم ينصرف، بل داوم على تفاسيره الحارة مع ارتباطه في وعد بالغداء تلبية لدعوة وجهها إليه بعض الجيران. ومن الواضح أن كان أوتو ذا اضطراب مستعذب؛ فقد شعر بنفوذ الحب في نفسه، وأنت تعرف جيدا مقدار ما قد يكون عليه من اللطف وما هو عليه الآن من الأنس. وقد جرى ألف مرة على رأس لساني قولي: أوتو، أوتو! اتخذ حياة جديدة إذن، دع عنك طرق الفسوق إذن!
وتعلم قواعد النصرانية، وتسلح اليوم بمذهب العقليين كما كان عليه في السنة السادسة عشرة من عمره، ولكن مع خيلاء نفس حساسة تأبى كل هم وكل تقدم، وذلك وفق ما كان عليه أيام وظيفته، ومن رأيه أن من شأن الله أن يعيده إلى نفسه كما أن من شأن الملك أن يستدعيه، ثم أصبح من فوره ولدا صالحا، ويعود بعد يومين فيبدو هادئا متأملا رصينا، جزوعا أحيانا.
وتأخذ تلك الفتاة الحسناء المختلجة الصدر بمجامع قلبه، ويجد لذة في كتب يرسلها إليه خطيبها بلانكنبرغ الذي كان مهتديا أيضا، وعن هذه الرسائل يقول كاتبها: «إنها كتبت بحرارة صديق وحماسة نصراني، فتنزل على فؤادك المريض كبرد عريض مع أشرف ما في الدنيا من مقاصد.» ويكتب بلانكنبرغ ثلاث مرات إلى بسمارك فلا ينال جوابا، ولا بد من أن يكون أوتو عازما على الإيمان وقراءة التوراة والاعتراف بما يكن، وماري وراء ذلك على الدوام؛ وذلك لأن مما يثير خيال هذه البنت هو «تلك الصداقة مع عنقاء بوميرانية ذلك الذي يفترض أنه مثال الصولة والغطرسة التام، ولكن مع كبير جاذبية.» وهي حين أرسلت إلى موريتز «زهرة زرقاء فوضعها على صدره مباركا إياها.» أرسلت أيضا زهرة حمراء إلى صديقه أوتو عارفة معنى ذلك جيدا.
ويحل عيد العنصرة فيؤثر الخطيبان فيه عند وجودهما في غيضة،
5
ويطلع الملحد بسمارك على كتاب من صديقة بعيدة مصدورة عاشقة له وعاجزة عن الوفاة حتى يهتدي، ويعقب ذلك كتب مبجلة من بلانكنبرغ مملوءة وعودا مؤكدة وتموت تلك الفتاة الغريبة المصدورة، ولكن مع «يقينها بأنك لن تخسر نفسك. آه، لو كنت تعلم مقدار دعائها من أجلك!» ولم تنته أجوبة بسمارك إلينا، فقد أتلفها بلانكنبرغ بعد ذلك عن حقد سياسي، ولكننا نقرأ في رد عليه: «لم سكبت سخين العبرات؟ ولم ملئت عيناي دموعا عندما قرأت كتابك؟ أجل، يا أوتو، أوتو، إن كل كلمة تكتبها صادقة.» وقد اعترف بسمارك مؤخرا بأن هذه الحوادث كانت ذات أثر كبير في نفسه، ويقطع بسمارك تبادل الرسائل ذلك فورا؛ وذلك لما يسفر عنه كبرياؤه من تعذر احتماله للعطف، وهو لم يلبث أن شعر بأنه مصنف مصفوف أيضا، فعاد لا يطيق سماع كلمة في الموضوع.
ولم تلبث تلك الأرض الحجرية أن امتصت ماء السماء، ولا عجب إذا ما بكى عند سماعه نبأ وفاة فتاة كانت تحبه سرا، وهذا الرجل الطويل النجاد،
6
وإن كان كثير المجون، شديد الإحساس فيبكي بسهولة، كما يدل عليه أمره غير مرة في الأزمات السياسية الكبيرة القادمة، وهو ليس بالذي يعتريه ذلك من غير أن يبدي وجدا، وهو ذو طبيعة غريبة، فتمر طريق الإيمان منها بعد أن تجاوز منطقة الخرافة التي ظل مرتبطا فيها مدى حياته، وهو إذا ما أصابه خير غير منتظر حاول أن يبصر القدرة الصمدانية من خلاله، وهو قد كتب يقول مشيرا إلى خطبته الأخيرة: «لو كان لدي شك في العناية الربانية وفي رضاها الخاص عني لزال هذا الشك عند حل عقدة تلك الخطبة التي استمسكت بها عن وجد شارد.»
بيد أن ارتيابه المتنبه يبدو، فيكتب إلى أبيه بعد عاصفة بحرية قائلا: «لقد أغمي على بعض السيدات، وقد بكى بعض آخر منهن، ولم يقطع الصمت في حجرة الرجال غير دعاء تاجر من بريم بصوت عال بعد أن ظننت عنايته بصدرته أكثر مما بربه. وهكذا كان لنا خلاص بصلاة هذا السيد البريمي في هذه المرة أيضا.»
وأسفر عرس ماري فون تادن عن احتراق القرية كلها بالأسهم النارية، فلما أشار بعض الأتقياء على الناس بالدعاء أكثر مما بالإطفاء استشهد بسمارك بقول كرومويل: «اتكلوا على الرب يا أبنائي، ودعوا البارود يكون جافا!» وركب حصانا وقضى ليلته في مكافحة النار، وفي الغد جادل بعضهم في إباحة التأمين على أنه يجعل الرب افتراضا، فقال بسمارك: «حقا إن ذلك تجديف صرف؛ فالرب يستطيع أن يصيبنا!»
ومنذ قليل شاع في بوميرانية أن بسمارك عاشق للسيدة بلانكنبرغ، والحق أن ذلك لم يكن في غير محله؛ فكلاهما كان يعيش معا، وكلاهما كان يسبح في بحر من الأحلام معا، وكان متعصبا لبايرون، وكانت متعصبة لجان بول الذي لم يعجب به أوتو قط. وهي لم تعتم أن صارت أما، فتقول له «دعني أبلغك أن من يغشون حلقتنا قليلون، وقد قصدتها الآنسة (س) التي هي مليحة، وأن جميع الغواني والعواجز يلدن، وأنني سأكون بعد يومين في كاردومن (من أملاك بلانكنبرغ)، حيث أتناول شايا فنيا، وحيث أطالع وأدعو، وحيث آكل أناناسا.» وبهذا اليسر تراه يقوم بما يفرض عليه من عبء في تلك البيئة ما وجد فيها عافية وما وجد فيها ما يبحث عنه من ذكاء وجمال شكل «وحياة منزلية أكون عضوا فيها، ومن مقام تقريبا.»
ومن الواقع أن ظلت أعصابه نزقة حتى في ذلك المقام، ويغدو في إحدى النزه سوداوي المزاج من فوره، ويمكن ألين القول أن يقوده إلى الضنى، وتروي ماري «أنه يسهل قياده إذا شعر بأنه قبضة صديق.» ولما أرادت ماري أن تغيظه فأحزنته بصرير كأسين ضرع إليها أن تكف قائلا: «إن هذا يثير الأشجان، إن هذا يذكرني بقصة الكونت هوفمان حول النفس السجينة في كمان.»
وذات يوم يلاقي حنة فون بوتكامر في منزل بلانكنبرغ، وليس لها سحر ماري، فهي قصيرة، وهي سمراء، وهي خفيفة، وهي إيطالية المنظر، غير أنها ذات بصر حديد، وتلمع حرارة فؤادها من عينيها الشهباوين، وتسطع من شخصيتها ذات الحماسة، والذي يميزها من ماري هو ظرفها وعدم تصنعها وعنف مشاعرها، ولا تقدر على التفكير مرتين، ويسهل أخذها بالعاطفة التي تنعش بدنها النحيف النحيل، وحنة من الفتيات اللاتي يتمسكن بأي قرار بعد اتخاذه، وحنة تخصص نفسها، بلا تحفظ، للرجل الذي تهب له حبها، فلا تسأله شيئا لذاتها وتسر بما يحدث من تضحيتها، وكل ما تحتاج إليه هو وجود رجل يكون دليلا لها، وكل ما تقدمه هو ميناء أمين من هبوب الريح.
وتبدأ بلوم ذلك العملاق المكرم على إلحاده لوما صريحا، وإن بدا دليلا لها، ومن المحتمل أن أغضت عن ذلك ذات حين، فقد كتبت ماري تقول لها: «إن مخالفتك لم تزعجه بالحقيقة، فهو يحب الصراحة، وهو سيغير آراءه كما تخبرين، وهو يفكر وفق ذلك في سويداء في فؤاده، ولكن من يكون ذا مزاج مثل مزاجه لا يكافح في سبيل النور بسرعة ولا بسهولة، فيظل ذلك مكنونا فلا يبدو لعيون الناس إلا بعد زمن طويل.»
وتصيب ماري المحز في وصفها ذلك، وهي تشبهه بنهر جامد، فلا يذوب إلا مؤخرا وبشدة، وهي تبصر فيها طبيعة غامضة، وهي تحفزه حفزا رمزيا إلى ولاية في الأسداد، وهو يرغب في سماع اختلاج نهر الإلبة في الربيع، وهو يود أن يلاحظ المجرى العظيم حين ذوبان الجليد، وهو يحب أن يوجه مياهه كما يحب أن يوجه الحركات السياسية العنيفة، وكما يحب أن يوجه نفسه.
ويغادر بسمارك بوميرانية إلى شواطئ الإلبة، فيكون ذلك أكثر من رحلة؛ فقد مات الشيخ فرديناند في نهاية الأمر على الرغم من خمر شيري ورحيق بورتو، ويضطلع ابنه الأصغر بملك شونهاوزن في وادي الإلبة، ويؤجر كنيبهوف، وفي كنيبهوف قد ترعرع، وكنيبهوف هو المكان الذي تصرف فيه آل بسمارك وأداروه وحدهم منذ قرون، فكان له بتلك الإجارة ألم وندم، واسمع ما يقول:
كان يسود جميع المروج والمياه وشجر البلوط المجرد غم ناعم عندما ودعت، وقت الغروب، وبعد كثير من الأشاغيل، تلك الأماكن العزيزة، حيث كنت أسبح في بحر من الرؤى والحسرة في الغالب، وهنالك حيث كنت راغبا في شيد منزل جديد أبصرت هيكلا عظميا فعرفت أنه لجوادي الوفي كالب الذي امتطيت صهوته مدة سبع سنين مسرورا ومحزونا، نشيطا ومتثاقلا، قاطعا فراسخ وفراسخ، وقد فكرت في الخلنج
7
والحقول وفي البحيرات والبيوت وساكنيها الذين كنا نتعداهم حين العدو فتمثلت لي حياتي منذ صباي وقتما كنت ألعب في ذلك المحل نفسه.
وكان ماء السماء ينزل رذاذا
8
على النجم
9
والعوسج، وقد أنعمت النظر طويل زمن في شحوب الغروب فملئت مرارة وأسفا على ما بددته قصدا من مواهب الشباب ومن الذكاء والثراء والصحة والعافية، خليا كسولا، ولوعا بالاستمتاع، عاطلا من الهدف، بعيدا من الفلاح، وأعود إلى البيت كامدا خامدا فيخيل إلي أن كل شجرة غرستها، أو كل بلوطة تفيأتها مستلقيا على الكلأ، تلومني على تسليمها إلى أيد غريبة، وأبلغ من ذلك ما أبداه جميع عمالي الذين وجدتهم متجمعين أمام بابي لبث شكواهم من البؤس الراهن ومن الغم المقبل الذي يلاقونه من الخائل،
10
ويعربون لي عن طول الزمن الذي قضوه في خدمة والدي فيبكي شيبهم وتدمع عيناي.
ومن يقرأ ذلك الكلام المملوء حنانا، والذي يذكرنا بعضه الشعري بوداع غوتة لمغناه
11
الصيفي، يسأل عن سبب التبديل، أي عن صدوره عن علل مالية أو عن رغبة في منزل أجمل من ذلك، فلا شيء من هذا، وإنما الدافع إلى ذلك هو الطموح والرغبة في السير.
حقا إن موت أبيه في ذلك الحين، وصلاته بذلك الوسط الأدبي النشيط الذي وصفه في صفحات قليلة، وشعوره ببلوغه الثلاثين من عمره وبوجوب وضعه حدا لجميع مغامراته من فوره؛ كلها أمور أثارت فيه ميلا جديدا إلى العمل على مقياس واسع، فتستحوذ عليه هذه الرغبة مدة نصف قرن بعد ذلك مع تموج خفيف، وفي البداءة تدعه
12
الأحوال دعا إلى الحياة العامة في البيئة التي يجب عليه أن يدير شئونها بحكم الوراثة، وخططه مما يمكن تحقيقه في سكسونية بسرعة، وتفتح إدارة الأسداد على شواطئ الإلبة بابها له، وينبه ذلك الأمر فيه شعورا راقدا حول نصيب ذلك النهر الذي وجب عليه أن يصف أزماته ببلاغة، شعورا أصبح لزاما عليه أن يحوله إلى أعمال، والمسافة بين إدارة أسداد الإلبة واللندتاغ غير طويلة، ولحلقة البيتان علاقات كبيرة ببوتسدام، ويود بيتاني في ذلك الزمن تسهيل دخول بسمارك في الإدارة، فيعرض عليه حتى منصب مندوب ملكي في بروسية الشرقية، فيبدي بسمارك عدم ميله إلى القبول في كتاب يرسله إلى أخيه من شونهاوزن: «لا ريب في أن الترقي يكون حليفي ببروسية الشرقية، ولكن من سوء حظي أن كل وظيفة أنالها تظهر لي مرغوبا فيها إلى أن أشغلها، ثم أجدها ثقيلة مملة، وسيكون مثل هذا نصيب المنصب الذي يعرض علي، وإذا ما ذهبت إلى بروسية الشرقية رفضت مديرية الأسداد التي وعدت بها من قبل الحكومة، ولكن إدارة الأسداد مع العمل في اللندتاغ الذي أراني مطمئنا إلى انتخابي عضوا فيه، مما يدنيني من مراقبة أملاكي، وأوجه همي إلى تأدية بعض الديون قبل كل شيء.» وهو في الوقت نفسه يصر على نيته أن يكون عمدة الناحية هنالك، ويلوح أن الموظف العتيد لا يظل في منصبه أكثر من ثلاث سنوات أو أربع سنوات، «لما عليه صحته من وهن باد، فتبصر أن خططي تقوم على آراء طبية، وستقام حفلة رقص في راتينوف يوم السبت، ولا أذهب إليها، فليس لدي قفاز، فأنا حاد.»
وهكذا يحسب ما يصير قبل أن يسير، فيوعد بإدارة الأسداد ويثق بانتخابه عضوا في اللندتاغ ويقدر مدة مرض سلفه، ثم يسأل عن عزل رئيس الأسداد لغيابه بلا إذن، وهو حين يلتمس المنصب يطالب بخفض الضرائب النهرية المفروضة على أملاكه، وينبش نظاما قديما قائلا بأن يولى رئاسة الأسداد رجل مثله ذو أملاك واقعة على شواطئ النهر، ويعود إلى مبادلة أراض فرضت على أجداده منذ بضعة قرون دعما لادعائه بالمنصب، وهو يجد في ذلك حقا، وهو ينتحل بذلك إنقاذا لجيران من موظف كسلان، وهو يصنع ذلك حفظا لأطيانه وخفضا لضرائبه وفرضا لاسمه على الولاية حتى يغدو نائبا وعمدة ناحية.
والنشاط والاستعداد والذرائع والإنجاز وابتغاء السلطان؛ أمور أظهرها بسمارك في عمله السياسي الأول فكان له بهذا العمل فلاح ثابت سريع، حافز إلى قيامه بجديد الأفعال على الدوام.
الفصل السابع
يقع بيت الأسرة بشونهاوزن بين شجر الزيزفون وشجر البلوط الكبير. هو منزل جليل، هو مسكن متين، هو ليس قصرا، بل هو حصن حصين، فمن ينظر من إحدى نوافذه إلى الخارج يشعر بأنه في حرز حريز، ويصفه بسمارك لصديقه وصفا مؤثرا، فيقول:
إذا كنت عند النافذة فسرحت طرفي
1
من خلال سيغاري الذي أمسكه بيدي اليسرى ووجهته نحو الشمال أبصرت - يمينا ويسارا - شجر الزيزفون المسن، ثم أبصرت حديقة قديمة ذات سياج مشذب، وأبصرت آلهة مصنوعة من حجارة رملية، وأبصرت بقسا،
2
وأبصرت شجرا قصيرا غير مثمر، وأبصرت وراء ذلك مروج بر
3
كبيرة (لا أملكها مع الأسف)، وأبصرت - على بعد فرسخ مني وعلى ضفة نهر الإلبة العالية - مدينة أرنيبرغ الصغيرة، وإذا ما كنت عند نوافذ الوجهة الجنوبية أبصرت أبراج تانغرموند، وأبصرت قبة ستندال من الناحية الغربية، وإذا ما رجعت البصر إلى الداخل وجدت بيتا ذا طبقات ثلاث وذا جدر ثخينة قديمة، ووجدت هذه الجدر مغطاة بأدم
4
ونسج ذوات زخارف شرقية ومناظر عامة، ووجدت رياشا حريريا ذاويا زالت عادته، وأثاثا مضى ذوقه، ووجدت - على العموم - جهازا يوحي بيسر المالك العتيد أكثر مما يوحي به تراث أجداده التليد.
والزوجة هي أول شيء يبحث عنه سيد المنزل القديم، وقد كان هذا موضوع النقاش الدائم بكنيبهوف في سنوات أبيه الأخيرة، ومن هنالك ومن أوتو في رحلاته كانت ترفع إلى الوالد تقارير كثيرة مريبة حول الأمر، «وأعرف لويز (س) وهي تبدو باهرة الجمال أحيانا، وسوف تفقد نضارتها باكرا فتغدو حمراء الوجه، وقد عشقتها مدة أربع وعشرين ساعة، ومما يسرني أن تصبح زوجا لماير فتقيم بسيلوف»، ويفرز النساء في جزيرة نوردرني، فيميز الكونتس ريفنتلو «ذات الأسنان الرائعة واللون النحاسي، والتي ستصير يوما رئيسة جليلة لإحدى المبرات»، والسيدة فون ريتزنشتاين «التي تعد بنتها البالغ من الحسان فتكون زوجة رائعة العشرة في نزهة، وهي تتصف بالطول والنحول وحسن الفهم، وهي من بنات الموزيل، وهي حسنة الخلقة، وهي ليست بالفاترة ولا بالمرة.»
وكل نعت ينم على العارف بالنساء، فهو يفرز السيدات كتاجر الخيل، وهو يكترث لنسبهن أكثر مما لثرائهن؛ فما كان بسمارك ليتزوج من أجل المال، والآن يبدو الأمر جديا في شونهاوزن؛ فقد جاء في كتاب أرسله إلى أخته: «يجب أن أتزوج حقا، وليستحوذ علي الشيطان، وذلك أمر جلي لدي؛ وذلك لأنني أشعر منذ وفاة والدي بأنني وحيد متروك، ويجعلني الجو الرخو الرطيب سوداويا خموليا غراميا، وسيكون الحبوط نصيب كل مقاومة في ذلك، وسأتزوج ه. ا. في النهاية، وكل إنسان يتمنى لي ذلك ... أجل، إنها توحي إلي بالفتور، ولكن هذا هو شأن غيرها من النساء أيضا، والعفريت يعرف من أين يأتي ذلك، ولا معدل لي من الاعتراف بأنني لا أزال ذا هيام بزوج صانع العجل الخئون، ولي في ذلك تقدير لنفسي مع ما فيه من ضعف، ومن الجميل ألا يستطيع المرء تغيير حبه كتغيير قمصه، وإن ندر هذا العمل الأخير.»
وقد قضى عاما أو يزيد في بيئة البياتيين أيام تلك الاعترافات الصريحة «بأسلوبه الخاص» وذلك الغرام المذكور آنفا، وقد تعرف بحنة فون بوتكامر قبل موت أبيه بسنة واحدة في الحقيقة، فكان لديه قليل استعداد ليؤثر في طراز عيشه تأثيرا باطنيا إذن، بيد أن آل بلانكنبرغ ما فتئوا يفكرون في الزوجين اللذين لم يكن اجتماعهما في وليمة عرسهم وليد مصادفة، وهذا ما حفزهما إلى دعوة بسمارك وحنة إلى السياحة معهم في جبال الهارز صيفا، ومما لا مراء فيه أنهم لم يكونوا خالين من الرأي في إنقاذ روح أوتو بتزويجه تلك البنت التقية، ومن الرأي في مشاهدتها تتأهل بشريف ملحد، ومما لا ريب فيه أن بلانكنبرغ حدث صديقه عنها قبل أن يجتمع بها، «وهي ذكية إلى الغاية، وهي بارعة في الموسيقى، وهي عذبة موهوبة مبدعة خالصة التقوى، وهي ماهرة في رقصة الدوران مع روعة وبساطة بما لم تقع عيناي على مثله قط، فتعال وانظر! فإذا ما رغبت عنها اتخذتها مثل زوجة ثانية.»
وقد صيغ ذلك الوصف بدهاء مؤثر في بسمارك، وهو في الحقيقة عاطل من الإسراف في التعبير العاطفي الذي يتخذ في الكتابة عادة، ووصف ماري لها فيما كتبته أكثر تعظيما وأشد غرورا؛ فقد قالت: «إنها زهرة عطرة لم يطمثها
5
نسم سام ... ولا شيء أكثر روعة في مظهرها من عينيها وخصل شعرها الطويلة السود، هي تبدو نامية، هي تبدو صريحة القول، هي مليحة، هي مرحة مع كل إنسان، ذكرا كان أو أنثى، هي لا تفرق مثلنا بين المغري وغير المغري، وإن كانت تشعر بذلك، هي فتاة في أعماق نفسها، هي رائقة صافية كالسلسبيل.»
6
والذي يميز حنة من أصدقائها الأتقياء هو ما عليها من مناكدة تمت إلى السخرية بصلة، وهي تدنو بهذا من أصحاب الارتياب، وما كان ذكاؤها وحده ليستهويه بغير ابتكار وإطراب ورقص وحديث طليق مع هذا وذاك، وما كان إيمانها أو ذكاؤها هو الذي يحفزه إلى الزواج بها، بل نضار
7
قلب إنساني جامع لما يعوزه من صفات إنكار الذات، بل قدرتها العاطفية على استيعاب كل أمر تختاره، ولم تكن ابنة صغيرة لديه، وإن كانت دونه سنا بتسع سنين، ودون تجربة بمائة سنة، بل هي رفيقة تدع له أمر القيادة، وترضى بآرائه وتقاسمه همومه وآلامه وهزوءه وازدراءه، وهي تساويه تحديا تقريبا وإن كانت أقل منه عجبا، وهي لينة الجانب في المنزل، وهي شديدة الخصام، وهي منسجمة النغم مع الحشمة، وهي غضوب مثله على الأعداء، ولكن باتزان لا عهد له به.
وفيما يلوح أن حنة تنال حظوة بسرعة في أثناء تلك الرحلة بجبال الهارز، وفيما «يعجب بسمارك بأنسها ودلالها» كان يتبادل الحديث هادئا هو وماري التي هي أنضج وأكبر عقلا وأرق قلبا منها فتلقي ماري نورا على ذلك في مذكرتها بقولها: «هو يحب العزلة، هو ينشد الراحة، هو يحاول كل شيء على غير جدوى.»
فهذا هو استسلام رجل يعرف أن خياره قد يسوقه إلى السعادة، ولكن مع دلالته على الإقلاع والعدول، وبمثل هذه المشاعر يقتحم بسمارك سياج الزواج.
ومع ذلك تبصر نور القمر، وتبصر صفاء، وتبصر مغارة وهامة،
8
وهو يدعو إلى تناول رحيق الشنبانية دوما، وهو يؤدي بدل كل شيء، وهو يقوم بتنظيم كل شيء، ويعود إلى الدار، ويأخذ رسائل من بلانكنبرغ حول هدايته فتؤثر هذه الرسائل فيه فيبدأ بتلاوة التوراة ويحدث عن الرب بتحفظ، ويكتب رسالة حول موضوع حنة فيذكر فيها أنه لا يخاطر بنفسه بعد الآن، وتكتب تلك الرسالة التي أتلفت مع غيرها باللغة اللاتينية، وذلك مداراة للسيدة إذا ما وقعت في يدها.
وتنتشر النزلة الوافدة
9
في بوميرانية فجأة، فيموت بها أخو ماري، وتمرض بها أم ماري فتلزم فراشها، وتمرضها ماري، فتكتب إلى بسمارك ذات ليلة كتابا وديا، تدعوه فيه إلى الحضور بسرعة، وتموت الأم ويأتي، وتدور أحاديث طويلة، وتقام صلوات في المساء، فلا يركع مع الآخرين، ولكنه يبدو كثير الخشوع، ثم تمرض ماري نفسها فتصاب بنوبات إغماء، وترسل إليه وتخبره بأنه أنى
10
له أن يهتدي، وهنالك امرأة أخرى تدعو له وهي تحتضر، ويؤثر في نفسه فيسأل: أفلا يقرر ذلك سيره نهائيا؟ وتلين قناته، ويصلي للمرة الأولى منذ خمس عشرة سنة من أجل شفاء صديقته «غير مفكر في صواب الصلاة».
ويعلم دهشا درجة صحو المحتضرة وصفاء روحها، وهما يعدان الموت بدءا للرحلة قبل الأوان، فلا بد من اللقاء، وتقضي ماري نحبها،
11
فيسقط في يد صديقها الذي أحبها، وما كان ألمه من غير أثرة خالصة، فقد قال:
يعبر حزني الأول عن أثرة عاطفية بسبب ما منيت به من فقد. والحق أن هذه هي المرة الأولى التي أخسر فيها شخصا بالموت، لما ترك ارتحاله من فراغ كبير غير منتظر في حياتي، وفقدان الأبوين من نوع آخر، فما بين الولد والوالدين من صلة فليس صميميا بتلك الدرجة عادة، وما كان من شعور عميق بأنني لن أرى من هي عزيزة علي لازمة لي، وبأنني لن أسمعها فأمر جديد يصعب علي أن أعتقد معه صحة ما حدث فأصدقه.
بسمارك في سنة 1834.
ويرى صديقه الأرمل ثانية فينطق بالكلمات المؤثرة الآتية: «ذلك هو الفؤاد الأول الذي فقدته والذي أعلم أنه كان يخفق بحرارة من أجلي، والآن أومن بالأبدية، وإلا لم يخلق الله العالم!»
وفي هم يساور قلبه وفي حال طبيعية جدا يسير إلى الصلاة ككل إنسان مؤمن أو غير مؤمن، ويصلي حتى في «القطار» كما روى بلانكنبرغ ساخرا، ويتوجه إلى الله على أبسط وجه في العالم وبين الوجد والحداد تلبية لدعوة المحتضرة وصداقة الأحياء، والآن أيضا يأتي بتحفظ على شاكلته، فيترك المرتاب باب الاعتزال مفتوحا، فلم يغب عنه أيام نضجه ذلك الوضوح الخصر
12
الذي فسر به حين كان في السادسة عشرة من سنيه سبب تركه الصلاة وما قاله لصديقه فيثير ارتيابا كبيرا في اعتقاده أن الرب برأ العالم على الرغم مما ذهب إليه سبينوزا.
ويكتب بسمارك من بيته في عشية سفره كتابا إلى صديقه فيلخص له الحادثات، ويصف له ما أورثته إياه من الانطباعات، ويثور صدر الصديق بلانكنبرغ ويبكي، ويقول بصوت عال: «إنك تلقي من السعادة في نفسي ما يعجز القلم عن وصفه!» فتلك التصريحات الطبيعية الصادقة الصادرة بعد محن الأسابيع الأخيرة عن بسمارك المرهف الحس وفق مزاج آل بيته، توحي برغبته في نيل تلك الفتاة التي عاش أبوها خالص التقوى فلم يكن بياتيا فقط، بل كان متصوفا أيضا، وما كان إعرابه عن إيمانه بالله خداعا، بل عن غرور ذاتي - على الأكثر - وما كان له نفع مادي من ذلك الزواج بالحقيقة، وما كان الهوى ليحفزه إلى الاقتران بتلك الفتاة في الحقيقة، فهو قد أرادها لمحيطها الخاص الذي صار مقاما ثانيا له، ويبدو إيمانها غريبا عنه، ويغدو مقبولا لديه مع بعض التحفظات، وبينما ترن في نفسه دعوة امرأة محبوبة لم يملكها قط تتحول مشاعره إلى دعوة امرأة أخرى يجدها أهلا لتكون رفيقة صالحة له فيود أن يتزوجها لهذا السبب.
وتمضي أسابيع قليلة، فيجتمع بها في بيت آل بلانكنبرغ مرة أخرى، فيبدي ما في نفسه ويقبل من فوره، وفيما هو راجع إلى منزله يكتب إلى أبيها من فندق في ستيتن
13
خاطبا لها.
ويدبج ذلك الكتاب يراع سياسي ماهر موهوب بروح ما عليه المرسل إليه من التقوى، ولم يحدث أن أكثر بسمارك من ذكر اسم الله في كتاب إكثاره من ذلك الكتاب وفي الكتاب الآخر الذي أرسله إلى فون بوتكامر، مستعملا تعبيرات إكليريكية غريبة عن أسلوبه العادي، وهو يعرف ضرورة الاعتراف بسابق خطيئاته وجحوده ليعتقد إيمانه الحاضر، وعلى صحة جميع ما صرح به وفق في صوغه توفيقا جالبا للنجاح؛ كالاتهام الذي كان قد صوب إلى مدير الأسداد الأخير، وهو إذا ما تكلم فيه عن الرب فبتواضع، ومن قوله: «إن الله لم يستجب دعائي هنالك، وهو لم يتركني مع ذلك؛ وذلك لما أجده من نشاط في دعوته، وإني إذا خلوت من راحة البال وجدت في نفسي من الثقة والإقدام ما لا عهد لي به منذ طويل زمن، وإني أعتقد أن الله مع الصالحين لسبب ما عرضته عليك دون غيرك بصراحة وصدق.»
وهو إذا حدث عن نفسه كان ذلك بإباء. ومن ذلك قوله: «إنني أعتذر عن مشاعري ونياتي في أمر الآنسة ابنتكم؛ وذلك لأن الخطوة التي أتخذها تنطق بصوت أعلى من الكلام وأبلغ، وأعتذر عن العهود أيضا، فلن أقطع لكم عهدا لما تعلمونه من تقلب قلب الإنسان ما لا أعلم، ويقوم ضماني لسعادة الآنسة ابنتكم على صلاتي نيلا لبركة الرب.»
ويأبى الأب العابد أن يهب ابنته لرجل «سمع عنه كبير سوء وقليل خير»، ويأخذ بسمارك الجواب الطليق غير المرتبط في وعد فيتخذ خطة الهجوم فيظهر في رينفيلد من فوره فيجد «ميلا إلى إطالة المفاوضات وعدم وقفها عند حد. ومن يدري ماذا تكون وجهتهم لو لم أقبل خطيبتي لدى نظرتها الأولى فيدهش والداها، ولو لم أضع الأمور في نصاب آخر فأمهد كل شيء تمهيدا موفقا.» وهنا يتجلى بسمارك الحقيقي، وما كان من تنفيذ هذا القطب السياسي ما أعده وفكر فيه زمنا طويلا تنفيذا سريعا جريئا فقد ظل لازمته العجيبة دوما.
والآن يلقي إلى أولئك الآل بما لديه من المودة، فيتغلب عليهم من فوره، ويشرب خمر الشنبانية ورحيق الهوك الريني مع الشيخ الشريف، ويرقص مع خطيبته على حين يعزف الهرفون بوتكامر على البيان، حتى إن الأم نفسها على ما فيها من عسر مراس وسمو ثقافة لم تعتم أن «شملت ذلك الملحد الملتحي بصميم فؤادها»، وهو الذي كان مرسلا لحيته الشقراء في ذلك الحين.
ولا جرم أن محادثات طويلة دارت بين الخطيب والخطيبة في أمور الدين، غير أن ما اتصفت به من سذاجة طبيعية أوجبت انطلاقه من حس الكبت الذي كان يضغطه عند أسرة بلانكنبرغ، وهو قد سر من قولها له باسمة: «أطلقك ما لم تنل فضل الله، أو لا أدعك على الأقل تنظر خلسة من ثقب باب رحمته!» وما كان من استعارتها كلمة «ثقب الباب» فأصوب ما قصدت، وهي لم تعرف ما كتب أوتو إلى أخيه يقول له:
يختلف كل منا عن صاحبه قليلا في أمور الدين فيورثها هذا أسفا أكثر مما يورثني، وليس ذلك الاختلاف من العظم ما قد تتوهم؛ فقد أوجب كثير من الحوادث الخارجية والداخلية مؤخرا في تبديلا أحسب به بين أنصار الدين النصراني خلافا لما سلف كما تعلم، وعلى ما ليس بيني وبين المظهر النصراني من عدم مطابقة تامة في بعض المبادئ التي يعدها النصارى أساسية على ما يحتمل تبصر ضربا من معاهدة باسو
14
بيني وبين حنة، وأحب البياتية في النساء مع ذلك. وأزدري اللائي يبدين عرفانا.
وهل يحتاج إلى ما هو أصرح من ذلك؟ ومن خلال تفوهاته نرى ذوق العليم بالمرأة وصدى تجاربه للقلب النسوي وحقده القديم على أمه، وهو لو بلغ ضفة الأردن الأخرى لكان على الجسر السريع الانكسار، وهو يعبر عن جميع تاريخ «هدايته» بمعاهدة باسو؛ أي بالتسامح المتقابل بين المتحاربين الدينيين، وهو إذ تروقه بياتية النساء تجده مسرورا لقول امرأته بهذا المذهب.
وترى وضعه العام وضع رجل دنيوي تجاه خطبته، ولا تجد غير قليل حديث عن الله فيما يكتبه إلى أخيه وأخته، وتجد طويل قول عن فارس شارد، وتبصره لينا عن كبرياء، ويهرول إلى المنزل بعد أن طاف كثيرا، فيقول: «أظنني عظيم السعادة أكثر مما كنت أرجو، وذلك بأن أتزوج مع اعتدال في القول بامرأة ذات ذكاء عزيز ونبل نادر وأنس متناه ويسر حياة؛ أي ذات صفات لم أرها في أية امرأة قط ... وغاية القول أنني راض عن الأمر إلى الغاية، فأتمنى أن تجدوا فيه ما يسركم أيضا.» وإذا ما نظر إلى أمر المال كان ما تحضر منه قليلا، فلا بد من نيله بنفسه إذن، ومن قوله: «وأما التفصيلات الأخرى، كحيرة الأهالي التي لا حد لها وتبرم العجائز، فمما أقصه عليك فمي إلى فيك، وأما الآن فأطلب إليك وإلى أوسكار أن تكونا ذوي مشاعر كريمة نحو زوجتي القادمة، وتقرب رينفيلد من حدود بولونية، ويسمع الإنسان عواء الذئاب ونباح الأهالي في كل ليلة، وفي هذه الولاية وفي الولايات الست المجاورة يسكن ثمانمائة شخص في كل فرسخ مربع، والبولونية هي اللغة التي يتكلم بها القوم هنا، والبلد جميل جدا.» ولا يبعد عقاره غير بضع ساعات من هنالك.
وله في دهش بنات عمه الكثيرات تسلية لنفسه، وقد شق عليهن جهلهن ما يحدث، وهو لما كان من صبوته
15
غير مرة ومن كثرة أسفاره اتفقن على القول: «وي! نحن راغبات عنه، ولكنه ممتاز إلى الغاية حقا.» ويذعر أصدقاؤه من انقلابه إلى «تقي»، فلم يزعجه ذلك، ويدرس التوراة بحرارة في تلك الأسابيع الأولى حين عزمه على الاعتقاد، ولكن مع تأثره بإلحاده الذاتي، وينبئ بلانكنبرغ المهدي الهادي بأنه لا يعرف أن يسوع ابن لله أو أنه رجل رباني فقط، وبأنه يشك في الخطيئة الأصلية، وبأن في التوراة من المتناقضات ما لم يصل معه إلى نتيجة بعد، ويعرب عن إعجابه بالشيطان في كتاب له، فيستحوذ الفزع على حنة.
الفصل الثامن
ويقضي دور الخطبة في تربية المختارة، ولم يحدث في اللغة الألمانية أن كتب رجل دنيوي أو شاعر إلى امرأة ما هو أشد من ذلك سحرا وأعظم بهرا، ولم يحدث أن كتب بسمارك مثل ذلك مرة أخرى، وتبديه تلك الرسائل المملوءة فتنة في الذروة من خاطره ودريه، ومن نزواته ومجازاته، ومن دقته ورقته، وتقودها يد سديدة إلى دربه رويدا رويدا، وفيما تراه يقيت تقواها بعنصر جديد، وفيما هو يدعها تعتقد أنها تروض رجلا بريا، تبصره يروض ابنة الريف تلك التي هي أجفى منه وأحدث كثيرا في الواقع، ويبلغ هذا التحول من الغرابة ما تكتب معه ذات يوم إلى السيد المفتون بقولها: «إنك مغرم بالرسميات، مع أنني أود اقتحام جميع العوائق عند إمكان ذلك.»
ويساورها قليل وجل من إزعاجه في أول الأمر، وتكتب فتقول: «لا تنظر إلي بهذا المقدار من السخرية، ولم يبق علي إلا أن أمس قليلا حتى تذرف عيناي نهرا من الدموع، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، فليس ذلك ما تبتغيه مني، آه! اعف عني، أنت الوحيد، اصبر علي، انتظر فصل الربيع ونتائج ما زرعت.» ثم تذكر من فورها ما قيل عن إرعاده للناس فتقول: «أنتظر منك أن تظهر لي ما في قلبك من وفاء، وماذا يكون لو خدعت نفسي؟ إن الريبة هي أخوف ما يكون في هذا العالم ... يدلني خط رسائلك على أنك غدوت أكثر اتباعا لهواك مما تدل عليه كتبك السابقة، فهل هذا هو أمر فؤادك يا أوتو؟» ثم تجيب عن سؤالها هذا بأسلوب نسوي فتقول: «لا تبال بكون الأمر على هذا المنوال، فلن أكون أقل مرونة مما كنت عليه يا حبيبي، وسأحاول أن أثني ما لا أقدر على كسره، وإذا لم يتم لي هذا فلم تسلك سبيلي التزمت جانب الصمت وصنعت ما تريد.» وهكذا استطاع في أربعة أشهر أن يحملها على التسليم التام بحزم ممزوج بلطف، وهي إذا ما فرضت عليه مطالعة كتب جان بول ولبس معطف من مخمل - ويكره الأمرين - قرنت ذلك بكلمة «لا» المعهودة.
وهو يبدو كثير الحمد لها؛ لما كان من تسليمها، وهو يظهر عظيم الشكر لها لما كان من بقائه معتزلا زمنا طويلا، وهو على ما كان من اكتشافه في نفسه قبل خطبته ما يحتاج إليه العيش النشيط المنظم من شروط لازمة، وعلى ما كان من تجلي خطته قبل خطبته بسنة، تبصره قد بسط هذه التحولات على حسابها وزاد عزتها بفوزه.
ويقصد منزله بعد خطبته فيكتب قوله: «دخلت القرية فشعرت أكثر من قبل بمقدار ما في وجود مسكن للإنسان من بهجة، ولا تكادين تقدرين يا فؤادي درجة ما يساورني من اليأس عندما كنت أعود إلى منزلي بعد سياحة، وما كان الفراغ في حياتي ليظهر في زمن مثل ظهوره في تلك الأحايين، وذلك إلى أن أنهمك في كتاب لا يكون كئيبا في نظري، أو إلى أن أزاول عملي اليومي آليا. والآن ما أشد اختلاف نظري إلى أي شيء كان، لا من حيث الأمور الخاصة بك فقط، ولا من حيث إن هذا الأمر أو ذلك الأمر يلائمك فقط (وإن كنت قد شغلت بالي منذ يومين لأجد أصلح مكان لمكتبك)، بل لجدة الوجه الذي أدرك به الحياة، وأجدني مباليا أيضا بشئون الأسداد والأمن.» وهو قبل أن يحقق ما يصنع، ينسخ لها قصيدتين قائمتين لبيرون، (وإن لم تكونا كذلك في نظره) طويلتين محزنتين إلى الغاية، ويكتب في أسفلهما كلمة «هراء!» ويرسلهما إليها من غير أن يمحوهما مع ذلك.
وفي كتابه الثاني يبدأ تربيتها بلطف، فيوجب عليها أن تكب على تعلم اللغة الفرنسية، وإن لم تفعل ذلك عطلت من المقام في المجتمع الراقي، وهو يضع أجمل الصيغ وأكثرها سحرا مع الجهر بذلك، ويمضي وقت قصير فيخبرها بضرورة تعلمها ركوب الخيل، وتمر أسابيع قليلة فيقول: «عدت غير مبال بتلك القصائد الإنكليزية الهزيلة، والآن أبصر سنورا
1
أسود يلعب بها على ضوء الشمس، فيدحرجها ككرة، فيسرني أن أرى ذلك.» بيد أنه يداوم على نسخ ما تيسر من شعر بايرون فيرسله إليها، وفي الكتاب التالي يرسل إليها قصائد فرنسية عن الألم العام، ويضيف - مع وهم عجيب - الكلمة: «لا تشغلي بالك بأنني أقرأها الآن، فقد غدت غير مؤذية لي.»
ويستشهد بإحدى تلك القصائد ذات مرة فيطلق العنان لخيال أيامه الأولى فيقول: «أجدني شديد الرغبة - في مثل تلك الليلة - أن أكون شريكا في السرور وجزءا من زوبعة في عتمة، فأثب من فوق الصخور مع حصاني القافز في دوي انحدار نهر الرين»، وما كادت الفتاة تدرك مذعورة معنى كلمات خطيبها تلك، وما كادت تفهم ذكريات فتائه الفالت تلك، فوجدته كفارس يقف حصانه الوثاب عند صخرة، حتى أبصرته يقلب حالته الروحية بإضافته من خلال دخان سيغاره ساخرا، قوله: «إن لهوا كهذا مما لا يسمح به غير مرة واحدة في عمر المرء، مع الأسف.»
وهكذا كان قلب أوتوفون بسمارك مملوءا بالمتناقضات.
وكان فؤاد بسمارك يروق عندما يصف أفعاله الراهنة، ولا تدور هذه الأفعال حول إدارة ما يملك، بل حول الأسداد والسلطان، وما مثله إلا كمثل القابلة
2
التي تنتظر الوضع دوما، فيحدث في رسائله عن اضطراب نهر الإلبة، وعن التدابير التي تتخذ للسيطرة على الجمد،
3
وهو إذا ما قضى نصف لياليه في الماء لإصدار ما يجب من الأوامر؛ شعر بأنه في حبر،
4
ويحس بسمارك أنه في عافية على الدوام إذا ما عالج قوى الطبيعة الكبرى، ويقول بسمارك: «وداعا! قطع الجليد تدعوني عندما أعزف بنشيد بابنهايم وتغني جوقة الفلاحين الراكبين حصنا؛ فالشجاعة يا أصحاب! ولم لا ينشد هؤلاء الأغبياء في الحقيقة؟ فيا لروعة هذا! ويا لشعرية هذا! يظهر أن حياة جديدة تهتز في، والآن قد انتهى ذلك الانتظار الطويل وحل الأمر محله ... خادمك بسمارك يقبلك.» يا للهزج!
5
يا لبهجة الحياة! ثم يأتي في الذيل: «إذن، أرسلي إلي غلاف الرسالة التي وصلت إليك بعد خمسة أيام في الطريق، فسوف أشكو الأمر إلى برلين.» ثم يقص عليها نبأ الليلة الحاسمة فيخبرها بسير حقول الجليد مع ضوضاء، «وتتكسر هذه الكتل الجليدية ويشبو
6
بعضها على بعض وتجول وتصول على ارتفاع القصر، وهي تؤلف أحيانا حواجز على طول نهر الإلبة فتتجمع المياه حتى تأتي على كل شيء أمامها هائجة، والآن قد كسر جميع المردة إربا إربا في النضال فتبصرين الماء مستورا بأجزاء جليدية صغيرة عائمة متصادمة حانقة على حين يحملها النهر إلى البحر الحر كسلاسل محطمة.»
ومن خلال مثل تلك البلايا الطبيعية، التي لم تكن في الحقيقة غير تأملات لحال بسمارك النفسية، نسمع بسمارك الثوري ينادي بوغي
7
الحرب، وندرك السبب في أن نسبه وحده هو الذي جعل منه نصيرا للنظام الملكي.
وتبصر بسمارك القوي المملوء حيوية، كما في ساعات النضال تلك التي تهدد فيها الأوساط فيفرض إرادته عليها، لا يزيد نشاطا إلا عند قدرته كسياسي حكيم على تحويل الخصام إلى وئام، ومن قوله بحماسة:
إن من أعز دواعي الغبطة ما كان في هذا الصباح من توفيقي بين واحد وأربعين فلاحا وقحا يحقد كل واحد منهم على الأربعين الآخرين فيدفع مختارا ثلاثين تاليرا إذا ما استطاع أن يخسرهم عشرة تاليرات، ولو كان مدير الأسداد السابق في مكاني لسوف الأمر أكثر من أربع سنوات؛ لما قد يجده في ذلك من بقرة حلوب. لقد استطعت أن أصلح ذات بينهم في أربع ساعات، ولما صارت الوثيقة الممضاة في جيبي ركبت العربة فكان لي بذلك من السرور النادر ما أجدني مدينا به لمقامي الرسمي. وقد دلني هذا الحادث مرة أخرى على أن اللذة الحقيقية في المنصب الرسمي لا يمكن أن تنال إلا إذا اتصل الرئيس بالمرءوسين اتصالا شخصيا، والرئيس أو الوزير عندنا لا يتصل بمن هم تحت إمرته إلا بالحبر والورق.
وإني حين أفكر فيما يمكن رئيس الأمة مهما بلغ من السمو والسؤدد أن يزيده من سعادة ويخففه من بؤس بفضل نشاطه الرسمي، وإني حين أفكر في أن الوزير أو الملك (ما لم يكن ضالا مجنونا) لا يستطيع أن يغمض عينيه عن يقين بأن وقى أي واحد ممن هم تحت رعايته من كدر أو حباه بسرور، لا أقدر على منع نفسي من إنعام النظر في قصيدة لينو
8
المحزنة المسماة ب «الخلي». وليست حياتنا الدنيوية مجدية إلا من أجل أرواحنا. وإذا ما قيس إمتاع الآخرين بالسعادة فوق الأرض بالحياة الأبدية وجد أمرا لا يؤبه له، فهو ينقلب إلى غبار وتراب بعد ثلاثين عاما، ثم تعصف به ألوف السنين، ومن يمت الآن لا يبال بأن حياته في هذا العالم كانت ذات بهجة أو غم.
وها هو ذا جالس في عربته حامل لمحضره في فروته، ويبلغ السنة الثانية والثلاثين من عمره، ويفترض أن يكون راضيا عن نفسه وعن العالم للمرة الأولى في حياته، ويفكر في الفلاحين الواحد والأربعين، وفي سبب تصارعهم وتباغضهم، وفي الوجه الذي قلب به أمورهم فجعل الوفاق يسودهم، ويتمثل أمر الدول والأمم بدلا من الفلاحين، ويتأمل فيما قد يشعر به القطب السياسي - الوزير أو الملك - الذي يصنع على مقياس واسع ما استطاع صنعه بنفسه في هذا الصباح على مقياس محدود، ويبصر من جديد النظام القرطاسي الكريه الذي يفسد نظر كل بروسي، ويذعر من رغبته الحارة في السلطان، ويحمل نفسه على نطاقه الضيق، ويسخر من سرور البشر ويقصد هادئا باب أجداده.
ويوفق لكبير وقت في بيته، ويقضي هذا الوقت في كتابة طويل الرسائل إلى حنة فيعرض عليها آراءه ومشاعره وريبه محاولا في حياته الباكرة تلك صنع ما يروقها، ويخبرها بما كان من تبادله الكتب هو وابنة عمه التي هي سمية لها فكان يحبها قبلها، وترتجف مع دهش من إمكان حب الرجل مرتين بمثل تلك الشدة، وينبئها بأمر الكتاب الطويل الذي أرسله إلى ابنة عمه تلك عندما ترك خدمة الدولة، ويضيف إلى ذلك قوله لها بعد فترة السنوات العشر تلك: «لا أزال عند رأيي الذي كنت قد أبديته حول عقم نظامنا الإداري، وإذا أصاب رفقائي في الدراسة تقدما باهرا شعرت متوجعا - أحيانا - بأنني كنت أستطيع أن أفوز بمثل ما نالوه، غير أن لي سلوانا بتفكيري دوما في أن بحث الإنسان عن السعادة خارج نفسه أمر باطل.» وفيما هو يكتب ذلك عن صدق وإخلاص تجده يندفع بحرارة في سبيل انتخابه عضوا في اللندتاغ، وتراه لا يألو جهدا في اختياره عمدة للناحية.
وهو يداري ريبها ومشاعرها بأسلوب أبوي سام سلس فيقول لها: «ولم تودين البكاء بهذه المرارة يا ملاكي؟ ولكن بلغيني السبب في أنك تريدين تذريف الدموع، وأنا رجل من المارش القديم، وأنا امرؤ يرغب في معرفة علل الأمور، وأنا الذي ربي في بوميرانية فيما بين السنة الثانية والسنة السابعة عشرة من عمره فيدرك الدعابة ببطوء أحيانا.»
وهي إذا ما كتبت بعد زيارته رسالة مملوءة شوقا إليه أجابها بقوله: «يجب أن تتعلمي الشكر لما تم لك من السرور، لا البكاء كالطفل عند ختامه.» وهكذا تبصر هذا الساخط الأزلي يوصي تلك الفتاة المتقدة بما لا عهد له به من الحبور الذاتي، وهي إذا ما بهرت بوجود عباد لها جرحته في كبريائه، وهي تزدري - كما يروي - كل من لا يعرف قيمتها، فتقول له: «سيدي! إن ولوع السيد ب... بي دليل على أن كل رجل لا يعبدني هو جليف غير حصيف ... ولا تكن من الاعتدال كما لو كنت قد اقتطفت إحدى شقائق النعمان بعد طواف عشر سنين في حدائق ألمانية الشمالية.» وما كان من زهو فطري في السيد بسمارك الذي لم يصنع شيئا لإثبات قيمته حتى الآن فإنه يحفزه إلى جعل المرأة التي اختارها أزهى نساء العالم طرا
9
لهذا الاختيار وحده.
ويتلو التوراة كثيرا في الوقت الحاضر، فيذكر ذلك، ويبدو وضعه تجاه الزواج على الوجه اللوثري تماما، فيقول دوما: «علينا أن نكون قلبا واحدا وقالبا واحدا، وأن نألم معا، ونعرب عن أفكارنا معا، فلا تكتمي شيئا عني، ولا يكون السرور حليفك في كل وقت عند مس أشواكي. وعلينا أن نرضى بخدش أيدينا بها سوية ولو دميت.»
ويصف لها وصفا واضحا أمر قديم أسر الخدم والعمال في أملاكه، ويحدثها عن خدمة أجدادهم لأجداده، فيقول لها: «يصعب علي أن أسرح أي واحد منهم بعد أن يخدمني، ولا أنكر أنني فخور بثباتي على المبدأ المحافظ في هذا البيت حيث عاش أجدادي في غرفه منذ قرون، وحيث ولدوا وحيث ماتوا، وحيث تبدو صورهم على جدره وجدر الكنيسة فيظهرون فيها مدججين بالسلاح، ومنهم الفرسان الطويلو الشعر أيام حرب الثلاثين سنة مع لحى وشوارب مذربة
10
ومنهم رجال ذوو شعور مستعارة مذيلة وأحذية حمر مكعبة ذوات جرس
11
في المجلس، ومنهم خيالة ذوو صفائر قد حاربوا من أجل فردريك الأكبر، وفي الختام تبصرين أنيثا
12
سليلا لأولئك فيركع الآن عند قدمي فتاة سوداء الشعر.»
وعكس اهتداء بسمارك هو الذي يقف نظر بسمارك مرة أخرى، ويقرر هذا النصراني الجديد أن يعنى بالفقراء في أملاكه أكثر من قبل، فيقول: «إنني حين أفكر في كفاية تالير واحد لعيش الأسرة الواحدة من هذه الأسر الجائعة عدة أسابيع، وإنني حين أنفق ثلاثين تاليرا في سبيل زيارتك أجدني سارقا لهؤلاء الفقراء الذين يعانون ألم السغب
13
والبرد، أجل، يمكنني أن أدفع المبلغ وأقوم برحلتي مع ذلك، غير أن هذا لا يغير من الأمر شيئا، فمضاعفة ذلك المبلغ وجعله عشرة أمثاله مما لا يسكن سوى قليل من البؤس، وما علي إلا أن أهدئ نفسي بأن أغالطها فأرى أن ما أبذله ليس تبذيرا في سبيل لذاذي، بل هو واجب أؤديه نحو خطيبتي ... والفقراء هم الذين يجب أن تدفع إليهم نفقات أسفاري مع ذلك، ومن عويص المسائل أن أعرف ماذا أنفقه في لذاذتي مما جعله الله تحت حراستي مع وجود أناس يتضورون جوعا ويقاسون قرا
14
في كنفي فيرهنون فراشهم وثيابهم عند عجزهم عن العمل، «فبع ما تملك ووزعه بين الفقراء واتبعني!» ولكن ما هو المدى الذي يؤدي إليه ذلك ألا إن الفقراء كثير، فلا تكفي جميع خزائن الملك لإطعامهم، وسنرى ما يكون.»
وفي تلك الحال حين رأى بسمارك أن يختبر إيمانه الحديث، تجده يقتحم للمرة الأولى (وللمرة الأخيرة مع مشاعر بلغت تلك الدرجة من الروح النصرانية) مسألة ينكرها ذات يوم إنكارا تاما لما يكون من قصوره عن إدراكه لها، والحق أن تصوفه هزل غير ملائم لذكائه، وما يصفه بسمارك مذعورا من سرق نحو الجائعين، وما كان من تردده في التمتع بالملاذ المناسبة لمن هم في مثل وضعه ولو لبضع دقائق (تلك الملاذ التي يتمتع بها لما كان من انتهاب أجداده الفرسان المعلقة صورهم على الجدر للأسلاب)، فأمور جديدة عليه، فأمور غريبة عن مزاجه، فأمور عابرة لغربها، ومما لا مراء فيه أن بسمارك المالك راغب في العناية بمرءوسيه، بيد أن مما لا يدور في خلده ولا يأذن فيه أن يبحث هؤلاء الناس في شئون أنفسهم وأن يطالبوا بعيش أفضل مما هم عليه وفق مرسوم؛ وذلك لأن بسمارك لم يغد نصرانيا صادقا في الحقيقة فيطلب منه أن ينتقل إلى تلك المرحلة فتجده غير قادر على النفوذ إلى رسالة عصره الاجتماعية أو القول بها.
وبسمارك إذ يجاهد خطيبته أكثر من أن يجاهد نفسه في سبيل التوراة والاعتقاد؛ فإنك تجده اليوم عاطفيا وتجده في الغد هزليا، وبسمارك يمسكنا دوما، وبسمارك في ذلك مخلص دوما، وبسمارك يفسر وينقد التوراة ثم يصرخ من فوره قائلا: «ومن هي العفريتة بولين؟ أهي ابنة عم لم أعرفها سابقا؟ وإني بسبب هذه العفريتة أذكر أنني لا أستطيع أن أجد في التوراة نصا على حظر تدنيس اسم الشيطان، فإذا كنت تعرفين ذلك فتفضلي علي ببيان الإصحاح والآية.» والواقع أنك ترى الفارس والموت والعفريت يتناوبون هنالك، وهو يروي أن أجداده لم يكونوا صادقي النصرانية، «ولم تكن أمي أحسن منهم إيمانا، وهل أتاك حديث الرئيس الفريزي
15
حين عماده؟» ويسأل عن مكان أجداده الملحدين فيما مضى. ويقال له: إنهم كانوا مدينين فيرفض تعميده، ويقول: «أود أن أكون حيث يكون آبائي.» ويمضي شجاعا بعد تلك الوثنية، فيقول: «أذكر ذلك من الناحية التاريخية فلا أطبقه.» وهو يعلق على ذلك كثيرا من التأملات اليائسة، فيقول: «لا أريد أن أنطق بالريب.» وهو بعد مثل تلك العبارة يقدر ضرورة وصول رسائله قبل الميعاد بيوم.
وهو خرافي بفطرته، فتحركه الخرافة أكثر من تحريك الاعتقاد الديني له، فيحسب في جميع أدوار حياته - حتى في أثناء شيبته - الزمن الذي يجب أن يموت فيه، وهو كرجل سياسي يذكر الرقم فيضع الله أمام دليل ذي حدين، فيقول: «إنني إذا لم أمت في السنوات (س) مت في السنوات (و).» أو يقول في كتاب إلى خطيبته: «لا تكادين تعرفين مقدار خرافيتي، فمما حدث أن الساعة الكبرى - الدقاقة الإنكليزية التي ابتاعها جدي في شبابه - وقفت بغتة ومن غير سبب في الدقيقة الثالثة بعد الساعة السادسة، وذلك في المكان الذي كانت فيه منذ سبعين سنة. اكتبي إلي بسرعة واذكري أنك تتمتعين بصحة جيدة.»
ويكون هدير كيانه أوضح من ذلك عندما يدون نجاواه
16
الطويلة في يوميات بلا شروح، فهنالك يستعمل أعظم ما في كلامه الرجولي من استعارات، «وذلك من مميزات الطبيعة البشرية لا ريب. فالذي يكترث لما يسود حياتنا الدنيا من سخف ولغو وغم يكون أكثر انتباها من الذي يمس ما هو أقل قوة من تلك العناصر العابرة الثائرة فينا بفعل ما للصفو غير المكدر من أزهار سهلة الذبول، وما على الأرض من جليل، تراه أبدا كملك ساقط جميل مع عدم صلح عظيم في مقاصده وجهوده مع عدم نجح حمي شجي.»
وهكذا تنعكس تأملاته الكبرى - وفي مثل تلك الأمسية - حين يجلس وحيدا في ردهة ذات قباب عالية يتدفق مثل تلك العبارات من أعماق نفسه بأسلوب عظيم كاعتراف شاعر، ولكن الصباح إذا لاح وبلغته دعوة النهار وأنذرته الدنيا وما فيها من صراع، هب ذلك الفارس من سباته،
17
والآن يتكلم عن شعر بايرون القاتم في الحسرة والألم، فيقول: «إنه شعر مخنث يمكنني أن أعارضه بأغنية الفارس: «اطلب الموت توهب لك الحياة»، وأفسر هذا بقولي: توكل على الله، وضع الركاب على طرفي جوادك النزق، وجب به البلاد مخاطرا غير هياب عالما بأن الموت آت ذات يوم وإن لم يكن أبديا. ولكن مع عدم مشاركتي للسيد غم.»
الفصل التاسع
جواد في إصطبل يسمع عدوا في الخارج فيود أن يثب ليجري
1
هو أيضا، فذلك هو شأن بسمارك عندما علم أن ملك بروسية يريد أن يجمع في برلين مجالس ولاياته الثمانية المعروفة باللندتاغ في مجلس عام واحد؛ وذلك للبحث في الدستور الذي وعد أبوه به الشعب بعد حرب الإنقاذ، وقد كان هذا أول برلمان حقيقي في تاريخ ألمانية، وبذلك الأمر القائل بتحويل بروسية إلى «دولة ذات دستور حر» سير نحو تحقيق رغائب فتاء بسمارك الغطريس بعد أن كان عطلها من مثل هذا الدستور يؤدي إلى رفضه كل خدمة عامة أيام بلوغه الثالثة والعشرين من سنيه، والآن في ذلك الحين الحاسم ليس له أن يشترك، فهو لا بد له من كرسي وصوت في مغدبرغ حتى يصبح ذا مقعد في اللندتاغ الموحد ببرلين، وهذا المطمح هو الذي حفزه أكثر من سواه إلى إبدائه عظيم نشاط في مجلس أشراف ولاية بوميرانية المعروف بالريترشافت، غير أن زملاءه في هذا المجلس لم يختاروا هذا الشريف السكسوني الشاب إلا نائبا رديفا يقوم بالنيابة عند خلو كرسي.
ويطالع بسمارك في منزله بشونهاوزن - كل يوم - أنباء اجتماع ممثلي بروسية للمرة الأولى في مجلس أهلي بين حماسة القوم، ويساور دماغه وفؤاده دافع إلى العمل، ومن المؤسف أن كان الأكبر منه سنا في برلين هنالك يتمتعون بصحة جيدة فيحولوا دون أخذه مكانه تحت الشمس، وما عليه إلا أن يزحزح أحدهم عن محله وصولا إلى بغيته، ويزعم أن البارون الذي انتخب للرئاسة الأولى لا يستطيع أن يجلس نائبا لهذا الانتخاب فيحتج على بقائه نائبا لدى أصدقائه ببرلين، ويرفع هؤلاء أكتافهم تهكما، ويسألونه عن سبب مغادرته بوميرانية، ويزيد حقده، ويذهب مغاضبا إلى خطيبته، ويتنادر حول الأمر مصرحا بعدوله عنه من فوره.
وأخيرا يمرض أحد فرسان سكسونية في برلين، ويحثه أصدقاء بسمارك على التخلي عن مكانه لهذا حتى عند تحسن صحته، ولا جرم أن بسمارك ذو ضلع في هذا اللعب؛ وذلك لما كان من إعلانه «شديد رغبته في أن يغدو عضوا في اللندتاغ»، ويهرع بسمارك إلى برلين ويدخل قاعة المجلس، وحدث ذلك في سنة 1847 حين كان أوتوفون بسمارك في السنة الثانية والثلاثين من عمره.
ويبصر بسمارك جميع الولايات من الرين حتى ميمل ممثلة هنالك، فيجد في ذلك رمزا إلى الوحدة البروسية، بيد أن الذي يساور أحسن الرءوس في تلك الردهة هو الخيال الألماني لا الخيال البروسي؛ وذلك لأن كل لبيب ينظر إلى المستقبل كان في تلك الأيام حرا في مشاعره مملوءا شوقا إلى الوحدة الألمانية، ويستحوذ مبدأ الوحدة الألمانية على الملك مع سابق مقت أبيه لهذا المبدأ، ويبدو الشعب وأكثرية المجلس الشاملة نصراء الملك في ذلك على حين ترى أنصار العرش الأوفياء ليسوا غير ذوي مشاعر بروسية، وفي ذلك المجلس المؤلف من خمسمائة عضو لا ترى سوى سبعين محافظا، وهؤلاء المحافظون السبعون غير قائلين بالوحدة الألمانية .
ويشعر بسمارك بأنه منفرد؛ فقد كان مركزه الاجتماعي يرغبه في الانحياز إلى الملك، وكانت مشاعره الشخصية منذ صباه تحفزه إلى معارضة الأحرار فيوجب كلا الأمرين عدم تعاونه مع أي واحد من الحزبين، وتبلغ عناصر مزاجه الأساسية - أي الزهو والشجاعة والحقد - درجة الهيجان، ويبحث في الجلسة الثالثة في مسألة إنشاء مصرف للفلاحين مع ضمان الدولة، ويرفض المحافظون اللائحة، ويطلب بسمارك أن يتكلم للمرة الأولى فيدافع باختصار عن الحكومة ضد حزب اليمين، ويدافع عن حزب اليمين ضد الأحرار، وتنطوي خطبته الأولى تلك على هجوم؛ أي تنطوي على مهاجمة الاتجاهين. ويكتب إلى خطيبته متكبرا متأثرا قوله: «إن من الغريب أن يرى ما يبديه الخطباء من إقدام إذا ما قيس بأهلياتهم، وأن يرى ما يظهرونه من قحة في محاولتهم فرض ترهاتهم على مجلس كبير كذلك المجلس. ألا إن الأمر يثيرني أكثر مما كنت أنتظر.» ثم يتكلم عن «ذلك الهياج السياسي الذي يضغطني أكثر مما كنت أتوقع».
ولم يحدث في حال حتى في حال لواعج الحب أن أعرض بسمارك عن ارتيابه إعراضه في تلك الحال، ولم يحدث أن أثار بسمارك أناس أو آراء إثارته بذلك المقدار، ولم بلغ بسمارك من الهيجان ذلك الحد في ذلك اليوم؟ لم تكن تلك المناقشة سبب ذلك ما دام لا يبالي بالفلاحين أبدا، وكذلك أمر بروسية وأمر ألمانية مما لا يقض عليه مضاجعه، وإنما الذي أهمه هو ميدان المباراة، هو معترك أفخم الأساليب، وفي الصباح يقصد اللندتاغ ويكتب إلى خطيبته غير مرة، ومن غير سخرية، قوله «يجب أن أذهب إلى الصراع.»
وكان اعتزازه يتجلى في ازدرائه للناس حتى ذلك الوقت، وذلك في بضع رسائل ساخرة وفي قليل مبارزات على الأكثر، ولم يكن هنالك أي ترجيع، ويظل نشاطه الحي وشجاعته ومهارته بغير حافز إلى المنافسة، وتظل غريزة بسمارك المنافحة المكافحة بغير تغذية لعزوفه
2
عن المنصب ترفعا وزهده في الجندية حرية، ولكونه سيد بعض الفلاحين ولسيطرته على بيئة يسهل التغلب عليها، والآن بعد حين يجد المنبر الذي يناضل من فوقه شفاء لما يغلي في صدره من حقد على الرجال وزمر الرجال، ورغبة في قهرهم، لا انتصارا لمبادئ وأفكار، ولا تحقيقا لخطط تهدف إلى إصلاح اقتصادي أو سياسي، فتمثيل الأمة عنده يعني امتشاق
3
الحسام.
وفي الجلسة الرابعة ينطق بأول خطبة طويلة، ويصفه شاهد عيان بأنه «رجل في الثلاثين من عمره طويل القامة قوي البنية ذو رأس موثق بعنق متين قصير فوق كتفين عريضتين، وذو وجه ممتاز مع عدم دقة، متحرك مع عدم بلادة، رصين مع عدم شدة، وذو محيا نضير مستدير مزين بلحية شقراء غير عاطل من ندوب
4
نسيبة طافح حياة وصحة لحيم
5
الأسفل، وذو تبسم ينم على التهكم، وذو أنف قليل الاطمئنان
6
غير جميل التكوين، وذو عينين لامعتين حادتين ماكرتين يعلوهما حاجبان أوطفان،
7
وذو جبين سوي رسي
8
عريض، وما يوحي به من أثر في أنه يود طيب العيش فيضفو عليه ما يشعر به من ثقة أدبية وعزم صارم.» حتى إن هذا الوصف إذا ما أصلح بتاريخ بسمارك اللاحق عن عمله السياسي ظل مؤثرا، وهو لم يغفل عن غير أمر خاص عامل في نفوس من سمعوه منذ الأيام الأولى وفي غضون السنين القادمة، وهو أن صوت هذا العملاق كان نحيفا ضعيفا مع لعثمة، فهذا التناقض مما كان يدل على مكان اللغز في كيانه، وما الذي دفعه اليوم إلى المنبر؟
ويجرؤ شريف من حزب من الأحرار، وكان هذا الحزب يحتوي بعض الأشراف، على الجهر بأن الحقد على الفاتحين لم يكن حافزا للبروسيين في حركتهم سنة 1813؛ وذلك لما لم يكن لدى قوم كثيري النبل كالبروسيين من حقد قومي، والأمر كان أحسن مما عليه الآن مع ذلك، لاستناد الحكومة إلى الشعب آنئذ، وينطوي هذا وإن خلا من الصراحة على المبدأ الشائع في ذلك الحين والقائل إن الشعب ذهب إلى الحرق وقتئذ إنقاذا لنفسه، وإنه لهذا السبب نال في سنة 1813 حق إقامة حكومة شعبية، ويناهض بسمارك مثل هذا المبدأ، وما يبدو الآن نتيجة ثوران غيظ فجائي فقد أعد بدقة في الحقيقة، وتوجد مسودته، ويصرخ قائلا: «إن من السخف أن تعزى حركة الأمة في سنة 1813 إلى سبب غير الخزي الذي أصابنا به وجود عدو في بلادنا، وعندي أن من الإضرار بالمبدأ القومي أن يقال بعامل سوى العار الذي يفور به الدم، وسوى الحقد الذي يخنق جميع المشاعر الأخرى، وإن من الإنكار لكل شعور بالشرف أن يريد أناس آخرون بعد دفاع شخص أمام ضربات تسدد إلى كيانه، استخراج منافع أخرى كما لو كان ذلك الدفاع قد تم في سبيل هذه المنافع.»
ويصغي أصدقاؤه إليه، ويسقط في أيديهم، ويكون كفاحه الأول ضربة سيف في الهواء ما دام الخطيب الذي تقدمه لم يقل شيئا من ذلك.
ويعد جميع المتطوعين في حرب الإنقاذ وجميع أبناء هؤلاء حتى أناس من المحافظين ذلك إهانة لهم، «فيعلو الاحتجاج والتذمر والضجيج»، كما ورد في المحضر، وينبري خطيب آخر له فيجيبه عن قوله بأن حب الوطن - لا الحقد - هو الذي دفع الشعب حين كان أوتوفون بسمارك صغيرا فلا يقدر على تقدير ذلك، فيا للخطيب من خصم شخصي! ويخفق قلب بسمارك سرورا! ويرتقي المنبر مرة ثانية، «ويكون صخب، ويدعو الرئيس إلى السكون، ويرتفع احتجاج»، فهنالك ولى بسمارك المجلس ظهره ساخطا، وقد كان أحدث أعضائه سنا، وأخرج جريدة من جيبه وقرأ بنفسه إلى أن عاد الهدوء، ثم قال: أجل، إنه لم يكن قد ولد حين حرب الإنقاذ، غير أن أسفه على ذلك قد قل بعدما أتي به اليوم من إيضاح قائل إن استعباد بروسية في ذلك الزمن كان نتاجا محليا لا أمرا فرضه الأجنبي.
ويأتي بسمارك ضربة أخرى في الهواء؛ فقد قال صديق من حزبه: «إن مما لا يدرك أمره أن يجعل امرؤ بارع مثله من نفسه موضع سخرية بهذا المقدار.» ويقول للخطيب قريب حامل لوسام الصليب: «إن الحق بجانبك لا ريب، بيد أن ذلك مما لا يباح به.» ويقول بلانكنبرغ: «لا يعتم الضرغام الذي يلعق الدم هنا أن يزأر على نغم آخر!» وينتقد المؤرخ الشاب سبيل تلك الخطبة في جريدته بقوله: إنه لا يمكن فصل الإصلاحات عن الحريات بمثل تلك المماحكات.
والحق بجانب سيبل، والحق مع جميع النقاد، ومنهم بلانكنبرغ، ولكنك لا تجد واحدا منهم استطاع أن يدرك السبب الحقيقي في تعريض بسمارك نفسه لمثل ذلك الهزوء، وهو أن العبقري يصادم الجميع دوما عند ملاقاته أول مرة، ومما لا ريب فيه أنه أعد خطبه، وفي هذا علة فلت الزمام من يده، ومما لا ريب فيه جهله لسنن الزمان فأغضب أصدقاءه، غير أن ما كان وراء ذلك من شدة الحقد الموجه إلى أولئك الذين يأبون مقت الفرنسيين أكثر مما إلى الفرنسيين أنفسهم، ومن الشجاعة التي جرؤ بها، وهو المجهول الأمر أن يصعد في المنبر بين الشغب للمرة الثانية ومن الازدراء الذي ولى المجلس به ظهره، أمور أظهرته في ذلك النضال مكافحا، ويكتب إلى خطيبته قوله: «لقد أثرت في الأمس زوبعة عظيمة من الاستياء بخطبة غير تامة الوضوح حول حركة سنة 1813 الشعبية، فجرحت بهذه الخطبة غرور كثير من رجال حزبي، فأسفر ذلك بحكم الطبيعة عن تألب جميع المعارضة ضدي ونباحها علي، وكانت البغضاء شديدة، وقد يكون قولي الحق سببا لها، وقد عيرت بفتائي وبأمور أخرى.»
وعلى ما في رسائله إلى خطيبته حنة من رقة، تكتسب هذه الرسائل لهجة التقارير مقدارا فمقدارا، وتصاب حنة بمرض شديد ويصلي من أجلها، غير أنه يظل «في مركزه» ويعد بعيادها في عيد العنصرة، ويخلف الوعد، ويكتب إليها قوله: «لا أبين لك السبب في أنني لم أسطع أن أجيء؛ لما في ذلك من عدم فائدة، وإنما أذكر لك أن أهم شئون البلاد هي موضوع البحث، وقد يتوقف الأمر على صوت واحد. ومما يؤلمني أن تكون المسافة بينك وبين اللندتاغ خمسين فرسخا، وأنتن أيها النساء غريبات الطبع؛ فالأصلح أن يتصل بكن مشافهة لا كتابة.» ولا ينبغي تأجيل الزواج، وعلى حنة أن تمرض هادئة في البداءة وإلا اعتقد «وجودي مكسالا في رينفيلد، ولا أستطيع أن أشاركك بحرية كما يجب قبل أن نتزوج.»
وهكذا يتكلم العاشق بلهجة الزوج الرزينة مع عدم نقص في العطف، ولكن الحزم والتوجيه لم يلبثا أن رسخا بعد أن غدت السيطرة لإرادته، ويبدأ بسمارك بتقدير الوقت والقول عن الكسل للمرة الأولى من حياته، ويبدو أحد الأمور لبسمارك مهما للمرة الأولى من حياته، وهو يصرح بأن السياسة تحرمه شهوة الطعام ولذة النوم، «وأراني غضابيا
9
بسبب مكر المعارضة وكذبها» ويجهر برغبته في مشاهدة الغابة وحنة مرة ثانية مع ذلك، ويعترف لها بعد تجربة أسبوعين من وجوده في اللندتاغ بأن وجده السياسي يجاوز ما كان ينتظر بمراحل، ويكتب إليها بعد خمسة أسطر في الأسفل: «يا ليتني أتمكن من مخاصرتك مع كمال الصحة! يا ليتني أقدر على الانزواء معك في فسطاط صيد بالجبل حيث الغابة الخضراء وحيث لا أرى وجها بشريا غير وجهك! ألا إن هذا هو حلمي الدائم، ألا إن دق ناقوس الحياة السياسية يؤذي أذني يوما بعد يوم، آلغياب أم المرض أم الكسل هو سبب ذلك؟ أود أن أكون معك وحدك فأتأمل في الطبيعة، وربما كانت روح التناقض هي التي تجعلني أمد عيني في كل حين إلى ما لا أملك.»
والأمر يتجلى لنا هنا أيضا، فعندما كان بسمارك غير درب
10
بالسياسة والشئون العامة كان يوعز إلى خطيبته بأن تعد نفسها للحياة الدنيوية، ولم يكد بسمارك ينال ذلك حتى أخذ يحلم بفسطاط الصيد في الغابة، ويعرف بسمارك السبب، وهو يعرب لها عنه، وسيتوجع منه مدة أربعين سنة، وهنالك لب المسألة، وهنالك لغز طبيعته التي لا يرضيها أي مقام كان، ولا غرو؛ فهو بسمارك التائه.
الفصل العاشر
رجل قلق حاد الصوت غير عسكري مختال غافل مشمول بلطف الله، فذلك هو أمر فردريك ولهلم الرابع الذي كان يلقب بالراقص على الحبل، والذي لم يكن دوره بين الشعب والعرش غير دور الماجن، هو روائي غير جلي، ولكن مع تصوره في البداءة بخبث إمكان حله جميع المعضلات، وإمكان توجيهه الدول الشرقية ودولة فرنسة إلى العمل مع الحلف المقدس وتأسيسه الوحدة الألمانية وخدمته الرجعية والحرية معا، وهو يقول بعد افتتاح اللندتاغ الأول متظاهرا بالديمقراطية ومنجزا عهد والده: «إنكم ستقضون على العمل في نهاية الأمر لا ريب!» وهو يضيع الفرص عندما يجب عليه أن يعطي بسخاء، وهو يجهل روح العصر جهلا تاما، وهو عنيد غطريس، وهو يعتقد قدرته على الحكم بنفسه، وتدل هذه العلائم على ارتباك نفسي فيه، ولم ينشب هذا المرض أن بدا لكل ذي عينين، وإن ترك يؤذي بلاده مدة عشرين سنة قبل أن يعلن اختلال عقله رسميا، وهو يعطي الأمة آلة موسيقية، بيد أنه يهدد جميع من يجرءون على العزف عليها، وفيما هو يقول: «أرحب بكم أجمل ترحيب.» تراه يحرم على كل إنسان أن يدنو منه، وهو آخر ملوك بروسية، وأحد هؤلاء الملوك الذين يستطيع الواحد منهم أن يقول: «هنالك أمور لا يقدر على معرفتها غير الملك.»
ومما يصعب في ذلك الحين وجود شخص يبغضه أوتوفون بسمارك شونهاوزن مثل ذلك الملك، ويكثر بسمارك من التردد إلى البلاط سنة 1847 مع ذلك، ويشترك في النزه النهرية على الهافل،
1
ويقول: «لقد زرنا صديقنا الملك في عيد الفصح، فأكثر الأمراء من تدليلي.» ويهنئه الأمراء بخطبه في اللندتاغ، ويحجم الملك عن مثل ذلك؛ لكيلا يثير الريب حول استقلال مناضله الشاب بسمارك الذي كان الملك يعلم أنه لا يزال مستقلا، وكان مستشار الملك - ليوبولد ولودفيغ فون غرلاخ، أي القائد والرئيس، أي الأخوان الحسنا العرفان بالعالم - مستشارين لبسمارك أيضا، وكانا أسن منه بعشرين سنة، وكان لودفيغ بياتيا اجتمع ببسمارك عند آل تادن فأحبه كثيرا، ويوعز لودفيغ إلى بسمارك في النطق بخطبة طويلة وفق رغبة الملك.
وهكذا ينمو فيه بخطوط كبيرة غير مستقرة، أملان، وهما: أن يكون نافعا لنفسه وللملك معا، فيزيد نفوذه الشخصي بولائه للملك، ويروج خططه الخاصة بتأييده خطط الملك، ويمهد سلطانه في المستقبل بتوطيد سلطان الملك في الزمن الحاضر، وتسفر تلك الصلات الأولى بأنجية
2
العرش عن شد ما في الفارس بسمارك من طموح فطري، ولم تلبث أن جعلت منه نصيرا للملك سيرا مع أصله، فصار يسره أن يدعو ذلك بالشعور الإقطاعي فيما بعد.
وكان ذلك الشعور الذي تعهده بعدئذ في سبيل خططه متأصلا فيه منذ زمن ، ويسر إلى زوجه قوله بأسلوب غريب: «إذن، لا تتكلمي عن الملك باستخفاف، فكلانا يميل إلى التيهان في هذا الميدان، وعلينا ألا نحدث عنه بقحة كما علينا ألا نحدث عن آلينا، وهو إذا ما اقترف خطأ وجب علينا أن نذكر أننا أقسمنا يمين الولاء والطاعة لدمه ولحمه.» ولا تجد لجدية هذا الإنذار مثيلا في أي واحد من كتبه الأخرى، فهو يفرض على زوجه تمجيد مليكه فرضها عليه تمجيد ربها، وهو يتمسك بعقيدته مدى حياته تمسكها بعقيدتها، وتغلي ذكريات أجداده القديمة في دمه من جديد، ويتحدى أجداده ملوكهم، ولم يحدث أن مكروا
3
بهم مرة واحدة مع ذلك، وفيما هو يشبه بالملوك أجداده الذين لا يرى لغيره حق التكلم عنهم بارتياب تراه يتطلع إلى الأسرة الكبرى في المرتقى على حين يعيش باقي الشعب في الأدنى. واليوم لا يتطلب هذا الوضع الملائم لخططه والخليق بطبقته أية تضحية من عزته، وهو لا يزال حرا في اختيار حزبه أو في تبديله ما ظل محل تودد وما بقي ناقدا وما عطل من أية مسئولية، والويل لخيلائه إذا ما غدا ذات يوم مرشدا قائدا للملك تابعا له في حين واحد!
والآن تأخذ المعضلة ذات الحدين حكمها، ويود النائب الشاب نيل مقعد في المجلس بأي ثمن كان، وإلا فأين يعرض قوته وذكاءه؟ فإذا أراد انعقاد المجلس في دورات سنوية وجب عليه أن يصوت مع من يمقتهم من الأحرار، وماذا يصنع إذن؟ إن من مخادعة الملك ضغطه في هذا السبيل؛ ولذا رأى بسمارك تعليق المسألة، ويبحث في معضلة اليهود فيفضل بسمارك أن يتغيب لما بينه وبين الحكومة من اختلاف في ذلك، ويبدو مع ذلك وهو لما كان من ظهوره رئيسا لأقصى اليمين من بعض الوجوه يتكلم ضد «الهراء الإنساني المزعج» الصادر عن أصحاب الشمال والقائل بمساواة جميع رعايا الملك.
ويقول بعنجهية:
4 «لست عدوا لليهود، وهم لو كانوا أعدائي لعفوت عنهم، حتى إنني أحبهم بتحفظ، حتى إنني أمنحهم جميع الحقوق، خلا ممارسة المناصب الكبيرة في دولة نصرانية. وليست عناية الله كلمة فارغة عندي، ولا أستطيع أن أعد غير ما أوحي به في الإنجيل معبرا عن إرادة الله، ونحن إذا ما جردنا الدولة من أساسها الديني لم يبق لنا منها سوى مجموعة من الحقوق، سوى حصن ضد حرب الجميع للجميع. وفي دولة كتلك لا أرى كيف يناقش في مبادئ كمبادئ الشيوعيين حول مخالفة التملك للأدب؛ ولهذا السبب يجب ألا نعتدي على نصرانية الشعب.»
تلك هي لهجة الملوك والوزراء المطلقين، ولو عبر جد بسمارك - منكن - عن نفسه على ذلك الوجه ما وجد لوما من ملوكه، ولو لم يرب الشيخ منكن ابنته وفق مبادئ التقدم ما حاولت هذه الابنة أن تنقل هذه المبادئ إلى ابنها، ومن المحتمل أن يصير بسمارك الشاب من الأحرار خلافا لأمه غير المحبوبة لديه لو تلقت هذه الأم من أبيها مبادئ رجعية، والذي لا مراء فيه أن كان ذلك الرجل، الذي يحسد ميرابو وبيل في فتائه والذي يعتريه وجد من شعر بايرون، ويعجب بإنكلترة في شبابه، يقتحم بتربيته وارتيابه الطبيعي فروق العروق أكثر من اقتحامه فروق الطبقات، وهو عندما جهر بالفروق الطبقية للمرة الأولى مؤكدا لم يكن متأثرا بالبياتية ما دامت البياتية غير ذات أثر في سياسته الحاضرة والقادمة، ومن الممكن مع ذلك أن يكون قد صنع ذلك مراعاة للبياتيين، وآية ذلك أنه دافع قبل سنة عن مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة خلافا للرئيس فون غرلاخ، فسره اليوم أن يسر زمرة البياتيين، ولم يحسب حساب اليسوعية في ذلك، وإنما فعل عن لا شعور تقريبا ما يقرب به بين معتقداته وغاياته، شأن العاشقين اللذين يبحث كل منهما عن الآخر فيكون من الطبيعي أن يلتقيا؛ فالحق أن أوتوفون بسمارك كان قطبا سياسيا.
وبعد خمس دقائق يدعو طبقات المجتمع الدنيا إلى الشهادة فيقول: «إذا ما تصورت أنني ملزم بالإطاعة ليهودي، ممثلا لصاحب الجلالة المقدسة الملك، وجدتني مرهقا مهانا في أعماق نفسي، وأشاطر هذا الشعور أدنى طبقات الشعب ولا أخجل من أن أكون بجانبها في ذلك.» ولكنه لم يرد قط أن يطيع أحدا من ممثلي الملك - يهوديا كان أو نصرانيا - ولم يفعل غير قسر قدرته الحيوية عندما رأى نفسه ملزمة بإطاعة الملك ذاته حين تمثيله له.
ولا يخف ذلك العجب الجاف قليلا إلا حين ملاقاة خطيبته أو حين تفكيره فيها، وهي إذا كانت مريضة لم يبال بجميع نصارى رينفيلد المتوكلين على الله ولم يطق قولا عن الطب، وهو يصر عن استعمال الأدوية متذرعا عن مزح بأن الرب هو الذي أعطاها، وهي وقت شفائها تقابل بين حياتها الهادئة وحياته الممتعة التي تتبينها من رسائله ومما تقرأه عنها في الصحف.
وهي تكتب إليه قائلة: «عندما أتعقب بأفكاري مجرى حياتك الراهنة منتقلة من مسرة إلى مسرة لديك، وفي أثناء ما لا حد له من الضوضاء والاضطراب، يساورني القلق فأضع إصبعي على فمي، وأضع يدي على فؤادي، وأدعو لك هادئة، أخشى أن يجعلوك كثير الزهو، فتزدري رينفيلدنا الوضيعة في نهاية الأمر.» وهي تستر تحت مثل هذه العبارات هولا حقيقيا في بعض الأحيان، وهي تختم كتابها بالكلمة الفاجعة الساخرة: «حقا إنك يا أوتو، ذو دم حام إلى الغاية!»
ويبدو أنيسا كلما دنا وقت العرس، ويكتب بكياسة تخالطها سيطرة قوله: «أتنتظرين مني - في مساء هادئ، لابسا مخملا أسود وريشة نعامة متموجة - أن أعزف على القيثارة
5
تحت نافذتك فأصدح بأغنية «فري معي ...» التي يمكنني الآن أن أغرد بها فاتنا على ما أرى مع كلمة «نامي على ...» أو يجب علي أن أظهر وقت الظهيرة
6
مرتديا بزة فارس ولابسا قفازا أحمر فأعانقك من غير أن أغني وألغو؟»
7
ويشير عليها بأن تدعو بعض الأصدقاء ليرافقوهما في رحلة الزفاف فترفض ذلك بإباء.
ويكون العرس بعد الخطبة بستة أشهر، وتقدم صديقة إليها منديل الزفاف الموشى بوردة بيضاء وفق لغة الأزهار التي تعرفها تلك البيئة، وفيما كان العريس جالسا حول المائدة شاربا غير قليل من رحيق الشنبانية أمسك منديل حنة، وتقع عينه اليانعة الواقعية وغير الروائية على الوردة الرمزية فيحرقها بسيغاره قبل أن تتمكن العروس من صده عن ذلك، وبهذا يريد أن يقول: «هنا ينتهي أمر جان بول مع تصوف الصبية.»
ولكنه يتذرع بمرح أبوي خالص، فيطلع الحبيبة على العالم في سفر شهر العسل الطويل، ويكتب إلى أخته ما لا يصدق صدوره عن كاتب في السنة الثانية والثلاثين من عمره، فيقول: «وأما من ناحيتي فأذكر أنني بلغت من الكبر ما لا يستهويني معه جديد المناظر، وإن كنت قد تذوقت انطباعات حنة.» وأحزم من ذلك قوله في كتاب إلى أخيه: «وأخيرا يأتي المؤلم، فقد أضافت حنة إلى الليرات الذهبية المائة التي لدي نحو مائتي تالير كانت أخذتهما لابتياع أوان فضية، ولا ضير في هذا ما دامت الشماعد
8
المعدنية المصفحة تكفي هنا، وما دام شرب الشاي في ودود أمرا جميلا، وما دام عندنا الشيء الكثير من هدايا العرس، وتبلغ نفقات رحلتنا نحو 750 تاليرا، وتدوم هذه الرحلة 57 يوما فيكون ما ننفقه كل يوم 13 تاليرا، وأدعى إلى المقت من ذلك ما كان من موت ست بقرات وثور لي، أي أحسن ما في أنعامي، بداء الجمرة.»
ويا للألفة التي آل إليها بسمارك المغامر! والحق أن بسمارك إذا ما ساح وحده أو مع زوجه، وجب أن يتم له كل شيء على ما يرام، غير ناظر إلى ما يقتضيه ذلك من نفقات، والآن إذ يعرب بسمارك وهو راجع من شهر عسله أن يقسم المجموع إلى سبعة وخمسين، وأن يختم تقريره الأول بقصة ثوره وبقراته الست، نبصر وضعه نفسه في آفاق ضيقة مع تفتح آفاق واسعة له.
الفصل الحادي عشر
يزور بسمارك في 19 من مارس سنة 1848 جارا له، ومن المحتمل أن بحث مع صاحبه في أمور السياسة؛ فالدور كان دور فتن واضطرابات، وتأتي عربة على غير وعد، وتنزل منها سيدات، ويخبرن بسمارك وأصحابه الحائرين، هائجات بفرارهن من برلين، حيث اشتعلت الثورة وأصبح الملك سجين الشعب، وكان بسمارك يقضي شتاءه مع زوجه الفتاة بشونهاوزن منذ عطلة اللندتاغ، وكانت الأشهر الستة تلك هي الأولى والأخيرة هدوءا في حياته الزوجية، ويساور القلق بسمارك منذ خمسة عشر يوما كبقية الناس، وعلة ذلك ما كان من ثورة أهل باريس وطردهم الملك وإعلانهم الجمهورية مرة أخرى، وقد أسفر ذلك عن تقوية مثل تلك الأماني في ألمانية، فأدى ذلك إلى تسريح الوزراء الرجعيين واستبدال وزراء من الأحرار بهم، وفي 18 من مارس يتجمع أهل برلين في الشوارع ويتصادمون هم والجنود إلى أن يأمر الملك - بلا ضرورة وعن جبن، لا عن حنان - برجوع الكتائب، ويهرع بسمارك إلى شونهاوزن عند سماعه تلك الأنباء.
بسمارك في سنة 1834.
وفي ذلك الحين يرى بسمارك أن حياته مهددة، ومن ذا الذي تبحث عنه تلك الجموع الهائجة فتقتله على ما يحتمل إن لم يكن من زعماء الرجعية؟ إن من الطبيعي أن تتجه أفكاره إلى تراثه، وإن من الطبيعي أن ينشد الوقاية زوجا وأبا لولد منتظر، ويمس زهوه ويحث بأسه، فيرى ضرب الحمر، وهكذا تحفزه الطبيعة والمنفعة إلى استعمال العنف فيتخذ وسائل قاسية من فوره، وفي الصباح التالي يأتي مفوضون من المدينة إلى شونهاوزن ليحملوا الفلاحين إلى رفع العلم الأسود الأحمر الذهبي، ويدعوهم متبوعهم إلى المقاومة وطرد الحضريين، «فتم هذا بمساعدة النساء الفعلية»، ثم ينصب راية سوداء ذات صليب أبيض فوق برج الكنيسة، ويجمع سلاحا، ويجد عنده عشرين بندقية صيد، ويجد في القرية خمسين بندقية صيد أخرى، ويرسل إلى المدينة رجالا راكبين خيلا للبحث عن بارود.
ويضع زوجته الجسور في عربة ويطوف معها في القرى المجاورة، ويجد معظم الناس مستعدين للزحف معه إلى برلين إنقاذا للملك الذي يقال إنه سجين، ويهدد جاره الذي هو من الأحرار بمعاكسته، فاسمع ما رواه بسمارك نفسه: - «إذا ما فعلت ذلك قتلتك بإطلاق النار عليك.» - «لن تفعل ذلك!» - «أقسم لك بشرفي أنني أصنع ذلك، وأنت تعلم أنني أنفذ قولي، فلا تصر على ما أنت عليه!»
ويغدو بسمارك رجل سياسة بعد تلك البداءة الجريئة، فيذهب وحده إلى العاصمة، ويزور بوتسدام في طريقه، ويعلم من أصحابه القواد ماذا حدث في الحقيقة، ويطلبون منه مقدارا من البطاطا والحبوب لإطعام جنودهم، لا فلاحين لعدم فائدتهم، ويعربون له عن غيظهم لمنع الملك إياهم من الاستيلاء على برلين، ويعرض بسمارك آنئذ عن الملك لقنوطه منه، ويود أن يعمل برأيه الخاص، ويحاول أن ينال أمرا بالسير من الأمير ولهلم البروسي، ويصرف إلى الأميرة.
وكان أوغوستا أسن من بسمارك بأربع سنوات، وهي تزوجت في العشرين من عمرها، وهي تنتظر لذلك، وكلما بدا جنون الملك العاطل من الولد أشد مما كان عليه أملت أن تخلفه هي وزوجها على عرش بروسية، والآن يظهر انهيار آمال حياتها دفعة واحدة بعد أن لاح فقد الأخوين للسلطة، ويتوارى ولهلم في جزيرة الأطواس،
1
ويكتم مكان عزلته حتى عن أشد رجاله ولاء، ويتيح هذا الأمر لتلك الطموح المستبدة الحسناء فرصة استغلال ما نالتها من ثقافة في فيمار، وتمثيل دور ملكات القرون القديمة العظيمات ما ألقت بيديها إلى التهلكة، وتريد أن تجعل وراثة العرش في ولدها، وتفاوض في ذلك زعيم قدماء الأحرار الشيخ فنكه، وإنها لترسم هذه الخطط إذ تفاجأ بنبأ قدوم زعيم الملكيين الجديد «بسمارك»، وهل تستقبله في البهو وجميع الجدر ذات آذان؟ «وتستقبلني في غرفة الخدم بالدور المسحور جالسة على كرسي من خشب أبيض، وتخفي عني مكان زوجها، وتصرح لي هائجة بأن من الواجب عليها أن تدافع عن حقوق ابنها، ويستند ما تبديه إلى الافتراض القائل: إن الملك وزوجها لا يقدران على حفظ مقامهما، فهي تفكر في أن تكون وصيته على العرش في أثناء صغر ولدها.»
وهنالك يقف المخلص لمليكه بسمارك مذعورا من اختفاء الأمير، لما يرجوه من وجود رجل يبذر في النفوس شجاعة ومقاومة تجاه فتنة الشعب، وتجلس زوجة الأمير ولهلم في غرفة الخدم تلك مواجهة له على مقعد خشبي، وكانت قاطعة كل أمل في أمر زوجها وأمر الملك منذ زمن طويل، ويتجلى أملها الوحيد العتيد في إنقاذ العرش من أجل نفسها وأجل ولدها، وتطلع على محاولتها الخائنة هذه نائبا في اللندتاغ غريبا عنها تقريبا مع أنه يريد العكس، ونجهل الكلام الذي نطق به آنئذ، ويمكن استنباطه من جوابه لفنكه بعد قليل وقت.
قال بسمارك: «يطلب فنكه، باسم أعضاء حزبه ووفق رغبة مرجع عال على ما يحتمل مؤازرتي في اللندتاغ وحملي له على المطالبة بتنزل الملك عن العرش والإعراض عن الأمير البروسي بموافقة هذا الأمير الفرضية ونصب الأميرة البروسية وصية على العرش مدة صغر ولدها، فأعلن أنني سأجيب عن مثل هذا الطلب بأن أقترح اتهام مقدمه بالخيانة العظمى، ويترك فنكه مشروعه بسهولة في نهاية الأمر، قائلا: إن الملك لا يحمل على التنزل عن العرش بغير مساعدة أقصى اليمين الذي يعدني ممثلا له، ويقع هذا الجدال في غرفتي الأرضية بفندق الأمراء، ويتخلل هذا الجدال أمور لا ينبغي إثباتها كتابة.»
وتنطق تلك العبارة الأخيرة - التي كتبت بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ - بأكثر مما قرر الشيخ «بسمارك»، وبسمارك هذا عارف بالسبب الذي أتم به كلامه بقوله: «إنني لم أخاطب الإمبراطور ولهلم في هذا الأمر قط، حتى حين كنت أرى الملكة أوغوستا مناوئة لي، وإن كان الصمت أقسى امتحان تصاب به أعصابي وشعوري بالواجب في أي وقت من أيام حياتي، وما كانت أوغوستا فيما بعد لتغفر ليوسف «بسمارك» هذا طهره السياسي.»
وكان ذلك المنظر الموصوف أول المناظر وأدعاها إلى العجب حول كفاح بسمارك عن مليكه فردريك ولهلم شعورا بالولاء، لا عن باعث شخصي، وكان ذلك حين ازدرائه الشديد لذلك الملك، وما كان في مثل تلك الأوقات الصعبة من امتزاج مشاعره بالإقدام والحقد على الجمهور (الذي يجب ألا يذعن له) والزهو الفروسي الموروث والتصور الروائي الإقطاعي المثالي فيغمر في تلك الأحايين الحرجة برودة تقليبه الأمور، ويصيب فنكه من حيث الأحوال في وصف اقتراحه الشخصي «بأنه تدبير اقتضته السياسة وفكر فيه بدقة وأحكم إعداده»، وكان يمكن بسمارك - كرجل طموح - أن يسير في أيام الفتنة تلك، باحتراس أشد مما صنع لو مال مع شعوره بالولاء لفردريك ولهلم وللأمير البروسي، إلى ما قد تعرضه عليه الأميرة أوغوستا في مقابل تأييده لرغائبها، وكان يمكن بسمارك أن يعذر لو انضم إلى أعضاء الأسرة المالكة الأحداث أولئك الذين لم تكن صفحتهم سوداء في ذهن الشعب.
وعند بسمارك أن مصير بيت الملك كان قبضته في ذلك الحين؛ فقد كان المحافظون أنفسهم يرون تنزل فردريك ولهلم عن العرش، وكان يمكن حزبه الصغير أن ينزع السلطان من هذا الملك الذي كانت فرائصه ترتعد فرقا، وكانت أكثرية الأحرار في اللندتاغ ترحب بذلك الحل، وما كان ولهلم ليغدو ولهلم الأول لولا ذلك. وكان فردريك يجلس على العرش في السنة الثامنة عشرة من عمره بدلا من السنة الثامنة والخمسين من عمره لولا ذلك. وما كان بسمارك ليبصر تحول نفسه ولا تحول فردريك في المستقبل مع ذلك، وما كان من الوضع الذي اتخذه في غرفة الخدم تلك بقصر بوتسدام ثم في تلك الغرفة من فندق ليبسيكرستراس، فيحتمل أن يكون قد قرر سيره في الحياة وقرر مصير ألمانية مع ذلك.
ويرفض خلع الملك فردريك ولهلم، ويوجه الآن همه إلى جعل هذا الملك مغلوبا على أمره، ويطلب في ذلك اليوم إلى الأمير فردريك شارل أن يأمر الكتائب بالزحف إلى برلين على الرغم من أوامر الملك «ما دام صاحب الجلالة غير حر في السير»، ويحبط ما سعى إليه بسمارك حتى لدى القائد الذي دعاه إلى التمرد توا،
2
وهنالك يذهب بسمارك إلى برلين قاصدا الدخول على الملك بذاته، وهنالك لا يترك بسمارك في منظره ما يستفز الملك، فيزيل لحيته، ويلبس قبعة عريضة الحافة مع إشارة ملونة، وهنالك يكتسب هيئة أجنبي لارتدائه سترة رسمية رجاء مقابلة الملك، فيصرخ بعضهم في الشارع خلفه قائلين: «وي! ولكن هذا فرنسي!» ويريد ابن عمه أن يضع نقودا في صندوق المقاتلين في المتاريس، فيقول له بصوت عال (كما يروي): «أجل، لقد أخافتك البنادق الصغيرة، فتدفع إلى هؤلاء القتلة نقودا!» وذلك لما كان من تبينه بين حرس الوطنيين من أبناء الطبقة الوسطى قاضيا صاحبا، فيلتفت هذا إليه فيعرفه مع حلق ذقنه ويقول له: «رباه! بسمارك! يا لمنظرك! يا لهذه القذارة هنا!»
ويصرف عن باب القصر من غير أن يقابل الملك، فيكتب إلى الملك فردريك ولهلم على قصاصة ورقة حقيرة (بقصد تشجيع الملك وعن عدم معرفة دقيقة) ويقول له فيها: إنه لا ثورة في أية ناحية من البلاد ، وإنه لا يعتم أن تعود إليه السيادة إذا ما غادر العاصمة.
ويذهب ما هدف إليه جفاء،
3
ويعود إلى سكسونية ليصل بين قائدها والقائد في بوتسدام، وينصح في مغدبرغ بأن يرجع من فوره، وإلا وقف متهما بالخيانة العظمى، ويذهب إلى شونهاوزن ويكتفي بالأوب
4
إلى بوتسدام مع وفد من الفلاحين الراغبين في مخاطبة القادة بأنفسهم، وفي بوتسدام يسمع قول الملك لضباطه: «لم أكن حرا مطمئنا في زمن مثلي في حمى أبناء وطني.» وفي ذلك يقول بسمارك: «كان تذمر، وكانت قعقعة غمود؛
5
أي كان ما لم يسمعه ملك بروسية بين ضباطه في أي زمن كان؛ أي ما يأمل المرء ألا يسمع مثله مرة أخرى، وأقصد شونهاوزن جريح الفؤاد.»
وهكذا ينتهي عمل بسمارك اللاثوري مع الحقد وتبدد الأحلام، ويمضي أسبوع فتقدم وزارة الأحرار الجديدة إلى البرلمان مشروع قانون الانتخاب الذي أوجبته فتنة شهر مارس كرها، ويوفق بسمارك بصعوبة لحذف تهنئة المقاتلين في المتاريس من تلك الوثيقة، ويبدو أن روعه سكن بذلك، ويزج بالمسألة الألمانية في خطبة العرش مجددا، وفي تلك الخطبة يعلن الملك وجوب صهر بروسية في ألمانية بعد الآن، ويعارض بسمارك تلك الفكرة، ولكن تلك المسألة لم تكن قد بلغت حدها آنئذ، ويطرح الجواب للتصويت، ويرتقي بسمارك في المنبر فجأة، ويبدو عليه غضبه وحزنه من فوره بما هو ابتدائي بعيد من السياسة، ويفلت منه عنان نفسه فيظهر أن خطبته مناجاة ذات لجلجة.
6
ويبدأ بقوله: إنه يود أن يصوت لبرنامج الملك، «ولكن الذي يدفعني إلى التصويت ضد الجواب هو اشتماله على عبارات الابتهاج وعرفان الجميل تجاه ما حدث في الأيام الأخيرة، وقد دفن الماضي، ومما يؤسفني أكثر من كل واحد منكم عدم استطاعة أية قدرة بشرية على بعثه بعد أن حثا
7
العرش نفسه ترابا على التابوت. والحق أن سلوك هذه السبيل لو كان يؤدي إلى نيل وطن ألماني موحد لأبصرت دنو الوقت الذي أعرب فيه عن شكري للداعي إلى النظام الجديد، ولكن ذلك يتعذر علي الآن ...» وتخنقه العبرات، ويعجز عن الدوام على الكلام، ويترك المنبر من غير أن يتم خطبته.
وعلى ذلك النمط يظهر شعوره المجروح بغتة حين يلوح له ضياع كل شيء غدرا، ويعرض نفسه للريب بإبدائه رأيا مردودا، ويعرض الملك أيضا للظنون حين يسالم شعبه، وهو بما فيه من ارتياب مغلوب وبصر عبقري سياسي؛ يشعر من اليوم بأن الوحدة الألمانية لا تحقق على ذلك الوجه وفي الوقت العتيد، وهو مع ما يساوره من شك كبير يشكر ببلاغة لمن يوجد النظام الجديد في المستقبل، فيثير نفسه بسذاجة، ويصعد ما اعتراه من ألم ومرارة في تلك الأيام إلى عينيه من فؤاده كما لو كان ذكاؤه يريد الانتقام ولم ينفذ ظلام الغيب، فينتحب
8
فيضطر إلى قضب
9
خطبته حيث يسطع نجمه.
الفصل الثاني عشر
يمضي شهران فيجرؤ الأمير ولهلم على العودة من إنكلترة حيث فر، ويمر من سكسونية فينتظره بسمارك في محطة صغيرة، ويرى بسمارك أن من الحذر أن يكون خلف الآخرين، ويعرفه الأمير (الذي حدثته الأميرة عن زيارة بسمارك لها، فذكرت له نيته من غير أن تفشي له سرها)، فيشق طريقا له بين الجمع ويصافحه، ويقول له: «أعرف أنك عملت بنشاط ما فيه مصلحتي، فلا أنسى لك ذلك أبدا!»
وهكذا يقترن سوء تفاهم منطقي عجيب بتصافح ذينك الرجلين اللذين - وإن فرق بينهما حقد الأميرة - اتحدا على منصة التاريخ العام فيما بعد.
ويدعو الأمير بسمارك إلى بابلسبرغ فيحدثه بسمارك عن استياء الكتائب التي أعيدت إلى أماكنها في أيام مارس، ويحمل على قلبه العسكري غير راحم بتلاوته عليه أغنية أنشئت في تلك الأيام فختمت بما يأتي:
لقد قرع آذانهم الصادقة صوت خائن، قرع آذانهم قول بأنك لن تكون بروسيا، بل تكون ألمانيا، والآن يتموج العلم الأسود الأحمر الذهبي تحت وهج الشمس، والآن يطوى العلم ذو النسر مدنسا، وهنا ينتهي تاريخكم المجيد يا آل زولرن، وهنا يخر مليك بلا قتال، وليس علينا أن نسير وراء النجوم الهاوية، فيا أيها الأمير سيؤنبك ضميرك على ما صنعت هنالك، ولن ترى كالبروسيين إخلاصا!
ويسمع الأمير ذلك فيذرف سخين العبرات، فلا يراه بسمارك يفعل ذلك غير مرة واحدة في قادم الأيام، ويدل شكل الوجد ذلك لدى رجلين جسورين شخصيا على تقارب وضعهما في بعض الأحوال العالية، لا على تشابههما في مزاجهما، وكان عمر ولهلم يزيد على خمسين سنة، وكان قد قضى حياة كامدة ولكن ناعمة، وإذا عدوت بعض الأقاصيص الغامضة عن فتائه وما اضطر إلى تركه من المعاشق وجدته لم يلاق أي عائق جدي كان، والآن مع خدع الندماء إياه حول زوال الخطر يبصر في بيان بسمارك أولى الحقائق السافرة، وبسمارك قد عرف كيف يعرضها عليه في نشيد جندي.
وفي أيام يوليو يعارض بسمارك ملكه بمثل تلك القوة والإقدام، ويتميز بسمارك من الغيظ فيكف عن زيارة البلاط، ويرسل الملك خادما خاصا إلى الفندق الذي يقيم به بسمارك ليبلغه أمر الملك بضرورة حضوره، فيجيبه عن ذلك بأنه مضطر إلى مغادرة المصر
1
قاصدا الريف حالا بسبب مرض زوجه وضرورة وجوده بجانبها، ويأتي ذلك غريبا على الملك فيرسل إليه حاجبا من فوره ويدعوه إلى تناول الغداء معه واضعا خادما تحت تصرفه حتى يأتيه بأنباء عن صحة حنة مكرها إياه بذلك على المجيء، ويتنزه الملك وبسمارك على رصيف سانسوسي بعد الغداء، ويسأله الملك ملاطفا: كيف تسير الأمور عندكم؟ - «الأمور عندنا سيئة يا صاحب الجلالة.» - كنت أظن أن الوضع عندكم حسن؟ - «أجل، إن الوضع كان حسنا جدا، ولكنه ساء منذ تسربت فينا الثورة بفعل سلطة الملك وختومه، فلم تبق هنالك ثقة بمعونة الملك.»
ويروي بسمارك أن الملكة خرجت من مكمن آنئذ فقالت: «كيف تجرؤ على مخاطبة الملك بهذه اللهجة؟»
بيد أن الملك فردريك ولهلم قال: «دعينا يا إليزة، فسأبلغ مرامي، وبماذا تعيبونني إذن؟» - «بإخلاء برلين.» - لم أرد ذلك.
وكان ذلك على مسمع من الملكة، فقالت: ليس الملك هو الذي يلام على ذلك، وهو الذي لم يقدر على النوم ثلاثة أيام. - «على الملك أن يستطيع النوم!» - العودة من دائرة البلدية خير من الذهاب إليها، وأنتم يا رجال المجلس الاشتراعي أدرى من غيركم، وليس التأنيب أقوم الوسائل في تقويم عرش منكوس، ولا بد لذلك من المعاضدة والهمة والتضحية لا النقد والتنديد.
ويؤدي ذلك الكلام إلى جعل الضيف بسمارك يشعر فورا بأنه «عزل
2
منيل
3
كله».
وهكذا كانت مقابلة بسمارك السياسية الأولى لملك بروسية، وقد كان وضعه سهلا في الحقيقة، فهو ملكي عذل الملك، وكان وضعه صعبا من حيث الشكل؛ فهو قد دخل القصر ليعنف في الواقع، وهو قد غلب لمعاملته بالحسنى، ويرضى الملك بنقده مترفقا به رفقا أبويا، ويوصي غرلاخ بعد زمن قليل بتعيين بسمارك النائب وزيرا فيعلق الملك على ذلك قوله: «ينتفع به في وقت يكون الحكم فيه للحراب.» فهذا الحكم الباطل سياسيا صحيح نفسيا في ذلك الدور الأول؛ فالحق أن بسمارك عازم عزما صارما على الدفاع عن أمره بكل وسيلة.
وتود الحكومة أن تسير على غرار البلاد الأخرى، فتلغي مبدأ إعفاء الأراضي الإقطاعية من الضرائب فيكتب بسمارك إلى الملك كتابا خاصا يقول فيه مبالغا: «إن هذه المصادرة تطعن الأملاك الكبرى طعنا استبداديا لم يأت بمثله غير الطغاة والفاتحين حتى الآن، فذلك عمل قسري ظالم موجه إلى رعايا عزل من السلاح في الوقت الحاضر، مخلصين للعرش منذ قرون. وإننا مع أكثرية الشعب الشاملة نعدكم - يا صاحب الجلالة - مسئولين أمام الله والأعقاب إذا ما أبصرنا اسم الملك الملقب أبوه بالعادل في ذيل القوانين القائلة بترك الدرب الذي سار عليه ملوك بروسية فاشتهروا معه اشتهارا أثيلا بإنصاف نظيف غير مشوب فجعلوا من طاحون سانسوسي أثرا تاريخيا.» وبتلك اللهجة المتوعدة يجرؤ - ضالا - على مقاومة مليكه الذي لم يلقب أبوه بالعادل قط.
وهو - في الوقت نفسه - يكتب مقالات للفلاحين ضد الثورة محاولا إبطال عمل الجرائد التقدمية والصحف الثورية، وهو يغدو من مؤسسي الحزب الزراعي وصحيفته المسماة كروززايتنغ، فيكتب لها الشيء الكثير في السنوات القليلة القادمة، وهو لا يألو جهدا في سبيل انتخابه نائبا في المجلس الوطني ببرلين، فإذا ما سقط في الانتخاب اشترك اشتراكا عنيفا في «دسائس القصر والمجلس»، فتسفر هذه الدسائس عن انقلاب في نوفمبر يؤدي إلى حل ذلك المجلس قوة وطغيانا ، وهو يضع نفسه في حرز حريز قبل وقوع ذلك، فيقول في كتاب يرسله إلى زوجته: «لا أرى أن أنتظر استفحال الأمور هنا، كما لا أرى أن أرغب الرب في حفظي من الأهوال التي لا أود البحث عنها، ولكن الخرق إذا ما اتسع وجدت بجوار الملك مع ذلك، فلك أن تثقي بأنه لن يكون خطر هنالك، معربا عن أسفي على ذلك.»
ولم يدخر وسعا لإعادة انتخابه، ويحاول نيل مؤازرة دائرتين لنفسه، ويبلغ من الاتضاع ما يشيد معه بممادحه، ويرسل إلى بودلشوينغ كتابا يلتمس فيه، عند عدول مخاطبه هذا عن دائرة تلتوف، وذلك بفضل إمكان الانتخاب في دائرتين، أن يوصي الناخبين هنالك بأن يصوتوا للأستاذ ستاهل بدلا منه، «وإذا كانت مناحي هذا الأخير الدينية تحول دون ذلك أمكنكم أن تحولوا جهدكم إلي، فلدي ما يجعلني أعتقد أن توصية منكم يا صاحب السعادة ذات أثر فعال في ذلك. وتجدونني جادا في نيل مبتغاي بهافلند «براندبرغ» مع قليل أمل، ريثما أظفر بذلك. خادمكم المخلص، فون بسمارك.»
ويبذل كل سعي ليفوز في الانتخاب، وهو لم يجئ شيئا إدا
4
يعدل ما صنع في أسابيع شهر فبراير سنة 1849 حين رأى أن يمثل دور كوريولانوس
5
متملقا العوام الذين يزدريهم كثيرا، وتزيد رغبته في إلقاء ذلك الأمر عن كاهله؛ لمنافاته أعصابه وتربيته وذوقه. «واليوم يجب علي أن أتعرف أيضا بجمع من الناخبين، ويرسل الرسل إلى كل ناحية، ويذهب خطيبان وطنيان إلى فردر، والأمر كمعسكر يأتيه السعاة والبرد في كل دقيقة، والشكر الجزيل لكتابك الذي أخذته أمس بين الضوضاء والدخان وفي وسط أربعمائة شخص، وقد قرأته على نور مصباح كان ينشر دفرا،
6 «فإذا ما نشلني صوت عذب من هذا الشغب الكريه» خرجت من ذلك النشاط المشوش لوقت قصير، وسيكون هذا أمرا مكدرا إذا ما انتخبت لما في انتخابي من حياة بلا راحة بال. والآن يلقي الناخبون أصواتهم، وأسلم الأمر إلى الله، وأنتظر النتيجة ثابت الجنان، وإن كنت حتى الساعة الأخيرة هائجا محموما.»
وينتخب، وهو لم يكد ينتخب حتى ترفع عمن تودد إليهم، ويقول في كتاب إلى أخيه: «لقد سخرت من نفسي غير مرة لما فرط من تحببي إلى جميع أولئك الناس التماسا لأصواتهم، وتختم الانتخابات فتقام مأدبة غداء لأكثر من أربعمائة شخص، وينشد نشيد: «الشكر لله»، ونشيد: «سلام عليك أيها المتوج بالنصر»، والنشيد البروسي، وفي اليوم التالي أصاب بالصداع، وأحس ألما في عضل يدي اليمنى بفعل المصافحة، وفي اليوم الثالث تكسر نوافذ فريق من أصحابي ويؤذى بعضهم، على حين كنت مطمئنا بجانب حنة.»
وتنم هذه الملاحظات التي أبديت وفق طريقة فالنشتاين
7
على استخفاف بسمارك الذي اضطر إلى مداراة العوام وصولا إلى السلطان، وبسمارك هو الذي كان يجتنب كل صدام للفلاحين كأحد الشرفاء فتراه يهزأ بهم كرجل سياسي، فلا يلتفت إليهم إلا من أجل أصواتهم ولاتخاذهم آلات لمناهضة الثورة.
وما لدى بسمارك من مشاعر الشريف في ذلك الحين فيعين وضعه بين بروسية وألمانية، وتناوئ هذه المشاعر ألمانية مناوأة تامة، ويقول لصديقه كودل: «وما هو شأن الدويلات لدي؟ فالذي يهمني هو سلامة دولة بروسية وتوسيع رقعتها!» ويدعى في اللندتاغ بابن ألمانية الضال، فيجيب عن هذا بقوله: «إن بروسية هي وطني، ولم أودع
8
هذا الوطن بعد، ولن أودعه!» والحق أن روحه البروسية أشد من شعوره الملكي؛ وذلك لأن المليك هو الذي أعلن حديثا إدماج بروسية في ألمانية، وإن كان مترددا في ذلك، وبروسية بسمارك أعظم فعلا من محافظته في معارضته الوحدة الألمانية، والواقع أن الثورة هي التي أيقظت مبدأ الوحدة في الشعب، وفيما كنت ترى الطبقات الدنيا في فرانكفورت راغبة في شيد إمبراطورية الألمان كنت تبصر قطع هذا العمل بحسد الأمراء وتقويضه بحقدهم على الدهماء،
9
ويناهض صغار الأمراء سيطرة بروسية، ويناهض ملك بروسية سيطرة الألمان في فرانكفورت.
ويمضي أربعون عاما، ويدكر بسمارك ذلك السياق فيسجل في مذكراته قوله: «لو حدث أن استغل انتصار 19 من مارس 1848 - وهو الانتصار الوحيد الذي تم في أوروبة على الفتن - استغلالا حازما ماهرا لحققت الوحدة الألمانية بأحكم مما وقع أيام اشتراكي في الحكم، ولا أبت في القول: هل كان يحدث ما هو أفيد مما حدث وأدوم، فأترك الأمر مفتوحا. إن الوحدة التي يكمل أمرها بقتال يقع في الشوارع تختلف نوعا وتقصر معنى عن وحدة تكتسب في ميدان الوغى. وإن مما يشك فيه أن تكون الوحدة التي تتم بأقصر الطرق وأسرعها نتيجة لانتصار مارس سنة 1848، ذات تأثير تاريخي في نفوس الألمان كتأثير الوحدة الراهنة التي توحي إلى النفس بأن الأسر المالكة حتى التي اشتهرت بالأثرة فيما مضى، أشد تعلقا بألمانية الموحدة من الفرق والأحزاب.»
ونعيش جيلا بعد تسجيل ذلك الشيخ نشيده الختامي فيكون لتأملاته تلك كبير أثر فينا، وهو يخبرنا بأن ما أتمه بقوة السلاح في حروب طويلة كان يمكن إتمامه من غير حرب محكما سريعا، وهو قد أخافته المتاريس وذعر من قتال الشوارع، وهو لذلك يفضل ميدان الوغى على ذلك، وهو كما يلوح لا يقابل بين مائة القتيل أو مائتي القتيل الذين صرعوا في أيام مارس ومئات ألوف القتلى الذين خروا في الحروب الثلاث، ولم يعش بسمارك ليرى أن الوحدة الألمانية دامت بعد تواري الأسر المالكة، ولم يعش بسمارك ليرى أن الأسر المالكة التي وصفها بتألف ألمانية الموحدة (وإن سخر منها في أمور أخرى) لاذت بالفرار تاركة للفرق والأحزاب إنقاذ الإمبراطورية الألمانية.
وفي الساعة العتيدة يشاطر بسمارك مليكه وجهات نظر بقدر ما يعرف منها، وفي اليوم الثاني من أبريل يعتقد وفد فرانكفورت، حتى رئيس وزراء الدولة الكونت براندبرغ أن الملك في اليوم التالي يقبل التاج الإمبراطوري المعروض عليه، ويحل الغد فيرفض الملك - الذي لا يحزر له أمر - ذلك التاج في خطبة أعدها بنفسه، وذلك بعبارات بلغت من الغموض ما تساءل معه الأمير ولهلم وسيمسون (زعيم الفرانكفورتيين) مساء عن رفض الملك للتاج الإمبراطوري حقا، ويدهش الشرفاء أنفسهم بعد أن أمضوا قبل يوم في اللندتاغ، العريضة التالية، فقدمت إلى الملك، وهي: «إن ما لممثلي الشعب الألماني من الثقة يدعوكم - يا صاحب الجلالة - إلى الأمر المجيد القائل بأن تكونوا الإمبراطور الأول لألمانية المبعوثة. وإننا - يا صاحب الجلالة - نخاطب مع الاحترام قلبكم، فنلتمس ألا تتجاهلوا نداء المجلس الألماني القومي.»
وعلى قلة من يعرفون الأمر، وعلى جهل جميع مترجمي بسمارك للأمر؛ نرى بين الإمضاءات على تلك المذكرة إمضاء فون بسمارك شونهاوزن وأقربائه من آل كليست وأرنيم ووزيرين من الشرفاء (انظر إلى ص355-357 من التقرير الاختزالي)، وهكذا يعترف بسمارك بتعبير كنيسة بولس البغيضة (مجلس فرانكفورت الوطني) عن صوت الشعب الألماني، فينصح مليكه بقبول ذلك التاج من تلك المشكاة الشعبية معتقدا أنه راغب فيه! ويرجع إمضاؤه ذلك إلى اليوم الثاني من أبريل سنة 1849، وفي اليوم الثاني من أبريل سنة 1848 كان قد نطق بتلك الخطبة الثائرة ضد الملك لتودده إلى الشعب فلم يسطع أن يتمها بسبب بكائه الشديد، فهذا ما اكتسبه ذلك السياسي الناشئ في سنة واحدة من الوفاء والولاء!
ولم يكد الملك يرفض ذلك التاج؛ خلافا لما كان ينتظر حتى تنفس الشرفاء الصعداء، وفي اليوم الحادي والعشرين من أبريل يقول بسمارك من فوق المنبر: «إنني أعد مقررات مجلس فرانكفورت الوطني غير الشرعية التي حاول أن يحقق بها مطامعه الطاغية (مقاطعة، الرئيس يدق الجرس) غير ذات فعل لدينا.» ثم يصف جميع المفاوضة بأنها «فوضى قائمة عرضتها فرانكفورت.» فيرفض «منح طمع فرانكفورت في السيادة أصواتنا.»
ثم يقول: «إن مما لا أتصوره وجود دستورين، وسيرهما معا في بروسية وألمانية، ولا سيما أن الشعب الألماني في الجامعة الصغرى (بغير النمسة) سيشتمل على شرذمة قليلين يعلون الرعايا البروسيين.» ثم يختم كلامه بقوله: «إننا راغبون في الوحدة الألمانية بأسرنا، ولكنني راغب عن هذه الوحدة مع ذلك الدستور، وإذا كان الشر يأتي بما هو أشد منه فضلت بقاء بروسية على ما هي عليه الآن. أجل، قد يكون تاج فرانكفورت براقا، غير أنه لا بد من صدور الذهب الذي يهب له لمعانه عن صهر تاج بروسية في بوتقة
10
قبل كل شيء، ولا أراني واثقا بنجاح الصب في قالب هذا الدستور.»
وعلى ذلك الوجه يرفض بسمارك في سنة 1849 مبدأ ألمانية الموحدة على غير صواب وعن ارتياب، فيرجع عن غيه بعد عشرين عاما، ويصبح رادوويتز وزيرا ويقنع الملك بأن يتبنى مبدأ ألمانية الصغرى، ويعرض عليه خطة مطولة، ويكتب بسمارك مقالة بلا إمضاء في جريدة كروززايتنغ فيهزأ بنأمة
11
رادوويتز «الحبلى ب (مرحى)
12
ويعود هذا الوزير - تحت عاصفة من الهتاف - إلى مقعده ساكنا كنفس من رمس، فيصافحه بيكيرات باسم ألمانية.»
وفي برلين وإرفورت حيث يتولى رادوويتز أمر مناقشة الدستور لم يرغب بسمارك في ألمانية ولا في أي شيء إيجابي، وإنما أراد مناهضة الثورة، وهو ينكر على اللندتاغ جهرا حق رفض الضرائب، وهو يرعد ضد كل مقابلة بإنكلترة وفرنسة اللتين تناول ملوكهما التيجان من أيدي الثورة الملطخة بالدماء، وضد حرية الصناعة والزواج المدني، ولا سيما ضد المدن الكبرى التي هي أوكار الديمقراطية الراخمة،
13 «فهنالك لا أبصر الشعب البروسي الحقيقي، وهذا الشعب يدعو تلك المدن إلى الصواب إذا ما ثارت مرة أخرى، وإلا جعل هذا الشعب عاليها سافلها»، ويبلغ تصرفه من الثورية ما يشبه معه في إرفورت بزعيم الراديكاليين كارل فوغت.
وهو إذا خلا إلى خلانه سخر من المجلس الذي بذل جهدا غير قليل في سبيل دخوله فعده قاعة «يقرر فيها 350 شخصا مصير وطننا، ولا تكاد تجد خمسين من هؤلاء يعرفون ماذا يصنعون. وثلاثون من هؤلاء الخمسين - على الأقل - يبدون لصوصا حراصا بلا ضمير أو ممثلين فاسدين مغرورين»، ويألم من فتن تشتعل في جنوب ألمانية، فيقول لليرشنفلد: «أدعو الله أن يهزم جيشكم حيث يتقلب، فهنالك يشتد الكفاح، وتكون النتيجة حاسمة عند برء الجرح، وسننجز غرضنا وغرضكم، وكلما اشتد الخطب طاب!» ويساوره حقد إلحادي قوي، فلما زار قبور أبطال الحرية في فردريكشن بعد عام من أيام مارس كتب يقول لزوجته: «لا أقدر على العفو حتى عن الأموات، فأرى كل كتابة على صلبانهم تنم على تبجح بالحرية والحق فتنطوي على سب الرب وشتم الناس!»
والآن يضع قبل اسمه كلمة «فون» التي كان يهملها في تواقيعه قبل ذلك، وذلك عن حقد على الثورة التي تهدف إلى إلغاء الحسب، ومن قوله لأحد الأحرار: «إنني من الشرفاء، فأود أن أتمتع بفوائد مقامي!» بيد أنه يختار مكانا له بين خصومه في جلسات اللجان، «وذلك لما أجده من ملال بين الأصدقاء ومن تسلية بين الخصماء.» ويلقي خطبة فيدافع فيها عن مزايا الحسب في بروسية، ويقوم بذلك على فضل واعتدال، فيكون لكلامه أثر بالغ، ويزور ميادين القتال حيث صارع أشراف بروسية وصرعوا، فيقول: «أجل، إنهم وجدوا لهم معركة ينا
14
هنالك. ولكنني لا أجد في تاريخهم ما يسوغ الهجمات التي وجهت إليهم في الأيام القليلة الأخيرة.» ثم يعارض الملوك بالحسب ويشير إلى تاريخ الحسب في البندقية وجنوة وهولندة، فيعد تقلب كثير من دول أوروبة الراهن نتيجة لذلك الدور الذي ضغط فيه الأمراء ذوي الاستقلال من الشرفاء، وتجد تعبيرا عن ذلك الاتجاه ببروسية في تصريح فردريك ولهلم الأول القائل: «أوطد دعائم السيادة كصخرة من قلز.»
15
وبذلك يربط بسمارك نفسه بتقاليد أجداده العصاة، فيتحدى سلطة الملك موجبا دهش حزبه، فالحق أنه إقطاعي أكثر من كونه نائبا منتخبا من قبل الشعب.
وحس الطبقة، والسياسة أمران متشابكان لديه، فعندما سألت صحيفة الكلاديراداش بعد خطبته تلك: «أين كانت قيادة المدعو فون بسمارك إذن؟» أجابها عن ذلك من فوره متحديا قائلا إنه لا يود غير استعمال الصحافة للرد من ناحيته، وأما أجداده فقد كان منهم أربعة ضباط يحاربون في سنة 1813 (لا أبوه حقا)، «وأما من حيث الشتائم التي وجهت إلى آلي فإنني أفترض - إلى أن يقوم دليل معاكس - أن طرازكم غير بعيد من طرازي كثيرا. فلي أن أنتظر منكم اعتذارا لا يأبى منحه شريف في مثل تلك الأحوال.»
ويتعارض مبدأ العنف ومبدأ النصرانية في بعض الأحيان، وإن كان هذا الصراع لا يثار في غير الأسر، فحينما أيدت حماته الحرة الفكر والكثيرة الثقافة، والتي تبدو وإياه على خلاف، قضية أبطال الحرية في بلاد المجر فلامت هاينو الذي غمر آمالهم بحمام من دم، أطلق نفسه مع كثير ثوران بالكتاب التالي: (وإن كان من عادته أن يكتب إليها في أيام ميلادها فقط)، قال بسمارك:
أراك كثيرة العطف على آل باتياني، فهل لديك من العطف على ألوف الأبرياء الذين آمت نساؤهم ويتمت أبناؤهم بفعل ما لدى أولئك المردة من حرص سعر
16
وبفعل الافتراض الذين يريدون به نشر السعادة في العالم على شاكلتهم ككارل مور؟ وهل يمكن إعدام رجل أن يؤدي وحده إلى توزيع العدل والإنصاف في هذه الدنيا في مقابل المدن التي حرقت والولايات التي خربت والنفوس التي قتلت فتبتهل دماؤها إلى الرب أن يعيد إلى إمبراطور النمسة سيف السلطان؟ إن عاطفة كالتي تبدينها نحو المجرمين هي مسئولة عن أكثر الدماء المسفوكة في السنين الستين الأخيرة، أنت تخشين أن تحمل الحكومة النمسوية ذوي الديمقراطية على الطريق، ولكن كيف تستوي السلطة الشرعية وحزب الخائنين؟ يجب على السلطة الشرعية أن تحمي بالسيف الذي أودعها الله إياه من المفسدين، ويظل العصاة من القتلة ومن الكاذبين ولو قبضوا على ذلك السيف بالقوة، فهم وإن كانوا قادرين على القتل يعجزون عن الحكم بالعدل. ومن أحاديث لوثر الصريحة: «لا ينبغي للسلطات الزمنية أن تعفو عن المذنبين، بل يجب عليها أن تجازيهم ...» اغفري لي إسهابي القول في تلك الأمور، فأنا متأثر شخصيا مما قلت، فإذا ما قيض لي ذات يوم أن أمارس السلطة العليا لم أرد أن تنظر حنة إلي بمثل العين التي تنظرين بها إلى هاينو. وداعا!
ابنك المخلص: فون بسمارك
ويلوح أن لذلك الكتاب قيمة مذكرة وزارية عند بسمارك، والآن حين أخذ بسمارك يرى ماذا يكون مستقبله أو كيف يوجه جهوده، أصبح لزاما عليه أن يجد في نفسه مناعة ضد العاطفة منذ البداءة، والحق أنه رقيق القلب وأن المؤثرات النصرانية قد جردته من بعض عدته، وأن الزوجة التي يحبها خطر عليه من هذه الناحية ولو كانت تحبه؛ وذلك لأنها بنت أمها أيضا، ولأنها تقضي أشهرا من شهور السنة مع والدتها بين أشراف الولاية العاطفيين الذين يكرهون الطغاة كما يكرهون الأحرار، وتنطوي تلك السطور على إنذار، ويبحث بسمارك عن السلامة في بيته ضد أعدائه قبل أن يجاهد خارج داره، وهو يحصن معسكره قبل أن يقيم به.
الفصل الثالث عشر
يصبح بسمارك برلمانيا، وينقطع إلى هذه المهنة فيما بين الثالثة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سنيه، وعلى من يحار من رقصه على إيقاعها أن يتمثل الغيرة التي يحاول بها أن يتدارك السنوات العشر التي أضاعها، وتبدأ الزوج والأملاك باحتلال المكان الثاني منه بالتدريج وعلى وجه غير محسوس، وتستحوذ الحميا عليه فيسير وراء طموحه الغريزي فيدفعه ذلك إلى المفاخرة، والآن يتمتع بصحة تامة، فيأكل بنهم ويشرب بوفرة، «فعلي أن أضع حدا لذلك، فلقد أفرطت في العشاء، فلا أستطيع أن أظل جالسا.» «ولما حان وقت النوم طعمنا
1 - ثلاث مرات وبلا خبز - أمعاء محشوة باللحم، مستعينين بسكين الصيد، ولم يكن الطرف الرقيق طيبا كالطرف الثخين، ولكن الانطباع العام كان وافيا إلى الغاية.» «وفي هذا النهار بلغت من أكل التين ما اضطررت معه إلى شرب مقدار من عرق السكر.» «ثم تناولت عشائي وأنا أذرع الغرفة فالتهمت معيا كبيرا لذيذا محشوا باللحم، وشربت قعبا
2
من جعة
3
إرفورت، والآن حين أكتب إليك آكل علبة ثانية من المعجونات. فالحق أنني حسن الصحة، ولكن معدتي مملوءة بالمعي المحشو باللحم.»
وما يصنعه بسمارك فبعنف، وهو يعود إلى المنزل منهوكا «بعد نزه طويلة جدا»، وهو يقضي عدة ساعات مع صديق عدوا على الخيل، وهو ينام كثيرا على الدوام، وهو يتميز من الغيظ إذا ما نبه باكرا، وهو إذا ذهب إلى صيد الدجاج البري قتل نهاره في ذلك، «وفي الليل آكل سمكا نهريا غير مرة وأشرب مقدارا من الجعة الخفيفة.» وهو يسير تحت ماء المطر مدة تترجح بين ساعة واحدة وأربع ساعات، فيستريح ثلاث مرات، «وما أكثر ما أشعر بأنني أكاد أسقط من شدة الإعياء، فأستلقي تحت شجر الخلنج
4
الندي فأدع ماء السماء ينزل علي، غير أنني كنت عازما عزما تاما على رؤية دجاج بري، وقد أبصرت كثيرا منه من غير أن أقدر على إطلاق النار لبعده من نطاقها. وفي الساعة الخامسة كنت في المنزل، فأكلت كثيرا بعد صيام أربع وعشرين ساعة، وشربت كأسين من رحيق الشنبانية ثم نمت أربع عشرة ساعة؛ أي حتى الساعة الواحدة بعد الظهر ، والآن أشعر بأنني في عافية أحسن مما كنت عليه قبل الرحلة، والآن أتمتع بما حباني به الرب من طبيعة رائعة تمكنت بها من صنع جميع ذلك.»
وهو يدرس حسن الإلقاء، وهو يحاول التغلب على «الحياء الفطري»، وهو يتكلم رابط الجأش كغوتة في الثلاثين من عمره، ما دام قد صار ذا أثر في الحياة أكثر مما مضى، وهو إذا ما وجد قليل معارضة غدا عاجزا عن القول الذي يرضى به، وهو يألم بعد ذلك مما في خطبته من خلل، «وفي الصباح كنت ذا رعن ونسيان بسبب الزكام، فذهب عن بالي أحسن ما كنت أريد أن أقوله فصرت كالمسمر»، ويعترف بسمارك اعترافا عاما فيقول: «وفي المساء أكون متبرما في عزلتي على الدوام ما لم أكن تعبا على التمام.»
ويتذمر بمرارة من قضائه حياة عزيب في برلين، وينعت الأعمال بالدسائس والمساوئ، ويقيم بتلك العاصمة أكثر مما تدعوه إليه الضرورة مع ذلك، وهو إذا ما استأجر مسكنا لأشهر الشتاء وصف غرفه لزوجته وصفا دقيقا، وذكر لها مكان المتكأ والمهد والمشكاة
5
فيه، وهو يخبرها بأنه يدفع ثلث راتب نيابته إجارة، وهو في جميع حياته يعنى كل العناية بالمحل الذي يعيش فيه ويأكل، «وتجدين جميع أشيائي مبعثرة على الأرض، وليس عندي من يرتبها، ومتى نستطيع أيتها الحبيبة أن ننام نوما هادئا خلف الستارة الحمراء وأن نشرب الشاي معا؟»
والآن تسير حياته الزوجية سيرا هادئا، كما في السنين الأربعين القادمة، وتنطفئ نار مغامراته الغرامية، لا لأن حنة تفوق جميع النساء؛ بل لأنه اتخذها زوجا حين ختام كفاحه للنساء وتحويله نشاطه إلى قتال الرجال، ويسجلان بعض الملاحظات في يومية، ويكتب في عيد قرانهما السنوي ساخرا كلمة: «متأهل!» وتقيد ذات يوم الكلمة: «مضى يوم في التعزير، فليقض يومان في الصمت.» فيمحو ذلك ويسجل في أسفله الكلمة الشعرية: «يا له من جو جميل!» أو يكتب إليها قوله: «لقد مضى على فراقنا 42 ساعة فقط، فيلوح لي مرور أسبوع منذ أبصرتك واقفة بين شجر الصنوبر على الربوة مشيرة إلي من بعيد، فسالت دموعي على لحيتي، والذي أرى أن هذه هي المرة الأولى التي بكيت فيها منذ بكائي عند انتهاء العطل المدرسية مودعا ... وما يكون من صرفي البصر إلى الوراء، فمما يجعلني أشكر للرب - من صميم فؤادي - إمساكي أمرا يؤلمني الانفصال عنه.»
وتضع ابنة لهما فيقول لها: «إنه سعيد لأن ولدهما الأول أنثى، ولو كان المولود هرا لشكرت لله ساجدا سلامة حنة.» وفي أيام نفاسها ينام وراء الستار من غرفتها لثقة زوجته به أكثر مما بالظئر،
6
وقد قال بعد أمة:
7 «وهكذا أقضي بعض الوقت في مكتبي بين المعارك السياسية والخطط كفارس سان جان دوشيلر، وهكذا أقضي بعضه الآخر ممرضا فوق وسادتها، وهكذا أجد المقارنة طيبة لدي.» وهو يصبح عصبيا إذا مرضت الزوج والأولاد أو كادوا، وتقتصر نصرانيته حينئذ على الدعاء بأن يحفظ صحة الجميع وألا يموت أي واحد منهم، ويقول في كتاب إلى زوجته: «إنني أيتها الحبيبة قلق جدا في الأيام الأربعة؛ أي منذ إصابة ولدي بالحمى القرمزية، ولا يكون الأمر غير ذلك بعد كتابك الأخير، ولو كنت مريضة لوجدت من يتصدق علي بكلمة، فأنا لا أطيق هذا الهلع،
8
وقد مر بخاطري جميع الممكنات المخيفة في هذه الأيام القليلة.» ويموت ابن الظئر ببرلين فيرسل ثلاثة كتب إلى أهله مشيرا بالأسلوب الذي تنبأ به؛ لئلا يكون للصدمة التي تمنى بها أثر سيئ في الطفل الرضيع.
وينمو جبروته العاطفي بسرعة؛ فهو بعد أن ترك زوجه وحيدة عدة شهور منعها من النفاس عند والديها، «فوضعك في رينفيلد يعني: نصف طلاق، فلا أستطيع ولا أريد أن أبقى زمنا طويلا بغيرك، ولنا الكفاية من سابق فراقنا.» ويكتب متلهيا كلمة «كتابك الظريف الخفيف.» وهي تسأله مضطربة عن وجود كثير من كتبها لديه، وترسل كتابا إلى صديقة لها في الحين نفسه فيرجو منها «كتابة العنوان نثرا؛ فقد وضعت عنوانا جديدا كبير الحروف باسم صديقتك إليزابت، فأحبيها كما تودين باطنا، ولكن كوني فاترة المجاملة على الغلاف كما تقتضيه العادة.»
وهو وإن رغب أيام مجاملاتهما الأولى في تدريبها على ما لم يقرر العود إليه آنئذ من معاشرة الأكابر، تراه الآن راغبا عن إشراكها فيما عاد إليه من تلك المعاشرة هنالك، وقد كتب يقول لها: «لا جرم أن هذه الحوادث مما يهم والدك كثيرا، وأما أنت فلا تدركين من أمرها شيئا.» وعادت كتبه لا تعدو حد النجاوى، مازجا فيها الشئون السياسية الدولية بالأمور المنزلية مزجا عجيبا، «وإذا أخذ الولد يخسر صحته مع هذه المرضعة وجب عليك أن تصنعي كما تشيرين. وخطاب العرش خلو من الخلط الثوري، فلعل ذلك يقف عند ذلك الحد. ومن الطبيعي أن يبقى ما كان على ما كان ما أعرضت دولة النمسة والدول الأخرى عن معرفة شيء من تاريخ فرانكفورت. ولا أستطيع عد رغبتي، ولا معدل لي عن الإذعان، وكل شيء خلط ملط في حقيبة السفر، فاعفي عني، فسوف أعيد الأمر إلى محله يوم الأحد.»
ويقول في كل كتاب يرسله إنه سيعود إلى البيت بسرعة، وهو لا يعود إليه مع ذلك، وتلومه ذات يوم على تلهيه بين العشراء على حين تقضي وقتها عند والديها فيقول لها بكياسة: «علي أن أتغدى وأتعشى كل يوم، فأرجو أن تفعلي مثل ذلك حيث أنت هنالك.»
وهو سمح في حياته المنزلية على العموم، ولا يثور ذوقه وحس طبقته واتزانه في أموره البيتية إلا حين عرض هذه الأمور على الجمهور، ويولد ابنه البكر هربرت في السنة الثالثة من زواجه ويسيح الجميع معا.
ويعرب عما يساوره من كدر في كتاب فكه إلى أخته فيقول فيه: «والآن أصور نفسي مع الأولاد على رصيف محطة جنثين، ثم يقضي اثنان منهم ضرورتها في عربة القطار على غير استحياء فتفوح رائحة كريهة، ويبدي المسافرون الآخرون تقززا، وتخجل حنة من إعطاء ثديها للطفل، ويزعق الطفل حتى يزرق، ثم يزعق مع قردين زياطين
9
في محطة ستيتين. وبالأمس بلغت من اليأس تجاه مثل تلك المناظر المؤذية ما عن لي معه أن أعدل عن جميع هذه الرحلات. وفي هذه الليلة هاجمتني حنة بغتة حاملة الطفل بين ذراعيها، فأبدت من ضروب المكر النسوي ما خسر به الجنة عرق البشر، ومن الطبيعي أن قلبت عقلي فنجحت في إبقائي على خطتي، بيد أنني أبدو لنفسي إنسانا أصيب بظلم عظيم، ومما لا ريب فيه أنني سأضطر إلى السفر في السنة المقابلة مع ثلاثة مهود
10
ومع مراضع وقمط
11
وفرش. ويا ليتهم يزيدون راتب نيابتي ما دمت رب أسرة! وتصوري تبذير ما بقي من ثراء رائع في السفر مع رضع، ألا إنني عاثر الجد
12
جدا!»
واليوم يعيش مقتصدا لذلك السبب، واليوم ليس له ولع بغير الراح، ومن ذا الذي يعتقد أن ذلك تحاور أخوين حسيبين حين يكتب بسمارك إلى أخيه الأكبر قائلا له: «كانت حال سوق الصوف هنا كما كانت في ستيتين. وفلت عزائم البائعين في أربع وعشرين ساعة، مع أن الوالد كان يحاول أن يبرك ساكنا خمسة أيام أو أسبوعا على كيس الصوف في سالف الأزمان، وفي عشية السوق بعت ب 73 تاليرا على حين كان يجب علي أن أبيع ب 75 تاليرا. وعندي أنك بعت بخمسة تاليرات دون الثمن.»
والحق أن بسمارك كان محتاجا إلى النقد على الدوام، وما كان من نقص سبعين تاليرا فحال يدعو إلى شغل البال، وجياد الركوب هي التي تقرن بالعربة، ويبلغ ما يعود عليه من بدل إجارة شونهاوزن ثلاثة آلاف تالير أو أربعة آلاف تالير، «وقد بلغت نفقات البستان في أثناء هذه السنة 103 تاليرات، ولا بد من إضافة أربعين أو خمسين تاليرا إلى ذلك حتى عيد الميلاد في سبيل العزق
13
والقطف، وذلك عدا ما يقتضيه الوقود»، ويرسل إلى زوجه حسابا دقيقا كما يأتي: «زيت ب 8,8 من التاليرات، وسكر وتوابل وملح ب 9,2 من التاليرات».
ويحسب كلفة خدمه فيقول إنها دون التقدير، وفي هذا يقول: «إن قسما من نفقات تكلفتهم يستتر تحت جعائل
14
البستانية ما داموا يستنفدون محاصيل من البستان.» ويرسل إليها من برلين اثنين وعشرين رطل شاي مع قوله لها: «يجب عليك أن تضيفي نفقات العربة إذا ما رغبت في التنزل عن شيء منه.» ومن بواعث سعادته أن يوفر شيئا من راتب نيابته.
وهو إذا ما جاء إلى البيت انتحل وضع الطالب في العطل، «فأقضي حياة كسل هائل، فأقضي وقتي في التدخين والمطالعة والنزه وملاعبة الأولاد، وفي الاطلاع على السياسة من قراءة جريدة كروززايتنغ. ولي كبير متعة من هذه العزلة الرعائية الشعرية، وأستلقي على الكلأ وأقرأ قصائد وأستمع إلى الموسيقى، وأنتظر نضج الكرز»، ويسلك سلوك الحضري، ويبدو صاحبا لسر الرجل الذي يعمل بعقله كأنه لم يعش عشر سنين في سواء الريف!
وهو إذا ما جاء إلى البيت وحده لاحت له الأيام الثلاثة الأولى وحدها رائعة كأنه كان ينتظرها حين شد العدة عليه، وهنالك الدرواس
15
أودين الذي لم تتركه أصوله وفروعه قط، وهو يأسف على أن زوجه لم تبصر الذرة التركية «ذات السوق التي يبلغ طول الواحدة منها ثلاث أقدام، فلا أقدر على بلوغها بيدي»، وهو يسر من نمو الأشجار الجديدة في الحقل الحديث، وإذا ما انقضت بضعة أيام بدا الاختلاف وبدأ السأم؛ لوجود حنة عند والديها ولوجوب مراقبته الأسداد، ويصبح لزاما عليه أن يسرح الطاهية مع معارضة حنة لذلك؛ وذلك لقذارتها وإرسالها للغسل - مع ذلك - مقدارا من الثياب لا يصدقه العقل، «ووسخ المطبخ أمر واقع، وهي رعناء فضلا عن ذلك، فهي تحرق شماعد، ومن المحتمل أن تكون هذه الشماعد لنا ما دمت لا أعرف مكان حفظها ولا عدد ما كان منها»، ولسرعان ما يزول كل شعور بالراحة والرضا، فيشعر بالبؤس لأنه وحده؛ فالحق أن بسمارك يحتاج إلى زوجه ما دام عاطلا من العمل المنتج، وهكذا يكتب إليها في ثلاثة أسابيع من أكتوبر مجلدا من الرسائل، وهناك يتجلى سابق لهجته، فيسمع من بعيد صوت الخوف من أن يحكم عليه، ذات يوم بالعزلة وبحياة فاترة.
وقد بلغت من السأم ما لا أكاد أطيق البقاء معه هنا، وتحدثني نفسي باعتزال خدمة الحكومة وبترك شئون الأسداد وبالذهاب إلى رينفيلد. فاكتبي إلي كتبا كثيرة إذن، ولو كانت أجرة البريد مائة تالير، وأخشى أن تكوني مريضة، واليوم غدت نفسي من الحال ما وددت به أن أسير إلى بوميرانية ماشيا، وأراني عظيم الشوق إلى الأولاد وإلى أمك وأبيك، وإليك قبل كل إنسان أيتها الحبيبة. وصرت لا أعرف الراحة، وما قيمة شونهاوزن بغير وجودك، يوحي إلي خلو غرفة النوم وخلو المهود وصمت الخريف ذي الضباب بأنكم من الموتى، ويخيل إلي دوما أن كتابك القادم سيأتيني بسيئ الأنباء. ويحتمل ذلك في برلين، مع وحدتي فيها، ما دمت أعمل وأتكلم في اليوم كله، وأما هنا فيكفي ذلك لجنون الرجل، ولا بد من أنني كنت امرأ آخر فيما مضى حتى صبرت على ذلك.
وهنالك رزمة لها يفتحها ويسجلها فيجمل بعض الشيء فيقول في كتاب يرسله إليها:
أبصرت وشاحا مع شريط أحمر، وجوارب للأولاد، فبدا لي هذا أمرا ظريفا جدا، وقد ظننتني قريبا منك، فساورني سرور كبير، ثم تذكرت الفراسخ السبعين التي تفصل بيننا والتي لا خطوط حديدية في خمسة وثلاثين منها، والحق أن بوميرانية واسعة جدا، وتصل إلي كتب كثيرة من المجلد، ويخبرني الخياط بأنه استطاع أن يصنع لي خمسة لباسات من قطعة النسيج، وأفترض أنه يلبس السادس. أسبغ الله عليك نعمته.
المخلص: فون بسمارك
ونبصر من خلال ذلك العطف الحار أن بسمارك - الرجل الملغز - يخالطه وجل من زوال سعادته، وهو كلما زاد ازدراؤه للناس عظم ارتباطه في زوجته وأولاده، وفي تلك الأسابيع يبلغ هلعه حول هؤلاء درجة الخباط،
16
مع أنهم يتمتعون بصحة رائعة، ومن ذلك ما اعتراه من جزع كبير لعدم وصول كتاب إليه منذ يومين أو ثلاثة أيام «حتى صرت عاجزا عن صنع شيء خلا الجلوس أمام الموقد فألاحظ تأجج النار وانطفاءها فيه، فأتمثل ألفا من ممكنات المرض والموت وخطأ البريد وخطط السفر واللعنة على إدارة الأسداد والعرفاء»، ثم يقول: «وتنفد سغايري من فوري، والآن - وللمرة الأولى - أدرك أنك مع أطفالك جزء كبير مني كما أدرك مقدار ما تملئين به فؤادي، وفي هذا سر ما يبدو من فتوري تجاه كل إنسان سواك وسوى أمك، ولو أصابني الله بأكبر شقاء ففقدتك، لتمسكت بأبويك كثيرا ولتوجعت والدتك من إزعاجها بغرامي.»
وهكذا يبلغ ذلك الأناني الغاية من العلوق بأقرب الناس إليه وأعزهم عليه فيؤمن نفسه ضد فقدهم ويوجه قلبه إلى أناس عاش حتى ذلك الحين بغيرهم، وهكذا يفر - دوما - أمام أنانيته المائجة باستمرار.
ولم يجد نجاة في إيمانه الجديد بيسوع، وليس الرب في السنوات الأولى الثلاث من زواجه غير الحكم الذي يطلب منه العون لمن هم أعزاء عليه، ونشعر بمعنى عميق في قوله لزوجه إنه يدعو لهم في كل وقت من «الليل، عند الساعة الثانية، بغيرة أشد مما أدعو به لسلامة نفسي مع الأسف»، ولا ترى له كتابا لا يدع فيه زوجه وأولاده لعناية الله، ولا تكاد ترى دليلا غير ذلك على أنه مؤمن، «وأضرع إليه في الغرفة وفي الشارع لكيلا ينزع منا ما أنعم به علينا»، والأمر كذلك عند اشتداد مرض ولد له، ولكنه عندما سمع خطيبا نصرانيا يرفع عقيرته
17
ضد إعدام روبرت بلوم قاطعه بقوله صارخا: «ذلك خطأ، ذلك خطأ كبير، فإذا وجد عدو تحت سلطاني وجب علي أن أهلكه!»
بسمارك في سنة 1835.
وذات يوم يحلل في كتاب يرسله إلى حماته مباركا لها بعيد ميلادها ومستعينا بالأسلوب البياتي ما يفصله عن الإيمان من تباين فيقول: «يا ليتني أستطيع بعون الله أن أدفع الغضب عن قلبي. ومهما يكن الأمر فالله هو الذي يستطيع بعنايته أن يجمع في شخصين وأن يقوي في نصيبه الأمين الذي يقضي على نصيب الشيطان، وليحدث هذا، وإلا ساءت الأمور عندي، ولا مراء في أن الله سيعين نصيبه حتى يظل سيد البيت، فلا يقدر صاحب النصيب الآخر على غير الظهور في سوى السرداب، وإن كان يبدو أحيانا كما لو كان سيدا في الحقيقة.»
والواقع أن ذلك الاتضاع هو أقصى ما يسمح به كبرياؤه، وإذا عدوت ذلك وجدته يتطلع إلى السلطة العليا من مسكنه، وتثور زوجته في أحد الأيام، فيقول لها: «لا تدعي ما يدعوك إلى الشك في أنني أحبك كجزء من نفسي، وأعتقد أنني كنت لا أنال رضا الرب لو لم أنلك، فأنت مرساتي في المكان الأمين من الميناء، فإذا كسرت هذه المرساة دعوت الله أن يرحم روحي.» فالسلام والإيمان، والزواج والدعاء، أمور بلغت من الاشتباك فيه ما يداوي معه بعضها ببعض من ناحية وصولا إلى ممارسة عواطفه كما يشاء من ناحية أخرى.
ولذوقه - أيضا - تأثير حاسم في بياتيته، وهو كما يقدر البياتية في النساء وحدهن يمقت ترتيل الكنائس البروتستانتية، وهو يقول: «أفضل عليه الموسيقى الجيدة التي يقوم بها في الكنيسة ناس عارفون أن يصلوا بها من أجلي، وأفضل عليه قداس مرلاخي الذي يرتله بين دخان الشمع وعثان
18
اللبان قسيسون لابسون ثيابا بيضا. وكان لبوشل جوقة من الصبيان، فكان هؤلاء يرتلون بغير أرغن مع خطأ ولكنة
19
برلينية.»
ولكن العالمين اللذين يود فصل أحدهما عن الآخر في الحين بعد الحين يريدان أن يمرجا،
20
فهنالك يقع في الوضع الغريب الذي يحاول الرجل أن يوازن به بين الطموح والواجب الحكومي والحب الزوجي، فهو قد دعي إلى مغدبرغ كمحلف، وهو قد دعاه الملك إلى الصيد معه في اليوم نفسه، وهو قد وعد زوجه بالذهاب إلى رينفيلد ليراها في ذلك النهار، وهو تجاه ذلك تتجاذبه العوامل بين القصد الحسن والعاطفة والمغالطة، فيخيل إلى المرء أنه يسمع برهنة مراهق، إذ يقول:
لقد ألقيت قرعة حول الأمر، فلم أعرف حين أتيت هذا العمل الصبياني هل أتوجه إلى الرب أو لا، وتتجه أفكاري إليه في آخر الأمر؛ وذلك لأنني لا أستطيع أن أرفض الدعوة من غير أن أقول الكذب؛ وذلك لأن ذكري أنني عظيم الشوق إليك مما لا يقبل في البلاط وإن كان لهذا السبب ما لغيره من الوجاهة.
وإذا ما قلت الكذب ووجب علي أن أبقى هنا مع ذلك كانت لي حسنة في ذلك، وإذا ما قلت الحق استطعت أن أقول على أية حال: سيكون ما يشاء الله؛ (أي في مغدبرغ أو لا).
ومهما يكن الأمر فإن الملك يود أن يحدثني. وأكتب إليك عن ذبذبة أفكاري منذ ساعتين، فأبدي لك كيف تبدو لي نفسي تارة كرجل يعمل بمشيئة الله فيعدل عن لقائك سريعا، وكيف تبدو لي نفسي تارة أخرى كرجل ينظر إلى الصيد بمثل نظر الثعلب إلى العنب فيخشى أن يقع في شرك بما يلقيه من معاذير كاذبة.» وهو يتفلت في نهاية الأمر من حبائل شعوره فيقبل الدعوة في البداءة محتفظا لنفسه بحق رفضها ضمنا، «فمن الممكن ألا أكون قد أتممت عملي في أمور الأسداد.
وهو - وإن كان يحاول أن يواثب ظله على ذلك الوجه - يندم في كل مرة تقريبا على قبوله الحل الذي ارتضاه، ويهجع
21
بجانب طموحه ازدراء لنتائج ما أبصر فساده في فتائه، فتبصر تأهب هذا الازدراء للهبوب عند أقل اضطراب، فإذا ما سار أمر سيرا معوجا، أو إذا ما أثاره أمر، لم يعتم أن يبدي شوقه إلى «تطليق السياسة واعتزال حياتي البرلمانية وإلى الحياة بجانبك في شونهاوزن، فأقتدي بوالدي الذي كان يقطع الغابة الصغيرة مع رجال وكلاب فيرقب في كل مرة هرب الثعلب بجد، حتى عند علمه مثلي عدم وجود ثعلب هنالك».
وبسمارك لم يترك الكفاح قط مع تبدد وهمه، فهو لا يهجر السياسة أبدا، وهو لا يجد العوض في غير الالتجاء - دوما - إلى الطبيعة والعزلة استهانة بالناس والأشياء، ثم تتدفق حوباؤه
22
وينطق فؤاده ويعود صباؤه
23
فيصير شاعرا، «وقد كنت جالسا في تيرغارتن على مقعدنا أمام حوض الإوز، وتغدو فراخ الإوز التي كانت غير ناقفة
24
في الجزيرة الصغيرة، نامية رمادية فتعود هناك وهنالك بين البط القذر. وأصبح ورق الجرمشق
25
الجميل الطويل أسمر ضاربا إلى حمرة. ويستر الطرق أوراق صفر ذات خفخفة
26
بعد سقوطها من الزيزفون والحور وما إلى ذلك من الشجر. وتذكرني نزهتي كثيرا بكنيبهوف وبما يقع فيها من صيد الدجاج البري ومن القنص بالأشراك، وكل شيء أخضر غض كما كان عليه أيام كنا معا هنالك يا عزيزتي»، وهذه التصرفات تثير فيه ببساطة ومن غير سفسطة حنانا حقيقيا إلى الحياة المحدثة، وهو إذا كتب إليها حول موضوع بيع الحطب فلكي يقول لها بلهجته العجيبة: «والآن تركت حطبنا القليل حيث هو فعدت لا أطيق قطعه.» أو إنه يذهب إلى الصيد فلا يلبث أن يرى نفسه عاجزا عن شد زند البندقية ؛ «لأنني لا أستطيع أن أرى سوى الأمهات والأطفال.»
ويضطرب الموج في أعماق نفس لا تحتاج إلى عقيدة، وتبصر اتصال مراهقته الوثيق بشبابه، وذلك هو تيار الخليج الذي يفيض من فؤاد بسمارك عند زيارته مصادفة، مدرسته الأولى (التي غادرها في السنة العاشرة من عمره)، وحين قام فيه أسف لطيف مقام ارتيابه المعهود، «فيا لصغر هذه الحديقة التي كنت أعدها كل العالم! فأين المدى الواسع الذي كنت أركض فيه لاهثا؟ وأين بستاني الصغير وما فيه من الجرجير؟ وأين الأمكنة التي قامت عليها قصور الهواء الخربة اليوم؟ وأين ضباب الجبال الأزرق الذي كان يبدو خارج السياج ذي الأوتاد؟ وما أكثر ما اجتذبني العيش والعالم! لقد بدت الدنيا الملونة لي، عند وجودي في الحديقة، وفق ما كان لدي من أفكار حول غابها وحصونها وما كان ينتظرني من الحوادث، ومن المحتمل أن كنت أبكي لو لم أناد بصوت عادي. وهنالك ذكرت أن تلك الحديقة لا تزيد على بقعة صغيرة في ولهلمستراس وأنه لا شيء يقف النظر خارج سياجها الخشبي. وأن مساحة دورنبرغ في كنيبهوف ستة عشر فدانا، وأنه كان لنا عمل مع القائد غرلاخ».
الفصل الرابع عشر
كانت الوحدة الألمانية قد أقفل عليها في صندوق الاتحاد بفرانكفورت تحت حماية مترنيخ، بيد أن اللهب الأكبر الذي كان جميع محبي الوطن من الألمان يتدفأ به منذ حرب الإنقاذ لا يزال يومض
1
مع سكون، وكان يدارى سرا في أصغر أجزاء ألمانية وأدقها بدلا من أن يثار ببأس، فكنت تراه محاطا بأبخرة خانقة منبعثة من «غرف نظام الحكم الرصاصية بفينة» وتندلع النار الثورية من باريس مرة أخرى فتجاوز نهر الرين وتنظر أوروبة مبهوتة إلى انتشار الحماسة السياسية حتى بين الألمان، فإما أن يكون هذا الوقت هو الذي تحقق فيه الوحدة الألمانية بجانب الحرية وإما ألا يكون أبدا.
وذلك عمل جلل، وذلك فعل هائل؛ لاقتضائه انتزاع الحرية والوحدة من أسر إقطاعية مسلسلة مستعبدة، وكان الأمراء والعسكريون ورجال الدواوين وأصحاب السلطان معارضين للحرية، وكان الخلاف بين بروسية الألمانية الحديثة والنمسة اللاألمانية في ثلاثة أرباعها عقبة كئودا
2
في وجه الوحدة، وهكذا ختمت حركة سنة 1848 بنزاع بين الملكيين والديمقراطيين، وبين كبراء الألمان وصغرائهم، وإن انتهت بغنى في الأفكار وبإقامة حريات ظاهرة على جناح السرعة في «دساتير» كل من الإمارات الألمانية، وهكذا لم يكد عامان صاخبان يمضيان على ذلك التاريخ حتى بعثت المعبودات المحلية الألمانية مرة أخرى.
ولم يبق من مساعي كنيسة بولس (مجلس فرانكفورت الوطني)، ومن مرسومها في الحقوق الألمانية، ومن قوانين هذا البرلمان القومي الأول، ومن مبادئ دستوره ونظرياته، غير قصاصة ورق بلا تنفيذ، فقد نسفت النمسة وأعداء بروسية الآخرون كل شيء منذ البداءة، وذهبت جميع الجهود في توحيد ألمانية أدراج الرياح، ويعاد تأليف البندشتاغ القديم في حمى النمسة، وتصدر دعوات رسمية إلى افتتاحه في صيف سنة 1850.
وما خطب بروسية؟ لقد رفض فردريك ولهلم الرابع تاج ألمانية التالد الذي عرض عليه، فبحث عن الملجأ في روائيته على استحياء، وتقتصر مزاعمه حول زعامة ألمانية على جمع دويلات ألمانية الشمالية في اتحاد جمعا غير ثابت، وينحل برلمان إرفورت تجاه وعيد النمسة وروسية، وينطوي رفض إرسال مندوبين إلى البندشتاغ في فرانكفورت (الذي حل بالإجماع في سنة 1848) على استفزاز.
ولم يكن حاكم النمسة الجديد الأمير شوارزنبرغ ليطيق الإبهام، فلما انتحل ناخب هس الأمير - الذي أتعبه العمل وفق ما نص عليه دستور دويلته من مراقبة - نظام فينة الحكومي فأثار بهذا كبير استياء في دويلته تلك، ضمن له شوارزنبرغ الحماية من البندشتاغ، أو يمكن المرء أن يتمثل تحديا أوقح من هذا بعد الثورة بقليل زمن؟ وتحتج على ذلك بروسية التي هي رئيسة الاتحاد المنسوبة إليه هس، ويلوح شبح الحرب، وتبدو بروسية نصيرة الحرية! وتنظر ألمانية إلى تصرف بروسية ذلك بعين الارتياح ذات حين، ويحمل القائد والوزير ببرلين - رادوويتز - جذعه على عنقه رجلا لا قيصرا، وتصوب النمسة وبافارية سلاحهما نحو الكتائب البروسية، ويلوح دنو الساعة التي تزن به الدولتان المتنافستان قوتهما في القتال من أجل زعامة ألمانية، والتي تجران بها الجامعة الألمانية القديمة إلى الهاوية، وكان ذلك في شهر نوفمبر سنة 1850.
ويدعى بسمارك إلى الجيش المحلي ضابطا وإلى المجلس نائبا، وإنه لفي طريقه إلى برلين إذ يصعد إلى عربته عمدة قرية شائب، اشترك في حرب الإنقاذ سنة 1813، فيسأله: «أين الكتائب الفرنسية؟» ويدهش هذا المقاتل القديم حين يعلم أن العدو في هذه المرة هم النمسويون لا الفرنسيون، ويصل بسمارك إلى برلين ويزور وزير الحربية قبل غيره، ويعلم أن الكتائب البروسية هي من التفرق بما تسلم معه برلين إلى العدو بعد شهر الحرب، ويعد بسمارك ببذل جهده قبل اجتماع المجلس في الإيصاء بالاعتدال؛ وذلك لما ينجم عن الخطب النارية من تدهور الأمور، ولما تحتاج إليه بروسية من الوقت، ويتفق الملازم فون بسمارك مع الوزير على تأجيل لحقه بكتيبته، ويكتب إلى قائده قوله: «لقد استيقظت أمس صباحا فوجدتني مصابا بصداع كبير فلم أذهب ...» وهذا من أجل نفسه ومن أجل خادمه.
ويتحمس الأمير ولهلم للحرب، ويعجب برادوويتز الذي يعتزل الخدمة، ويروى أنه حل حسامه من حمالته وطرحه على قدمي أخيه قائلا مع القسم: «لا يستطيع المرء أن يخدم بشرف تحت إمرتك!» حتى إن رئيس أركان الحرب - مولتكه - كان يرى أن لدى بروسية أربعمائة ألف جندي مستعد للقتال، «وأن أسوأ الحكومات لا يقدر على سوق أولئك القوم إلى البوار، فستقبض بروسية على زعامة ألمانية على الرغم من كل شيء، ولكنك لا تبصر على وجه البسيطة أمة أشقى من الشعب الألماني!» بيد أن رادوويتز يسجل قبيل وفاته وفور سقوطه «رؤيا سنة 1900»، فنقرأ فيها قوله: «أرى بعث الإمبراطورية الألمانية برئاسة بروسية، وستعود فرنسة إلى حدودها الطبيعية بفقدها الألزاس، فلا يكون لديها ما تخافه لهذا السبب»، وعلى ما كان من بصر هذا الرجل بسياسة بسمارك كان بسمارك يدعوه بداهية بروسية الداعر.
وما هي علة انحياز بسمارك إلى ناحية السلم؟ أفيعتقد عجز بروسية الحربي؟ إن من المحتمل أن يكون السبب الحقيقي في ذلك هو ارتياعه وارتياع الوزراء المحافظين من حول الأحرار وطولهم،
3
فكان الرأي عندهم - كما عند الملك - أن يقتفى أثر الرجعية النمسوية أكثر من اقتفاء أثر المبادئ الثورية في الوحدة، ويعد بسمارك خيله وأحذيته للحرب ثم ينقض فعله طورا بعد طور، فيلوح مذبذبا كالمعلقة، ويبدي لزوجه شاكيا كون الدسائس دون سواها هي التي تقرر مصير سبعين مليونا من الآدميين، وإذا ما سلمت السلم مثل دوره في الأمر على ما يحتمل، «والآن تكون الحرب عملا سخيفا إلى الغاية، فسيكون من نتائجها منذ البداءة أن تزلق حكومتنا فرسخين نحو الشمال».
وينهمك من فوره في أسلوب الخطبة التي يتوقع أن يلقيها في الأسبوع القادم، فيقول إنه من الإجرام أن يساق مئات الألوف إلى الموت بلا ضرورة، وينسى - وهو أكثر الكتاب بعدا من التكلف في رسائله - من يوجه إليه قوله: إن بروسية ذات رخاء حتى الآن، وأولئك هم الذين سيفيدون من النصر، فإذا ما كتب لنا الفوز بمعونة الديمقراطيين عرض هؤلاء جروحهم على الملك كأنهم قائمة لم تدفع قيمتها، ولا أستطيع أن أكون عصي الدمع عندما أفكر فيما تكون قد أصيبت به كرامتي وبهجتي وبيضتي،
4
ولشد ما أسكر الشعب البروسي المخلص المقدام المكرم برحيق «شرف بروسية!»
ولم يحدث أن كتب فارس الأسلوب ذلك إلى غريب، بله
5
زوجه، بمثل تلك اللهجة، ويرسم مسودة لخطبته، وبعد بضعة أيام تبدو الحرب قريبة ويأمر بإحضار خيله وسلاحه على جناح السرعة، ويكتب كفارس، كرجل يسر من مغامرة، ويمضي رسالته للمرة الأولى بالكلمة «لك إلى الأبد»، ويكتب إليها في حال أخرى قوله: «لما يمض من الزمن ما أتشوف فيه إلى ألهيات الريف.» «أولئك هم الذين سيفيدون من النصر»، فهذا هو ما حدا بالصلف الطرماذ
6
بسمارك إلى معارضة حرب مؤدية إلى الوحدة الألمانية تحت سلطان بروسية وضد النمسة، وتمر أيام قليلة من ذلك الحين فيجنح للسلم بضغط من روسية، وذلك كما كتب بسمارك في شيبته: «لأن إمبراطور النمسة الشاب كان يروق الروس أكثر من ملك بروسية.» ويذهب الوزير الجديد - مانتوفل - إلى أولموتز وينبئ شوارزنبرغ بعدول بروسية عن الزعامة، ولا بد من تأليف البندشتاغ الذي نبذته بروسية منذ عامين فتكون الزعامة للنمسة في فرانكفورت.
وتثور بروسية - أو الشعب البروسي - ويطلب عزل مانتوفل وشهر الحرب، وما كان الشعور بالشرف القومي ليثير إنسانا مثل إثارته بسمارك المخلص لبروسية والمناهض للنمسة على الدوام، والآن بعد ذلك الانتكاس من ذا الذي يجب عليه أن يمقت خصمه ويود محوه؟ حقا إن بسمارك حقود، وبسمارك وإن أمكنه أن يشايع مغلوبا لا يستطيع أن يشايع غالبا.
ولم ينشب بسمارك أن عرف من التفصيل ما يجرح عزته؛ فقد علم أن الأمير النمسوي يقيم بالطبقة الأولى من الفندق في أولموتز ومعه حاشية عظيمة، على حين يقيم الوزير البروسي ومعه خادمان بالطبقة الأرضية من ذلك الفندق ممثلا دور مكتر
7
حقير، ويشعر بسمارك لا ريب بأن شوارزنبرغ اعترف لأصدقائه بأن النمسة تهدف إلى إهانة بروسية ثم إلى هدمها.
ولكن ماذا حدث؟ نهض بسمارك الصوال المنافح ليلقي خطبة طويلة في اللندتاغ يدافع فيها عن الحكومة وعن أمر أولموتز، فكانت هذه آخر خطبة نطق بها في إبان نيابته وأكبرها خطرا، قال بسمارك:
ولم تشهر الدول الكبرى الحرب في هذه الأيام؟ إن الأثرة - لا التأثر - هي السبب الصحيح الذي يحفز إحدى الدول الكبرى إلى الحرب، مع أن تلك الدولة تمتاز من أية دولة صغيرة كانت، يسهل على رجل الدولة أن ينفخ في صور
8
الحرب على حين يتدفأ أمام الموقد أو ينطق من فوق هذا المنبر بخطب فخمة رنانة تاركا للجندي الذي يسفك دمه بين الثلج أن يكسب النصر والمجد. والويل لرجل الدولة الذي ليس لديه من أسباب شهر الحرب ما يكون ذا قيمة بعد أن تضع الحرب أوزارها. والحرب إذا ما انتهت كان لكم بعدها وجهات نظر مختلفة حول مسائلها، وهل يكون عندكم بعد ختام الحرب من الشجاعة ما تدنون به من الفلاح الذي ينعم النظر في حقله المحروق، أو من الرجل ذي العضو المقطوع أو من الوالد ذي الولد المفقود، فتقولوا له: أجل، إنك لاقيت من الآلام ما لاقيت، ولكن كن قرير العين معنا، فقد أنقذ دستور الاتحاد!
ويلتفت بسمارك إلى الشمال بعد تلك الجمل الساخرة اللاذعة، فيقول إن القوم يبحثون عن شرف بروسية، ومما يقضي بالعجب أن يولع فريق الأحرار بذلك على الخصوص، «فأنتم لا توفقون لتحويل هذا الجيش، الذي مثل في 19 من مارس دور المغلوب إلى جيش للبرلمان. فهذا الجيش سيظل جيشا للملك وسيجد شرفه في الطاعة، وليس الجيش البروسي محتاجا إلى إثبات بسالته والحمد لله، وإنما أنشد الشرف البروسي قبل كل شيء في عدم اتفاق بروسية مع الديمقراطية اتفاقا شائنا.» ثم يتكلم بسمارك عن النمسة فيقول: «إنها دولة ألمانية لها شرف السيطرة على شعوب من أصل أجنبي قهرتها جيوش ألمانية. وإني أعد النمسة ممثلة ووارثة لدولة ألمانية قديمة امتشقت السيف الألماني مع المجد والفخار.»
ذلك ما قاله بسمارك ابنا للخامسة والثلاثين من سنيه، متما كلامه بصب اللعنات على من يودون أن يضحوا بالدم البشري في سبيل دستور الاتحاد؛ أي في سبيل الإمبراطورية الألمانية بغير النمسة؛ أي بما اضطر إلى التضحية به بعد ست عشرة سنة وصولا إلى تلك الغاية، وذلك ما دافع به بسمارك عن خضوع بروسية لأولموتز، وليس لدينا من الوثائق الخاصة ما يبيح الذهاب إلى أن تلك الخطبة هي أمر سياسي يستتر وراءه أفكار حربية مضمرة وآراء لا نمسوية مبيتة، ولم سار بسمارك على ذلك الدرب إذن؟ ذلك لأن الأخوين غرلاخ ومانتوفل وبراندبرغ وجميع مستشاري الملك ووزرائه كانوا ضد الحرب ومن القائلين للنمسة، وإن شئت فقل لفينة التي كانوا يعدونها معقل الرجعية الحصين، وكان بسمارك يرى أن يتبعهم ما وجدهم موطئا لرقيه، وهنالك الوقت الذي يحالف فيه الحكومة والملك بين عشية وضحاها بأن يلقي خطبة طويلة ملائمة لهما، فبهذا ينال قسطا من السلطان، وهو إذا ما نال السلطان غدا نافعا لبلده وفق ما يرى، وتلتقي مشاعر آل بسمارك الإقطاعية التالدة وحرص آل منكن الطريف فيحفزه هذا إلى الدفاع عن أمر أولموتز.
وأحسن بسمارك التقدير، فكفت خطبته للدلالة عليه كسياسي، وإن الرجل الذي استطاع في أزمة الخزي القومي تلك أن يدافع مغامرا عن هذا الخزي لحري بأن يمثل البلاد في البندشتاغ حيث يصبح لزاما عليه أن يتعاون هو والنمسة من جديد، وبسمارك كان قد قدر ذلك منذ سنتين حين قال: «على الأمور أن تسير سيرا سيئا قبل أن تتحسن، ولا بد من انقضاء عامين أو ثلاثة أعوام قبل أن يكون لأمثالي وأمثال كليست مكان في خدمة الدولة.» ويحل الوقت، فلم تكد أربعة أسابيع تمر على خطبته تلك حتى عرضت عليه وزارة أنهالت، وفي ذلك يقول في كتاب إلى زوجته بأسلوبه المعهود: «لم أسع إلى الأمر حتى الآن تاركا إياه لله، وإلا فالمقام جذاب، وإن الدوك غبي، وإن الوزير هو الدوك، وإن من المغريات أن أقوم بشئون الحكم هنالك كدوك مستقل؛ أي في جميع وادي السلكة القريب خطوتين من الهارز.»
ولم يحدث أن كتب كلمة «الحكم» والآن - بتلك الكلمة - ينزل ضربة كما لو كانت من مطرقة، فترن في الغابة الروائية التي يحاول أن يتمثلها، ويبصر أن أمر أنهالت غير مجد، ويحار فيما يصنع، ويتردد بين إمساك حوذي
9
شونهاوزن وتسريحه، ويرى أن يبيع شونهاوزن، ثم يعود فيقول كشريف ساخر: «يلوم لي أن البيع عمل طائش، وإن كان من المحتمل أنني اتخذت هذه الخطوة لأسباب لا وزن لها أمام المولى.»
ثم يحصي المناصب التي بلغها رفقاء حزبه، ويريد ترك إدارة الأسداد، «ولكنني لا أود أن أكون سيدا في غير شونهاوزن وكنيبهوف ورينفيلد. ولو كنا واثقين بالبقاء في شونهاوزن لرأيت أن أغير الحوذي، وإذا ما اضطررت إلى الخدمة في مكان آخر أبقيت هيلدبراند الذي ألفته.»
أفي الخدمة؟ يعتقد من يسمع ذلك أمر رجل خسر منصبا فيبحث عن سواه طلبا للرزق، كلا، وإنما ذلك هو شريف يتمتع بنصيب من الثراء فلم يطق - قط - خدمة إنسان، وقد حاول كل شيء فرفض كل شيء لكيلا يطيع إنسانا، وهو قد بلغ من الانسياق بعجلة السياسة ما عجز به عن تكوين رأي له في الحياة الخاصة، فأضحى اضطراره إلى قضاء بضعة أيام في شونهاوزن بغير زوجه «كثير الهول»، فعدل عن ذلك وإن كان لديه من الأعمال ما يستلزم حلا هنالك، والآن ليس عنده ما يكفي للتحديث عن برلين ، ولا عن البلاط على الخصوص، ويعود إلى الرقص بعد بضع سنين فيثير هذا غيرة حنة الوحيدة في رينفيلد فلا تكاتبه بغير واسطة ابن عم، بيد أنه يصالحها من فوره، ويروي لها قول الملك بعد الرقص: «ترنو
10
الملكة إليك منذ نصف ساعة من غير أن تلاحظ ذلك!» وفي مرة أخرى يكتب بسمارك إلى حنة كتابا يحدثها فيه بوجد عن روعة الردهة البيضاء مع من فيها من ألوف السيدات المتبرجات والرجال ذوي البزات، فيقول لها: «إن الشعر كل الشعر والخيال كل الخيال في سماع الموسيقى والجلوس على أريكة وثيرة بين نخيل وعيون ذات خرير، وفي النظر إلى أمواج الغرور من عل.»
أجل، إن ميفيستوفل
11
لم يزل عنه، وإنما انتحل وضع جليس الأمراء، ويمثل دور هذا الجليس في كتبه الأهلية، فلما كان ملحقا عسكريا ببطرسبرغ نقل إلى زوجه كثيرا من مجاملات قيصر روسية وقيصرتها فختم كلامه بقوله: «إن ذلك جميل، ولكنني أفضل عليه إقامتنا الهادئة معا في هذا البيت، في كنيبهوف التي تروقني أكثر من كل حظوة لدى الملوك.» ويكتب ذلك من قصر الملك في براندبرغ، ولا شيء يمنعهما من الحياة بدعة في كنيبهوف، بيد أن عيش البلاط ليس بالذي يزدرى، ويكون حلم بسمارك أروع الحقائق إذا نقل قصر الملك إلى منزله فيضع السياسة والسلطان في جناح ويضع الهدوء وحنة في جناح آخر.
ولا غرو إذا ما شكا إليها حياة الهرج في برلين، مع أنه يود ألا يحرمها الآن، «وإليك صورة عن حياتي: ففي يوم السبت أقضي ما بين الساعة العاشرة صباحا والساعة الخامسة مساء في المراسم وأفاوض في الساعة السابعة رئيس الغرفة التجارية البحرية وأقلب الوثائق وأفحص الحسابات حتى الساعة العاشرة، ثم أقابل مانتوفل فيدوم تناول الشاي وحوك المكايد إلى منتصف الليل، ثم آوي إلى بيتي فأكتب كتبا إلى زمرة الناخبين، ثم ألزم سريري في الساعة الثانية من الصباح، وفي يوم الأحد أستيقظ في الساعة السادسة، وأقضي ما بين الساعة السابعة والساعة التاسعة في المفاوضة حول المنصب الوزاري في أنهالت-برنبرغ ، ويستمر وعظ بوشل حتى الساعة الحادية عشرة، ويستمر الحديث مع وزير الداخلية حتى وقت الظهر، وتستمر الزيارات حتى الساعة الثالثة، فإذا حلت الساعة السادسة واجهت غولتز وكلمته في أمر فوضه إلي أمير بروسية، ثم أكتب حتى الساعة التاسعة، ثم أجتمع بستولبرغ، ثم أذهب إلى فراشي في الساعة الواحدة صباحا.»
وفي نهاية الأمر - أي في ربيع سنة 1851 - يحمل الجنرال غرلاخ الملك على إرسال بسمارك إلى فرانكفورت، ويقول غرلاخ: إن هذا التعيين من عمله، ونفترض أنه مقدما، بحث مع صديقه بسمارك في الأمر مليا حول اتباع وجهته في البندشتاغ من قبل بسمارك - رضيعه السياسي كما كان يعد - ويجاوز هذا التعيين، الذي كان يدور في خلد بسمارك - والذي لم يفتأ بسمارك يحوك من أجله الدسائس منذ شهور - آمال بسمارك المعقولة، وإن كان دون ما تصبو إليه غطرسته بمراحل، وفي بروسية كان لا بد - لإدخال مثل ذلك العبقري إلى الدواوين بمرقاة الخدمة - من إبداء «الحكومة المكنونة» كثيرا من اللباقة في سنين طويلة ومن مكايد في البلاط والوزارة غير قليلة.
وهنالك يصف لزوجته - بسذاجة سياسية كبيرة - ما كللت به من النجاح جهوده التي بذلها في ذلك السبيل، فكان أمره وهو الجوال غير المؤذي كصياد الطيور هنري الذي عرض عليه التاج حينما كان يحتبل
12
العصافير، وإلى حنة يكتب قوله بعد عودته من عندها إلى برلين: «إن كل إنسان يتكلم حول تعييني لفرانكفورت، واليوم قد ذكر الأمر في فوسيش زايتنغ، ولكنني لا أعرف شيئا عنه.» وفي اليوم التالي يكتب إليها قوله: «حقا إنهم يودون تقليدي منصبا سياسيا، وأود - فضلا عن ذلك - مقاما ذا ديمومة فأستطيع أن أرتب نفسي معك يا ملاكي. ومن الممكن أن يحبط الأمر لهذا الشرط، وسأترك من فوري منصبا لا أستطيع أن أعيش فيه مع أسرتي.» وفي كل حال «يجب علي أن أترك عاداتي الطيبة، وأن أترك أملي في العيش معك ومع الأولاد بهدوء كالذي اتفق لنا في شتائنا الأول، وهذا لأمد بعيد ما رزحت تحت ذلك النير، ولا ريب في أن الرب سيفعل ما يلائم نفوسنا، ألا إنني لم أعرب عن أمل مطلق، ولا يضيق صدري.» وفي الغد يكتب إليها قوله: «عزيزتي، أصبح ذهابي إلى فرانكفورت ضربة لازب تقريبا، وذلك مع التعويض، وإن كان لأجل مسمى.»
والرب هو الذي يعين مصير بسمارك في مكان غرلاخ، وما كتبه حول المنزل والأسرة، وحول رغبته في منصب دائم، وحول هوان العمل تحت «النير» حين كتب له النجاح فأمور حقيقية؛ وذلك لأنه وإن كان يحتمل حياة العمل بلا راحة، يحتمل الراحة بلا عمل، فلما سأله مانتوفل بعد يوم عن قبوله المنصب أجابه بقوله البسيط: «نعم»، ولكنه لم يكد يثق بأمر تعيينه حتى أنشط زهوه من عقاله بعد أن ظل مكبوتا زمنا طويلا، وهكذا يذهب إلى الملك.
الملك :
لقد بلغت من الجرأة ما تقبل معه منصبا في الخارج من غير سابق تجربة.
بسمارك :
إنك - يا صاحب الجلالة - مصدر الجرأة بتفويضك ذلك المنصب إلي، ولك يا صاحب الجلالة، ألا تبقيني في ذلك المنصب إذا لم أثبت أنني ابن بجدته، ولا أرى المنصب فوق طاقتي ما لم أجربه، وإذا كان لديك يا صاحب الجلالة من الجرأة ما تأمر به كان لدي من الجرأة ما أطيع به.
الملك :
لنجرب إذن.
وقبل ثلاث عشرة سنة من تلك المحاورة التي أعادت بسمارك إلى خدمة الدولة؛ كان بسمارك قد اعتزل الخدمة بأن بلغ الرئيس الأول بواسطة الحاجب أن يذهب بلا عودة، واليوم يكتب إلى زوجه قائلا: «إنك تألمين من أن أولياء الأمور لا يجدون عملا لي، وإليك الآن ذلك المنصب الذي هو أهم ما في خدمنا الدبلمية فوسد إلي فوق ما كنت أنتظر وفوق ما كنت أود.»
وعلى ما كان من إظهاره في ذلك الكتاب تحريض زوجه إياه على مطالبته بالتقدم، وألمها من عدم تعيينه حتى ذلك الحين؛ داوم على قوله هادئا: «إنني لم أطلب هذا المنصب، والمولى هو الذي أراده، وما علي إلا أن أقبله، ولا أستطيع أن أتملص منه. ومن النذالة رفضه. وإني لأدعو رب الرحمة من صميم فؤادي أن يهيئ كل شيء من غير إلقاء بسعادتنا العتيدة إلى الخطر ومن غير إضرار بروحي.» وينتقل في الأيام القليلة الآتية إلى ضرب آخر من الآراء فيوصي بإحضار سترته الحريرية وفروده التي لا يستطيع أن يقوم بمنصب دبلمي بدونها، وهو ينبئ زوجه بأنه لا يبقى في منصب من الدرجة الثانية إلا لبضعة أشهر ثم يغدو سفيرا بسرعة.
والآن يأتي دور حنة في بث الشكاوى، وهو يجيب عن ذلك بقوله: «ولم هذا الغم، أجل، إن العيش في بلد أجنبي مبهج، ولكنني أكاد أبكي عندما أفكر في حياة الريف الهادئة معك ومع الباقين، في تلك الحياة التي أبصرها حلما لطويل زمن على ما يحتمل والتي تبدو لي رائعة إلى الغاية في الساعة الراهنة. وطني نفسك على قضاء الشتاء معي بين الأصحاب، وإلا فأين أدفئ فؤادي؟ ومن المحتمل، ومن الراجح، أنني لا أقصد وطني لسنوات كثيرة إلا زائرا مستعجلا مأذونا، غير أنني جندي لله فيجب أن أذهب إلى حيث أوجه، وما يصنعه الله فهو جميل، وليكن هذا المبدأ رائدنا في المستقبل، وأشعر بشوق عظيم إليكم كلكم وإلى الربيع الأخضر وإلى الحياة في الريف؛ فقلبي حزين، واليوم وقت الظهر ذهبت لمقابلة الجنرال غرلاخ، وإني لأتلقى منه معلومات عن المعاهدات والملوك؛ إذ رأيت تحت النوافذ نمو شجيرات الكستناء والليلك التي تحركها الرياح، إذ سمعت تغريد البلابل فخيل إلي أنني معك عند نافذة غرفة الطعام وأن الرصيف هو الذي أبصرت، فلم أدر ماذا يكون غرلاخ، وقد أخذت كتابك أمس مساء، وقد بلغت من الشجن
13
والحنين إليكم جميعا ما سكبت به عبرات كثيرة حين قصدت السرير. وفي فرانكفورت يدفع إلي في الوقت الحاضر ثلاثمائة تالير راتبا، وأبدو مستشارا خاصا عما قليل، وأعد ذلك سخرية يجازيني الله بها على ما كان من تهكمي بالمستشارين الخاصين. ويا ليتني أضمك بين ذراعي، ولو دقيقة واحدة، فأعرب لك عن درجة حبي لك وأسألك العفو عن كل سيئة فرطت مني يا فؤادي. ويزعجني ذلك التمييز المفاجئ، وأود أن أكون بجانبك أكثر مما في أي وقت، وأحبك أكثر مما في أي وقت يا حبيبتي!»
تلك هي الأفكار المتضاربة التي تتجاذب ذهنه إقبالا وإدبارا، وليلق الرب الحنان، وليوجب عطف مضاعف، سكينة في قلب ذلك النصراني المكروب عند تحقيق مقاصده، والعزوف عن الاعتراف الصريح بغاياته على ما فيها من صواب وأدب ومناسبة، وماذا؟ أبسمارك خائف؟ لا ريب في عدم وجله من السلطان ومن الكفاح، ومن المحتمل أن تكون قد أخافته تلك المرقاة الإدارية التي نفر من منظرها أيام شبابه، وهو يجزع منها وإن لم يتسور ذروتها بعد، وهو يفزع من آمره، ومن رفع تقرير إليه والمثول بين يديه إذا ما حمله عليه، وتأبى كبرياؤه الإذعان، وفي هذا سر شوقه المفاجئ إلى الحياة الريفية الهادئة التي هجرها منذ سنين، وفي هذا سر رغبته الثائرة في العثور على السعادة والسلام بين ذراعي حنة، غير أن غرلاخ حاضر، فيزود تلميذه بالنصائح ويحثه على السفر وإن لم يكن لذلك آخر، ويضيف الدبلمي الحديث بسمارك الذيل الآتي إلى كتاب يرسله إلى زوجه:
ليكن عنوان رسائلك إلي بعد الآن: فرانفكورت سورلومين، فون بسمارك، المستشار الملكي الخاص بالسفارة البروسية.
الجزء الثاني
الطموح
أجل، إن ما تنم عليه كل كلمة ينطق بها من العبقرية يزيل شكوكي، ولكنه لا يوثق به وثوقا تاما.
فونتان
الفصل الأول
«يساورني كبير سأم هنا، لا يفتأ النمسويون يحوكون الدسائس تحت ستار من اللطف العنيف، وعلى العموم يبدو ممثلو الدول الصغيرة دمى دبلمية ذوي شعور مستعارة، وهم ينتحلون منظرا رسميا إذا ما سألوني عن نار لشعل سيغار، وهم يعنون بنظراتهم ويختارون ألفاظهم إذا ما أرادوا مفتاح مستراح. ولو كان وجودي هنا لأمر خاص بي لطهرت حقلي من العشب البري أو لعدت إلى داري من فوري، وسأشعر بانحداري وخسري لحريتي بلا سبب ما لم يحول ذلك إلى ما هو أحسن منه بسرعة، ثم إنني لا أعرف كيف أتساوق مع سياستنا الألمانية ما دمت غير ماسك بالحبل الأصلي، وإذا عدوت مقام الملك ومنصب رئيس أركان الحرب ووظيفة وزير الخارجية لم أجد في ميدان الدبلمية البروسية ما يشبع الطموح والنشاط في رجل رشيد.»
وهكذا يترجح بسمارك في أول عمله الدبلمي بين الضجر وعدم الصبر، وبين المهزأة والمنزلة، ولما تمض بضعة أسابيع على تحقيق بسمارك لأمله القديم، وعلى مسكه بقسط من تلك السلطة التي أراد أن يقبض على زمامها بأسرها لكي يحرك ساكن بروسية، والآن تبصره يصرح بأنه لا يجد في عمله ما يستحق أن يبذل في سبيله نشاط رجل راشد، والآن تبصره يعد زملاءه محلا للهزوء، والآن تبصره يود أن يضع عنه القيد الذي اختاره، وهو لو سئل أن يتمهل إحدى عشرة سنة أخرى، وهو لو سمع هاتفا يقول له إنك لن تمسك الحبل الأصلي قبل سنة 1862 «لاعتزل العمل في الحال ولفر مسرعا إلى شونهاوزن»، ومما لا مراء فيه أنه كان راغبا عن رئاسة أركان الحرب، وأنه كان يتطلع إلى الملك، ولو تم له ذلك لحلت المعضلة الألمانية بغتة، ولحل لغز بسمارك.
وبيان ذلك أن الذي يثير أعصابه هو ما كان عليه أن يتلقاه من الأوامر للمرة الأولى، وما كان من شعوره بوجود مولى فوقه، وما كان من بصره إطاعة هذا المولى لمن يعلوه، وإلى زوجه حنة يكتب قوله يوم وصوله إلى فرانكفورت: «يجب علي أن أتعود تحولي إلى عامل جاف منتظم الساعات مخصص أوقاتا لسير الأمور وتقدم العمر، وقد فات زمن الرقص واللعب عندي، فكأن الله وضعني في مكان أصبح فيه رجل جد.» وهو بهذا الوقار يخاطب زوجته، وهي في الحقيقة لا تود مثله أن تعتقد أنه لم يكن رجلا جديا حتى ذلك الحين، وأنه سيغدو رجلا جافيا، وهو في الحقيقة يظل رجل عواطف قوية كما كان في كل وقت، ويسرع هذا المتبرم في ازدراء ما وفق لنيله، ويدع غير القانع هذا ما أنقذه فاوست بعد جهد طويل، يتفتت بين يدي ميفيستوفل.
وفي كتاب إلى غرلاخ يقول: «إن تعييني في هذه السنة لأتخرج في أتفه المفوضيات بألمانية أمر يفوق ما كنت أنتظر.» وفي الواقع أن كل شيء كان يلوح له أفضل من هزال ثرثرة النواب الذين ما انفك يهزأ بهم منذ ثلاث سنين، بيد أن الدبلميين الذين أخذ يختلط بهم لأول مرة في حياته لم يعتموا أن بدوا له «أدعى إلى السخرية من نواب المجلس الأدنى في الأهمية. والآن أعرف جيدا مقدار ما نصنعه في سنة أو سنتين أو خمس سنين، فأستطيع أن أنجزه في أربع وعشرين ساعة إذا ما ملك الآخرون حواسهم وسلكوا سبيل الرشاد ليوم واحد.» ولكنه لم يكد يعود إلى المحيط البرليني الذي كان قد مدحه، والذي ما انفك يستهويه في سنوات فرانكفورت، حتى بدأ يصب جام
1
غضبه على «لجاجات المجلس غير المجدية، وجميع الحماقات التي تثير السخط. والحق أنني أميل إلى مناقشات مجلس الجامعة التي تقوم على المجاملة مع أنها مملة.»
ذلك هو القريض الذي يخفق له قلب بسمارك؛ وذلك لأن بسمارك بمزاجه السعر
2
يزدري - قبل كل شيء - كل ما ينال، لا لأن بسمارك يعرف فقط أن يحل ببصره الحديد وعقله الجبار معظم المسائل بأسرع مما يستطيعه أحد المجالس، وبسمارك يضيع إذا لم يقارع، ولو صار بسمارك سيد العالم لاعتراه السأم.
ويرتعش بسمارك تجاه ما عرفه من إمكان إهمال الملك فردريك ولهلم لتعيينه سفيرا بضغط من النمسة، ويا لسرور أعدائه! وفي ذلك يكتب إلى غرلاخ قوله: «إنني لست طموحا بالمقدار الذي يظنه أخوكم، ولكن مشروع تعييني إذا ما عد تدبيرا حزبيا كان إلغاؤه دليلا على عدم أهليتي لذلك المنصب. ولذا فإنني أتمسك بتعييني عن طموح.» وهكذا تبصره يحمل على أحد الأخوين غرلاخ على حين يبلغ الأخ الآخر بأنه لا يرغب في جعله سفيرا، وهو يود من ذلك أن يقصا كلاهما النبأ على الملك، بيد أنه واثق بمستقبله في قرارة نفسه، وآية ذلك قوله في كتاب إلى زوجه: «نستطيع أن نعيش هنا - مع ضيق - براتب ثلاثة آلاف تالير وقليل دخل، وإذا لم أعين حتى الصيف سفيرا لدى البندشتاغ طالبت بزيادة الراتب، وإلا اعتزلت العمل كله.»
ويتغلب أصدقاء بسمارك على تردد الملك، ويصبح بسمارك الذي لم يكن ذا سابق خدمة في الدولة سفيرا في السادسة والثلاثين من سنيه خلافا لكل عادة؛ وذلك لأنه كان فارس الملك نائبا، ولأنه كان لرئيس فرسان الملك صديقا.
والتأنيث هو أول شيء يصنعه لعدم خبرة زوجه في ذلك، ولأنها ليست معه، وهو - كما في شبابه وشيبته - ينشد الراحة ويود حيازته لبعض الأشياء، ويبلغ راتبه - سفيرا - واحدا وعشرين ألف تالير، ولم يقع أن تصرف بمثل هذا المقدار للإنفاق فيما مضى، وهو يوسع على نفسه لذلك، ولكن مع الاقتصاد، وهو يقول في كتاب إلى أخيه: «ومن كان يظن منذ عام، حتى منذ ستة أشهر، أنني أستأجر منزلا بخمسة آلاف فلورين، وأنني أستأجر طاهيا فرنسيا إعدادا لعشاء في عيد ميلاد الملك. ويترجح ما أنفقته على تأنيث البيت بين عشرة آلاف تالير واثني عشر ألف تالير، ولما أفرغ من ذلك، ويتألف الأثاث - على الخصوص - من الأواني الفضية والبرونزية والزجاجية والصينية، ولم يكن ثمن البسط والرياش عاليا مثل ذلك، وهنا لا يأكل أحد طبقين بشوكة واحدة فيجب أن تحتوي الوليمة لثلاثين شخصا مائة طقم من السكاكين والشوكات والملاعق على الأقل. والآن أجدني مكلفا بإقامة حفلة راقصة لثلاثمائة شخص. والاستغلال من دأب العمال والتجار هنا، والنفقات العقيمة عظيمة هنا، دع عنك الخدم الاثني عشر الذين يتألف نصفهم من الذكور ونصفهم الآخر من الإناث، وأفضل على ذلك إمرتي على ثلاثين خادما في الريف.»
ولم يحدث في مجتمع الطماعين ذلك أن بدأ أحد مثل مهنته بمثل طبيعته، ولكننا عندما نسمع بسمارك - بعد رحلات يتوجه إلى البلاط، وبعد زيارات يقوم بها لدى البلاط - يجادل في عدد السكاكين والملاعق، أو عندما يقول إن حوذيه الشائب في حلته الجديدة يبدو كأحد الكونتات؛ نبصر أنه نشأ متوسط الحال مع أخيه، وأن «رجل العالم العظيم» - كما تدعوه فتيات بوميرانية - ليس سوى شريف قليل اليسر دعي إلى تمثيل الدولة بغتة، وما كان من تلك الأوصاف الفلاحية؛ أي من اقتصاده الذي هو وجه جديد لسابق إسرافه، ومن رغبته في زيادة تراثه، ومن دفعه الضرائب عن أملاكه، ومن حيازته جديد الأملاك وجمعه الغاب والقرى في سبيل حفدته، فأمور لازمته حتى آخر عمره، وهذه الأمور، وإن كانت سببا لغضبه في بعض الأحيان، ما انفكت تكون مصدر قوة له على العموم؛ وذلك لما كانت توجبه من حكمته في اقتصاد الدولة كما في تدبير شئونه الخاصة، وقد نمت تلك الأمور في رب الأسرة الذي أضحى رب الشعب.
والزهو الطبقي أمر بارز لدى ذلك الشريف الذي شق طريقه فجأة إلى المجتمع الراقي، والزهو الطبقي في ذلك الشريف أعظم مما في الكونت تون الذي كان شعوره بمنزلته يأذن له في دعوة أثرياء التجار بفرانكفورت إلى العشاء، ويجيء في تقرير رفعه بسمارك إلى رئيسه وزير الخارجية مانتوفل: «إن من موجبات سروري أن رقصت رقصة الكدريل مع كثير من نساء ملتزمي الأثاث في منزلي، وما وجدته من أنس هؤلاء السيدات فينسيني ما يسلمه إلي أزواجهن من القوائم العالية والسلع الرديئة، وكانت تجاهي زوجة ماجد بلغت من الرقة ما كانت تتحفني معه بالسغاير، وبلغ زوج جارتي من اللطف ما جهز معه زوجتي، أول من أمس، بستائر النوافذ.» فهذه لهجة رجل لا يرى معدلا له عن نزاع الطبقات حتى في السياسة الداخلية.
وإذا عدوت أخاه لم تجد أحدا يدرك حقيقته في تلك الأمور، وأخوه ذلك لم يدرك حقيقته في كل أمر مع ذلك، وأخوه ذلك كان «بسمارك في صورة مالك شريف بالمارش»، ومع ما كان من انفصال أحد الأخوين عن الآخر في الأمور المالية وفق ما اتفقا عليه سابقا، ومع ما نراه من عدم الأدلة على أن بسمارك الدبلمي أعطى أخاه المالك الشريف أية وكالة مهمة في إدارة أملاكه؛ نبصر بسمارك كان يطلع أخاه ذلك على وضعه المالي الخاص، وهو يبث شكواه إلى الحكومة المحلية، التي ينتسب إليها في الوقت الحاضر، حول العلاوات، وأعمال الأسداد الإضافية التي يطالب بها سيد شونهاوزن العتيد، «وإني، بعد أن قبضت ما بقي لي من الإجارة بشونهاوزن، أجد لدي من الخطط ما أطفئ به الديون، فأنا بخيل ككل واحدة من أرباب رءوس الأموال.» وهو إذا ما دعي مع زوجته إلى بيت أحد الدوكات في يوم من الأيام، وهو إذا ما دعي معها في يوم آخر إلى بيت دوك كبير، حسب فوجد «أن مثل تلك الرحلات مع الحقائب والخدم والحلوان وأجرة العربة يكلف بدلا أعلى مما يكلفه تناول عشاء في منزلي»، ثم يعد ما يقيمه من الولائم بسبب منصبه، «وما يتطلبه جميع ذلك من مال يدفع فيستلزم حذرا من قبلي أكثر مما تعودته نحو أعمالي النقدية فيما مضى، والآن نعيش مقتصدين؛ تأدية لنفقات الشتاء الماضي، وستعود ميزانيتي إلى مجراها الطبيعي في اليوم الأول من يوليو»، ويطالب ذات يوم بألف تالير كنفقات كانت الدولة تقوم بها، فبلغ من الغيظ ما غدا معه «أكثر تقتيرا مما كان عليه سابقا في الأمور الاجتماعية»، وما كان يكثر من الحديث في كثير من رسائله عن أولى ولائم العشاء التي يقيمها فقط، بل تجد مثل ذلك فيما كتبه حتى بعد ست سنوات أيضا، ومن ذلك «أن فضلات المائدة تؤلمني في كل مرة، فإذا ما ابتلعتها وحدي أفسدت معدتي، وإذا ما دعوت شباب النهام وشيبهم إلى أكل تلك الفضال شربت حتى سكرت معهم فلا يلائمني ذلك.»
ثم يجد بسمارك حياة الوظيفة مملة؛ فقد جاء في كتاب إلى حماته: «من العادة أن أقضي وقتي من ساعة تناول الشاي صباحا حتى الظهر في استقبال السفراء وسماع تقارير الموظفين، ثم أحضر جلسات تنتهي على غير انتظام بين الساعة الواحدة والساعة الرابعة، فإذا ما حل ذلك كان لي من الوقت الكافي ما أركب فيه جوادا وما أقوم فيه بكتابة الرسائل حتى الساعة الخامسة، ثم نتناول العشاء - عادة - مع واحد أو اثنين من ملحقي السفارة، وتكون ساعة الهضم أفضل ساعات النهار على العموم، وإن كنت أضطر إلى الذهاب، في الغالب، قبل أن أزدرد آخر لقمة، وأدخن تبغا مستلقيا على كرسي طويل مستور بجلد نمر مع جلوس حنة والأولاد حولي، فأتصفح نحو عشرين جريدة، ونخبر في الساعة التاسعة أو في منتصف الساعة العاشرة بانتظار العربة، فنلبس ثيابنا على عجل، ويساورنا سوء مزاج وألف تأمل مر حول غرابة ما يحس من «الملاذ» في مجتمع أوروبي كالذي نذهب إليه، وهنالك تثرثر حنة مع الأمهات على حين أرقص مع البنات أو أهذر مع الآباء، ونعود إلى المنزل حوالي منتصف الليل فأقرأ مستلقيا على السرير ما تيسر، ثم أنام إلى أن تنبهني حنة وتسألني ثلاث مرات عن عزمي على النهوض.»
وفي المنزل تسلية لا شكل لها، ولا نظام في المنزل، وتجيء الراحة في المنزل قبل الرسميات، ويزور الأمريكي موتلي صديقه القديم بسمارك في فرانكفورت، فيقول: «إن ذلك هو أحد البيوت التي يصنع فيها كل واحد ما يود. وتقع الغرف الخاصة في الخلف، وهي تشرف على حديقة كبيرة، وهنالك يجتمع الشباب والشيب والآباء والأبناء والكلاب، وهنالك يأكلون ويشربون ويدخنون، وهنالك يعزف على البيان، وفي الحديقة تطلق العيارات النارية، ويقع ذلك كله في وقت واحد، وفي ذلك المنزل يقدم كل ما يؤكل ويسقى، وفي ذلك المنزل يتناول الإنسان ما طاب من ضروب الشراب كالبورتو والسودا والجعة والشنبانية والبورغون والبوردو. وفي ذلك المنزل يدخن الجميع أجود سغاير الهافانا على الدوام.» وإذا ظل بسمارك في مباذله ذات الصور كالأزهار حتى الضحى - حتى الظهر أحيانا - ظهر طيب المزاج، وبسمارك إذا خرج من المنزل وجب أن يكون كل شيء عنده على ما يرام، قال بسمارك: «أفضل خمسة أقمصة من أحسن نوع على عشرة أقمصة منشاة، ولن يشترى قميص لائق بتاليرين.»
وذلك الطراز من الحياة يجدد شبابه إلى حد ما، وذلك كما يستدل عليه من الصورة الزيتية التي صوره بها صديقه بيكر، والآن يفقد بحلق ذقنه شيئا من وقاره الذي لازمه قبل سفارته وبعدها، وحلق الذقن تضحية في سبيل الدبلمية، وقد قال لزوجه: إنه حلق ذقنه ببرلين إجابة إلى رغبة أبدتها، وهو لم يحلقه بالحقيقة إلا عملا بنصيحة نيسلرود حين وجب تقديمه في برلين إلى القيصر الذي كان لا يحب اللحى، وكانت تلك الحياة الحضرية جديدة عليه وكان يكرهها في الغالب، ويشتكي «من اطراد الأعشية والاستقبالات المملة الموجبة لضياع الوقت، ويسفر ازدراد ما في الأطباق من أطعمة ناعمة عن بيد
3
الكبد، ويؤدي عدم الحركة في أيام إلى داء السكتة»، ويشير الطبيب عليه بالنهوض من الفراش في الساعة الخامسة صباحا وبلف بدنه بنسيج ثري،
4
فيفضل عليه «ضربا من الموت أقرب إلى الطبيعة، إذا كان لا بد من الهلاك ذات يوم».
وله توازنه بركوب الخيل وبالصيد، وهو يغضب في كل مرة تحمله أعماله على العدول عن رحلة صيد، «فالصيد أحسن وسيلة لقتل الوقت، والآجام أحب شيء إلي لما لا يصل إلي فيها إنسان ولا رسالة برقية، وما أكثر ما يساورني حنين إلى حياة الريف. ويمر العمر، وأود الهدوء»؛ ولذا يطلب إلى أخيه أن يجد له سرج فرس، «لثقلي ومنظري، ولست أبالي برشاقة الدابة ما دمت محتاجا إلى تمرين عنيف.»
والفرق بعد عشر سنين واضح في ذلك الكتاب الذي يطلب فيه فرسا، فلم تكن الخيل والنساء لديه ذوات نزق كاف في الماضي، والآن لا يريد ترويض أحد، والآن يريد الهمز
5
فقط، وهو لا يثور فيهدر
6
أحيانا إلا عند قضائه ليلة عاصفة على ظهر مركب في دانيماركة، أو عند سماعه في هنغارية أن اللصوص دهموا أصحابه في غابة فأطلقوا النار عليهم، أو عندما يكون في الخارج فيقول: «لا يبتلى المرء في فرانكفورت المملة بمثل ذلك.»
والحق أن منصبه الجديد يقدمه في السن بسرعة، ويظل بسمارك سفيرا من السنة السابعة والثلاثين إلى السنة الثامنة والأربعين من عمره، ولكن مع نقص عميق في قواه الحيوية، وليس ذلك لما اتفق له من راحة بال، بل لزيادة سرعة انفعاله، وبصره انقضاء الزمن، وعجزه عن تغيير شيء في بروسية مع استيائه في عشر سنين مما يحدث فيها، ونفاد نشاطه في كتابة سلسلة من التقارير والرسائل، وقد كتب بعد عامين يقول: «ما كنت أظن أنني أتعود العمل بهذا المقدار من الانتظام هنا. وأعجب بنفسي كل يوم حين أرى درجة كفاحي لكسلي الطبيعي ومقتي الغريزي للمداد.» وإذا تمثلنا ما كان عليه بسمارك بدا لنا أنه كان مروضا حينما اتهم نفسه برعونة الصبا لعطله من الصحف في سياحة أسبوعين، ويتحسر بعد ثلاث سنين، فيقول في فرانكفورت: «وذلك لرقاد في الأمور!»
ولا يخفى علينا أنه أشار بذلك إلى أمور السياسة العليا، لا إلى الأمور اليومية التي تركها لمرءوسيه، ويكتب رسائل إلى أسرته في غضون اجتماعات البندشتاغ وعند إلقاء الخطب المملة فيه، ويرى لزاما عليه ذات يوم أن يحمل على وقف شاب متهم بأمر سياسي، ويذهب ليرى هذا الفتى باكرا، ويصل إليه بعد صعود درج ثلاث طبقات في المنزل الذي يقيم به، ويقول له: «خير لك أن تقصد بلدا أجنبيا بما يمكنك من السرعة!» ويتردد الفتى، ويقول بسمارك: «يظهر أنك لا تعرفني، ويحتمل أنك محتاج إلى نقود نفقة للرحلة، فخذ هذا المبلغ وأسرع في مجاوزة الحدود؛ لكيلا يقال إن الشرطة أبرع من الدبلميين.» وفي سان بطرسبرغ أيضا يعرف أثيم في السفارة، فيعطيه ثيابا أخرى، ويهربه من الباب الخلفي، ثم يهزأ بالشرطة لأنها تركته يفر، فمن خلال ذلك الشذوذ النادر نبصر ظهور مغامرات شبابه مرة ثانية.
ويبدو عمل دماغه مضاعفا حين إملائه الرسائل؛ فقد روى أحد ملحقيه أنه يذرع الغرفة إذ ذاك ذهابا وإيابا لابسا بذلته الخضراء فيلوح أنه يفكر جهارا في جمل تتدفق بفروغ صبر ويتخللها كثير تفسير، وهو إذا ما لاءمه ذلك فاستطاع أن يمسك أمين سر داوم على الإملاء من منتصف الليل إلى الصباح، وهو كرئيس منصف لطيف، فلا يحتمل أمناء السر الذين «يبدون من الاحترام الهائل ما لا يرتاح إليه»، وهو يدعوهم إلى الصيد وتعاطي الشراب معه، وهو يخشى جانبه في الأمور الظرفية، وهو إذا ما أنجز له عمل بعناية لم يبد رضا، ويتحد اثنان من أمناء سره في قولهما إنه يعامل أمناء سره كتلاميذ مدرسة متمردين، وهو إذا لم ينفذ له أمر قال: «أراكم ستأسفون على ذلك؛ وذلك لأنني أعتقد أنكم تشاطرونني رأيي في أن الرجل الشريف ينجز ما أوجبه على نفسه.» وما كان يبدي من مثل هذه الملاحظات بصوت لين فيثلج سامعيه إلى فقارهم، وقد تأتون عملا خاطئا من الناحية التاريخية، فيقول لكم حينئذ بأدب ذرب:
7 «يظهر أن صفحات فاتتكم من التاريخ العام لبيكر!»
الفصل الثاني
كانت النمسة أكبر خصم، وما كان بسمارك محتاجا إلى اختبار كبرياء آل هابسبرغ في فرانكفورت حتى يكره النمسة وتغدو هدف منازعاته، وإلى ذلك النفور الفطري من ذلك البلد يضاف ارتيابه فيزيد عداءه الموروث، وما ارتيابه من كل دولة تود أن تأخذ مكان بروسية إلا كارتيابه من رؤسائه الأربعة الذين تناوبوا المكان الذي كان يريده بوزارة الخارجية في سنوات الانتظار الاثنتي عشرة بفرانكفورت، وإن كانت ألمانية بأسرها - ما عدا بروسية - تبدو له بلدا أجنبيا فضلا عن النمسة، وقد كان لدور الأمور في أولموتز من جرح عزته ما لم يكن لشروط المعاهدة نفسها، وهو لم يدافع عن هذه المعاهدة اجتنابا للحرب، بل لتأجيلها إلى أن يحل الوقت الذي تمثل عوامل طموحه دورها في مجرى عمله.
وكان حقد ذلك الذي لا يقدر أن يشغل مكان الصدارة حادا منذ البداءة، وما كان أوتو بسمارك بصفته الشخصية ولا بصفته بروسيا ليطيق بزهوه أن يجلس مع اثني عشر سفيرا حول مائدة برئاسة غيره، وما ذلك الرجل الجالس في المكان الأول هنالك إلا قنيصة لذلك الصياد الموهوب، وما ذلك إلا الكونت تون الشبيه بشوارزنبرغ غطرسة ومكرا، وتون «إذ يقوم بمنصب الرئاسة لابسا سترته القصيرة المصنوعة من نسيج صيفي زاه والمزررة لإخفاء عدم الصدرة مع ربطة رقبة وهمية يلقي خطبته بلهجة المحادثة»، فتبصر في هذا الوصف الأول الذي أتى به بسمارك ازدراء هذا المستمع الحديث لذلك الرئيس، ولسنا بالذين نصدق زعمه أنه يلاحظ ذلك الحادث بهدوء العالم الطبيعي. «ويقامر تون في النادي حتى الساعة الرابعة صباحا، وهو يرقص من الساعة العاشرة إلى الساعة الخامسة بلا انقطاع، وهو في الوقت ذاته يشرب مقدارا كبيرا من رحيق الشنبانية المثلوج، وهو يتعشق نساء التجار الحسان بقصد المباهاة والتأثير في الحضور أكثر مما بقصد اللذة والسرور، وهو مزيج من الأريستوقراطية الفاترة ومكر الفلاح السلافي، والمراوغة مع الحذر أبرز صفاته»، وعن البارون، مساعد تون، يقول بسمارك: «إنه شاعر في الحين بعد الحين، هو رقيق العواطف، هو بكاء في دار التمثيل، هو ولد صالح لطيف، هو يشرب أكثر مما يطيق.»
بسمارك في سنة 1847.
ولتلك التهكمات تأثير مدمر، ولكنها لا تكشف عما يستتر تحتها من كلمات ونظرات توجب السوء، ويزور بسمارك - أيام كان مستشارا للسفارة - تون، ويقوم بتلك الزيارة مع موظف برليني آخر، ويعرف تون النمسوي أن تعيين بسمارك سفيرا صار قريب الوقوع فلا يشركه في الحديث عمدا جهد الاستطاعة، ويقول بسمارك لرفيقه «بصوت متهدج»:
1 «ألم تر كيف عاملني تون؟» ويسوى الأمر شخصيا بذلك، ومن موجبات العجب أن استقبل تون بسمارك سفيرا في وقت آخر جالسا مدخنا سيغارا لابسا قنا
2
لشدة الحر ظاهرا، ولم يدخن بسمارك سيغارا بنفسه إلا في زيارته الثانية موجبا حيرة زملائه، وبسمارك أراد في اليوم التالي أن يعرف الناس خبر ذلك.
ويكتب بسمارك كتبا خاصة في جلسات البندشتاغ، «ويصعب وضعي بما عرضت له من نفس جاري (
x
و
y )، فأما الأول فيمكنك تصور رائحته التي هي خليط مما ينبعث من أسنانه النخرة القذرة ومن بعض ضلوعه عندما يفتح سترته، وأما الآخر فتنم رائحته قبل وجبات الطعام على اختلال هضمه نتيجة لأعشية كثيرة وتمرينات رياضية حقيرة، فهذه هي رائحة الدبلميين ومريشالات البلاط الطبيعية.»
وليس فناء الأمور بفرانكفورت في المسائل الشخصية من ذنوب بسمارك فقط، وإنما ذلك أيضا من مقتضيات جو البندشتاغ حيث الجميع متساوون في الظاهر عدا النمسة التي لها الصدارة بين نظائرها كما في تاريخ الأزمنة الحديث، وكيف لا ينتظر من ممثل النمسة ألا يهدف إلى إهانة ممثل بروسية حول تلك المائدة، وعلى مشهد من العالم، بعد أن تركت بروسية مكانها منذ ثلاث سنين قاصدة إيجاد مائدة اتحاد أخرى لها بغير النمسة ثم عادت إلى مكانها نادمة؟ والآن يمكن النمسة أن تركن إلى معظم الدول الأخرى، على حين يمكن بروسية أن تعتمد على أصوات أربع إمارات صغيرة واقعة في شمال ألمانية، ويرتاب جميع الدول الأخرى من بروسية؛ لاعتقادها أن بروسية تريد أن تحملها على الخضوع لاتحادها وأنها تحمل فكرة الثورة مستعينة بألمانية السيئة الحظ، وذلك إلى أن النمسة القوية تجتذب إليها جميع أنصار العروش الشرعية، ومن ثم جميع الأمراء تقريبا.
وهكذا لا يجد بسمارك في فرانكفورت أمرا يأخذه على غرة، بل أبصر فيها ما يؤيد وجهات نظره السابقة، حتى إن بسمارك يتكلم في شيبته عن صداقة البلدين، بروسية والنمسة، فلا يراها أكثر من «حلم الشباب نتيجة لحروب الإنقاذ وتأثير المدارس» ويصل بسمارك إلى فرانكفورت خصما للنمسة، ويظل بسمارك مع ذلك دهشا من شدة عداء النمسة لبروسية، وفي فرانكفورت يعلم بسمارك للمرة الأولى خبر برقية الأمير شوارزنبرغ عن موضوع ألموتز القائلة «بإهانة بروسية أو العفو عنها بسراوة»
3
وكانت تلك البرقية المملوءة غطرسة وانتفاخا قد أرسلت أيام دفاع بسمارك عن معاهدة أولموتز في اللندتاغ البروسي، ويا لهول ما يصاب به عجبه عند اطلاعه على تلك الكلمات!
ولم يمض على وجود بسمارك في فرانكفورت ستة أسابيع حتى أعرب عما في نفسه بقوله: «سيظل النمسويون أكثر اللاعبين خداعا كما هم الآن، ولا أعتقد أنهم ينتهون إلى حلف شريف معنا لشمول طموحهم ولخلو سياستهم الداخلية والخارجية من العدل والإنصاف.»
ويحل شهر نوفمبر فيحاول بسمارك إنزال ضربته الأولى، فيقول: «يسير الكونت تون على غرار بوزا في الكلام فيأتي بترهات حول ألمانية الكبرى، وأتم بيانه فأقول: إنه إذا ما نظر إلى الأمور بعينه وجد كيان بروسية والإصلاح الديني أمرين مؤسفين. ألا فليعلم أنه لا يوجد في أوروبة شيء يقال له بروسية «مع العدول عن تراث فردريك الأكبر» كما يصرح به، وإنني قبل أن أشير على بلادي بمثل هذه السياسة لا أرى غير السيف حكما.» فهذه قطعة من محاورة بين حليفتين صديقتين ويمزق اثنا عشر حجابا ويحار المرء من أن حرب بسمارك لم تشهر إلا بعد خمس عشرة سنة.
وينقل نبأ ذلك الجفاء إلى فينة بدقة، ومن الطبيعي أن يزيد الحسد بين الدولتين، والجو حتى في برلين لم يكن ملائما حينما قرأ غرلاخ على الملك بصوت عال طائفة من رسائل بسمارك، فجاء فيها أن مصدر كل بلاء هو ما كان من تسليم إلى النمسة، ومما ورد فيها: «إن من يشاطرني فراشي يسهل عليه أن يضربني أو يسمني أو يخنقني، ولا سيما عند اتصاف من يشاطرني فراشي بالقسوة والنذالة.» وليس مما يساعد على تحسين الحال أن يستدعى الكونت تون وأن يستبدل به ذلك الذي ظل سفيرا للنمسة في برلين حتى الآن.
كان الكونت بروكش أوستن أكثر إمتاعا من تون؛ لحسن اطلاعه على شئون الشرق الأدنى وسمو ثقافته وأصالة أوروبيته، ولكنه كان يعاسر زميله البروسي بعلل أخرى، فإذا عدوت زيارة بروكش أوستن لبسمارك كثيرا ومكوثه عنده طويلا ولطفه في ملاعبة الأولاد وإطالة الحديث معه في الاجتماعات؛ «وجدت صلتي به أوضح من صلتي بأوتون؛ فأوتون يقول الصدق أحيانا، وبروكش لا يقوله أبدا»، وبسمارك يقول - مع ذلك - إنك تستطيع أن تقرأ حقائق الأمور على وجه بروكش، ومن دواعي الأسف أن ترك بروكش - عن إهمال - وثائق ضد بروسية في مكتب باعه، وتلك الوثائق هي مسودات مقالات ثورية لتنشر في الصحف البروسية، فكانت تعزى قبل ذلك إلى الديمقراطيين، ويشير بسمارك باتخاذ تدابير هجومية ودفاعية على ذلك الغرار. ومن الخطأ أن تفضح أساليب ذلك السفير في فينة؛ لما يوجبه ذلك من تعذر بقائه في فرانكفورت؛ فالرأي إذن «أن يجعل غير مطمئن إلى وضعه وأن يسر إلى حلفائنا بالأمر، حتى يتضح لهم شدة صبرنا» ومن الصواب أن ينشر شيء من مقالات بروكش غير الشرعية مع القول ضمنا بأن ريب الحكومة نشأت للمرة الأولى عن اكتشاف تلك الوثائق عند أحد الناس.
وهكذا يسير بسمارك الأمر بدهاء، وبسمارك هو الذي يتهم خصومه بعدم الإخلاص على الدوام، بيد أن بروكش عالم بالرجال، فإليك قوله السافر عن بسمارك: «يعلن فون بسمارك أن بروسية هي مركز العالم. هو ذو ميل عظيم إلى تقويض دعائم الجامعة. لو نزل ملك من السماء ما استقبله بغير سمة بروسية. هو كمكيافيلي مكرا وملمسا فلا يترفع عن أية وسيلة تصل يده إليها، وعلينا أن نعترف بأنه ليس رجلا يقول بأنصاف التدابير. وهو لذلك لا يألو جهدا في القضاء على الجامعة. وهو يسرف في استخدام الصحافة فيعرف أن يلقي الذنب على عاتق النمسة، وهو قد بلغ من التأثر برسالة بروسية ما صرح لي به غير مرة بضرورة توحيد ألمانية تحت سلطان بروسية، ولم يحدث قبل الآن أن لاقيت رجلا مثله مقيدا بعقائده معتدا بنفسه معتمدا على أعماله.»
وذلك الحكم مما كان بسمارك يوافق على صحته، وقد أيده الأعقاب، وما كان بسمارك ليتأخر عن شهر فرده عند أدنى إهانة توجه إلى وضعه البروسي، ويحتد الكونت ريشبرغ الفيني بعد إحدى الجلسات فيعلن أنه يطالب باعتذار في غابة بوكنهايم فيجيب بسمارك عن ذلك هادئا: «ولم نزعج بالذهاب إلى مكان بعيد كذلك المكان، فيوجد محل لتبادل العيارات النارية في الحديقة هنا حيث يجاور ضباط من الألمان والنمسويين، وإنما أطلب أن تأذن لي في تسجيل سبب النزاع؛ لأنني لا أريد أن يعدني مليكي سائفا
4
صلفا يسير الأمور الدبلمية بقوة السلاح.» ويبدأ بسمارك بكتابة تقريره، ويبصر ريشبرغ سوء ما صنع، ويرجع عما رأى ويسوي المسألة.
ويسافر بسمارك إلى فينة فتؤدي هذه الرحلة إلى زيادة البغضاء بينه وبين النمسويين، وبيان الأمر أن الاتحاد الجمركي الألماني، وهو الخطوة الأولى نحو الوحدة الألمانية، كان أقوى رابطة بين بروسية ودول ألمانية الأخرى، وتطمع النمسة أن تثلم ما لذلك الاتحاد الجمركي من حد سياسي بأن تعيد تنظيمه على أسس جديدة، فتود أن تتدخل بين دوله وتوجه المسائل الجمركية توجيها سياسيا ويعرض بسمارك عقد معاهدة تجارية بدلا من ذلك، ولا يتزحزح بسمارك عن موقفه قيد أنملة.
ويعود بسمارك إلى بلده من فينة تاركا الأمور كما كانت، ويعد ذلك أول فوز كبير له؛ لما أدى إليه من بقاء الاتحاد الجمركي بغير النمسة وعلى الرغم مما حاكته النمسة من الدسائس، والشخص الوحيد الذي راقه في فينة وفي أوفن (بودا) فرضي عنه هو الإمبراطور الشاب الذي كان في الثانية والعشرين من عمره، وهو حينما قرأ لإمبراطور النمسة كتابا من ملك بروسية لم يستحسن فيه أكثر من اعتراف هذا الملك بأن آله سكنوا المارش قبل آل هوهنزلرن، وفي ذلك الحين قال مثنيا على فرنسوا جوزيف: «إن لديه نارا ووقارا واعتدالا وتأملا وصراحة وصدقا ولا سيما عندما يضحك.»
وبسمارك لما له من الحظوة لدى الملك تجد له منذ البداءة، وفي جميع تلك السنوات وضعا خاصا تجاه رئيسه الذي يضغن عليه بحكم الطبيعة، وكان تعيين بسمارك قد أثار مقت رئيس الوزراء لتدبيره من قبل رهط غرلاخ الذي كانت تشين صداقة مانتوفل له مزوزة، ويتصف سلطان مانتوفل في السنوات الثماني التي كان يعمل بسمارك تابعا لها في أثنائها بفرانكفورت بالقصر والفتور والمكر والطموح والترنح والديمقراطية، وما كان بسمارك - بالحقيقة، وفي الغالب - إلا أكبر تأثيرا في تسيير الأمور من مانتوفل لنفوذه المزعج المستمر، وكان مانتوفل يشعر بأن سفيره بسمارك سيخلفه، وكان يعلم أن بسمارك قادر غير صابر، فلم يسطع أن يعامله رئيسا، وإنما كان يكتفي أحيانا بمقاومة نفوذه أمام الملك في الأمور الجزئية وبعناد عجيب، ومن ذلك أن أبرق بسمارك من فرانكفورت بضبط أمتعة قنصل مشتبه فيه فجعل مانتوفل من ذلك مشكلة وزارة بدعوته ذلك القنصل إلى العشاء في البلاط، ومن ذلك أن رفض مانتوفل إحالة شائب عاجز في سفارة فرانكفورت على المعاش لإيصاء بسمارك بذلك، ومن ذلك أن غرلاخ استدعى بسمارك إلى برلين، فوخز مانتوفل بذلك، فكتب إلى بسمارك يقول له ألا يلبث كثيرا في برلين.
ويحدثنا بسمارك من ناحيته بأنه كان أكثر «كسلا مما كان عليه في العام الماضي؛ وذلك لأنني لا أجد في برلين صدى لنشاطي ولا نتيجة لنا هنالك.» وعلى ما كان من ملاطفة مانتوفل لبسمارك وتبادلهما رسائل كثيرة ومع كون مانتوفل أبا في العماد لابن بسمارك، عين مانتوفل وكيلا سريا دربا بسرقة البرقيات ليقبض على المحفظة التي تسافر فيها رسائل الملك وغرلاخ وبسمارك ذهابا وإيابا، ويمضي بضع سنوات فيسأل الملك سفيره بسمارك، بواسطة رئيس الوزراء مانتوفل، عن رغبته في أن يغدو وزيرا للمالية، فيأخذ مانتوفل على نفسه أن يجيب الملك بقوله: «إن بسمارك يسخر مني!»
ومصدر تلك المكايد، وزعيم الحكومة الخفي ، هو رئيس أركان الحرب وصديق الملك ليوبولد فون غرلاخ، فهذا القائد الحربي هو الذي أوجب تعيين بسمارك ليقوي حزبه ضد مانتوفل، وإذا استثنيت بسمارك الذي ود غرلاخ أن يدربه وصولا إلى مقاصده؛ وجدت غرلاخ هذا كان يزدري جميع من يتصل بهم فكان يقول عن مانتوفل إنه وزير بلا مبدأ فلا يركن إليه، وكان يقول عن الملك: «إنه سيد ذو شذوذ فلا يعتمد عليه كثيرا»، وهذا يعني بصريح العبارة أن الملك مجنون، وكان غرلاخ محنكا تقيا معلما في فن الكيد، وكان أسن من بسمارك بخمس وعشرين سنة فيعد بسمارك من اكتشافاته، ويعد بسمارك ولدا له بالتبني، وهو ما كاد يبصر أن هذا الولد المتبنى، الذي هو دونه سنا ومنصبا بمراحل، لم يلبث أن فاقه، وفاق الملك ومانتوفل أيضا في حوك الدسائس، ولم يدار بسمارك إنسانا باحتراز كبير مثل مداراته لصديق الملك ذلك ما دام الملك جالسا على العرش، ولكن ولهلم لم يكد يصير وصيا على العرش حتى فترت الصلات بين بسمارك وغرلاخ؛ لأن ولهلم كان لا يطيق غرلاخ.
ولم يكتب بسمارك إلى شخص من الكتب الكثيرة الجديرة بالذكر كالتي كتبها إلى ذلك؛ فهي لا تقدر بثمن لدلالتها على آرائه السياسية كدلالة كتبه إلى زوجه على مشاعره المنزلية، وهي تتلألأ بالأفكار الحية والتهكمات الزاهية، وهي تسطع بعبارات العداء النارية، وبالخطط الماكرة الهادرة
5
التي تهدف إلى بلوغ السلطان، وكان كثير من تلك الكتب يبلغ اثنتي عشرة صفحة مطبوعة، وكانت تقرأ على الملك في الغالب، وكانت لهذا السبب وسيلة نفوذ لبسمارك لدى الملك أبلغ من الكلام ما دامت نتيجة تفكير أستاذ وقلم معلم، وكان بسمارك يخاطب غرلاخ فيها ب «صاحب السعادة وصديقكم الوفي وخادمكم المخلص»، ثم عدل عن ذلك إلى «لي الشرف بأن أكون صديقكم»، ثم عدل عن هذه إلى «صديقكم المخلص». وفي تلك الكتب تعرض الدول كقرى، والأشخاص كأناس ذوي صفات على غرار شكسبير، ويطفح بعض تلك الكتب حبورا، ومن تلك الكتب ما تبصره مملوءا هذرا داعرا
6
ونوادر عن القصر، وهذا كله للترفيه عن المرسل إليه المستتر (الملك) فضلا عن غرلاخ المرسل إليه المباشر.
وترى مع ذلك أن الأب بالتبني كان يعمل على ألا يركب ابنه بالتبني ظهره، فصرف الملك عن نصب بسمارك وزيرا في سنة 1854 معترضا دون اكتسابه نفوذا عظيما في حزبهما المحافظ، وفي أمور أخرى ينتحل غرلاخ وضع كهنوتي على أفكه وجه، ويود بسمارك «أن يستخدم طالحا لاقتضاء المصلحة ذلك»، ويرى غرلاخ «أن يذكره بتحذير الرسول من الأشرار حتى يأتي الخير؛ وذلك لأن دينونتهم أمر لا مفر منه»، وبسمارك هو الذي يقهر كبرياءه دوما في أوقات التوتر تلك؛ وذلك لكيلا يخسر ذلك الوسيط الذي لا يعوض؛ وذلك لأن بسمارك يجيب المقاتل القديم غرلاخ بلهجة من التقوى تنفذ الفؤاد. «أحاول كل يوم أن أنال ثقتك بالدعاء والإذعان للمولى الذي جعلني في هذا المنصب.» «أراني مجذورا
7
تماما إذا لم أتصل بك، ولا أستطيع أن أخدم المليك مسرورا ما لم أشعر بصلتي القلبية الوثيقة بك أنت الذي لم أكن رفيقه في النضال إلا في الأيام السود. أنت الذي لم يكن ليفصلني عنه أي اختلاف في المبادئ والخطط.» «يمكنك أن تشك في كون النجوم من نار ... إلخ، كما في رواية هملت، ولكن لا تشك في محبتي!» «لا تدع أمرا يضعضع ثقتك بي؛ فأنا صبور على كل محنة في سبيلك وسبيل الملك.» ويا لهزوء بسمارك بمرسلي مثل تلك الرسائل عند أخذه ما يعدلها بعد حين!
أجل، إن على بسمارك أن ينشئ الجسر المؤدي إلى السلطة، وإن على من يريد بلوغ السلطة، حتى عند عدم طموحه، أن ينال تأييد الملك المطلق متذرعا بجميع الذرائع الممكنة، وقد أولع هذا المليك ببسمارك منذ سنين في الحقيقة، وكان بسمارك يتملق الملك بقوله: إنه «اكتشفه»، «وكان المليك يرى في البيضة التي ألقى بها فيرخم
8
عليها.» وكان بسمارك الشاب نافعا للملك مع ذلك، لعده غولا يخوف به وزراءه، أو ليحمل مانتوفل على الطاعة - كما يقول - ويزيد الملك حماقة فيغدو خدعه لوزرائه من دأبه، وتعد له بطانته رسائل مستعجلة مهمة من غير استشارة مانتوفل ، فيرسل مشروعها إلى بسمارك بفرانكفورت، ويتصل بسمارك بمانتوفل ليكلمه في الأمر، ويدعو مانتوفل إليه رجلا من الجالية الفرنسية، وينتظر عدة أيام إلى أن يجد له هذا الفرنسي أحسن تعبير فرنسي «يكون وسطا بين المغبس
9
والملتبس والمريب والمرعب»، ويطلب الملك من بسمارك في أيام أخر مذكرات ينقض بها مذكرات وزارة الخارجية، وبسمارك على ما يتمتع به من حظوة يشكو الآن من نزوات الملك الباطلة، ويحدث عن «تقلب آرائه واختلاط أعماله وتأثره بالأصابع الخفية».
ويدعى بسمارك في السنوات الأولى من وجوده بفرانكفورت من قبل الملك أو من قبل غرلاخ عند كل مناسبة، فيقطع في عام واحد ألفي فرسخ بين فرانكفورت وبرلين، ويقع ذلك في الغالب وقتما يمتنع مانتوفل عن إجابة الملك إلى ما يرغب فيه، وإذا حدث أحيانا أن أخر بسمارك سفره إلى برلين بسبب عمل خاص بمنصبه فلم ينته إليها على عجل فإن الملك فردريك ولهلم لا يستقبله حين وصوله كما أنه لا يأذن له في العودة إلى محل عمله، «وذلك ضرب من أصول التربية كما في المدارس حيث يقصى التلميذ عن صفه ثم يسمح له بالرجوع إليه، فكنت أبدو معتقلا في قصر شارلوتنبرغ من بعض الوجوه فيلطف اعتقالي بما يقدم إلي من الغداء بظرف.» ويريد الملك تعيين بسمارك سفيرا في فينة، فيجيب بسمارك بأن ذلك يعني تسليمه إلى خصمه فلا بد من إصدار أمر صريح في ذلك، فيقول الملك: «لا آمرك، وإنما يجب عليك أن تذهب إلى هنالك مختارا ثم أن ترجو مني الرعاية. وعليك أن تشكر لي عنايتي بتربيتك، لاستحقاقك مثل هذا الجهد.»
وتلك هي علاقة الملك بمحبوبه المكلف بالصبر على تقلبات مزاجه كما يصبر على تقلبات الجو، ويدعو الملك بسمارك ذات يوم إلى روجن ليكتب مذكرة مخالفة للتي كان مانتوفل قد سلمها إليه، ويرسل الملك هذه المذكرة ويثني عليها لبسمارك ويمسكه وإن كان بسمارك يريد منذ طويل زمن أن يذهب إلى زوجه المريضة، ثم يسافر بسمارك بلا إذن فيجازيه الملك على ذلك بوقفه المذكرة برقيا وباستردادها وتحريفها ، فبمثل هذا كانت تساس المملكة البروسية.
وما كان بسمارك ليفرط في تقدير قيمة ذلك، وهو يعلم كيف تزول الحظوة لدى الأمراء، ويمضي عام فيقول بسمارك في منزله: «والآن - حين وصولي - تشرق الشمس؛ فالبلاط يلاطفني، والأكابر يدارونني، والأصاغر يريدون شيئا مني أو يودون نيل شيء بواسطتي، وليس عسيرا علي أن أذكر أن هذا المجد الذهبي مما يزول بين عشية وضحاها، فأرى في مهرجان يقام في البلاط من الظهور الجامدة حولي بمقدار ما أبصر الآن من الوجوه الناضرة.»
ولا ريب - إذن - في أنه لم يدهش بعد خمس سنين حينما كتب إلى غرلاخ قوله: «أرى تغير كل شيء، فإما أن أكون عند الملك رجلا عاديا كبقية الناس، أو أن يكون الملك قد بلغه قول سيئ عني، وقد يكون هذا هو الصحيح. والخلاصة هي أن صاحب الجلالة أقل ميلا إلى رؤيتي مما في الماضي، وأن نساء الشرف لديه يبتسمن لي بأفتر مما في الماضي، وأن الرجال يصافحونني بأبرد مما في الماضي.» ثم يغير لهجته فيقول: «ولكنني يا صديقي الجليل أعتقد أنك منزه عن مثل سفاسف رجال القصر تلك، وإذا كانت ثقتك بي قد قلت فإنني أطلب إليك أن تبدي لي سببا لذلك غير تقلب عطف البلاط.»
وهكذا يخفض بسمارك بلطف لهجة رثاء عزيز خسر حظوته فيرفع ذلك إلى مسمع نديم تقي، وهكذا يستطيع أن ينتقل برقة من عذل معتدل إلى عقل حكيم.
الفصل الثالث
كان القيصر نقولا أقوى رجل في أوروبة، ويظل كل شيء هادئا في إمبراطوريته وحدها، ويبقى الاسترقاق هنالك أمرا غير ظاهر، فلما اشتعلت الثورة في هنغارية استطاع القيصر أن يرسل إلى الشاب فرنسوا جوزيف فيلقا، فأبلى هذا الفيلق في القتال بلاء حسنا، وصار القيصر بعد هذا ينظر إلى فرنسوا جوزيف نظر المتبوع إلى التابع، ويحل الوقت الذي فيه يطالب القيصر بالآستانة وبتقسيم تركية التي دعاها بالرجل المريض للمرة الأولى.
بيد أن نابليون الثالث لم يرد أن يترك له مفاتيح القبر المقدس، وكان يود أن ينتقم لما أصيب به عمه من الهزائم بين سنة 1812 وسنة 1814، وأن ينتقم لما كان من مخاطبة القيصر المتكبر إياه في رسائله، ب «ابن عمي» بدلا من «أخي»، فعلى مثل هذه الترهات كان يتوقف مصير أوروبة في ذلك الحين. وفي أوائل سنة 1854 توشك الحرب أن تقع بين روسية وحلف مؤلف من فرنسة وإنكلترة وتركية، وكانت النمسة تخشى توسع روسية في البلقان فقررت الانضمام إلى الحلف الغربي، ويبحث في الأمر ببروسية.
ويقول جميع أحرار بروسية بالانحياز إلى الحلف الغربي ضد روسية، ويقول كثير ممن هم حول الملك بالحرب، ويبدو الأمير ولهلم على رأس هؤلاء، وكان مانتوفل قد وافق على فكرة إرسال إنذار إلى سان بطرسبرغ، والمحافظون وحدهم ويقودهم غرلاخ هم الذين قاوموا الرأي في مهاجمة حصن الرجعية الروسي الحصين متذرعين بأن روسية كانت حليفة بروسية في سنة 1813، وتبلغ الأزمة حدها فيستدعي غرلاخ تلميذه «بسمارك» إلى برلين، ويدعوه ولهلم إليه من فوره، لا لأنه يحبه، بل لما يعرفه من نفوذه الكبير لدى أخيه المتردد، وهذا إلى ما بينه وبين بسمارك من حسن صلات، وإلى ما كان من وقوفه بجانب مانتوفل أبا في المعمودية لابن بسمارك الثاني ولهلم الذي عرف باسم بيل فيما بعد.
ولهلم :
أنت ترى وجود اتجاهين يمثل أحدهما مانتوفل، ويمثل الاتجاه الآخر الملائم لروسية غرلاخ هنا ومونستر في سان بطرسبرغ، وقد وصلت حديثا، ويدعوك الملك لتكون حكما إلى حد ما، وسيكون لرأيك قيمة، فألتمس منك أن تذهب إلى هذا المعنى وهو: أن وضع روسية مما يؤلب جميع أوروبة عليها وأنها ستغلب في نهاية الأمر.
والواقع أن ولهلم كان يود تهديد ابن أخته القيصر عن صداقة له، ومن ثم كان يريد إنقاذه من أوروبة المتفقة عليه.
بسمارك :
لا أستطيع أن أصنع ذلك، فليس لدينا سبب لشهر الحرب، وليس لنا ما نكسبه من الحرب، والحرب إذا ما شهرناها لم نحصد سوى حقد جارنا المغلوب وإثارة رغبته في الانتقام منا، ولا يكون الدور الذي نمثله عند شهر الحرب عن خوف من فرنسة أو عن خدمة لإنكلترة إلا كالدور الذي يمثله الأمير الهندي التابع لإنكلترة والمضطر إلى القتال بجانبها.
ولهلم (صارخا محتدما) :
ليست المسألة مسألة تابع أو خائف!
ويخيل إلى بسمارك أنه يسمع بذلك صوت أوغوستا التي يعلم أنها ذات عواطف مضادة لروسية معاكسة لأمها الروسية وشعورا بمحاكاتها له في نفوره من والدته، ثم إن أوغوستا تبدو له «امرأة تعنى بما هو أجنبي أكثر من عنايتها بما يقع تحت نظرها عادة»، وكان قد أنشئ في كوبلنز - حيث يعيش ولهلم وأغوستا - بلاط منافس لبلاط سانسوسي.
وتلك هي المرة الثانية التي يتقابل فيها ولهلم وبسمارك كخصمين، فمنذ أربع سنين أراد ولهلم شهر الحرب على النمسة فأراد بسمارك الذهاب إلى أولموتز، فعد ولهلهم تعيين خصمه بسمارك سفيرا في فرانكفورت حينئذ علامة خضوع للنمسة، واليوم يخشى هذا الأمير خزيا أمام روسية، وكيف لا يظهر بسمارك له جبانا؟ ومهما يكن الأمر فإنه يكتب إلى مانتوفل قوله مغاضبا: «إن نشاط هذا الرجل السياسي هو كنشاط تلميذ في إحدى الكليات.»
والحق أن تلك هي المرة الأولى التي يعمل فيها بسمارك على مقياس واسع في الحقل السياسي، وهو يصبح من أقطاب السياسة بأوروبة في أثناء حرب القرم، ومما كان يرى أن ما تصنعه بروسية يحول إلى ما فيه منفعة النمسة في نهاية الأمر؛ فلذلك لم يرد «أن يقرن بارجتنا الأنيقة الصالحة للملاحة بمدرعة النمسة النخرة. ومن شأن الأزمات الكبرى إعداد العاصفة التي تنمو بروسية بها، والتي يمكننا في أثنائها أن نحول الأمور إلى ما فيه نفعنا غير خائفين وغير ناظرين إلى أي داع آخر على ما يحتمل. وكيفما كان الحال أرى أن الأمور كلما استفحلت زادت قيمة عوننا.» وعلى فينة أن تعترف بسلطان بروسية على ألمانية في مقابل شد بروسية لأزرها! ولم يعرف الملك الضعيف ماذا يفعل في ذلك الحين، واليوم يعقد حلفا دفاعيا هجوميا مع النمسة، وفي الغد يترك أنصار هذه السياسة ويبصر انصراف أخيه ساخطا للمرة الثانية، وهو يعرف قول أهل برلين عنه: «إنه ينام مع فرنسة وإنكلترة في سانسوسي على فراش واحد ليلا ليصحو مع روسية صباحا .»
وبسمارك في العام القادم ينفصل عن البلاط وعن الملك انفصالا أوسع من ذلك، ويقصد باريس بلا إذن، ويعود من باريس ولا يرى ما يمنع من السير مع نابليون الثالث عند ملاءمة الأحوال، ويثير هذا الرأي ذعرا في سانسوسي، ويكتب غرلاخ كتب تقوى ضد «الاقتران بالشيطان»، ويبدي الملك جفاء، ويوجب ذهاب آخر إلى باريس تأييدا لبسمارك في سياسته.
ويحادث بسمارك نابليون الثالث حديثا خاصا أربع مرات فيما بين سنة 1857 و1861، فتكون كل واحدة أدعى إلى الحيرة من التي سبقتها، وينطلق لسان نابليون وكذلك لسان بسمارك على ما يحتمل في اثنتين منها، وهما لم يفترقا إلا ليجتمعا في سيدان، والآن وبعد حرب القرم التي انتهت بإمضاء معاهدة الصلح في باريس، صار يمكن نابليون أن يعد نفسه حكم أوروبة، على حين بدا سفير بروسية الذي مثل أمام عرشه رجلا هزيل القدر. وعلى ما كان من هذا نرى أن استقبال بسمارك كان جميلا، وتحسن الإمبراطورة أوجيني القادرة قبوله، ويفتن بكليهما؛ يفتن بالإمبراطور لما أبصره من لطفه وحسن ذوقه، ويفتن بالإمبراطورة لما وجده من جمالها الذي يفوق ما تنم عليه صورها ومن شدة ظرفها وخفة روحها، ومن قول بسمارك: «إنه أعجب بها كثيرا؛ فهي في الحقيقة امرأة نادرة، لا في المظهر فقط ...» ومن قوله أيضا: «إنها تجيد الحديث أحسن من باريسي.» والذي يكرر هذا الكلام رسميا وشخصيا هو ذلك الرجل الذي سخر من ارتقاء حديث النعمة ذلك، هو ذلك الرجل الذي لعن الثورة التي أسفرت عن هذا الإمبراطور، هو بسمارك البروسي الجاسئ
1
المخلص لمليكه والقائل بالعروش الشرعية، هو بسمارك الذي لا يحلم الآن بسوى باريس وبذينك الحديثي النعمة، ومع ذلك يظل الشعب الفرنسي غريبا عن بسمارك بما يعدل ملاءمة الإنكليز له في كل زمن، ومع ذلك لم يلبث أن انتقد باريس التي سحرته، ولم لا يصنع مثل هذا تجاه الإمبراطور أيضا؟ ألأن ما حباه به نابليون من عز هو الذي ألهبه؟
بسمارك قد من جمد،
2
فقد خمدت فيه منذ زمن تلك النار التي أوقدته في اللندتاغ حينما حاول الناس إشعال الثورة أو الديمقراطية، وهو ينعم النظر في ألاعيب القوى ببرودة وجلاء يتخلص بهما من ربقة الأوهام، وهو يعرف أن نابليون الثالث يحاول محالفة روسية المقهورة وأن النمسة تتودد إلى القيصر، وماذا تصنع روسية غير بحثها عن خرابها إذا أرادت أن تظل منعزلة في الوسط الدولي؟ هنالك حلف مع فرنسة! ويتنصف
3
منه الإمبراطور ويبدي له أن من الحماقة أن يطالب بحد الرين، ويقول له إنه لا يروم توسعا في غير البحر المتوسط.
الإمبراطور :
إن الفرنسي جندي بري، لا مقاتل بحري؛ ولذا يروقه هذا الحقل الأخير، وعلى بروسية أن تتوسع فتستولي على هانوفر وشليسويغ وهولشتاين، ثم تصبح دولة بحرية من الدرجة الثانية، ثم تصادم إنكلترة بمعونة فرنسة، ولي أن أعتمد على حياد بروسية إذا ما تعقدت الأمور بين فرنسة والنمسة بسبب الطلاينة، فاسبروا غور الملك في هذه الأمور.
بسمارك :
أبدي ابتهاجي المضاعف بما كان من مكاشفتكم إياي بذلك يا صاحب الجلالة، وذلك لما يدل عليه من الثقة بي؛ وذلك لأنني الدبلمي البروسي الوحيد الذي يعد بعدم إفشاء ذلك لأحد في بلده ولا لمليكه، فموافقة الملك عليه متعذرة، وقد تسفر محادثته في ذلك عن إباحته له بما يكدر صفو الصلات بفرنسة.
نابليون :
يكون ذلك أكثر من إذاعة سر، يكون ذلك خيانة!
بسمارك :
ذلك ما يوقعكم في الوحل.
ويرضى نابليون بهذا التلميح، ويشكر لبسمارك صراحته ويسجل وعده بعدم الكلام في الأمر.
وأول مرة يجرب فيها بسمارك على المسرح الأوروبي يدل على أنه في الذروة من قواه، فهو بدلا من أن يسلك سبيل الدبلميين العاديين فيجيب بأنه ليس لديه إرشادات في الأمر، وأنه سيرفع تقريرا في الموضوع، قد كان من حضور الذهن وكثرة الشجاعة وحس المسئولية ما أبطل معه خطط العدو الذي يود أن يتدخل في شئون ألمانية، وهو يطفئ اللهب بعقب موقه
4
قبل أن يشعر بذلك أحد، وهو يفعل ذلك وإن كان عدوا للنمسة، وإن كان السياسي البروسي الوحيد - تقريبا - المستعد لنصيحة الملك بأن يحالف الإمبراطور! ويقول في نفسه : «إنك تجعل نفسك في وضع ذي إبهام.» ويحار المرء من أن يؤدي الذكاء الفرنسي إلى مثل ذلك الاقتراح الطائش، وهل أبصر منهاج ذلك البروسي الجديد فأراد أن يفل صراحة بصراحة؟!
والخطأ أساسي، فبسمارك يكون صريحا عندما يريد الإرهاب أو الخداع، لا عند ثقة خصمه به، وقد أراد بسمارك بجوابه أن ينال ثقة نابليون، فوفق لما أراد، وبسمارك قد حذف التفصيل من تقريره كما وعد، وبسمارك قد قص كل شيء على غرلاخ وعلى الملك عند عودته إلى بلده مع ذلك، وبسمارك، مع وصفه نفسه بأنه البروسي الوحيد القادر على كتمان ذلك الاقتراح؛ كان القادر وحده على نصيحة الملك بأن يدعو نابليون الثالث إلى برلين على حين كانت كروززايتنغ تسب نابليون ذلك بلا انقطاع، وبسمارك الواقعي الأكبر يعارض في إبان تقدمه روائيي بوتسدام للمرة الأولى، وبسمارك العاطل من المبادئ يقاوم أنصار العرش الشرعي للمرة الأولى، وبسمارك يتحلل للمرة الأولى من حزبه الذي لم يقسم له يمين الولاء قط، والآن وبعد أن تبادل هو وغرلاخ رسائل كثيرة، يتخلى عن رئيسه هذا لأسباب نفعية وبلا تورع، والآن يضحي بمبدأ العرش الشرعي الأساسي الذي كان يفترض وفاؤه له؛ فالحق أن هذا الرجل الحزبي غدا رجل دولة راغبا في ترك أحكامه الخاصة العقيمة. «والرجل «نابليون» لم يملأ عيني قط، ولدي قليل استعداد للإعجاب بالرجال، وربما كان هذا نقصا في باصرتي التي أرى بها المساوئ قبل المحاسن. وإذا ما أشرتم إلى المبدأ الذي يطبق على فرنسة وعلى شرعيتها وجدتموني موافقا على ربط هذا المبدأ بمذهبي البروسي في الوطنية، ولتعلموا أن اكتراثي لفرنسة هو بما يكون له من الأثر في وضع بلادي، والآن لا نقدر على غير إنشاء الصلات بفرنسة الموجودة فعلا. وفرنسة ليس لها من القيمة عندي أكثر من قطعة ضرورية على رقعة الشطرنج السياسية التي لا أجد لنفسي رسالة فيها غير خدمة مليكي وبلادي، وما لدي من حس الواجب في خدمة بلادي الخارجية فلا أسوغ به العاطفة أو النفرة في وفي الآخرين نحو الدول الأجنبية والأكابر من الأجانب ، فمثل تلك العاطفة أو النفرة يحمل بذور عدم الولاء للملك والبلاد. وعندي أنه لا يحق للملك أن يجعل مصالح الوطن تابعة لشعوره الشخصي تجاه الأجانب حبا أو حقدا.
وهنا أسألكم: هل ترون في أوروبة وزارة ترغب بغريزتها أكثر من رغبة وزارة فينة في عدم ترك بروسية تتقوى، ومن ثم في خفض شأنها في ألمانية؟ ولو سألتني عن البلدان الأجنبية ما وجدتني عاطفا في حياتي على غير إنكلترة وسكانها، ولا أزال أحمل هذا الميل نحوهما، بيد أن القوم لا يقبلون صداقتنا، وإذا وجد من يثبت لي أن هذه السياسة وليدة تأمل وتفكير نظرت بعين الرضا إلى إطلاق كتائبنا النار على الفرنسيين والروس والإنكليز والنمسويين.
ومتى عادت تلك الدول لا تكون ثورية؟ وما هو الدليل على ذلك؟ فالذي يلوح أننا سنغفر لها عدم شرعيتها ما غدت غير خطرة علينا، وليس لنا أن نجدها مذنبة مبدئيا ولو داومت على القول بعدم شرعيتها غير نادمة، أو فخورا بخزيها. وإذا ما بحثنا عن أصل دنيوي للثورة وجب علينا أن نطلبه في إنكلترة أكثر مما في فرنسة ما لم ننشده في ألمانية ورومة منذ زمن بعيد. وما هو عدد الكينونات التي لا تجد لها جذورا في أرض ثورية؟ انظروا إلى إسبانية والبرتغال والبرازيل وجميع الجمهوريات الأمريكية وإلى بلجيكة وهولندة وسويسرة واليونان وإسوج وإنكلترة، حتى إلى الأملاك التي اقتطع أمراء ألمانية في الزمن الحاضر بعضها من الإمبراطور والإمبراطورية، والتي اقتطع بعضهم من بعض قسما آخر منها، لم تجدوا واحدة منها مستندة إلى وثيقة شرعية.
ولو رجعت البصر إلى دولتنا ما وجدتها سالمة من أسس ثورية، حتى إن حوادث الماضي الثورية (عند عدم سريان مرور الزمن عليها بما يمكن أن يقال به عنها؛ كقول العرافة في رواية فاوست: «عندي قنينة أرشف منها في الحين بعد الحين، فلا يأسن
5
ما فيها أبدا».) لا نعتف في كل وقت عن ملاطفتها.»
وهنا نلاقي بسمارك السياسي للمرة الأولى، وفي كتابه ذلك إلى غرلاخ نبصر أسس سياسته، وما كان لديه من آراء في ذلك عند بلوغه الثانية والأربعين من عمره؛ فقد ظل كما هو عند بلوغه الثانية والثمانين من سنيه، ولنفترض أنه كان لدى الأحرار دائرة استخبارات نشيطة كما لدى الحكومات فاستطاعت أن تضبط ذلك الكتاب، فماذا كان يقول نائب من نواب أحزاب الشمال عما يشتمل عليه من عبارات ذاكرا ما نطق به منذ سنين قليلة ذلك الشريف «بسمارك» من تعزير البلدان والتيجان التي نالت أوضاعها بفضل الثورات ومقاتلات الشوارع؟ يقول ذلك النائب: «هل الأمر كذلك؟ إذن، نحن كلنا من أصل ثوري، والأمر يتوقف على مدة مرور الزمن، وقد لا يتوقف عليها، وما كانت لتأتي من الله تلك التيجان التي قيل إنها جاءت بفضل الله، وما صدر عن الشعوب من الفتن وما أبداه الأمراء من حرص وما وقع بين الطبقات من نزاع، وما كان بين الدوكات من تنافس فيما مضى؛ فأمور قررت بالعنف مصير البلاد وحولتها إلى أملاك مقدارا فمقدارا، وليس ما يقع الآن غير ذلك، ولم يكون آل هوهنزلرن شرعيين أكثر من آل بونابارت؟ ولم يكون آل رومانوف شرعيين أكثر من آل سافوي؟ وبم تسوغ امتيازات الأشراف؟»
وهل الذي نطق به ذلك المكافح من حقائق عن الملوك والشرفاء قد أوحي به إليه مصادفة للمرة الأولى؟ كلا، فبسمارك كان يعرف جميع ذلك منذ سبع سنين كما يعرفه اليوم، وبسمارك سيجهر بإنكار ذلك في الغد كما صنع في الماضي إذا ما وجب الدفاع في بلده الخاص عن طبقته الخاصة، ولكن بسمارك يرى أن يسير في الخارج طليقا كما يراه نافعا لبلده الخاص، وليس عنده أوهام مقررة في الأمور الخارجية، وما يعده عقيدة في بلده فيراه من المشاعر في الخارج، وما هو من شئون الدولة في الداخل فيراه من المهازئ الروائية في الخارج، والحق أن من مبادئ بسمارك الأساسية أن تقوم السياسة الداخلية والسياسة الخارجية على مقياسين مختلفين، وليس من التجوز أن يقال إن بسمارك هو الذي أدخل ذلك المبدأ ذا الوجهين إلى ألمانية سائرا على غرار ريشيليو، ولكن هذا الانفتاق هو مصدر مختلف الأوهام والأضاليل التي ساورت الألمان في الداخل على حين كان سلطان الدولة يزيد في الخارج مع الشعور بقدرة ذلك القطب السياسي.
وتتجلى عظمة بسمارك وحدود نفوذه في عزمه الذي لا يكدره مبدأ ولا تهزه عاطفة فلا يهدف إلا إلى سلطان بلده الخاص، وفي هزوئه بالآراء التي كانت توجه أوروبة وعصره، وفيما كان هذا المناضل ينال لبلده نصرا بعد نصر في الخارج كان يدوس حقوق الأمة في بلده تحت قدميه، كان يطأ برجليه تلك الحقوق التي لا يمتهنها أي رجل سياسي من غير أن يجازى، وذلك بدلا من الموازنة بينها بقوى متكافئة، ومما يسره أن يرى جنودا يطلقون النار على الأجانب أو على الألمان إذا ما كان في ذلك نفع لبروسية، وما يبديه في المستقبل من ميل إلى مطاردة الجيش لعصاة بروسية الراغبين في إدارة بلدهم بأسلوب يخالف أسلوبه فينطوي على عوامل كسر شوكته.
الفصل الرابع
عين الملك بسمارك عضوا في مجلس الأعيان، فقال في كتاب أرسله إلى أخيه بسبب النفقات: «حقا إن ذلك حمق، ولكن ذلك لمدى الحياة؛ فهو سيقوي وضعي وسيزودني بنفوذ في الحكومة، ومما يجادل فيه فائدة ذلك وإمتاعه، والجواب السلبي هو ما أميل إليه في معظم الأوقات وإن كان يأتي حين يستحوذ علي الطموح وحب الوطن فيه فألقي السمع فرضا لآرائي السياسية، ويا ليتني أقبض على الدفة لمدة ستة أشهر.» ويهجر الحزب والمجلس على عجل، ويرفض إعادة انتخابه، ويفيد من وضعه الثنائي ببرلين، متغيبا في وقت يجب على أصدقائه أن يصوتوا فيه ضد الحكومة ويجب عليه أن يصوت فيه ضد أصدقائه.
ويعتذر عن مصادفته أحرارا في مطعم ببرلين، وعن جلوسه حول مائدتهم نحو ربع ساعة، فيقول راضيا: «حقا لقد أفسدت شهوتهم، فقد لطمت مداريا خد أحدهم وكبست مداريا على يد آخر منهم وبدوت أنيسا نحوهم، ومما طابت به نفسي ما أبصرته من الحقد الذي كانوا ينظرون به إلي!» بيد أنه على غير وئام مع حزبه الخاص أيضا؛ لما كان من معارضته لأي تغيير في الدستور؛ وذلك لأنه «كف عن مضايقة الحكومة فصار بالتدريج إناء يشتمل على ما يرضي ولي الأمر قبل كل شيء»، وهكذا يعدل أساليبه، حتى إنه في عقر داره يبارك لما كان يكرهه، وهو يسأل: هل من الحكمة أن يظل رجعيا إلى الأبد؟ أفلا يؤدي هذا إلى انحياز بعض الدويلات إلى النمسة بدلا من أن تصبح هذه الدويلات صديقة لبروسية بفضل بعض الحريات؟ فمن أجل ذلك يدع مجالس برلين مع منازعها الديمقراطية تتكلم عن ألمانية على الدوام؛ لما في ذلك من جعل بروسية مألوفة في الريخ كزعيمة.
ويرى هذا البروسي «بسمارك» أن من الخير لبروسية أن تكون لها زعامة ألمانية الصغرى، وهو يصرح بقحة ولادة: «كما أنني أكره أن يضحى بالحقوق في سبيل السياسة في وطني الخاص أجد عندي من الأثرة البروسية ما لا أبالي معه بحقوق هانوفر.» وإن ألمانية الكبرى من الأحلام، وإن الاتحاد الألماني ميت، أو يوشك أن يموت، وإن إرادة صغار الأمراء لا تعدو حد الكلام، وتلوح جامعة الرين في الأفق مرة أخرى، ويسأل بسمارك غرلاخ: «وما الذي يحملك على الاعتقاد بأن دوك بادن الأكبر ودوك دارمستاد الأكبر وملك ورتنبرغ وملك بافارية مستعدون لتمثيل دور ليونيداس؟
1
وهل تظن أن الملك ماكس قال لنابليون في فونتنبلو إنه لا يجاوز حدود ألمانية أو النمسة إلا على جثته؟»
ويغدو عارفا بألمانية في غضون ذلك؛ فهو حينما قبل منصبه اشترط لنفسه أن يزور جميع قصور أولياء الأمور بألمانية، فكادت معارفه الشخصية بذلك تصبح كاملة في بضع سنين، وهكذا يصير عالما بالأمراء والوزراء وأصحاب الصحف ومن إليهم من أرباب الدس والمكايد، وهكذا يطلع على كل شيء فيروقه ذلك إلى الغاية، حتى إن الرسائل التي يكتبها من خلال ضوضاء برلين يدبجها يراعه كما لو كانت بقلم شاب مداعب.
ويولع بالسياحة، ويسيح أكثر مما يجب، ويسيح وحده على الدوام، وإذا كانت رسائله إلى زوجه تختم عادة برغبته في أن يكون بجانبها؛ فلأنه رجل يجب أن يوكد دوما مشاعره التي يرى أن يصونها، ويزور بروكسل وأمستردام وكوبنهاغن وبودابست وباريس ، والآن، حين يستطيع أن يسافر للمرة الأولى عظيما حاملا مالا وألقابا يستقبل في كل مكان كأجنبي وجيه، فيسر بهذا الشكل من التنقل كثيرا، وبينما تكون حنة في سويسرة مع أولادها وأبويها يستلقي بسمارك على شاطئ نوردرني «مدخنا حالما أو مفكرا في إنترلاكن»
2
غير أن أحب شيء إليه هو أن يدعى إلى الصيد في دانيماركة أو كورلاند مثلا، «وإذا ما أصميت وعلا في الغد كان لدي من الوقت ما أقفز فيه إليك، فلن أغادر هنا قبل أن أوفق لهذا.»
ويبلغ سروره بالحياة ذروته في تلك الأسابيع؛ لما شعر به من رجوع شبابه إليه، ومن أوستند يكتب مغتبطا: «إن ما أشعر به من خلقي في أحسن تقويم يجعلني فخورا بعرض نفسي على نساء العالم، وعلى ما يساورني من هذا الشعور أفضل على ذلك أبعد جنة، حيث لا يبدو غير الرجال في الزي الذي عنيته آنفا، ولست بالذي يحتمل السحب الندية على بدنه.» أو إنه يذهب في ليلة من ليالي يوليو على زورق فوق نهر الرين، ويسبح على ضوء القمر حتى الموزيتورم، ويتمتع بسحر العزلة، ثم يجلس مع صديق أمام رحيق الرين ويتفلسف حول روسو والرب.
والموسيقى هي وسيلة أخرى لهدوء الأعصاب، ويدخن ويسير ذهابا وإيابا على حين يعزف كودل من أجله، وله في ذلك بهجة وإن كان يكره الفرق الموسيقية، فلا يذهب إليها أبدا، «ولتعرض الموسيقى عليكم طليقة كالحب، ولا أطيق القعود مضغوطا»، وهو يرغب عن المقامة لأربعة مغنين؛ لما فيها من حصر له، وهو لا يحب التنوع، وهو لا يرتاح إلا إذا عزف الموسيقي عن ظهر القلب؛ فهنالك تتعاقب الصور أمام عينيه، فيرى نفسه دوما، فإذا ما أبان أحاسيسه بعد العزف نم على رجل فعال، وقد قال بعد سماعه الأباسيوناتا (لبتهوفن): «إن هذا هو صراع الحياة البشرية وزفيرها. إنني أبسل
3
كثيرا عندما أسمع هذه الموسيقى.» وقد يذهب به الخيال إلى مدى بعيد، فيرى بعد سماع لحن لمندلسن: «فارسا من فرسان كرومويل يصول تاركا عنان حصانه على عنقه فيظن أنه يبحث عن حتفه»، فيقول : «إن هذا الرجل بائس حقا.» ويقول بعد سماعه توشيحا لباخ: «إن الرجل كان مترددا في البداءة، ثم شق طريقه بالتدريج، فانتهى إلى إيمان ثابت بهيج.»
ويرجع ذلك الرجل الغامض الأمر إلى بتهوفن على الدوام، وقد قال: «إن بتهوفن هو المفضل عندي، وهو أكثر من سواه ملاءمة لأعصابي.» وإننا لننفذ فؤاد بسمارك حينما نسمع قوله معترفا: «تسوقني الموسيقى الجيدة إلى أحد الاتجاهين المختلفين، تسوقني إلى الحرب أو إلى الشعر الرعائي.» وهو في ذلك الدور ينحني إجلالا للموسيقى، ويعزف كودل على البيان ذات مرة، وفيما هو يعزف إذ يرى في المرآة دنو بسمارك من كرسيه رويدا رويدا ومد يديه فوق رأسه لبضع ثوان، «ثم يجلس بسمارك بالقرب من النافذة فيسرح طرفه في الشفق ما دمت أعزف.» ويمكن رد تلك الثواني القليلة التي يقضيها في الوجد والغيوب والتسليم والتجرد إلى نوب سوداء كانت تستولي عليه في الأيام السابقة عندما يكون وحده فتسحره.
وهو لم يدع شبابه يعود إليه إلا في أحوال نادرة، وهو لما زار ثانية فسبادن التي قضى فيها حياة جهل منذ عشرين سنة لم يبد حاملا ذكريات جميلة تجاه النساء اللائي كن يعاشرنه عشرة ذات بهجة، وهو لم يتكلم متحسرا عن سوى «الأيام التي كان رحيق الشباب يجيش فيها على غير جدوى فيترك ثفلا تافها، وأين، وكيف، تعيش إيزابل لورين ومس رسل الآن؟ ولا أدري كيف يمكن إنسانا يفكر في نفسه فلا يعرف - أو لا يريد أن يعرف - شيئا عن الرب، أن يحتمل حياته مع سأمه وغمه؟ ولا أعلم كيف صبرت على ذلك في الماضي، وإذا ما وجب علي أن أعيش الآن كما في السابق بغير الله وبغيرك وبغير الأولاد لم أر لم لا أنزع عني الحياة كقميص قذر، وأشعر بما يشعر الإنسان به في يوم رائع من شهر سبتمبر، حين ينظر إلى اصفرار أوراق الشجر، فأجدني سليم البنية مسرورا مع قليل سوداء وحنين إلى الوطن ورغبة في مشاهدة الغاب والبحر والمروج وشوق إليك وإلى الأولاد ممزوجا بغروب الشمس وإيقاع بتهوفن .»
والآن يبدو الإيمان الديني والشعور المنزلي فيه أقوى مما في أي زمن مضى، وهو إذا ما خشي الكفر فلفزعه من العزلة، وهو ينظر إلى أيام فتائه بحقد غريب وعداء مستهجن يجد بهما ما يعينه على مسامحة تقدمه في السن، ويجيء في كتاب إلى أخيه: «أرتعش تجاه بلوغي الأربعين من عمري، فهذا يعني انتهائي إلى ذروة الجبل ثم انحداري إلى الوادي المؤدي إلى سرداب شونهاوزن، ويخيل إلى المرء دوما أنه في أوائل الحياة وأن أمامه ما جل منها. ويعسر على المرء أن يفرغ من مزاعم الشباب، والمرء إذا ما سجل عمره ب 3، ثم أتبع ال 3 ب 9، كان عنده ما يعين على ذلك الوهم أيضا، وما الحياة إلا كقلع الضروس بمهارة، ولا نفتأ نعتقد أنه لا بد من مجيء ما يطيب إلى أن نبصر مع الحيرة انتهاء ذلك منذ زمن، وإن شئت فسر على غراري فشبه ذلك بظهور اللحم المشوي مع الكوامخ على عجل وإثارة علائم اليأس على وجوه الضيوف.»
هنا تهكم وهنالك لوم يوجهه إلى نفسه، فيحملها على ضرب من الصبر والتسليم يقاوم به عطشه الشديد إلى الحياة، وما يكون من انتظار لب الحياة فيجعل هذا الفاوستي المزاج لا يعفو عن الرب، وعنده أن ما صنعه لا يعدل شيئا، والخلاص كل الخلاص في السلطان، ويبلغ الثانية والأربعين فيسأله كودل: «ألا تشعر بأن أمواج الحياة أقوى لديك مما كانت عليه أيام كنت طالبا؟» ويسود صمت، ويجيب بعد لأي: «كلا ... بلى ... إذا ما استطعت أن أتمتع بالحياة كلها كما أريد ... ولكن من المفزع أن يبدد المرء قواه بإمرة سيد لا يطيعه المرء إلا مستمدا العون من الدين.»
ولا ينم هذا الاعتراف الخفي الذي يسير عليه آخرون من ذلك الطراز على جزع نفسه فقط، بل ينم أيضا على نوع إيمانه الذي يدعمه بولائه للملك حتى يشد كل منهما أزر الآخر، ومن قوله في ذلك الحين: «إن النصرانية وحدها هي التي تستطيع أن تنقذ الأمراء من وجه تفسيرهم للحياة؛ وذلك لأننا إذا ما نظرنا إلى الوضع الذي جعلهم الله فيه وجدنا النصرانية تحفزهم إلى البحث عن الوسائل التي يبلغون بها حياة أطيب مما هم عليها وأحكم.» وهكذا يعن لبسمارك أن يهزأ بمبدأ العروش الشرعية مثبتا أن جميع دول أوروبة من أصل ثوري، وهكذا يرفع بسمارك الرب عند احتياجه إليه ويخفضه إذا ما حال دون سبيله، واليوم يحاور زوجته التقية فيجرؤ على القول لها: «قد أطعم عدوي إذا جاع، ولكنني إذا أحببته كان ذلك في الظاهر.» ويود أن يقوم الأسطول بهجوم على غير مسوغ حقيقي، ويعتذر عن رغبته هذه بقوله القاسي: «إن ما يزهق بذلك من النفوس هو ما يزهق قبل أربعين عاما على كل حال.»
ويذعر لودفيغ فون غرلاخ البياتي إذ يرى انتحال ابنه الروحي بسمارك لذلك الأسلوب المكيافيلي فيبلغ قريبه كليست رستوف إنذاره: «دعوا إيمان بسمارك يكون حارا، ولا تدعوا زهو الدنيا يستهويه؛ فبسمارك من رخام كارار
4
الكريم، هو قطعة بديعة قدت للعالم والشيطان اللذين لا يسهل عليهما أن يسرحا فريستهما ... علموه قواعد الدين!» وهو مع ذلك قد علم بسمارك السياسة الواقعية منذ زمن طويل.
وتبلغ معضلة الفارس النصراني «بسمارك» أقصى حد لها في مبارزة، ويصفه منافسه في المجلس، فينكه، وذلك من فوق المنبر بالدبلمي الذي يرد عمله في التاريخ إلى سيغار الكونت تون وبالعاجز عن الاختيار، ويجيب بسمارك عن ذلك بأن فينكه فاقد التربية فيدعوه هذا إلى المبارزة، ويرجع بسمارك ذلك العداء وتلك المبارزة إلى المحادثة الحادة التي وقعت في شهر مارس سنة 1848 حول خطط أوغوستا الماكرة، وعند صلاة المساء يسأل بسمارك القسيس هازئا أسئلة عن صواب إصابته الهدف عند إطلاقه النار في الصباح، «وكان الجو جميلا، وكانت الطيور تغرد على نور الشمس، وتزول أفكاري الكئيبة عند دخول الغابة.» وهنالك وجد من حاول مرة أخرى إصلاح ما بين المتبارزين، ويتم الاتفاق على أن يكتفي كل منهما بإطلاق عيارين فقط، ثم يتفق على إطلاق كل منهما عيارا واحدا فقط، ثم يذهب إلى تسوية الأمر بأن يعتذر بسمارك عما فاه به فيأبى ذلك ، ويأخذ كل منهما مكانه «وأطلق النار غير غاضب وأخطئ الغرض، ولا أنكر أنه مازجني شيء من الغم عندما أبصرت من خلال الدخان بقاء خصمي واقفا، فلم أقاسم الحضور سرورهم، وقد أزعجني خفض عدد الطلقات التي نتبادلها فوددت دوام المبارزة، والله يعلم ماذا يخبئ لفينكه.»
وفي ذلك التقرير الذي لا مراء في صحة ما ورد فيه من دلالة على المعاشرة، ما دام قد أرسل إلى حماته بأسلوب تقي، ترى ما بين بسمارك المكافح الشديد الشكيمة وبسمارك النصراني من تناقض، ومن المباح إطلاق النار، ولكن من المريب أخلاقا أن يسدد الفرد، وعلى الصائد ألا يساوره غضب إذن، ومما يزعج الصائد مع ذلك أن يبصر الطريدة واقفة سليمة بعد تبدد الدخان! ولا يرد خاطره سؤال عن السبب في سلامة نفسه أيضا، فالذي يهم ذلك الضارب الساخط «بسمارك» هو ما يبيته الرب لفينكه، لا العامل الذي ظل به «بسمارك» حيا، ففي هذه الحال - كما في أحوال أخرى - يبدو أنه يحقد على عدوه أكثر من حبه لنفسه.
وما كانت حنة لتصفح عنه قبل انقضاء زمن، فهي تحب الدعة بقدر ما يحب الصراع، وهي عاطلة من جميع الصفات الجوهرية التي تؤهله لمثل ذلك النزاع؛ أي عاطلة من الطموح وروح المصاحبة وحسن الصحة، وهي مريضة في الغالب، وهي لم تكن مريضة فقط؛ لوضعها أولادا تعنى بهم، على خلافه، ليل نهار؛ ولأنها تقضي في سبيل تربيتهم ساعات وشهورا من كل سنة، وهي ذات عينين ضعيفتين، وهي مضطرة إلى قصد المنتجعات الصحية، وهي تطالب بأن يوطأ لها كل شيء في الرحلات والمجتمعات، وهي لما ليس لديها من القوة ما تقوم به وحدها في تدبير المنزل؛ تلجأ إلى بسمارك في حفظ النظام بين الخدم وتسريح بعضهم وإمساك ما بقي منهم وفي ابتياع الرياش والأواني فيسر بما يجده من عمل في ذلك ملائم لما شب عليها مالكا للأراضي، وبسمارك - مع أن لديه ما ليس لديها من الأعمال الكثيرة - تراه يلتمس منها أن تراسله، وفي المراسلة تبصرها متقلبة الأطوار، فلا تعرف كيف توزع وقتها .
ولا يؤثر فيها ما يحرص عليه فيوفق لصنعه، ولا تكتم استنكارها لحياته الدنيوية، وتكتب في ساعة أزمة إلى صديقها كودل كتابا تقول فيه: «ليتنا نذهب إلى شونهاوزن فلا نبالي بسوى أنفسنا وأولادنا وأهلينا والمخلصين من أصدقائنا؛ فما أكثر سروري بذلك! ولا ريب عندي في أنه يعود إلى سابق نضارته إذ ذاك، وهو عندما بدأ تلك الحياة الدبلمية، البائسة العاصفة التي لم تأته بصالح، لم يجد فيها غير الغم والخصام والحسد والكنود، وهو لو نفض عن رجليه العزيزتين غبار ذلك الكدر العقيم، وهو لو ترك جميع تلك السخافات التي لا تلائم خلقه القويم الكريم لغدوت سعيدة راضية، ولكن من المؤسف أنه لا يفعل ذلك؛ لما يراه من ضرورة خدمة «الوطن المحبوب»!»
ولا نبصر بذلك الكتاب ما يدور في خلدها التقي النقي من الأماني فقط، بل نبصر به أيضا مقدار ظهوره مفخرة لها، وليس من خداع في ذلك، وأي شيء يكون طبيعيا عنده أكثر من أن يوصف سموه الخلقي العتيد نفعا له وللآخرين، ومن أن يصرح بأن خصومه أو زملاءه أو رؤساءه الذين هم دونه براعة أكثر منه مخادعة! ولا مراء في أن امرأة تكون من الدهاء ما توجهه معه نفسيا، أو تكون من الطموح ما تدفعه معه إلى ضروب المكايد؛ تغدو ثقيلة الوطأة مع الزمن، وما فطر عليه بسمارك من بصر بالأخلاق فجعله يختار - صائبا - حنة بوتكامر زوجا له؛ فهي قد أحبته دون سواه، وما فطرت عليه من عواطف فلم يحفزها إلى انتقاده ولا إلى عبادته إلها، فهي قد أسرت فؤاده ولم تطلب منه أمرا ولا عبقرية.
وما يجب عليها أن تصنعه فقد علمها إياه بسهولة، وهو لم يعلمها أكثر من ذلك، ويكتب إليها في الأيام الأولى قوله: «وأنت يا بنيتي، يجب أن تعرفي الجلوس في البهو رزانا وقورا، وأن تظهري فطونا ذات لقانية
5
مع أصحاب السعادة.» وتتعلم الفرنسية والفروسية، وهو إذا ما طالبها بشيء يجده كثيرا عليها لم يعتم أن يسترد ما طلب، حتى إنه يتكلم عن نفسه مغاضبا لما فرط منه، «فلقد تزوجتك لأحبك في الله وعلى حسب احتياجات فؤادي؛ ولكي يكون له بين الغرباء مكان يقيه شديد الرياح، ولكي يكون لي ملجأ آوي إليه لأدفأ عند وجود البرد والزوابع في الخارج.» بيد أن الدبلمي لم يلبث أن بدا، فهي إذا ما عبرت عما في نفسها غاضبة واجدة على الرجال قال لها بسبب جواسيس البريد إنه لا ينبغي لها «أن ترعد كتابة ضد بعض الناس على ذلك الوجه؛ وذلك لعدي مسئولا عما تكتبين، وهذا إلى وجود جور فيما تكتبين عن أولئك. ولا تكتبي إلي شيئا يمكن الشرطي أن ينقله إلى الملك أو إلى الوزير. ولا تنسي أن ما تهمسين به إلى شارلوت في حمامك ينقل إلى الملك في قصر سانسوسي مع المبالغة.»
ولم يكلل بدء أمرها في البلاط بالنجاح، ولم يصدر هذا الخطأ عنه أو عنها، فقد دعي إلى نزهة في باخرة على نهر الرين، ويحضرها معه ليقدمها إلى الملك والملكة، غير أن «صاحبي الجلالة جهلاها مع أننا قضينا عدة ساعات - جميعا - في لجنة صغيرة على المركب، ولم تكن الملكة في عافية فلم يكن لديها من النشاط ما ترعاها به، وتعرض أميرة بروسية عنها عمدا، وعلى ما كان من محاولة الأمير أن يلاطف زوجي التي أهملت على ذلك الوجه أثبتت زوجي تمسك أبيها البوميراني بالنظام الملكي بما سكبته من العبرات. وإن ما أنتم عليه من النبل يجعلكم تقدرون ما يساورني من الألم بسبب ما أصاب زوجي من الإهانة التي أعدها أشد من كل ما أصاب به. ومن الطبيعي أن حاولت إقناعها بأنه لم يحط من قيمتها وبأن ذلك من عادات البلاط.»
بسمارك في سنة 1855.
ويمكننا أن نتمثل الفصل من تلك الشكوى اللبقة الواضحة التي كاشف بها صديق الملك، ومما لا ريب فيه أن حنة لم تأل جهدا في إثباتها، حين العود من السفر، أن تلك الحياة هي متاع الغرور، وأنها لا تفي بمرامه، وقد نستنتج من ذلك أن أميرة بروسية أبدت غطرسة لا تطاق، وتظهر حقيقة بسمارك بمغادرته السفينة الملكية في أول موقف، ونفترض وجود أفكار لديه حول النساء العظيمات المنيرات اللاتي يتخذ نحوهن ما حسن من الأوضاع في مثل تلك الأوساط.
وبسمارك يعطي حنة كل ما تريد، وبسمارك يعنى بالجزئيات عناية الرجل العارف بالنساء، فلما أوصى زميله بباريس أن يشتري شالا كشميريا ذكر له أدق الأوصاف عن اللون، ويسأل أخته ذات مرة أن تبتاع لحنة ثوبا أبيض متموجا يبلغ نسيجه عشرين ذراعا، وأن يكون ذا مروحة مموهة بالذهب كثيرة الخشخشة لدى استعمالها وإن كان يكره مثل هذا الصوت. ويبحث في باريس عما تحلم به من العصافير الزرق، فتذهب جهوده أدراج الرياح. ويبلغ من المسايرة لها ما يحمل معه سلسلة ذات أوسمة متدلية تهديها إليه على نفوره من ذلك؛ وذلك لأن مما «يؤلمها كثيرا أن تراني راغبا عن حمل مثل هذه الأدوات».
وبسمارك يظهر ذا ود لأنسبائه، وهو يحدث بعطف عن حميه، وهو يحب زياراتهم لعدة أسابيع، وهو يتكلم عن «الدويلة التي نؤلفها لنا من سبع أرواح. ولا تخلو هذه الدنيا من الغم والهم، والأفضل للإنسان أن يكون فاترا في الشارع أكثر مما في منزله الخاص.»
الفصل الخامس
يزيد الملك جنونا، وتجد السنوات العشر التي عقبت الثورة مملوءة بالمتناقضات والتقلبات والمبالغات من قبل فردريك ولهلم، فصار من العسير على حاشيته أن تكون على شيء من الانسجام السياسي في الغالب، وفيما كانت أوغوستا تزيد آمالا، وفيما كانت تتجه مع زوجها إلى الأحرار كان الملك يتكلم عن نتونة الثورة وعن التاج الإمبراطوري الوهمي المصنوع من «مدر
1
وقذر»، فيسميه سخاب
2
الكلب، ويريد غير مرة أن يستبدل بالدستور مرسوما، ويصرح لفرنسوا جوزيف «بأنني لم أكن إلا لأمسك ركاب إمبراطور النمسة.» ويقول لقيصر روسية: «حفظ الله لك ذلك الملك الذي أورثك إياه.» فيؤدي ذلك إلى زيادة ازدراء ذينك العاهلين له.
وتحل سنة 1858 فيبلغ الملك من اختلال العقل ما يفكر معه في نزع سلطانه رئيسا للدولة، وما كان من عدم ظهور سورة
3
للجنون فيه، ومن نضوب لمعين الفكر عنده فيدل على أنه مفتون
4
كان يدير أمور الدولة منذ سنين، ويرى بسمارك في الأسابيع الحرجة أن يكون راكبا بجانب الملك وأن يمسك عنانه موجها إياه، وما كان الملك ليحتمل رائحة الشمع الأحمر ولا دخان التبغ، وهو إذا ما رافق القيصر في ردهة قطار مقفلة، والقيصر مدخن مدمن، أصيب بالهمدة،
5
ولم يلبث الخصام بين الأحزاب أن اشتد في البلاط، ولم يرد أنصار الملك الراغبون في حفظ مركزهم غير تمثيل مجدد «بتعيين مؤقت للنيابة»، ويريد أنصار أخيه أمير بروسية الوصاية على العرش؛ لكي يغدو الحكم قبضتهم.
ويكون بسمارك ببرلين في الوقت المناسب، ولم يذعر بسير الحوادث التي أبصر وقوعها منذ زمن، ولكنه يرى مستقبله في خطر؛ لما يعلمه كثيرا من تفكير الأمير البروسي ولهلم في أمره، ولما يعرفه من مقاومته لرغائب هذا الأمير البروسي الحربية لدى الملك وإحباطه لها عند الملك منذ ثماني سنين في أولموتز، ومنذ أربع سنين في حرب القرم، وما كان الحقد ليفرق بينهما، فقد كانا يجتمعان في الغالب تبعا للمصالح السياسية، والآن يفقد الملك وعيه فيدعو الأمير ولهلم السفير بسمارك إلى نزهة طويلة معه، فيشير عليه بسمارك، عند تسلمه زمام الحكم، بألا يمس الدستور وبألا يطالب بتعديله، ويقول بسمارك أيضا بالوصاية على العرش وصولا إلى استقرار الأحوال، وهل لنا أن نفترض انتظاره وزارة من وراء ذلك؟ لا نكاد نفترض ذلك، وأقل من هذا افتراضا طمعه في أن يستدعى من فرانكفورت، وما هي أفضل الطرق لربطه بالمولى المنتظر؟
ويتكلم القوم في الوصاية المؤقتة، ويعلم بسمارك سرا ما يهدف إليه من إعادة الملك المجنون إلى عرشه وجعل الملكة مشرفة، ويهرع بسمارك إلى ولي العهد في بادن، ويبوح إليه بذلك، وينتحل ولهلم وضع الضابط، فيقول ببساطة: «هنالك أرتد!»
ويجيب بسمارك عن ذلك بقوله: «الرأي أن تستدعي مانتوفل وتقضي على تلك المكيدة!» ويعلم بسمارك أن مانتوفل عارف بما هو واقع، وأنه ينتظر نتائج ما يخصه منه، ويدعو الأمير مانتوفل، ويرتعش مانتوفل خوفا على مقامه منذ ذلك العارض الذي أصيب به الملك، فيطلب مرافقة بسمارك له، ويعزله الأمير بتأثير أوغوستا عند قبضه على ناصية الأمر، ويحلف الأمير اليمين في فصل الخريف وصيا للعرش، وتؤلف وزارة من الأحرار، ويعتقد أصدقاء بسمارك، وتأمل حنة أن يعتزل بسمارك المنصب، ولكن بسمارك كان داريا بما بذله من الخدمة العظيمة تجاه سيده الجديد في أصعب وقت فأجاب عن ذلك بأن الأمور ستمر على ما يرام وبأن رئيس الوزارة الأمير كارل أنطون فون هوهنزلرن محافظ مثله، «ولو لم يكن في بقائي بفرانكفورت غير إغاظة فراو أوزدوم الأراجة
6
التي تود المجيء إليها، لحملني ذلك على عدم تركها!» وبسمارك يضع اعتزاله نصب عينيه مع ذلك، ناظرا إلى حقد أوغوستا وضعف ولهلم.
ويكتب بسمارك إلى أخته قوله: «إن التحول روح الحياة. ولي أمل في أن أشعر بالشباب فأصبح كما كنت عليه في سنة 1848 وسنة 1849، ولو رأيت من المتعذر أن يجمع بين شأن الرجل الدبلمي والرجل النبيل، مع ما في ذلك من إمكان الإنفاق عن سعة، ما ترددت في الاختيار دقيقة، ولدي ما يكفي لعيشي، وإذا ما حفظ الله لي صحة زوجي وأولادي في الحال والمستقبل لم أبال بما يكون، وإذا مرت سنون ثلاثون لم أكترث لما أمثله الآن من دور دبلمي أو دور مالك ريفي، وما أبصره من نضال فعال شريف بغير قيود رسمية، أو بغير سراويل الاستحمام السياسية، فذو سحر كنظام الكمأة والبرقيات والصلبان الكبرى، ويقول الممثل الروائي: إن كل شيء ينتهي في الساعة التاسعة.» ويدور حديث حول نقله إلى سان بطرسبرغ، فيقول: «إذا نظرنا إلى الأمر من الوجهة السياسية قلنا: إن الجو سيئ هنالك، ولكنني أنتظر ذلك ثابت القدم لابسا جلد الدب مع بطارخ
7
وختل
8
الأيل!»
9
وفيما ينتظر بسمارك وقته تجد في تلك الرسائل إعلانا وضمانا. وفي الحقيقة لا تجد بحثا حول رجوعه إلى شونهاوزن وإن كان يزمجر شوقا إلى ذلك في الحين بعد الحين، فقد قضي الأمر، وكل ما يبغيه إذا ما خسر منصبه الراهن هو أن يعود إلى النضال في المجلس لإمكان تغير كل شيء في بضع سنين، أفلم يزد عمر الوصي على الستين سنة وإن كان دون الملك سنا؟ وهل تعيش أوغوستا مخلدة؟ والآن تحمل أوغوستا زوجها على تعيين أصدقائها الأحرار، ويعزل بسمارك ويرسل أوزدوم وزوجته الغريبة الأطوار إلى فرانكفورت، ثم يقصى بسمارك إلى سان بطرسبرغ. ولم يكد بسمارك يعلم نصيبه حتى رأى إنذار الوصي على العرش، وعرض الوضع عليه بكل صراحة - كما رواه بنفسه: «فمن المؤسف أن يبطل بلا سبب معقول عمل رأس المال الذي جمعته في ثماني سنين بفرانكفورت مستعينا بمعرفتي الرجال والأحوال، وسيغدو من اللغو وجود فون أوزدوم هنالك بفعل زوجته.»
الوصي على العرش :
أجل، لا يمكن الانتفاع بمواهب أوزدوم العالية في غير فرانكفورت؛ وذلك لما توجبه زوجه من الارتباك في كل بلاط.
بسمارك :
إذن، يلوح أنني زللت إذ لم أتزوج امرأة غير أريبة، وإلا لحق لي البقاء في منصب أحس به أنني في منزلي.
الوصي على العرش :
لا أرى وجها لنظرك إلى الأمر بمرارة، فسفارة سان بطرسبرغ تأتي في الدرجة الأولى من مناصبنا الدبلمية، وما عليك إلا أن تتلقى تعيينك لها دليلا على أسمى ثقة.
بسمارك :
لا أرى سوى الصمت ما دمت يا صاحب السمو ترد الأمر إلى هذا النصاب.
ويبدي بسمارك جزعه من مسائل فرانكفورت فيقول له الوصي على العرش: «أتظن أنني سأضع عمرة
10
النوم على رأسي؟ فسأبدو وزيرا للخارجية ووزيرا للحربية لما لي من اطلاع تام على شئونهما.»
بسمارك :
ما كان المالك القدير ليدير أرضه اليوم بغير سكرتير ذكي، وما كنت يا صاحب السمو الملكي لتسر بالنتائج من غير وزراء أذكياء، فانظر إلى صورة شويرين الجانبية؛ تجد علائم تجمع الفكر فوق حاجبيه، ولكنه ليس لديه من الجبين ما يبصر به علماء قيافة الدماغ شيئا من الحذر؛ فالحق أن شويرين رجل دولة يعوزه البصر فيصلح للهدم أكثر مما للبناء.
وهكذا يتناول بسمارك أعضاء الوزارة واحدا بعد الآخر.
ومن خلال تلك المحادثة الرسمية الأولى نبصر ما يفصل بين بسمارك وولهلم من العلامات الواضحة، ومن الصعب أن نبين أي الأمرين أدعى إلى العجب: أجرأة بسمارك ودهاؤه ومنطقه، أم لباقته في إلقاء التبعة على عاتق خصمه ثم في فرزه منافسيه؟ ونحن حين نقول ذلك نرى هدوء السيد الذي يعتقد رفع مولاه.
ولم ينفذ ولهلم حتى اليوم صميم الوضع السياسي، وهو لم ينظر إليه إلا من خلال شعوره العسكري، ولا غرو، فليس وراءه سوى ماضي جندي مدرب ضيق الأفق، وولهلم من كل ناحية أفضل من أخيه الذي لم تدل خططه الوهمية على غير عجزه، فهو يفوقه صلابة وقلة خيال، وهو يتصف بما لا يتصف به أخوه الأكبر ذلك من الفضائل البروسية، أي يتصف بالدقة والمثابرة والإتقان والعدل والإحسان والتقوى، وتمسكه بشرعية العروش من أجل نفسه ومن أجل سواه، وبالبساطة مع ضيق الأفق، كما ذكرنا ذلك.
ولم يتصف بسمارك بشيء من تلك الشمائل؛ فقد كان حاد الطباع جريئا ساخطا ماكرا حذرا جافيا مذبذب المشاعر تجاه الرب والملك، فطورا تراه من القائلين بالعروش الشرعية، وطورا تراه من ذوي المناحي الثورية، وهو على غموض أمره كان عبقريا.
وكلا الرجلين فخور جسور، وما يتصفان به من الجسارة فيوجب تعاونهما، وما يتصفان به من الفخارة فيوجب تباينهما، ويقوم فخر ولهلم على أنه من آل الملك، وتؤدي تقواه وعبادته للنسب إلى عده نفسه أرفع من جميع من يتصل بهم مع عدم غلوه في تقدير ذكائه، وما كان من اعتداده بنفسه وشعوره بسموه الملكي فقد انقلب مع السن إلى عناد فعاد لا يحتمل الاعتراف بأن وزراءه يوجهونه، وبسمارك يدفعه فخره إلى الأمام على الدوام، فيناضل مع الحذر في كل وقت كما يود، وبسمارك عند العطل من البطل كان يداري رأي رفقائه وفق فائدته؛ ولذا لم يكن ولهلم ليقبل توجيه بسمارك له، مع أن بسمارك كان يردد في نفسه بلا انقطاع أنه يوجه ولهلم، فلولا هذان القيدان ما استطاع الرجلان أن يتعاونا.
وكان بسمارك يريد العلو مع التنفيذ دوما، وكان ولهلم أسن من بسمارك بعشرين سنة فلم يبغ غير الملك والحكم، وكان ولهلم راغبا عن فتح شيء لبروسية ولو في ألمانية، وكان بسمارك راغبا في توسيع بروسية بألمانية ، ومن دأب ذلك الملك أن كانت له أنباض
11
الوارث الموزونة، فإذا ما تأزمت الأمور تحمس وتصلب إلى درجة الجنون، ومن دأب ذلك القطب السياسي أن كان يأتي بنظم فطري مختزل، فيبدو دائم الحركة ويتقدم بدافع باطني، فإذا ما تأزمت الأمور بدا بصيرا فاترا. وهكذا تراه في الأيام القادمة قد قطر الملك الشائب الساكن بمؤخره مخصصا مواهبه لخدمة آخر، فنم بذلك عن مشاعر فاجعة لعبقري خاضع.
الفصل السادس
كان القيصر إسكندر الثاني ابنا لأخت ولهلم، وظلت قرابة الدم هذه ضمانا للصداقة بين البلدين ما دام ولهلم حيا، أي مدة ثلاثين سنة، فيندر تصادم مصالح ذينك البلدين خلافا لما يقع اليوم، وما كان من حدود مترامية الأطراف بين البلدين فسبب صالح لبقائهما متحابين، وما كان من اتصاف ولهلم وأخته القيصرة الأم الذكية بحس الأسرة مع البساطة، فيحول دون نشوب الحرب بين البلدين في عهد ولهلم الأول على ما بينهما من مائة مشكلة.
ومن الصعب مسايرة إسكندر الثاني مع ذلك؛ فهذا القيصر كان في الأربعين من عمره، وكانت ملامحه لا تدل على معنى، وكان متعصبا فظا بذيئا، وكانت جدر بيوته الخاصة مستورة بالصور الداعرة التي لم يطلع العالم على أمرها إلا في أيامنا، وكان يظهر فاتنا منفعلا إذا ما استحوذ عليه الخيال، وكان طموحه يحفزه إلى الحرية حينا وإلى الانتقام حينا آخر، وكان صيادا كبيرا لا جنديا لفزعه.
ويلوح أنه صورة روسية مطابقة لخاله فردريك الرابع؛ فهو وإن كان أكثر من خاله هذا ظرفا وضعفا يعدله خباطا،
1
وهو إذا ما حرر الفلاحين فلما عليه من الهوى والجبن، وقد ظل مرسومه في ذلك عاطلا من العمل سنين كثيرة كما عطل الدستور الذي منحه فردريك ولهلم الرابع لبروسية، والآن يغتبط ابن الأخت «القيصر» كما اغتبط الخال «الملك» ببارون بوميرانية العظيم «بسمارك»، ولعل القيصر يسر بما في بسمارك من إبداع، ويتقبل القيصر بسمارك كرسول للأسرة، ويفضله في البلاط على جميع الأجانب الآخرين، ويأذن له في التدخين بحضرته مكرما إياه ومثيرا غيرة زملائه.
وذلك إلى ما بين القيصر والسفير الجديد بسمارك من الأواصر
2
السياسية، وبسمارك هذا كان ملكيا عدوا للنمسة، وفيما يصل بسمارك إلى سان بطرسبرغ يتذرع نابليون الثالث بنصوص حلفه لكافور فيشهر الحرب على النمسة انتصارا لساردينية، ويعود الوضع إلى ما كان عليه في أيام حرب القرم منذ خمس سنين، فيقول نصف ألمانية بالحرب بجانب النمسة «الألمانية» ضد العدو التقليدي ما قيل: إن نابليون الثالث يريد السير على غرار نابليون الأول، فيهدم النمسة ثم بروسية، فيجب إذن أن يدافع عن الرين على ضفاف نهر البو
3
وأن يستولى على الألزاس واللورين؛ ضمانا للأمن، وتتوعد صحيفة كروززايتنغ ابن الثورة «نابليون الثالث»، ويشير بالحرب مولتكه الذي عينه الوصي على العرش رئيسا لأركان الحرب، غير أن ولهلم يرتعد فرقا من اقتراف مثل خطأ أبيه، فيجد نفسه وحيدا مثله تجاه فرنسة الظافرة، وهل من الممكن بعث الحلف المقدس باسم آخر؟ وتواثبه حمية الجندي، فيذكر ما كان من دخوله المجيد باريس سنة 1815 أيام كان شابا، ويأذن للشيخ غرلاخ في تقديم الحسام إليه للهجوم على فرنسة مرة أخرى.
ومن بين رجال الدولة يبدي بسمارك وحده رأيا مخالفا للحرب، ولو أظهره ذلك بمظهر المقاسم لمشاعر الأحرار المعارضين للنمسة بحرارة، والمؤازر للبولونيين والإيطاليين، واليوم - كما في أيام حرب القرم - لا يريد بسمارك أن يهب إلى نصر آل هابسبرغ، واليوم يجهر بسمارك بأن النمسة «بلد أجنبي»، واليوم يطالب بسمارك بحياد بروسية على الأقل، واليوم يصرح بسمارك بأن الأفضل لبروسية أن تنحاز إلى ناحية فرنسة، وبسمارك ينعت صحيفة كروززايتنغ ب «البلاهة»، وبسمارك يحذر من إنجاد عدوة بروسية، وبسمارك يبدي لأخيه مخاوفه بالكلمة الرائعة الآتية، وهي: «أخشى أن نغدو نشاوى بالنمسة، كما وقع سنة 1813.»
ويغلب النمسويون في شهر يونيو بماجنته وسولفرينو، ويود ولهلم أن يزحف مساعدا لهم ويعبئ قواه، ويرتمي كل من العدوين بين ذراعي الآخر؛ خشية تدخل جيش سليم آخر، وما كان نابليون ليجازف بمجده الحربي الجديد، وما كان فرنسوا جوزيف ليجازف في ألمانية بمقامه العتيد، فيعقد الصلح في شهر يوليو، ويتميز البروسيون مع الوصي على العرش من الغيظ ، ويسر بسمارك وحده من عدم اشتراك بروسية في القتال، وقل مثل هذا عن القيصر الذي هتف لهزيمة النمسة فيحيط سفير بروسية الجديد (بسمارك) بدخان كثيف من التبغ أكثر مما في أي زمن كان.
ويحسن استقبال بسمارك، ويعمل بسمارك على توثيق الصلات بين بروسية وروسية، فيرى أنه في بيئته، ويستولي بسمارك على قلب القيصرة الأم، ويبلغ من فتنه لها ما قالت معه أميرة في الرابعة من عمرها باللغة الروسية على ما روى: «هي تحب الجنرال، ولكنها لا تريد السلام عليه؛ لأنه يذفر»
4
وتمرض القيصرة الأم، ويجلس بسمارك بجانب سريرها فيتكلم ويسمع فيعلم بذلك أمورا أكثر مما يعلمه بالاجتماعات أو بمساعدة الجواسيس، ويعرف أيضا كيف يجاري رئيس الوزراء المكار المتدين الشائب غورشاكوف، فيبدي له احترام التلميذ، ويداري له حتى غروره، وبسمارك في جميع ذلك لا يحقد على مولاه الذي لم يرفع درجته العسكرية، فتكون نتيجة هذا في العروض العسكرية «أن يبدو سفيره «بسمارك» ملازما ضخما بين جميع أولئك الجنرالات الشمخ»، وبسمارك مع رؤيته القيصر باستمرار يخبر برلين بأن من مقاصده: «أن يعدل بعد الآن عن فرصة مشاهدة القيصر في غير المهرجان الشتوي؛ فالحق أنني لست مع أهلي في هذه الخدمة.»
ويصبح بسمارك راضيا ببطرسبرغ في الحين بعد الحين، ولبسمارك في بطرسبرغ كل ما يرضيه؛ فله فيها منزل مريح شغل باله بجزئياته حتى قبل وصوله، وبسمارك يلتفت إلى رياش بيته ذلك أكثر مما إلى شئون منصبه الرسمي، وبسمارك يصف جميع هذا البيت المستأجر لزوجه فيذكر لها غرف الخدم ويخبرها بأن غرف الأولاد تنعم بشعاع الشمس إلى وقت الظهر على الأقل، ويأبه بسمارك إلى تلك الدقائق كما كان يصنع حين ظهوره شريفا معسرا، وتعلم زوجه غلاء ثمن الأثاث في روسية، فتحصل على ما يلزم من دارمستاد لعدم مغادرتها فرانكفورت بعد، «وللنماذج الحريرية القطنية مثل منظر الحرير وهي تصلح لجميع الأثاث، ولا سيما أثاث غرفتي الأخضر، كما تصلح للستائر أيضا. ولا أرى خزائن الكتب لائقة، وأرى القاعدة جيدة، وإن وجب أن تكون أعلى مما هي عليه، وسأبحث عن متاع أضعه عليها.» وجاء في الذيل: «إذن، لا تنبت أسنان الأولاد الرديئة، فهل يجب إصلاحها؟» ولا بد من جلب خمره المعتقة إلى روسية بطريق البحر البلطي، «ومن يدري من يشربها في شونهاوزن؟» ويباهي باتساع بيته الواقع على شاطئ نهر النيفا وبأناقته وبأصابله
5
الجيدة وبميدانه الخاص للتدريب على ركوب الخيل، ويوصي لاستعماله الشخصي ب «مكتب كبير»، وب «فراجن
6
أسنان ضخمة قاسية كالحجر».
وبسمارك كلما زاد دخله زاد توفيره، وبسمارك يصرح بأن عليه أن يوفر كثيرا من راتبه البالغ ثلاثين ألف تالير، فعاد لا يقيم الولائم، وهو لا يكاد يستبقي زائريه للغداء إلا إذا كانوا عنده في الوقت المناسب، وهو يحمل أخاه على إرسال تفاح وبطاطا إليه من بوميرانية بحرا، وهو يعهد إلى برنهارد في مراقبة أمور الري وغيره في أملاكه، وهو يسر لاقتصاده دخله الخاص.
ولا شيء يبهره في روسية أكثر من اتساع المساوف،
7
ولا سيما عند ذهابه إلى القنص، ولا بلد أنسب له - أول وهلة - من ذلك البلد الذي يصطاد فيه الدببة، وأكثر من صداقة القيصر قدرا، ومن هزيمة النمسة في سولفرينو قيمة على ما يحتمل، ذلك الحين الذي «يقبل علي فيه دب جريح واقفا فاغرا فاه، فأدعه يدنو قريبا مني خمسين خطوة فأطلق عيارين ناريين على صدره فأرديه قتيلا، ولا أشعر بخطر دقيقة واحدة، فورائي صائد حامل بندقية أخرى ذات طلقتين. ولا أحد يجاوز تلك الغابات الواسعة. وهنالك أيضا توجد جنات حقيقية للصائدين ومما حدث أن عض إصبعي دب صغير أروضه لأرسله إلى رينفيلد؛ فلذا أبحث عن رفيقة له لأبعدهما إلى بوميرانية.» ويعود من الصيد فيحدث عنه صديقه كودل ويختم قوله عن اعتقاد ب «أن حياة الصائد هي حياة الإنسان الطبيعية»، وفي أويقات كتلك التي يغير الدب عليه فلا يشعر بذعر تبصر ظهور دم الفرسان النهابين عليه، وإذا قابلنا هذا الحادث بما يماثله اعترانا الدهش من كونه رجل عشرة ومن قدرته على تمثيل دور في البلاط.
ومما يسره إلى الغاية أن يرسل إلى أخته فخذ خنزير مقددة، ويعتذر عن المقدار مازحا بقوله: إن هذه الفخذ «من دب صغير لم يبلغ من العمر غير سنة، وقد تجدينها مملحة قليلا، ولكننا نأمل أن تكون من الطراء ما قد يكون عليه الدب.» وتزوره الدوكة الكبرى، ويفك حزمة السيغارات التي تهديها إليه فيقدر ثمن السيغار الواحد بخمسة عشر غروشنا، وتمضي ثلاثون سنة، فيكتب مذكراته، فيذكر فيها أنه عندما يزور القيصرة الوالدة «كان يعد في المطبخ القيصري ثلاثة أعشية لي وعشاءان لسادة السفارة الذين يدعون معي. ويؤتى إلى منزلي ذات يوم بجميع العشاء مع توابعه، ثم يؤخذ ولا أستطيع أن آكل مع رفقائي على مائدة القيصرة في يوم آخر لاضطراري إلى الطعام قريبا من سرير القيصرة المريضة بعيدا من رفقائي.» ولم يعتم أن انتحل لنفسه وضع الأمير الروسي المستبد، فيقول بدم بارد بعد عرض أربعين ألف رجل: «تلك عدة جميلة من الرجال والخيل والجلد.»
وكل شيء هنا على مقياس واسع، حتى «منازعات فرانكفورت تقع هنا على مدى أعظم مما هنالك وأدعى إلى الالتفات. ويلوح ما يقع هنالك من الحقد الاتحادي والسم الرئيس أمرا صبيانيا إذا ما قيس بما يحدث هنا. وعندما نتوجه إلى المنزل فيصرخ على الدرج بالكلمة: «سفير بروسية!» يلتفت إلينا مع ابتسام كريم كما لو شرب أولئك الناس رحيقا قويا.» ومما أثر في بسمارك ما رآه في روسية الناعسة من الاتساع والسلطان والسيادة، وتقوي هذه الانطباعات مناحيه الروسية، وتؤثر في سياسته القادمة، ويظل مقيما على ميوله إلى روسية في السنين الثلاثين المقبلة مع تقلب سياسته العامة بحسب الأحوال، حتى إنه في شيبته يجد في مثل الأقاصيص المذكورة آنفا دليلا على «ما يقوم عليه بأس الروسي من الثبات والعناد تجاه بقية أوروبة.»
وما كان يمازج بسمارك من ركون إلى روسية قلبا وقالبا فلم يكدر بغير عارضين لم يعرض لمثلهما سابقا ولم يعد إلى مثلهما لاحقا. وبيان الأمر أن بسمارك حين وصوله إلى سان بطرسبرغ وجد سكرتيرا ثانيا قواما بشئون السفارة أيام سلفه، ويظهر هذا الرجل عارفا بكل شيء مدركا لكل شيء، ويجلس عدة أيام متكلما عن الأمور مدخنا مع بسمارك، ويود بسمارك بعدئذ أن يملي عليه رسالة مطولة فيجيبه عن ذلك بقوله: «إن مما لا أقدر عليه أن أكتب رسالة يمليها علي سواي.» وما كان كوردفون شلوزر هذا عبقريا ولا رجلا سياسيا، ولكنه كان عالي الثقافة موظفا فاضلا ألمعيا منتسبا إلى أسرة محبة للخير، وكان أصغر من رئيسه الجديد «بسمارك» بسنتين، وكان يشاطر بسمارك صفتين: الشجاعة والعزة، وهو قد رفض لهذا السبب ومن فوره أن يتخذ آلة، وهو قد وجه ذلك الجواب إلى متبوعه بسمارك على طريقة بسمارك.
وماذا يصنع الرئيس تجاه ذلك الوضع غير المألوف؟ هو لم يحدث له مثل ذلك فيما مضى، هو يمكنه في صميم فؤاده أن يحترم شلوزر، ولكنه كان من قلة الحكمة وكثرة الاستبداد ما لا يرى معه بقاء الأمر عند ذلك الحد، بسمارك لم يفعل بشلوزر شيئا إذ ذاك، بسمارك يملي الرسالة على ملحق بالسفارة منتحلا وضع «أحد الباشوات» ذارعا الغرفة ذهابا وإيابا. وتمضي بضعة أيام فيستدعي السكرتير لكتابة رسالة بالأرقام في ساعة مقصودة غير معتادة، ويصل شلوزر بعد ساعة من الوقت المعين، ويجد بسمارك بادئا بالعمل مع الملحق، ويستقبله بسمارك مصعرا
8
خده، ويغدو الأمر واضحا لشلوزر، ويعير شلوزر بسمارك «قطعة من ذهنه» ويقول: «تلك صراحة لم يتعودها الرئيس.» ويمضي يومان فيرسل مرسوم من السفارة إلى شلوزر ليضع توقيعه عليه، وفيه يقال: «أرجو من فون شلوزر أن يأتيني في الساعة الحادية عشرة من كل يوم للبحث في المسائل الجارية.» ويحضر شلوزر منتصبا أنوفا ويسأل: «ماذا يعمل في هذا النهار؟» ويرتبك بسمارك قليلا ثم يقول: «لا شيء، لم أرد السير على هذا المنوال، وإنما أطلب مجيئك عندما يكون هنالك أمر يعمل.»
والآن يدخل بسمارك دورا من النضال، والآن يرى أي الرجلين أصلب عودا من الآخر، والآن ينظر إلى كل ما يخص المصلحة، «ولكنني لم أبد له وجها طليقا، ولم يحدث أن عملت مع شخص من ذلك الطراز فيما مضى، وليس في الأمر ما يسر، وأي شيء أدعى إلى النفور من الإذعان؟» وكلا الرجلين يكتب رسائل نارية. ويكتب بسمارك إلى رئيس الوزراء قوله: «إن فوز شلوزر موظف سطحي، وهو من قلة الأدب ما يدعو إلى الحيرة.» وتنظر المراكز العليا ببرلين إلى السكرتير بسمو، وتعد السفير رجلا خطرا، فلم تبد حراكا، ويعبر شلوزر عن مشاعره في رسائل ومفكرة فيكتب بعد أسبوع: «إن ما يقوم به من الاستبداد المستمر ذلك الرئيس الذي لا يعد الآخرين إلا من الضعفاء، والذي يحيط خططه بالغموض فيحاول خدع سامعيه، والذي لا يثق بأحد، فمن المناظر المؤذية، وليس لي ما أعمله معه سوى القليل، وعلى الرجل أن يكشر له عن أسنانه وإلا ضاع، وما سياسته إلا عصر لليمون ورمي له بعد ذلك.» ثم يرى حوك الدسائس حوله، فيقول: «تبصر العملاق المقاتل بسمارك في الدهليز. وقد كنت من الصراحة تجاهه ما أخذ يتحداني معه، وهو لم يبد موفقا في السلك السياسي حتى الآن.»
وتمضي ثلاثة أسابيع، فيقول: «كلما دخلت مكتب الباشا قلت في نفسي: لا تكن لينا، لا تدعه يأخذك على حين غفلة! هو يود تمثيل مهزأة الصلح ولكنني لا أود ذلك. وإني على ما يساورني من عرفان بعقله الجبار وإني على ما يواثبني من وجوب دعوته بالسيد؛ لا أجد في نفسي ما يحفز إلى تلبية ذلك النداء، فعليه أن يعترف بجوره علي.»
ويمضي شهر آخر، فيقول: «يبدي الباشا رفقا، ويظهر الباشا ودا، وأظل فاترا، غير أن الباشا تغير، فيثني علي في غيابي. هو لا يصحح مسوداتي الآن. هو مريض منذ ثمانية أيام، فيجعله هذا أكثر دعة واعتدالا.» ويلتحق بالسفارة أحد الأمراء، كروا، بطلب من الرئيس، فيبدو هذا الأمير، بسرعة، عاجزا مضحكا، ولا شيء أدعى إلى سرور بسمارك من أن «يهزأ بالرجل، ولكنه لم يوفق في ذلك لما لم أبد له من لطف، حتى إنني رفضت دعوته إياي إلى الغداء، كما رفضت ما كان يقدمه إلي من السيغار غير مرة، والحق أنك إذا عدوتني وجدت كل واحد يخشاه، وفي هذا سر غضبه علي.»
وتمضي ستة أشهر، ويغادر شلوزر السفارة مع مرض الرئيس فيكتب إلى كنته معتذرا عن عدم إرساله كتابا إليها بقوله: «سبب ذلك هو الباشا، فقد بلغت روحي من الارتباك به ما لا أريد معه أن تطلعي على هذا الارتباك.» وفي شهر فبراير يكتب إليه الرئيس عن الأثاث والخدم ما دام لا يوجد غيره من يستطيع معالجة ذلك، «وهكذا يعض الباشا على التفاح المر فيكتب إلي كتابا خاصا، وأرسل إليه جوابا مناسبا، وأرسل إليه بطارخ مرتين كما طلب»، وفي الوقت نفسه يرسل بسمارك إلى رئيسه ببرلين كتابا يقول فيه: «لا يسعني سوى الثناء على فون شلوزر، فأمحو رأيي السيئ السابق فيه» وكان هذا بعد الاجتماع الأول بسنة واحدة تقريبا.
وتمضي ستة أشهر فيكتب شلوزر في الصيف قوله: «يسير كل شيء مع بسمارك على أحسن وجه، وفي برلين كان قد قيل لي إنه أثنى علي في ولهلمستراس، وإنه استرد مخلصا كل ما أبداه في البداءة ضدي حينما كان مريضا منكدا سياسيا حانقا علي بفعل بعض الأشخاص على ما يحتمل. والآن تطوى تلك الصفحة، وغير هذا أمر السياسة حيث يظهر الرجل جهنميا، ولكن إلى أين يهدف؟» ثم يقول: «إنه يدعوني إلى العشاء كل يوم فأتناوله معه، وليس لدي ما يوجب مخاصمته، والسياسة قد حلت فيه، فهو عنوانها، وكل شيء يجيش فيه، وكل شيء يحفزه إلى العمل والتكوين، هو يحاول أن يحل النظام محل الفوضى في برلين من غير أن يعرف كيف يصل إلى ذلك بعد. هو رجل عجيب مملوء بالمتناقضات ظاهرا.» وتمضي سنتان على وصول بسمارك إلى سان بطرسبرغ فيكتب إلى برلين مطالبا باسترجاع الأمير كروا وبجعل شلوزر السكرتير الأول، ويقرأ هذا الكتاب على الممدوح شلوزر قبل إرساله، ويقول فيه: «إن شلوزر صعب المراس في صلاته برؤسائه، وقد قضيت معه أوقاتا سيئة في بدء الأمر، بيد أن ما بدا من جدارته وأمانته في الخدمة محا رأيي الرديء فيه.»
ذلك حادث فريد في حياة بسمارك، ولا يكاد بسمارك يرى في المستقبل مرءوسا مستقلا، ولن يحتمل بسمارك مرة أخرى وجود رجل جموح بجانبه، ومن العجب أن اعترف كل من الخصمين بقيمة الآخر، فبسمارك قد أقر بإخلاص شلوزر، وشلوزر قد أقر بعبقرية بسمارك، وتتوتر صلاتهما الرسمية في البداءة، ثم تصبح ميدانا يتسابق فيه زهوهما فلم يرد كل منهما أن يغلبه الآخر بسنه ومقامه، بل عن عبقرية وخلق، وهما لاتصاف كل منهما بالعبقرية والخلق كتب لهما الفوز في نهاية الأمر ولم يصب أيهما بهزيمة.
الفصل السابع
في ذات يوم من يوليو وبعد شهرين من وصول السفير الجديد بسمارك إلى سان بطرسبرغ، يجول هذا السفير راكبا في ميدان للترويض حار، ثم يرجع إلى منزله غير لابس معطفا، فيشعر بألم في ساقيه، ويستدعي طبيبا ألمانيا فيضع هذا الطبيب لزقة على ساقه اليسرى، ويشتد وجعه في الليل فيخلع هذه اللزقة، وفي الغد يبصر أحد عروقه في حال يرثى لها، فيزيد غضبا لعجزه عن تعيين أي الرجلين هو «السام»: آلطبيب أم الصيدلي؟ ويرى جراحي روسي مشهور أن الضرورة تقضي ببتر الساق، ويسأل المريض: «أيكون البتر فوق الركبة أم تحتها؟» ويشير الطبيب إلى فوقها ويرفض بسمارك ذلك، ويبحر إلى ألمانية مع مرضه.
وبذلك يضحي منصبه وعمل حياته في كف عفريت، أجل إن بسمارك لا يخسر ذكاءه بساق واحدة، ولكنه لا يصيب بذلك نجاحا مثل الذي كان يتم لذكائه بفضل هيئته وحضوره وجرأته، وفي برلين تنقذه طبيعته الجبارة، وفيما هو يعود إلى سان بطرسبرغ نصف متعاف؛ إذ يستريح مع أسرته في ملك لصديق له قليل وقت، فيشعر باضطرار إلى التزام السرير مرة أخرى؛ فقد ظهرت في العرق المعطل دمة،
1
ويصاب بالسداد في الرئة، ويقنط من حياته بضعة أيام ويكتب وصيته، ويقول في شيبته: «إنني كنت أتقبل الموت مسرورا؛ لما بدا به الألم أمرا لا يطاق.» وهو لم يذكر الدين بكلمة في ذلك، وهو يصب غضبه على الدواوين، وذلك كما يبدو من حظره على الحكومة - وهو من أكابر موظفيها - أن تتدخل في الوصاية على أولاده.
وفي برلين يظل ناقها ستة أشهر، وفي برلين يعنى بالساسة أكثر مما بالأطباء، ويمسكه الوصي على العرش هنالك، وإن كان لديه ما يطلب به عودته إلى منصبه لو كان من القادرين على ذلك؛ فالوصي كان يخشى ما يمكن بسمارك أن يجره إليه من النزاع، والوصي - مع عدم احتماله بسمارك - لم ير أن يتخلى عن هذا الرجل في مكافحته القادمة للأحرار، وما كان بسمارك لينفر من ذلك الوضع المذبذب، وبسمارك حينما يكون في مركز الأمور، يستطيع أن يدفع فريقا من الأصدقاء إلى العمل على تعيينه وزيرا للخارجية أكثر مما يستطيعه عندما يكون في منفاه على ضفاف النيفا،
2
ولكبريائه العذر فيما يقول به الطبيب من الانتظار الطويل، فاسمع ما يقوله لزوجه مبتهجا: «أراني جالسا فوق شرفتي هنا كجلوس لورليه
3
على صخرته فأبصر ملاحي سبريه
4
يعبرون الترعة، ولكنني لا أغني ولا أزعج نفسي كثيرا بمشط شعري، ويخيل إلي في الفندق هنا أنني أغدو شيخا كبيرا فتمر علي الفصول وتسير أمامي أجيال السياح والخدم، على حين أمكث في الغرفة الخضراء الصغيرة فألقي الحب إلى العصافير الدورية وأخسر شعري.»
وينتظر الوصي على العرش موت أخيه، ويساير في دور الانتظار شلينتز كرئيس للوزارة، ويتكلم بسمارك عن شلينتز كنديم متوكل على أوغوستا، ويتم ولهلم المهزأة بدعوة شلينتز وبسمارك إلى مؤتمر كأنه يود إدارة سباق بين الفريقين، ويطلب من بسمارك شرح برنامجه فيصر على رأيه أيام حرب القرم في أن النمسة ضعيفة وأن بروسية قوية وأن روسية صديقة وأن بروسية هي كالدجاجة التي لا تجرؤ على مجاوزة الخط الطباشيري السحري المرسوم على الأرض.
ثم يأمر الوصي على العرش شلينتز بالكلام فيذكره شلينتز بوصية أبيه التي هي «حبل لا يفتأ يهز فؤاده» والتي وضعت ضد باريس ولمصلحة آل هابسبرغ، ويختم شلينتز كلامه فينطق ولهلم من فوره بخطبته المعدة مقدما - كما هو واضح - والقائلة إنه ينحاز إلى هذه التقاليد القديمة، ثم يفض الجلسة، وأوغوستا هي التي رسمت تلك الرواية، وذلك لإطلاعها الرجعيين على خطر المناوبات، ويرى بسمارك أن أوغوستا لم تكن آنئذ متأثرة كثيرا بالمقاصد الإيجابية تأثرها بنفورها من روسية، ومن نابليون الثالث، «وبنفورها مني؛ لاستقلالي في الرأي ولرفضي - في غير مرة - أن أقدم أفكار هذه الأميرة إلى زوجها على أنها خاصة بي».
وليست أوغوستا وحدها هي التي أقصته عن السلطة في سنة 1860، بل نشأ هذا عن برنامجه الألماني قبل كل شيء. ومما أسفرت عنه الحرب في السنة الماضية أن ثارت المشاعر القومية بين الأحرار كما ثارت بين أبطال مبدأ سنة 1848، فتبصر عدة خطب ومهرجانات وإخاءات كما في تلك السنة الثورية، ويريد المتقدمون من رجال الدولة أن يعقد حلف مع النمسة في مقابل السيادة على ألمانية؛ أي ما يؤدي إلى بقاء الجامعة الألمانية، ويريد بسمارك أن ينسف هذه الجامعة لعده إياها «عاهة لا تشفى بغير الحديد والنار، عاجلا كان ذلك أو آجلا، فلنتخذ العلاج الشافي في الوقت المناسب.» وهكذا يكتب السفير إلى رئيس الوزراء، بالأبيض والأسود «مع الحديد والنار»، وهكذا لا يرى السفير إمكان بناء ألمانية الموحدة بغير هذه الوسيلة، ويضيف السفير إلى ذلك قوله: «لا أود أن أشاهد كلمة ألمانية مكتوبة على علمنا بدلا من كلمة بروسية ما لم يغد اتحادنا مع بقية البلد أوثق وأفيد، ويضيع ذلك فتونه إذا ما انتحلناه قبل الأوان.»
وما كان من انفصال بسمارك التام عن أنصار العروش الشرعية فقد أوجب فصله عن الوصي على العرش، وفي ذلك الحين يرسل سرا كتاب وداع إلى غرلاخ الفاقد لسلطانه فيعرب فيه عن الحقيقة كما يراها بقوله: «إن فرنسة هي فرنسة سواء أكان على رأسها نابليون الثالث أم سان لويس. والخلاف إذا ما نظر إليه من حيث السياسة وجد عظيم القيمة، والأمر إذا ما نظر إليه من حيث الحق لم يكن له أدنى معنى. ولا أشعر بتبعة تجاه الأوضاع الأجنبية، ولكنك إذا ما فرقت بين الحق والثورة، وبين النصرانية والزندقة، وبين الرب والشيطان لم أسطع مناقشة الأمر معك، ولا أصنع سوى قولي: لا أشاطرك رأيك؛ فأنت تحكم في أمر موجود في، وفي أمر ليس لك أن تقضي فيه. أريد ضرب فرنسة حتى تلغ
5
الكلاب في الدم ، ولا أفعل ذلك بشعور من العداء الشخصي أكثر مما أفعل لو غزوت الكروات والبوهيميين واليسوعيين المبشرين والبنبرغيين الفلاحين.»
وما كان بسمارك ليتخذ هذه اللهجة عندما كان غرلاخ صديقا للملك، والآن حين أهمل الوصي على العرش غرلاخ، وحين زادت واقعية بسمارك الدولية؛ تبصر بسمارك يفصح عما في ذهنه بحرية إلى ذلك الرجل السياسي الذي ذهب سلطانه، وبسمارك ينسى غرلاخ على عجل باحثا عن سواه مع ذلك، وتشتد الأزمات وتقع تباعا ويرجع بسمارك إلى سان بطرسبرغ، ويرقب الحوادث عن بعد قانطا مرة أخرى، هائجا محموما، مازحا محللا مركبا، وإليك كيف يصفه رفيقه اليومي شلوزر في خريف تلك السنة:
ترى آمري الباشا في دور من الهيجان رهيب؛ فما كان من إقامته ببرلين وما أصيبت به برلين من ارتباك واضطراب؛ فقد جعل دمه يفور مرة أخرى، ويظهر أنه يشعر بأن دوره دنا، ويوشك شلينتز أن يعتزل منصبه، ويأمل الباشا أن يتقدم، والمسألة هي: هل يلائم بروسية؟ وهل تلائمه بروسية؟ فيا لانسياب تلك الروح البركانية في مثل تلك الأحوال الضيقة المحدودة! هم لا يحبونه، وهم يسيرون كأنه غير موجود؛ ولذا تبصره يمثل دوره السياسي الخاص، هو لا يقوم هنا بما يسمى تدبير الدار، هو يألم من ارتفاع الأثمان على الدوام، هو يقابل قليلا من الناس، هو لا ينهض قبل الساعة الحادية عشرة أو قبل الظهر، هو يظل في المنزل لابسا بذلته الخضراء، هو لا يمارس الرياضة البدنية، هو يكثر من معاقرة
6
الخمر، هو يلعن النمسة. هو يقص علي أمورا كثيرة، فيبدو صريحا ممتعا مندفعا ثوريا مزدريا لكل نظرية، تمثله في ولهلمستراس! تصور ألف رعد! ويقول حديثا: ليصبح شلينتز مديرا لأملاك البلاط، وليخترني الملك، أو ليختر برنستورف أو بورتاليس وزيرا للخارجية. هذا ما قاله الباشا حرفيا، والباشا يحلم بتلك الوزارة ليل نهار!
ويظهر كالنمر المتأهب للوثوب فلا يمنعه من فريسته سوى القضبان، ويغدو غير مكترث لألهياته الماضية، ولا يرى أحدا، ولا يخرج للصيد، ولا يحصر ذهنه في غير السؤال الكبير: «متى أقبض على زمام السلطة؟» ذلك هو بسمارك الحقيقي، ذلك هو بسمارك الخالص أكثر من بسمارك في كتبه إلى زوجه حيث يمثل دور النصراني المعذب.
ثم يموت الملك المجنون فردريك ولهلم في أوائل سنة 1861، وينادى بالأمير ولهلم ملكا، وولهلم هذا قد انتظر أكثر من ثلاثين عاما، والآن يصل إلى الثالثة والستين من سنيه، فيبدو كل شيء مرتبكا له، وهو يبلغ من إزعاج الأحرار له بحملتهم على خططه الجديدة حول الجيش ومن إعيائه بجدال زوجه وابنه؛ ما يفكر معه أن يتنزل عن العرش لابنه فردريك الذي كان في الثلاثين من عمره، ويرتجف جميع المحافظين - أي جميع رجال البلاط - لما يرونه من إسراع فردريك عند وقوع ذلك إلى معاهدة الأحرار بتأثير زوجته الإنكليزية، وكان ألبرخت فون رون ظهير الملك الأول وقتئذ، وكان هذا العضد المعين جنديا صادقا فيسمو على جميع الحاشية بعلو شرفه، وكان شهما هماما رزينا متواضعا تقيا أنوفا من المظاهر والهتافات مبرأ من الغيرة ممتازا عائشا وفق شعاره: «اصنع ما يجب واحتمل ما يقتضي»، وهذا هو الرجل الذي يصهر سلاح بروسية، وهذا الرجل، مع شديد مقته للحرب، شب مع من ينظرون إلى الأمور بعين الجندية، فيفكر بها، وكان الملك الجديد عسكريا أيضا، ويدعو هذا الملك حين كان وصيا على العرش رون ليعيد تنظيم الجيش، ويذكر رون ولهلم بأجداده، وينصح رون ولهلم عند التتويج بأن يسير على غرار أجداده المطلقين فيطالب رعاياه بيمين الولاء، ويقاوم الوزراء الآخرون الحائرون ذلك، ويعرف رون رجلا واحدا حازما يصلح لمنصب شلينتز، يعرف رون رجلا يمكنه أن يصر بحزم على يمين الولاء تلك مع القدرة على إصلاح الجيش حتى في دولة دستورية حين الاعتراك، يعرف رون بسمارك.
ويجتنب الملك ذلك، ويبدي الملك أن أقصى ما يوافق عليه في أمر بسمارك هو تعيينه وزيرا للداخلية؛ لاتصافه بحب النضال والجبروت، لا وزير خارجية لنزعته «البونابارتية» ويحتج بسمارك على هذه التهمة في كتاب خاص يقول فيه: «إذا ما بعت روحي من الشيطان بعتها من شيطان توتوني، لا من شيطان غولي!» وبهذا يعترف بسمارك بأنه ألماني لأول مرة مجتنبا استعمال كلمة «بروسي»، وبسمارك حينما يصنع هذا ينتحل تلك الكلمة الكلاسية
7
التي كان يسخر منها في شبابه، ويعلق رون كبير أهمية على يمين الولاء إذن، ويدعو بسمارك إلى برلين ويطلب منه أن يبرق بقراره إذن؛ وذلك «لأن الملك يتوجع إلى الغاية، ولأن أقرب أفراد آله يبدون ضده ويقولون بسلم فاضحة»، والآن بعد ستة أشهر يظهر بسمارك الذي كان في الشتاء شديد الشوق إلى وزارة الخارجية قانطا من ذلك الاقتراح الذي يقصيه عن أعز أمانيه، فلا يبرق وإنما يجيب عن ذلك بكتاب مع الحذر، قال بسمارك: «يرن أمركم «إلى الحصان» بقسوة حين تتجه مشاعري إلى الدجاج البري من ناحية وإلى رؤية الزوجة والأولاد من ناحية أخرى، وأجدني هامدا كاسدا خائر العزم منذ فقدت صحتي الجيدة»، وتلوح يمين الولاء له غير ذات خطر، ويعرض عن وزارة الداخلية؛ لأن النظام البروسي ديمقراطي في الداخل شديد المحافظة في الخارج، مع أن العكس هو الذي يجب أن يكون. وهو إذ يحمل هذه الأفكار يدبج يراعه أعمق ما قيل عن الألمان حول ذلك: «فلنا ما للفرنسيين من غرور، فإذا ما قنعنا بوجود نفوذ لنا في الخارج احتملنا أمورا كثيرة في الداخل» وإلى هذا يضيف بسمارك قوله: «أخلص لمليكي كما في فنده،
8
ولكنني لا أشعر بميل إلى رفع خنصري في سبيل الآخرين، فهذا هو طراز تفكيري، وإني لأخشى بهذا التفكير أن أكون بعيدا من تفكير مولانا المعظم فلا يجدني أهلا لمقعد في مجلس التاج»، ثم يختم كلامه بغتة بقوله: «وإذا انحرف المليك قليلا إلى وجهة نظري قمت بالعبء مسرورا.»
ويفسر هذا الرفض الناقص وهذا الأسلوب الضارع بالعناد أكثر مما بالمرض؛ فهو من حسن الصحة ما يفيق معه من نومه في منتصف الليل ليذهب إلى صيد الدجاج البري؛ ولذا نجد صحته من الأسلحة التي يتذرع بها في النضال السياسي، والحق أن بسمارك يبصر من خلال التباس تلك الدعوة غير الرسمية أن ذلك يجعله في وضع غير مناسب، ويجيء إلى برلين في نهاية الأمر، ويرى أن عدوته القديمة أوغوستا كسبت الشوط، فقد أذعن الملك راضيا بتتويج بسيط «كان قد أمر بإعداد حلله في شهر فبراير، فصار الملك - كما روى رون - خاضعا للملكة وتوابعها أكثر مما في أي وقت كان، فإذا لم يشتد الملك نشاطا ضاع كل شيء وغدونا تحت نير البرلمانية والجمهورية.»
وبسمارك - مع ذلك - يذهب إلى بادن بغتة ليواجه الملك ولهلم «ويحار الملك كارها؛ لاعتقاده أنني لم أحضر إلا بسبب الأزمة الوزارية» ولا يعود إلى الملك لطفه إلا بعد اطمئنانه إلى مؤامرات ميفيستوفل،
9
ويحاول تلميذ ألماني أن يقتل الملك في تلك الأثناء؛ لما كان من عدم جهاد الملك في سبيل الوحدة الألمانية، ويقاسم بسمارك وجهة نظر الجاني وإن قام اصطياده للملك على الأفكار، ويرى بسمارك الإفادة بسرعة من تلك الفرصة، فقد أثر في الملك ما كان من نجاته ومن اعتراف الجاني بالسبب، ويشرح بسمارك أفكاره الخاصة للملك ولهلم الذي كان للمؤامرة أبعد الأثر في نفسه، ثم يدون أفكاره هذه في مذكرة يكتبها في عطلة الصيف برينفيلد فتنسخها حنة، وفي هذه المذكرة يقيد بسمارك تغييرا قاطعا ثمينا في أفكاره، وهو يعنى فيها بتفصيل رأيه الأساسي حول الإمبراطورية الألمانية، قال بسمارك: «لا يمكن بروسية أن ترضى بأن تكون تحت الوصاية في ألمانية، وللحكومة الاتحادية من السلطان البالغ ما ليس للحكومات التي تتألف منها؛ لما لها من النفوذ العظيم في الأمور المشتركة بينها. ويبلغ هذا الهدف على ما يحتمل بتمثيل الألمان القومي لدى الدول التي تتألف منها الجامعة، فتكون بذلك موازنة لميول الأسر المالكة التي تقوم سياستها على الانفصال، والشعب إذا مثل في جميع الدول الألمانية تعذر عد مثل هذا النظام أمرا ثوريا. وقد يضمن الانسجام والبقاء لمثل هذا النظام التمثيلي عند انتخاب أعضائه من مجالس اللندتاغ، لا من الشعب رأسا. وتفسح الخصومات الثانوية في مجالس الدولة مجالا لعمل رجال الدولة الأكثر اكتراثا لمصالح الألمان العامة.» ولكل دولة أن تحافظ على سلطانها الخاص في داخلها، ولا أمل في الوصول إلى ذلك النظام بالبندشتاغ الراهن ما دامت النمسة معارضة له، «وقد يكون عمليا أكثر من سواه أن يصار، كما وقع في أمر الاتحاد الجمركي، إلى إقامة نظم قومية من طراز آخر»، ولا بد من إعلان هذه الخطط؛ «ليكون لها ما يجب من الأثر المضاعف، فيهدأ - من جهة - بال أمراء الألمان حول دائرة خططنا ويعرفوا أننا لا نهدف إلى الضم، وإنما نريد موافقة الجميع، ويزال من جهة أخرى قلق الشعب بأن يحمل على الاعتقاد بأن بروسية تسعى إلى ارتقاء ألمانية الذي لا ينتهى إليه بالبندشتاغ العتيد».
وإذا أنعم النظر في هذه الآراء حول البرلمان الجمركي المؤدي إلى الريشتاغ ذات يوم، ثم رجع البصر إلى ما ألقاه بسمارك من الخطب وكتبه من الرسائل سنة 1848 أدرك أمر تحوله من رجل حزب إلى رجل دولة، وبسمارك هو الذي يريد اليوم تحقيق مبدأ الثورة؛ أي تحقيق الوحدة الألمانية التي كان يقاومها فيما مضى؛ لما تنطوي عليه من أصل ثوري، «وكل واحد منا يود الوحدة الألمانية، ولكنني لا أريدها بهذا الدستور» هذا ما صرح به بسمارك، وبسمارك وإن كان راغبا عن هذا الدستور اليوم، يقول به كعامل أساسي، وبسمارك يرى الزمان قد مر على أصله فصار من الشرعية «ما لا يعد معه ثوريا» أجل، إنه يصرح معترفا بضرورة اشتراك الألمان في حكومة ألمانية، ولكن ذلك هو لموازنة منافسة الأمراء!
وتكتب الوثيقة المذكورة آنفا بأسلوب قضائي، وتجد مثل هذا التحول بأقوى مما تقدم، وبأدل على طريقة بسمارك من ذلك في الكتاب الذي أرسله بسمارك إلى صديق له في ذلك الوقت ضد برنامج المحافظين؛ فقد جاء فيه: «بلغنا المرحلة التي تصبح فيها سيادة أمراء الألمان الطاغية وغير الشرعية وغير التاريخية؛ معشوقة حزب المحافظين، مع أن أولئك الأمراء يتخذون وضعنا الاتحادي قاعدة يتلهون فوقها كذوي السلطان في أوروبة. ولا أدري لم نتقهقر فزعا وهلعا من مبدأ التمثيل الشعبي في مجلس الجامعة أو مجلس الاتحاد الجمركي. فمن الممكن إيجاد مجلس قومي محافظ مع نيل شكر الأحرار.»
وتمضي عشر سنين على ذلك القول فيفتتح بسمارك الريشتاغ الألماني الأول.
الفصل الثامن
يقف ولهلم الأول أمام الهيكل فيلتقط التاج من المائدة المقدسة ويضعه على رأسه بيديه؛ علامة على أنه ناله من الله لا من الناس، ثم كان عرض كبير للكتائب، وكان يبدو بين الحاشية الزاهية علج
1
لابس بزة زرقاء، فيلوح لمن يترددون إلى البلاط أنه بسمارك لو لم تزين جبينه خصل كثيرة، ويقترب منه فيظهر أنه بسمارك في الحقيقة فيقول ضاحكا: «أراني حكيما في ساحة القصر إذ أجهز نفسي بشعر مستعار، يلقي برنار
2
في الظل، فضلا عن بزتي العسكرية، ولولا هذا لأسفر قضائي ساعتين حاسر الرأس في الهواء الطلق عن انحراف في صحتي.» وهكذا يحضر بسمارك متنكرا حفلة تتويج الملك، ثم يتم بسمارك تتويج الملك إمبراطورا بعد عشر سنين، ويعرض الملك عن تابعه ذلك في حفلة التتويج الأولى تلك كما يفعل ذلك بعد عشر سنين. والسبب في هذه المرة هو أن ولهلم يود ألا يظهر بمظهر الرجعي، وتعمل الملكة على ارتباك زوجها وارتباك بسمارك، فهل تقبل عدوها هذا بلطف لم تقبله بمثله منذ سنين، وهي تقف بجانبه في المهرجان، وهي تكلمه في السياسة الألمانية، «فيحاول الملك الذي يقودها ممسكا يدها أن يقطع حديثها على غير جدوى».
بيد أن نيل التاج من الله لم يلق سكينة في قلب الملك؛ فقد اضطربت شئون مملكته بأشد مما كانت عليه في عهد غيره، ويفوز حزب التقدم الجديد في الانتخابات التي وقعت بعد عام، ويضن البرلمان على الملك بالجنود انتقاما، وتجازى وزارة الأحرار بالعزل في فصل الربيع، ولم يضم رون إليه غير محافظين، ويحل النبيه النشيط الكونت برنستورف محل شلينتز مع عجز فيه عن سلوك سبيل جديدة، ويداوم شلينتز على الحكم من الدهليز، ويستدعى بسمارك من سان بطرسبرغ نهائيا، ويلاحظ بسمارك أنه سيكون للخارجية ثلاثة وزراء، ويسفر جنون أمير هس الناخب الذي امتنع رعاياه عن دفع الضرائب عن إرسال جنود يكسرون خزائنهم، وتسنح فرصة التدخل، فيقول بسمارك لبرنستورف: «إذا كنتم تودون محاربة هس فاجعلوني سكرتيرا ثانيا لكم، فسوف ترون هنالك اشتعال حرب أهلية طاحنة في أربعة أسابيع .» وبسمارك في هذا الدور «يعارض معارضة شديدة بكلمة محاربة الأخ لأخيه».
ويبلغ شوق بسمارك إلى العمل في ربيع سنة 1862 ما يرضى معه أن يصير وزيرا بلا وزارة على الأقل، ويتلقى بسمارك من الملك، في هذه المرة أيضا، قرارا مزريا به قائلا إنه يمكنه أن ينال أي منصب كان خلا وزارة الخارجية مع عد بسمارك أمر القيام بهذه الوزارة من اختصاصه، وما كان بسمارك ليطيق الانتظار كما صنع منذ عامين؛ فقد هدد رئيسه بالاعتزال أو رفعه إلى منصب، ويعين سفيرا بباريس في ثلاث ساعات، وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة تهديدات بسمارك بالاستقالة حملا للملك على النزول إلى ما يريد، وكان منصب السفير بباريس شاغرا، وكان منصب السفير بلندن شاغرا أيضا، فأبدى برنستورف ميلا إلى ملئه له، ولكن رجل الدولة (بسمارك) كان غير محبب، فبلغت الملكة من كرهها له، وبلغ الملك من عدم الاكتراث له، ما عرض بإنذاره ذلك نفسه لخطر الاستغناء عنه في ساعة ملال، وما كان من إشارة برنستورف بعكس هذه المجافة ففضل منه، والرجل الوحيد الذي كان بسمارك يعتمد على عونه الشخصي هو رون، ورون هذا كان لا غنية للملك عنه.
وفي سان بطرسبرغ كان بسمارك يشعر دوما بأن إقامته مؤقتة بها، فلم يقض فيها سوى نصف السنوات الثلاث من سفارته بها، وإلى باريس يذهب بسمارك كما لو كان ذاهبا لزيارة، فمن الممكن أن تشتد الأزمة في كل وقت فلا يوجد لها حل، فيستدعيه رون وفق ما اتفق عليه هذان الصديقان فيما بينهما، وبسمارك على ما كان من سابق حبه لباريس لم ترقه باريس في الوقت الحاضر؛ فهو يجد السفارة فيها عفنة، وهو يجد الفرنسيين بلديين متصنعين متحفظين، وهذا إلى ما كان من توقانه إلى السلطان منذ عامين على الأقل، فصار كل شيء يكدر صفوه، وأصبح غائصا في روح من السلبية ما يذكر معه ساعات فتائه القاتمة.
ويرسل إلى أخته كتابا عند نقله من سان بطرسبرغ يقول فيه: «غدوت متهدما نفسيا منذ مرضي، فصرت راغبا عن معالجة الأحوال المضطربة، وكان يمكنني أن أكون وزيرا نافعا للدولة قبل ثلاث سنين، والآن لا أبدو لنفسي سوى فارس عليل في الميدان، فسأذهب إلى باريس أو لندن غير راض أو غاضب، أو أبقى هنا كما يرى الرب وصاحب الجلالة، فجميع هذه الأمور سواسية لدي، وهي لا تغير شيئا من حياتنا السياسية. أرتعش من المنصب الوزاري كما لو كنت أمام مغتسل بارد، وأود شغل أي منصب خال كان، أو العود إلى فرانكفورت، وأريد حتى الذهاب إلى برن لما أجده من الراحة فيها. والآن أقرأ مذكرات فارنهاجن
3
فأجدها لاغية خبيثة، ولكن من ذا الذي يظهر بغير هذا؟ تتوقف الفروق بين الناس على الطراز الذي تنشأ به حياة كل واحد منهم، شأن الثمرة التي تسوس بالحشرات أو تنضر تحت شعاع الشمس، أو تعرض للرطوبة فتصير مرة أو حلوة أو فاسدة.»
وما كان بسمارك متألما مع ذلك، أجل إن المرض يلم دوما بزوجه وولده وبجميع أفراد منزله، فتبصر رقة زائدة فيما يكتب إلى من في بوميرانية، ولا سيما أخته، بيد أنه إذا مرض في الحقيقة اعترف بنسبية مشاعره السياسية، فيسير على غرار هملت
4
في كتاب يرسله إلى زوجه فيقول لها فيه: «لا أرى في هذا العالم سوى المصانعة والاحتيال، ولا يهم في نهاية الأمر أن تمزق الحمى أو البندقة
5
نقاب اللحم ما دام وقوع هذا أمرا لا بد منه عاجلا أو آجلا، وهذا إذا ما حدث كان بين البروسي والنمسوي من الشبه ما يصعب معه تمييز أحدهما من الآخر لتماثلهما حجما كتماثل شرك ورشبرك، وهما إذا ما جملا، فلم ينظر إلى غير الهيكل في العاقل والمجنون منهما، وجدا متقاربين؛ فالوطنية الخاصة تتوارى عند النظر إليها من هذه الجهة.»
وبسمارك - فيما بعد - يتغافل شيطانا عن بعض ما عليه، فيحلل حتى تجاه زوجه أحيانا ما به من بقايا تدين ذات تأثير غريب فيه، وبسمارك يقلل من كتبه إلى زوجه، وهو إذا ما كتب إليها كان ذلك باختصار، وهو إذا ما كتب إليها أبدى لطفا لها كما في الماضي ، ولا يسهب بسمارك ولا يتعمق في غير وصفه لأمور الطبيعة، فهنالك يكون شاعرا.
وبسمارك يفكر في العناية الإلهية بعد أن يضربه القدر، وبسمارك يكتب إلى أخته التي قتل ابنها في الصيد حديثا قوله: «إذا ما انقضت عشرون سنة أو ثلاثون سنة - على الأكثر - خلع كل منا عبء هذه الحياة، فيصبح أولادنا حيث نحن الآن، فيدهشون لما يرون إذ ذاك من انحدار حياتهم إلى الزوال، ولا يستحق لبس الثياب وخلعها عناء ما دام هذا هو المصير. ينقص عدد من نحب باستمرار، وهو لا يزيد إلا بعد أن نغدو ذوي حفدة، ومن كان في عمرنا لا يؤسس من الصلات ما يقوم مقام التي كانت لنا بمن ماتوا.» وحس الأسرة لدى بسمارك يدحر الحس الديني في هذا الموقف أيضا.
والحقيقة هي التي يصف بسمارك في أحوال الحياة العادية؛ أي عند عدم المرض والضعف. قال بسمارك بعد حضوره مأتم أمير: «جلست في الكنيسة المفروشة بالسواد مع غورشاكوف قريبا من التابوت المغطى بمخمل جنازي فتكلمنا في أمور السياسة. ويقتبس أسقف الكنيسة وعظه من المزمار الثالث بعد المائة «حول الكلأ والريح والغبار»، على حين نرسم الخطط ونضع المكايد كما لو كنا من الخالدين.» فهذه التأملات هي من الأمور الدارجة لدى هذا الرجل الذي يحلل نفسه دوما، وهي أكثر في سنوات نصرانيته العشر مما في شبابه، وهي تزيد الآن؛ لما تنطوي عليه من إنذار بالحقيقة أمام المرآة.
بسمارك في سنة 1859.
ويساوره مثل تلك الحال النفسية، فيجوب شوارع باريس عاطلا من منزل منظم، عاطلا من زوجه التي لم تكن معه، بعيدا من المجالس الراقية التي يغادر أهلوها باريس في منتصف الصيف، ويزيد اضطرابه لعدم بلوغه هدفه فيبلغ درجة يزدري معها هذا الهدف، ويجيء في كتاب يرسله إلى رون: «إن لدي نوبات نشاط، وإن لدي من روح الإقدام ما لدى هذا الحيوان الذي يود الرقص على الثلج في إبان سعادته.» ثم يعد العلل المنزلية التي يمكن أن تحفز برنستورف إلى تأجيل سفره، فإلى تأخير الأزمة حتى أوائل السنة، ثم يختم بسمارك قوله بالكلمة: «من المحتمل أننا نقوم بأمر الحساب من غير مضيفنا، ومن المحتمل أن صاحب الجلالة لا يقرر تعييني أبدا، والآن لا أرى سببا لتعيينه إياي ما امتنع عن ذلك في الأسابيع الستة الأخيرة.» ويحل شهر أغسطس فيلحف على رون ليتحفه بحوادث قاطعة؛ وذلك لأنه يود أن يعرف أين يكون مكتبه في فصل الشتاء القادم، أفيكون في لندن أم في باريس أم في برلين، فيجيء في جواب رون: «إن الملك سيعرف هذه العوامل، فيكون لها ما ليس للعوامل السياسية من التأثير.»
وما لديه من حنين متصل إلى الوطن ومن شوق إلى إقامة ثابتة فيجعله عصبي المزاج، فيعكس هذا على أصدقائه ببرلين، «فلا تزال أشيائي ببطرسبرغ حيث تكاد تجمد. وتبصر أفراسي في ضواحي برلين، وتبصر أسرتي في بوميرانية، وتبصرني على الطريق، ولا ترى ما هو أطيب عندي من البقاء بباريس، ولكنني أريد الاطمئنان إلى أنني لا أنقل بعد بضعة أسابيع أو أشهر فأزعج بجلب متاعي الكثير»، ويداوم على كلامه فيقول: «إنني مستعد للخدمة بلا وزارة، ولكنني لا أرى ما يجعلني آمل ذلك.» ويعود إلى عادته فيدع خطا لرجوعه فيكتب إلى أخيه أنه إذا ما نال منصبا وزاريا، فليس ذلك لطويل زمن، فهو يرغب في الذهاب إلى الريف لكي يغرس أشجارا، «ومن رأيي الثابت أن يكون عندي شجر بلوط في الأراضي الرملية لصنع المراكب؛ فالهولندي حتى في أسوأ تربة ينال ما بين عشرين فلورينا وثلاثين فلورينا»، وفي حين آخر يكتب إلى أخيه كما لو كان ملازما بعد مأدبة «أن ابتعادي عن زوجي وأولادي وما كان من بشمي بالمشمش قبل يوم؛ فمما يجعلني أكتئب، فأطمع أن يكون لي من المنصب الثابت ما أختم به بقية أيامي مطمئنا.»
وأجمل شيء وجده في ذينك الشهرين بباريس هو ما اتفق له من حديث في فونتنبلو؛ فقد حاول الإمبراطور أن يغوي بسمارك كما حدث منذ خمس سنين وإن كان على وجه ملح أكثر من قبل، فكأن نابليون شعر بأن من المحتمل أن يقبض بسمارك على زمام السلطة قريبا فيسعى في خرابه، فيرجو أن يحول دون وقوع الكارثة مقدما، وفيما كانا يتنزهان قال الإمبراطور لبسمارك على غير انتظار: «أترى الملك مستعدا لمحالفتي؟»
بسمارك :
لا شيء يعدل ما يكنه الملك من الصداقة لشخصكم يا صاحب الجلالة، وما كان من تحامل الرأي العام على فرنسة فقد ذهب أدراج الرياح، غير أن المحالفات في الوقت الحاضر لا تكون مجدية إلا إذا كانت مفيدة ضرورية؛ فالحلف لا بد له من بواعث ولا بد من وجود هدف له.
الإمبراطور :
ليس هذا صوابا في كل حين، فترى الدول على شيء من الصداقة، ولا مناص من تبادل الثقة تجاه مستقبل مجهول، ولا أتكلم عن الحلف مغامرا، بل أجد بين بروسية وفرنسة من المصالح المشتركة ما يشتمل على بذور حلف صميمي دائم ما لم تحل الأوهام دون ذلك، ومن الخطأ البين أن يراد خلق الأحوال؛ فالأحوال تأتي بنفسها من غير أن نقدر على تقدير قوتها ووجهتها؛ ولذا يجب علينا أن نكون مطمئنين إلى الوسائل التي نواجه بها الأحوال فننتفع بها.
ويسهب الإمبراطور الكلام في «الحلف الدبلمي» ولكنه يقف في الحديقة بغتة ويقول: «إن ما عرضته النمسة علي من اقتراحات عجيبة في هذه الأيام مما لا تصدقونه. والذعر هو الذي يلوح في فينة، وقد حدثني مترنيخ عن السلطات الشاملة، وهو لم يكد يجرؤ على ذكر مداها، وهو قد قال لي إنه مفوض بأن يفاوضني في كل المسائل غير مقيد، وإن لديه من السلطات ما لم يمنحه ولي أمر لرسول، ويربكني هذا التصريح فلم أعرف كيف أجيب عنه، فهو يريد تسوية الأمور معي تسوية مطلقة بأي ثمن كان، ولكنني من غير قول عما بين البلدين من اختلاف في وجهات النظر؛ أشعر بوجل يكاد يكون خرافيا من ارتباطي في مصاير النمسة.»
والأمر الأول الذي يثير دهشنا في هذه المحادثة هو عدم تكلف الإمبراطور خلافا لعادته، وما كان من إفشائه لذلك القطب السياسي بما يدور في خلده مع اشتهار ذلك القطب بالمصانعة في ذلك الحين، وقد يرد الخاطر كون نابليون الثالث نطق بما نطق عن رعونة وهوى، ولكن ما عرف من أخلاق الرجل وتاريخه يدحض هذا الافتراض، ولكن ما علم من عادته في المحادثات الدبلمية يحول دون اختراعه ما عرض مترنيخ، وهذا إلى أن طراز إدراكه لطبيعة الحلف أكثر صوابا وأشد ملاءمة للعصر، ولم يضرب بسمارك عن قوس فكره الحقيقي فيما قاله، ولم يعد ما قاله حد الادعاء. ولا نرى ما هو أدعى إلى الذكر من رفضه الطاهر، وقد شبهه في تقريره برفض يوسف لما راودته به امرأة العزيز (فوطيفار) عن نفسها، «فهو يعرض علي أفسق ما عرف من حلف، ولو سايرته أكثر مما فعلت لكان ما صرح به أوضح مما صنع.»
وهل كان يمكن بسمارك أن ينال من الإمبراطور تصريحا أعظم مما وقع؟ لم تكن المبادئ لتعوقه ما دام من غير القائلين بشرعية العروش، ولو أتى باقتراح إيجابي من فرنسة القوية لناقش الملك فيما يشتمل عليه من الأمور، ونعرف فضلا عن ذلك أن بسمارك أوضح في كتابه إلى برنستورف كون الإمبراطور «نصيرا قويا لمبدأ الوحدة الألمانية الصغرى؛ أي لمبدأ الوحدة الألمانية بغير النمسة، ومما حدث منذ خمس سنين أن صرح لي في اجتماعي الأول به أنه يود أن تكون بروسية دولة بحرية - من الدرجة الثانية على الأقل - وأن يكون لديها من المرافئ ما يفي بهذا الغرض. وعنده أن من العبث إغلاق خليج جاد في هانوفر-أولدنبرغ»، ولكن بسمارك لم يقل لرئيسه شيئا عن جوابه إلى الإمبراطور في أمر اقتراحات النمسة؛ فقد اكتفى بما انتهى إليه من النتيجة العامة القائلة: إن من غير الملائم أن تحالف فرنسة في مسائل معينة، وإن من غير الملائم أيضا أن تعاهد النمسة ضد فرنسة؛ وذلك لأن النمسة «لن توافق - مختارة - على كل تحسين لوضعنا في ألمانية ولو أدى هذا إلى تضحيتها بالبندقية وضفة الرين اليسرى»، ويتكلم بسمارك عن الأمر بوجه عام، فيقول: «إن النمسة تريد الدخول في كل عمل يؤدي إلى تفوقها على بروسية في ألمانية.»
وما كان من سكوت بسمارك تجاه رئيسه فذو مغزى؛ فبسمارك كان من سرعة الخاطر ما أدرك معه أول وهلة مقدار العمق في تلك المحادثة بحديقة فونتنبلو الإمبراطورية، ومن الواضح أن كان بسمارك صريحا تجاه الإمبراطور أكثر من صراحته تجاه الوزير برنستورف الذي كان بسمارك يطمع أن يحل محله بين حين وآخر، والذي سيصبح سفيرا في لندن فيغدو بسمارك في مكانه بولهلمستراس آمرا له بعد أن كان مرءوسه، ولم يبوح بسمارك لبرنستورف بجميع ما اشتملت عليه تلك المحادثة المنقطعة النظير من الحقائق إذن؟ ومن المحتمل أن يكون بسمارك قد كتم حتى عن الملك فحوى ذلك الحديث، وبسمارك وإن لم يذكر للإمبراطور نابليون الثالث غير العموميات؛ استطاع أن يقتطع من اعترافات هذا الإمبراطور ما هو أبعد من ذلك، وتمضي أربعة أعوام، وتقع الحرب البروسية النمسوية فيذكر بسمارك نابليون الثالث بتلك المسائل على ما يحتمل.
وبسمارك حين وجوده بباريس يتصل بزعيم المعارضة تيار، ويسافر بسمارك إلى لندن أيضا، فيزور الزعماء فيها، ويتناول العشاء في السفارة الروسية، فيبهر ديسرائيلي وفريقا من الزعماء الآخرين بصراحته، وإن عد الطراز الذي كتب به تقريره حول ما حدث موضع شك لا ريب، ويسأل عما يفعل إذا ما قبض على زمام السلطة، فاسمع قوله: «إن أول شيء أصنعه هو إعادة تنظيم الجيش بسرعة. فإذا ما أصبح قويا اغتنمت أول فرصة لتصفية الحساب مع النمسة فأحل الجامعة الألمانية، وأقيم دولة ألمانية موحدة بزعامة بروسية.» وبسمارك - وهو الذي ألف الخداع - كان يرى أن الناس يصدقونه دوما إذا ما كذب مع انتحال الجد، وأنهم لا يصدقونه إذا قال الحق مع ظاهر خداع، ولكن بسمارك يخطئ في هذه المرة؛ وذلك لأن الذي ينصت له الآن هو ديسرائيلي الذي لا يقل عنه ذكاء، ويكرر ديسرائيلي كلمات بسمارك فيضيف إليها قوله البالغ: «انتبهوا إلى هذا الرجل، فهو يعني ما يقول!»
والحق أن المسألة الألمانية كانت تتوقف على الجيش البروسي، وأن كل حزب كان يود أن يكون الجيش البروسي بجانبه، وكان هنالك ثلاثة أحزاب؛ فأما الأحرار فكانوا يرون الوحدة الألمانية بزعامة بروسية ، وأما المحافظون الألمان فكانوا لا يريدون رؤية البروسيين فوقهم، وأما المحافظون البروسيون فكانوا لا يريدون أن يحولوا إلى ألمان. ويبدو الخلاف في الشعب والمجتمع الراقي والبلاط والموظفين والأسرة المالكة، وتتموج المشاعر كما في الثورة.
والملك وحده هو الذي كان يسمع صوتين في فؤاده، والملك ما انفك منذ ثلاثين سنة يقول بإعادة تنظيم الجيش، فهنالك فائدته الوحيدة، وذلك كل ما يعرف، ويظل جهاز الجيش على ما كان عليه منذ حرب الإنقاذ، ولا تنال يد التعديل عمر من يدعون إلى الجندية وإن تضاعف عدد السكان في البلاد، والآن تصبح السلطة قبضة ولهلم بعد زوال عهد أخيه المتردد، فيريد سن قانون قائل بتجنيد أقصى ما يمكن من الرجال على أن تكون مدة الخدمة العسكرية ثلاث سنين، وعلى أن ينقص عدد من يجمع من الردفاء المتزوجين. وهكذا يجدد الجيش ويزيد عدد من يحملون السلاح من 400000 إلى 700000 جندي أكثر شبابا، ولمداراة المسنين في التجنيد معنى اجتماعي إلى الغاية، ومن المحتمل أن يكون الملك قد أراد هذا في بدء الأمر.
ولم يلبث غرض ولهلم أن فسر تفسيرا سياسيا، فهوجم من الجهتين، ومن الحق أن كان الردفاء لدى الأحرار حصن الشعب الأخير الذي ما فتئوا يشغلونه منذ سنة 1813، فآباؤهم؛ أي الشعب بالمعنى الحرفي، هم الذين كسبوا حرب الإنقاذ، لا الأشراف الذين كان وضعهم مذبذبا، ولا الملك الذي كان عدوا للأمة، والآن يلوح أن جيش الشعب، الذي أوجده شارنهورست في تلك الأيام، انحط من شرفه إلى جيش للملك، وهذا إلى أن الأحرار يريدون تقوية الجيش كولهلم، ويريدون الوحدة الألمانية، ويريدون الخدمة لمدة سنتين وصولا إلى تلك الغاية؛ فالذي يكرهونه هو زيادة نفوذ الأشراف في الجيش، فتراهم يناهضون ما يراد توسيع نطاقه من جماعة الضباط والكليات الحربية وما يراد صنعه من تحويل ضباط الطبقة الوسطى إلى ردفاء، واليوم تبصر رجوع كل شيء إلى حظيرة الأشراف، واليوم تبصر الدبلميين والرؤساء والمالكين من الشرفاء، فإذا ما أمسك الجيش على أنه جيش شعبي نم ذلك على بقاء شيء من روح سنة 1848 التي أخذت تميل إلى الأفول.
ورون هو الذي أوصل الصدام إلى أقصى حد، ورون هذا كان ملكيا أكثر من الملك فصرح في المجلس بأنه لا ينبغي للتاج في الأوقات العصيبة أن يكون تابعا للأكثريات المتقلبة ولا لخطب الأحزاب، وهكذا يعارض الدستور ويجر أحزاب الشمال إلى المعركة التي يودها، والملك قبل إعلان الدستور كان قد أمر بزيادة عدد الجنود، والآن أتكون بروسية دولة دستورية أم دولة عسكرية، كما في الماضي؟ ولا جنود بلا مال! وليرفض فرض المال من أجل خدمة السنوات الثلاث! يغدو حل المجلس ضربة لازب إذا فعلتم ذلك، فهذا هو الوجه الذي صار إليه الصدام.
وفي أسابيع الأزمة ببرلين تلك يسبح بسمارك كل صباح وبعد كل ظهر في مياه المحيط الأطلنطي، حيث تلطم الأمواج شواطئ فرنسة بشدة، ويكون بسمارك في بياريتز قريبا من الحدود الإسبانية بعيدا من الخطوط الحديدية ومن الأعمال والصحف الألمانية، ويغتسل بسمارك مرتين في كل نهار، ويقضي بسمارك هنالك أسابيع بدلا من الأيام الثلاثة التي كان يقصد التمتع بها هنالك، ويستلقي بسمارك على الكثبان «مدخنا ناظرا إلى البحر متمرنا على إصابة الأهداف، فنسيت السياسة وصرت لا أقرأ الجرائد»، وتلحق رسائل برنستورف ورون المهمة به في سفوح جبال البيرنه (البرانس)، وينبطح بسمارك على الرمل ويصرخ قائلا: «علي ألا أدعى إلى برلين رأسا، فلست سوى ملح بحر وشعاع شمس. لقد مكثت أكثر من نصف ساعة بالماء، وأشعر بأنني عاطل من جناحين أطير بهما، ونتعشى ونتنزه على الخيل، والقمر يسطع نورا والبحر يرجع جزرا، ثم أعود وحيدا وأشعر بأنني عدت نشيطا.»
ولم يتفق لبسمارك من الهناءة منذ عشر سنين - أو يزيد - مثلما اتفق له في تلك الأسابيع القليلة، ويبدو عاشقا كما يبدو مسرورا، ولكن مع شرف ووفق مبادئ وثيقة، ولكن مع ذكاء رجل عارف بالنساء، ويبدي بسمارك فيما يكتبه كل يوم إلى زوجه من الرسائل وجدا تجاه امرأة أخرى يشبهها بقريبة ميتة فيلقي نورا على غرامه في شبابه. قال بسمارك: «أرى ما لم يره أحد في العالم، أرى البحر الأخضر الأبيض بفعل الزبد وشعاع الشمس وراء صخرتين مستورتين بشجر الخلنج
6
الزاهر، وأبصر بجانبي أكثر النساء فتنة، أبصر من تحبينها كثيرا إذا ما عرفتها، هي تذكرني بماري تادن. هي نسيج وحدها، هي مرحة، هي ذكية، هي أنيسة، هي صبية، هي جميلة.» هي الأميرة أورلوف، بنت تروبتزكوا، التي اجتمع بسمارك بها وبزوجها على ذلك الشاطئ فكان له عندهما زلفى فصار مع السنين يضعهما أمام الغابات البرية والصخور الوعرية، «وأجدني جيد الصحة بما يثير الضحك، وأجدني فرحا ما دمت بعيدا منك.» ويذهب إلى الفراش باكرا، ويفيق باكرا نشيطا، وتعزف السيدة الروسية الفاتنة له على البيان ليلا، ويكون إذ ذاك قريبا من النافذة ناظرا إلى البحر، وهي تلحن له قطعا مفضلة من بتهوفن وشوبن وشوبر، «وهي امرأة ستكونين شديدة الحب لها إذا ما عرفتها.» ويزورون منارة ويجدون زوج الحارس حاملا، ويستحوذ خيال روائي على العاشقين، ويعربون عن حبهم للطفل الذي لم يولد بعد ويقترحون أن يكونوا عرابيه،
7
والواقع أن الولد عند وضعه يسمى أوتون لافلور جمعا لاسميهما، والواقع أن بسمارك ينسى عيد زواجه، فقد استهوت الروسية هذا العارف بالنساء المفتون بالأجنبيات على الدوام، وكانت هذه آخر مغامراته.
والآن يتعقب غادة حسناء أخرى، والآن يسافر إلى ما يأخذ بمجامع قلبه، والآن يولي وجهه شطر السلطان.
وتأتيه إشارة برقية بأفينيون بعد صد ورد في البريد، وتصل هذه الإشارة من باريس إليه بعد أن أرسلها رون إليه في كتاب منذ أسبوعين، ويقرأ بسمارك كلمة «أسرع!» وينتهي إليه ذلك في 18 سبتمبر سنة 1862، والبرقية مؤرخة في 17 من ذلك الشهر، وفي 19 من ذلك الشهر يتوجه بالقطار صباحا إلى برلين حاملا حالا نفسية كما كان عليه منذ خمس عشرة سنة حين أهرع فلاحوه إلى باب شونهاوزن بعد طويل انتظار، راكبين صائحين قائلين: «أخذ الجليد يتكسر، فاحضر سريعا أيها السيد!»
ويجمع حزب التقدم في المجلس الأدنى على رفض مشروع الجيش ما لم تجعل مدة الخدمة العسكرية سنتين، ورون يضغطه رفقاؤه الضعفاء فيجيب بأنه سيفكر في الأمر مع استعداده للتخلي عن أمور كثيرة ، ويعلن برنستورف اعتزاله للخدمة إذا ما رئي عدم احترام البرلمان فلم تجعل مدة الخدمة العسكرية سنتين، غير أن الملك يظل ثابتا لا يتزحزح مستندا إلى مولتكه، وفيما كان كل شيء في خطر إذ يستدعي رون ذلك القطب السياسي الذي سوف يجهز القادة الثلاثة بالفيالق؛ كان الملك في نوبابلسبرغ مضطربا اضطرابا شديدا حين كان بسمارك يسمع صوت النفير بباريس، والملك يجد نفسه للمرة الثانية بين القانون والعقيدة، والملك إذ كان نبيلا، لا رجلا سياسيا، رأى أن يتنزل عن العرش، ويتمثل الأحوال الهائلة التي لقيها في حياته، فيذكر فراره إلى ميمل في صباه، ويذكر هربه، بعد أن صار رجلا، إلى جزيرة الأطواس فإلى لندن، ثم إلى أولموتز، ويذكر ما كان قبيل حرب القرم، ويغدو جميع ذلك أمرا باطلا إذن.
وفي 18 من سبتمبر يستدعي الملك ولده فردريك ويطلعه على وثيقة التنزل عن العرش قبل أن يذيلها بإمضائه، وولي العهد هذا لما كان عليه من ضعف شديد ومن قلة استعداد للقيام بأعباء الملك؛ يمتنع حتى عن قراءة صك التنزل مصرحا بأنه لا يقدر على الحكم بعد الارتداد أمام المجلس، وبأن التنزل عن العرش لا يؤدي إلا إلى زيادة الاصطدام، وبأن ساسة اليمين سيمثلون دور الأب ضد الابن الديمقراطي، ويذكر اسم بسمارك.
الابن :
هو موال لفرنسة.
ولهلم :
ولم لا أعينه وزيرا؟
ويحض رون على تعيين بسمارك، ويؤيد برنستورف هذا القائد في ذلك، ويلزم الشيخ ولهلم أسفل الجدار ويصرخ قائلا: «هو لا يقبل الآن ما يعرض عليه! هو ليس هنا! نحن لا نقدر على مناقشته!» ذلك هو آخر جهد بذله الملك ليحول دون وقوع ما لا بد من حدوثه، ويصل بسمارك في صباح اليوم العشرين من ذلك الشهر، ويصفه صديق له بأنه كان «نحيفا جيد الصحة مسمر الوجه كأنه جاب الصحراء على ظهر جمل»، ويجد بسمارك كل شيء مرتبكا، ولكل واحد ما يقوله له، وكل واحد يبدي له رأيا، ولا يزال الوزراء يعتقدون قرب تنزل الملك عن العرش فيرون صرفه عن ذلك، ويحاول ولي العهد أن ينجو من الورطة فيسافر إلى ينبوع ماء معدني غير بعيد، ويستدعي ولي العهد بسمارك في 21 من ذلك الشهر فيجده متحفظا لما كان من عدم محادثته الملك بعد، ويخبر الملك بزيارة بسمارك لولي العهد فردريك، فيؤذيه ذلك، فيقول لرون الذي جاء لينبئه بوصول بسمارك: «لا شيء يعمل مع بسمارك، فقد كان عند ولدي!» هذا ما رواه بسمارك نفسه، ومنها يطلع على أمر الملك ولهلم الذي كان جنديا يفضل التنزل عن العرش على الإذعان للمجلس، وللملك سلوان في معارضة ولده لتنزله. ومن الطبيعي أن يود الملك بقاءه جالسا على عرش انتظر وصوله إليه ثلاثين عاما، والملك إذا ما أبصر ذلك الذي دعاه إليه بالأمس يغازل ولده كما يلوح ارتاب منه ولو كان بسمارك، ولا بد من وجود مؤامرة، ورون هو الذي استدعى بسمارك، ولرون ضلع فيها إذن! ومن المؤسف أن كان بسمارك هنا، ومن المؤسف أن كان بسمارك في عطلة، ولا يمكن الملك أن يأبى الاجتماع بسفيره هذا، ولا يمكن الملك أن يمتنع عن الاستماع لسفيره هذا، ولا داعي اليوم لذلك، واليأس قد دب في نفوس الآخرين مع ذلك، ولا يعرف أحد منهم ماذا يشير، ولا يريد ولهلم أكثر من جيش جديد.
وليأت إذن، وليختبر إذن، وليحذر إذن!
دخل بسمارك في اليوم الثاني والعشرين من سبتمبر مكتب الملك ببابلسبرغ صباحا، وكان الملك أقل استعدادا للتنزل عن العرش مما كان عليه منذ ثلاثة أيام، وينبئ بسمارك بعزمه على التنزل عن العرش مع ذلك، ويري هذا الرجل الخطر وثيقة التنزل المعدة كما كان قد أرى رون وفردريك إياها. والملك على ما كان من وثوقه بأنه ملك بفضل الله ومن اعتقاده قدسية كل تاج يؤخذ من هيكل الرب، يدرك شأنه جنديا، فيقول غير مرة: «ولذا سأتنزل عن العرش». «لن أظل وليا للأمر ما لم أملك كما يحب الله ويرتاح إليه ضميري ويرغب فيه رعاياي. ولا أجد من الوزراء من يستعد لإدارة حكومتي، فتراني عازما على ترك العرش.»
كان بسمارك ينتظر هذا التصريح، والملك كان يعرف أنه ينتظره ؛ وذلك لأن جميع الوزراء كانوا عالمين بمقصده، ويجيب السفير بسمارك عن ذلك بقوله: «أنا للأمر، وتعرفون يا صاحب الجلالة، أنني مستعد للقيام به منذ شهر مايو.» وطفق بسمارك يلقي المسئولية على عاتق الآخر وفق سابق أساليبه؛ وذلك لما كان من عدم دعوته قبل ذلك، ثم يضيف إلى ذلك قوله بضرورة الاحتفاظ برون وتغيير الآخرين.
الملك :
وهل أنت مستعد لإعادة تنظيم الجيش على الرغم من الأكثرية؟
بسمارك :
أجل.
الملك :
إذن، يقضي علي الواجب بأن أداوم على الكفاح مستعينا بك، فلا أتنزل عن العرش.
وتدلنا تلك المحادثة على أن الملك كان قد قرر قبل أن يفتح الباب أن يداوم على الحكم بمعونة هذا القطب السياسي المقدام فيحفظ مقامه بشرف، وتوحي أسئلته إلى السفير بسمارك بما ينتظر من جواب، وهو يضع هذه الأسئلة مخاطبا الوجدان مع ذلك، والملك كان من البساطة ما هم به أن يمزق وثيقة التنزل على العرش بحركة روائية، وأن يصافح يد وزيره الجديد وأن يفتح عهدا جديدا، والملك هو كبسمارك الذي اتخذ قرارا كبيرا بكلمة واحدة للمرة الثانية، ويدعوه الملك إلى التنزه معه في الحديقة، ويكثر من سؤاله، ويطلعه على مذكرة مؤلفة من سبع صفحات مكتوبة بخط يده ومشتملة على جميع المسائل الراهنة المعلقة بين ما ناله الأحرار من الامتيازات وما كان من الإصلاح الإداري، وهكذا كان الملك متسلحا قبل اجتماعه بخادمه المخيف، وللملك بتلك المذكرة ضمان له تجاه حماقات ذلك الرجل المغامر، ويتصفح بسمارك تلك المذكرة فيعزوها في نفسه إلى الملكة.
والآن يغير لهجته؛ فما كان من شعوره بمصدر معاداته الخفي، وبما له من ضمان بتعيينه غير الرسمي فيعيد إليه سابق اعتداده فيعين من الكلمة الأولى، وفي ذلك الائتلاف الخطر حقوقه وسياسته الخاصة، فيأبى النقاش حول ذلك البرنامج. «والمسألة الآن تحت النظر، والمسألة لا تدور الآن بين المحافظين والأحرار، وإنما تدور لمعرفة أي النظامين يكون الراجح في بروسية: آلنظام الملكي أم النظام البرلماني؟ فالنظام البرلماني يحدد عند الضرورة بحكم مطلق مؤقت، وما كان للبرنامج غير ربط أيدينا، وفي وضع كذلك أعرب عن رأيي لكم بصراحة عند أمركم إياي، يا صاحب الجلالة، بأن أصنع أمورا لا أعدها صوابا، فإذا أصررتم على رأيكم، يا صاحب الجلالة، فضلت الهلاك مع الملك على التخلي عنه في مكافحة البرلمان.»
تلك هي لهجة جديدة، وبسمارك قد اختارها بعد إنعام نظر؛ وذلك كسبا لثقة الملك، وبسمارك قد حلف في ذلك الوقت يمين الطاعة للملك مع ذلك، وذلك شعورا بقدرته على النشوز والاستبداد بالسلطة، ولنا أن نطمئن إلى أن بسمارك يفكر على غرار ميفيستوفل فيقول: «سأنتشله من ورطة الحياة إلى حيث أريد!»
هو قد لبى الدعوة كتابع وضابط، وكدبلمي أيضا، وتنقضي دقيقة فيبدي بصره بالعواقب حين يريد الملك أن يقذف في الخندق ذلك البرنامج الذي لا قيمة له، ويصد الملك صاحبه مظهرا له ما لتلك الحركة من نتائج خطرة، وكانت هذه أول نصيحة يبديها الوزير بسمارك للملك، وبسمارك في الغالب سيحذر ولهلم على حافة الخنادق الجافة.
وبسمارك يجتمع بشلوزر في طريقه عائدا من بابلسبرغ، وبسمارك يقول «بلهجة غريبة» لهذا الذي نال ثقته بطرق عجيبة كما ذكر شلوزر: «أظن أنهم كانوا أقوى مني فقبض علي.»
الجزء الثالث
الباني
لا نستطيع أن نأكل من شجرة الحياة بلا جزاء.
رون
الفصل الأول
«وفيما أكتب إليك من اللندتاغ هنا أجدني مضطرا إلى الاستماع للخطب الغريبة السخيفة التي ينطق بها أناس من محترفي السياسة الصغار الأحلام المحتدمين، فيكون لي بذلك فراغ غير مقصود. ولما كنت سفيرا كان يساورني شعور بأنني سميذع
1
وأغدو وزيرا فأجدني عبدا خاضعا، ولا أرى أولئك السادة متفقين على العوامل التي ينضم بها بعضهم إلى بعض، وهذا هو مدار النزاع، ويتذابحون مع حب، وهذه هي النتيجة اللازمة للأمور التي هي من ذلك الطراز. ولا يقدر أولئك الأخطال
2
على حكم بروسية، فيجب علي أن أقاومهم، وأولئك وافرو اللغو كثيرو اللهو، وأولئك من الأغبياء والسفهاء. وكلمة الأغبياء إذا ما استعملت هنا بمعناها العادي كانت تعبيرا غير صحيح، فأولئك الناس يكونون على شيء من النباهة أحيانا، وأكثرهم أوتي قليلا من العلم فيبدون محاصيل للتعليم الجامعي الألماني، ولا يعدو مقدار ما يعرفون من السياسة حد ما كنا نعلمه منها أيام طلبنا، إن لم يكن أقل من هذا، وهم لا يجاوزون مستوى الصبيان فيما لديهم من السياسة الخارجية، وهم في المسائل الأخرى يظهرون من الأطفال إذا ما انتظموا في جماعة.»
ذلك ما كتبه بسمارك إلى رفيق شبابه موتلي، وذلك هو شعور بسمارك في الأشهر الأولى من حكمه؛ فبسمارك كان يزدري أولئك الخياليين إذا ما صاروا ضمن زمرة، فيناهضهم وإن عرف أن زعماءهم مثقفون، وبسمارك كان يشعر بأنه يعلوهم في الشئون الأوروبية علوا مطلقا، وبسمارك كان يألم من مكافحته ما به من عزة نفس متناهية كفاحا مستمرا، وبسمارك كان عليه ألا يرد الضربات كما في الماضي، وبسمارك حتى الآن كان يمكنه أن يطعن خصومه رأسا وأن يعبئ جميع قواه وصولا إلى غرضه، فإذا كان نائبا فعل ذلك من فوق المنبر، وإذا كان دبلميا فعل ذلك في تقاريره ورسائله، وبسمارك بعد الآن يجب عليه أن يكتم عن نواب الشعب أفكاره وخططه، وإلا اطلعت الشعوب على ذلك وغدا وضع خطط جديدة ضربة لازب، فعزلة بسمارك بدأت بقبضه على زمام السلطة.
وما كان لبسمارك أن يحار من قول إحدى الصحف البرلينية عنه ما يأتي: «إنه بدأ مهنته كشريف ريفي ذي عرفان بسيط بالسياسة، فلم يرتق اطلاعه وتحصيله إلى ما فوق مستوى المتعلمين العام، ويصل إلى ذروة صيته البرلماني في السنتين 1849 و1850، ويبدي في خطبه من العنف وعدم الاكتراث ما يبلغ درجة الاستهتار ودرجة الغلظة، ولكن متى أبان رأيا سياسيا؟» أجل كان يصنع ذلك قليلا أمام أعين الناس، وقليلون أولئك الذين عرفوا ما فعل في سبيل السلم في السنوات العشر الأخيرة، وإذا كان بعيدا من الكهنوتية فيما يصنع كان ذلك مع الخفاء، ومن قول غوستاف فريتاغ في غرينز بوتن: «تكسر أمام صلابة المجلس شوكة من هو أعظم منه، ولتمض سنة لنرى أمر فون بسمارك.» ويدوم سلطانه ثمانيا وعشرين سنة!
ومن يراقب عمل بسمارك عن كثب في ذلك الحين يشك في عقله، ومن ذلك قول أحد موظفيه بعد بضعة أسابيع: «إن بسمارك مصاب بمرض عصبي شديد، فيلوح لي أحيانا أنه غير مسئول تماما، فهو إذا ما أصدر نصائح إلى الصحف مثلا تدفقت أفكاره بسرعة يتعذر تعقبه معها، والرأي العام بين الدبلميين ببرلين هو أنه لا يعيش طويلا لعدم مداراته نفسه.»
وبسمارك مع ذلك يبدأ بالسير البطيء الوئيد على طريقته العلمية ليتسنى له أن ينجز عمله مع الحذر بعد التحليل الوسيع والتجريب الرحيب، ويكتب إلى رون منذ وقت قليل، فيقول له: إنه إذا ما قبض على زمام السلطة قال الناس «ذلك شر منتظر!» ويعزم على تبديد آمال أعدائه في بداءة حافلة بالعنف والسخف، فلم ينشب بعد قبوله المنصب أن استرد ميزانية سنة 1863 مهادنا المجلس بذلك، مفاوضا شيوخ الأحرار ليعرض عليهم بعض الوزارات محيرا إياهم بأوضاعه أكثر مما باقتراحاته، وماذا يقول النائب تويستن لأصدقائه عن ذلك الرجل الذي كان أقرب إلى احتقاره مما إلى تهيبه في بدء الأمر فكلمه بإسهاب، ومع إخلاص ونقد، عن الملك الذي كان يفترض أنه نصيره الطائش؟ وما هو أمر أوتكر الديمقراطي الذي كان ينتظر في الزيارة الأولى أن يبصر شريفا لئيما ووجه صياد ولاعب، فلم ألبث أن غيرت رأيي عندما ظهر لي أنه لا أثر لذلك فيه. وإنما وجدت رجلا طويل النجاد، شديد الشكيمة، لين العريكة يقبل علي حتى الباب ويمسك يدي ويقدم إلي مقعدا، ويقول لي متبسما: «وأنت، أيضا لا حظوة لك عند الديمقراطيين! ثم يقول لي إن الزمن تغير منذ مقاومته لرجال المتاريس، فقد تعلم في فرانكفورت أمورا كثيرة.» ويحمل على جريدة كروززايتنغ بعبارات «لم يخرج من فم الزائر ما يعدلها أو ما يكتب مثلها.»
وهكذا يداري خصومه ببراعة بعد توقعهم منه غطرسة وتحفظا، وهكذا يستقبلهم بأدب جم وصفاء ظاهر، وما كان أوتكر موظفا صغيرا أو تاجرا حقيرا يشتغل بالسياسة في ناد بلدي، بل كان زعيما لأحد الأحزاب في هس، وكان محاميا كثير الثقافة، ويلاطف أوتكر بالطراز الذي استقبله به ذلك الرجل العظيم من الباب وتحيته له وتقديمه مقعدا إليه مع النظر إلى طبقة ذلك الشريف البروسي لا إلى كونه رئيسا للوزراء، والزهو كان مظهرا تقليديا للأشراف ببروسية في ذلك الزمن، وبسمارك، مع افتراض تقمص تلك المشاعر فيه، أخذ يسلك سلوكا طبيعيا وينتقد تطرف حزبه أمام خصومه، ولا يبدو بسمارك قاسيا لحمله لقب «صاحب الفخامة»، ولا متمذهبا كالشريف، ويبدي بسمارك نفسه رجلا بدعا
3
دنيويا محترما للعادات؛ أي غير موظف بروسي.
ولم يبلغ أحد من النظر الثاقب ما يلاحظ معه تجاريب تلك الأيام الأولى في الديوان بلوغ شلوزر الذي كان يدعوه بسمارك في الحين بعد الحين من ذلك الدور إلى تعاطي أقداح الراح معه، قال شلوزر: «يمثل بسمارك مهزأته كاملة، محاولا إلقاء الرعب في الملك وفي جميع الأحزاب. وبسمارك يتسلى بختل
4
كل إنسان، وبسمارك يسعى في حمل الملك على الإذعان في أمر مدة الخدمة العسكرية، وبسمارك يصف في المجلس الأعلى مشروعه الخاص الرجعي بألوان تبلغ من القتوم
5
ما يخاف معه أعضاء هذا المجلس. وبسمارك ينتحل الصلابة أحيانا تجاه أعضاء المجلس الأدنى، وبسمارك يتخذ تجاه هؤلاء الأعضاء من الوضع أحيانا ما يجنحون معه إلى التراضي، وبسمارك يحمل الوزارات الألمانية على الاعتقاد بأن الملك يلاقي كل شدة في صد الوزارة الجديدة عن الكافورية،
6
ومما لا مراء فيه أن صار ذا نفوذ بالغ بألمعيته وعبقريته، فهو رجل!»
ويظهر بسمارك في الوقت الراهن أقصى درجات الكياسة والأدب، حتى في أحرج الأوقات، وما كاد يمضي أسبوع واحد على وزارته حتى جلس في إحدى لجان اللندتاغ ليأتي بشيء من الاعتراف الشخصي، ويفتح علبة سغايره في أثناء المناقشة فيري خصومه غصنا من الزيتون ويقول: «لقد جئت بهذا الغصن من أفينيون
7
منذ زمن قليل لأقدمه إلى حزب الشعب دليلا على السلم، وأرى مع ذلك أن وقت السلم لم يحن بعد.» ويلوح أنه أتى بهذا الغصن من بلد الزيتون مع زهو ممزوج بالمجاملة، بيد أن هذا الموسيقار لم يلبث أن غير لحنه فصرح بأن الصحافة لا تأتي بغير الافتراء حين تعزو إليه بحملاتها مقاصد حربية كي يقضي على الارتباك الداخلي، ثم يضيف إلى ذلك قوله:
ولا ريب في أننا لا نكاد نتفلت من الارتباك بألمانية وإن كنا لا نطلبه، وما كانت ألمانية لتنظر إلى ديمقراطية بروسية، وإنما تنظر إلى قوة بروسية، وعلى ما ترونه من تسامح في دول ألمانية الجنوبية لا يمكن هذه الدول أن تمثل دور بروسية! فيجب على بروسية أن تجمع قواها وأن تحتفظ بها إلى الوقت الملائم الذي مر غير مرة فيما مضى على غير جدوى، ولم تعين حدودنا في معاهدات فينة تعيينا ملائما لكيان الدولة السياسي، ولا تحل معضلات زماننا الكبرى بالخطب أو بقرارات الأكثرية، بل بالحديد والدم.
وإذا ما سألت عن الوجه الذي سقطت به تلك الكلمات من بين شفتيه وجدته قد نطق بها حول مائدة خضراء مخاطبا عشرة نواب أو عشرين نائبا وقليلا من وزراء الدولة، وذلك من غير تحريض، فكان ما فاه به ضربا من المناجاة بلهجة حبية ونوعا من الارتجال في الظاهر ومن الكلام المعد سابقا في الحقيقة، ولم يسجل تلك الكلمات أي كاتب اختزالي كان، ولكنها لم تعتم أن دوت في أرجاء ألمانية، وتمسك الصحافة والشعب كلمة «الحديد والدم» ويناديان بالويل والثبور، ولكن قائل تلك الكلمة لم يكذبها.
ويأسف بسمارك على استعماله تلك الكلمة مع ذلك، ويكون صدورها عن بسمارك الوزير ضربة سيف في الماء كتلك الكلمة التي صدرت عن بسمارك النائب منذ أربع عشرة سنة. وبسمارك في هذه المرة قد أغضب جميع العالم من أصدقاء وأعداء، ويقول له رون: «إن جملا كتلك هي من الشذوذ الحاد المذاق.» ورون هذا هو صديقه الذي أوصله إلى حيث هو، فلامه على تلك الكلمة في طريقهما إلى منزليهما، ويقول الأحرار: «إن كل شيء هو لعب رياضي عند هذا الرجل، وليس هذا مما ينطق به وزير مسئول.» ويفسر بسمارك الأمر إلى أحد النواب بقوله: «أردت أن أبين بذلك كون الملك محتاجا إلى جنود فقط، ولم أقصد بتلك الخطبة تعقيب مسألة ألمانية، وإنما أردت تحذير فينة وميونيخ. ولا تهدف تلك الخطبة إلى أخذ دول ألمانية الأخرى بالقوة؛ فالدم معناه الجنود. والآن أرى أنه كان علي أن أختار ألفاظي بحذر.» وهكذا كانت أشهر كلمات بسمارك خطأ في التعبئة.
ويقرأ الملك تلك الكلمة مذعورا، ويكون الملك عرضة لنقد الملكة، ويكون الملك آنئذ بجانب الملكة في بادن، احتفالا بعيد ميلادها فيعرض لنقد ولي العهد ولنقد زوجته الأميرة أيضا. ومن الطبيعي أن يساور الملك كثير من الخواطر السود حول رئيس وزرائه الجديد الذي حلف يمين الولاء له منذ أسبوع فقط، والذي وعد الملك زوجته برد جماحه، ويفقد آل الملك رشدهم، ويذكر ما حدث للويس السادس عشر، ويذكر مصير سترافورد،
8
ومصير بولينياك،
9
وهذا كله في عيد ميلاد الملكة، وتزول بهجة هذا العيد، ويبصر بسمارك في برلين ما يكون لخطبته تلك من أثر في بادن، ويحسب بسمارك ما يواجه الملك من المنازعات الداخلية، وإن لم يكتب الملك إليه ويبرق، وبسمارك يتمثل عودة ولهلم وحده بعد بضعة أيام مملوء الأذنين بالإنذار والعتاب، وهنالك يعن لبسمارك أن يذهب إلى مليكه سرا من غير أن يخبره أو يخبر مجلس الوزراء بذلك فيمثل بين يدي مليكه ذلك ويؤثر فيه قبل أن يصل إلى العاصمة، وهكذا ينطلق بسمارك إلى لقاء ولهلم.
وعند كوة التذاكر في المحطة يعرف فون أونروه، الذي هو من الأحرار، بسمارك، ويدخل بسمارك في حجيرة ذلك طمعا في تلقينه آراءه، ويكلمه بسمارك عن الوضع مع الحذر، ويغادر بسمارك القطار في جوتربرغ قائلا إنه ذاهب ليزور قريبا له، ثم يجلس بسمارك في المحطة التي لم يتم بناؤها، وذلك «في الظلام على عربة يد مقلوبة»، وذلك بين العمال ورقيقي الأحوال، ويسأل الحرس عن مقطورة الملك فيعنف، ويكتم اسمه فلم يعرف، ويلوح بذلك أنه لم يطالب بإجلال مقامه مع أنه ينشد كل تجلة لطبقته، وهكذا ترى رجل الحديد والدم الذي يذكر العالم اسمه مع اللعنة للمرة الأولى يتبوأ مقعده في العتمة على عجلة منتظرا مولاه، وفي ذلك الدور الأسطوري كان ملك بروسية في قطار عادي، ويبدو الملك وحده في حجيرة شبه مظلمة ، ويبصره الوزير بسمارك خائر النفس، ويستأذنه بسمارك في إيضاح الوضع فيقطع عليه الكلام بقوله: «أبصر نتيجة ذلك جيدا، فسيضربون رقبتك هنالك في أوبرنبلاتز، تحت نوافذي، ثم يقطعون عنقي.»
ويرى بسمارك شبح الملكة أوغوستا خلف الملك فيكتفي بالإجابة عن ذلك بقوله: «وبعد ذلك يا مولاي؟»
الملك :
أجل، سنموت بعد ذلك.
بسمارك :
أجل سنموت بعد ذلك، ولا بد من موتنا عاجلا أو آجلا، ولكن هل هنالك موت أفضل من ذلك، سأموت مدافعا عن قضية مليكي وسيدي، وعليك يا صاحب الجلالة أن تختم بدمك حقوقك الملكية التي نلتها بنعمة الله، ولا ينقص شيء من مجد مجازفتك بالروح والبدن في سبيل الحقوق التي من الله بها عليك سواء أسفك دمك على النطع
10
أم في ميدان القتال، ولا ينبغي لك، يا صاحب الجلالة، أن تفكر في لويس السادس عشر، فهذا الملك عاش ضعيفا ومات نعا
11
فلم يكن أمره في التاريخ لامعا، والأفضل يا صاحب الجلالة أن ترجع البصر إلى شارل الأول، أفلا ترونه ممتازا لما كان من امتشاقه الحسام دفاعا عن حقوقه وخسرانه المعركة ثم استقباله الموت ثابت الخطا جليل الطلعة؟ ولا معدل لجلالتكم عن النضال، ولا يمكنكم التسليم والإذعان، ولا مناص لكم من مقاومة العنف ولو أودى بحياتكم! «وكلما تكلمت بهذه اللهجة اشتد ساعد الملك وشعر بأنه ضابط عهد إليه في الدفاع عن الملكية والوطن. وإن الضابط البروسي المثالي - أي الرجل الذي يستقبل الموت الواقع بكلمة «كما تأمرون» منكرا لنفسه غير خائف - ليخشى رأي رؤسائه أو رأي العالم أكثر من خشيته الموت إذا ما اضطر إلى السير وفق اجتهاده الشخصي. وإنه يشعر بإمساكه من نجاده. وهكذا يقاد إلى الطريق الملائمة لطراز تفكيره، وتمضي بضع دقائق فتعود إليه طمأنينته التي أضاعها في بادن ويرجع إليه حتى سروره، وتذهب غمومه، فيبدو حتى قبل وصوله إلى برلين مرحا سعيدا مملوءا نشاطا، فيكون لذلك بالغ الأثر في الوزراء والموظفين الذين خفوا إلى استقباله.»
وما تنطوي عليه تلك القصة من الطابع التمثيلي فينم على صحتها وإن قيدها بسمارك في أوابده بعد ثلاثين سنة، ومن الأدلة على صدقها ما نراه من عدم محاولته حمل خصم على التسليم أو عدم تحريضه مولاه على شهر حرب، ومن ذكره أنه جعل الملك الساخط يوافق على خطبة عزاها «بسمارك نفسه» إلى عدم الفطنة، وبسمارك حين جلوسه على عربة اليد كان مضطرب الشعور، وبسمارك وإن أقر إلى خصومه بأن كلمته عن الحديد والدم جاوزت حدود فكره؛ لم ير الإتيان بمثل هذا الاعتراف إلى مليكه مع أنه لم يمض على رئاسته للوزراء أسبوع واحد، وقد اهتبل بسمارك تلك النهزة
12
فتذرع هو والملك بروح من النضال لم يكونا قد بلغاها عند محادثاتهما الأولى، ويغدو ما أيقظه بسمارك من روح الكفاح في ولهلم قوة احتياطية للفرص الأخرى.
وعلى ما يمكن عزو ذلك إلى دهاء بسمارك الفطري وحسابه للأمور؛ نرى ذلك آية على مشاعره العميقة أيضا، وبسمارك منذ أيام مبارزته الأولى في دور طلبه، ما انفك يظهر مستعدا للموت مكافحا، ولا تجد في حياته ساعة رهب فيها الردى، وما اتصف به هذا الوزير من البأس الذاتي ومن العبقرية التي أثرت في الملك الجندي فمن أقوى وسائل الإغواء.
فذلك هو الإكسير الذي يداوي بسمارك به مولاه في ساعات ضعفه.
الفصل الثاني
«لا ألائم الملك لما يطلب من مداراته بلطف كبير!» فبهذه الكلمة التي قالها بسمارك قبل تعيينه بأربع سنوات، وحين صار ولهلم وصيا على العرش يذكر بسمارك لغرلاخ ما يعده تبديل أولياء الأمر له من المصاعب، وهل يناسب بسمارك بروسية؟ هذا هو السؤال العظيم الذي لم يجرؤ شلوزر مع حبه الممزوج بالحقد أن يؤكده بالإيجاب، ولكن الملك وحده هو الذي يستطيع أن يسلم إليه بروسية ليسوس أمورها، وعلى بسمارك أن يمسك ولهلم في بدء الأمر، ثم أن يحفظه بعد ذلك، وبسمارك يمسكه كالعاشق الحاذق الذي يداري الخليلة التي لا يطمئن إلى حبها له، أو كالمخترع الذي يداري الثري طمعا في إمداد اختراعه بالمال، ولا غنية لأحد الرجلين عن الآخر في اصطراعهما، ولكل من ذينك المتقاتلين المختلفين خلقا ، نصف فضل ونصف عبء في كفاحهما الصامت حول التسليم، لا حول السلطة، ولا يمكن تعيين أيهما أصلب من الآخر، آلملك الشائب الموهوب قليلا، والذي يحتمل، وهو سليل الملوك، وزيرا أصغر منه سنا ولا يعدو أمره حد الشريف أم ذلك القطب السياسي المقدام الذي يجب عليه أن يكابد تردد الملك. وإنما الذي يبدو هو أن الفارس الشيخ يحذر حصانه الرشيق وأن الحصان يجنح إلى الجموح، فيسيران في نهاية الأمر.
ويتناقش الملك ووزيره غير مرة فيتمسك كل واحد منهما بوجهة نظره التي تخالف وجهة نظر الآخر، ويفترقان متحاقدين، ولا يود كل منهما سوى التخلص من صاحبه، ولكن المرءوس إذا ما قدم استقالته إلى رئيسه خشي الرئيس مغبة الأمر وأذعن من فوره، وقد كان بين ذينك الرجلين ساعات حمق وحنق، ولا تجد لهذه الساعات سوى صدى ضئيل في مذكرات بسمارك.
وكان بسمارك يعلم ذلك مقدما، وذلك قبل أن ينال السلطة كل منهما، وبسمارك حتى حين وجوده سفيرا، كان يحسب ذلك فيما يعده للمستقبل من الخطط، والآن في كل يوم يتصل بسمارك بالملك من أجل العمل، فيمثل دوره، وبسمارك ذو علم عظيم بالرجال على العموم، وبسمارك جليس للملك على الخصوص، وبسمارك جندي بين وقت ووقت، فعليه أن يظهر متدينا؛ منعا لذعر الملك البالغ من العمر سبعين عاما، والملك - حتى في تلك السن - يبدي من الغضب في بعض الأحيان ما يدعك معه أوراق الدولة التي ينعم بسمارك، بعد الأزمة، نظره فيها متبسما مقدرا إمتاعها بجعادها،
1
شأن المصور الذي يرى متعة الوجه الذي يصوره في تكرشه، والاعتدال هو الذي تداوى به تلك النزوات، وهذا هو الذي أدركه بسمارك حديثا، ويحتمل بسمارك مليكه لما يعلمه من استقامته، ويصبر بسمارك على مليكه لما يجده من عدم مداجاته كفردريك ولهلم الذي كان يخادع وزراءه ويحرض بعضهم على بعض، وقد وثق ولهلم الأول ثقة مطلقة بذلك الذي احتمل أعظم مسئولية.
وكان بسمارك يعرف الملك حين قبضه على زمام الأمور، فلا يجد منه ما يفاجئه إذن، غير أن الملك لم يألف بسمارك إلا ببطوء ، والملك لم تزل مخاوفه من وزيره ذلك إلا بعد سنين، إلا بعد أن رأى من نجاح وزيره ذلك ما رأى، وما كان الملك ليرضى ببسمارك في بدء الأمر إلا كارها، وما كان أقرباء الملك وأصدقاؤه ليصنعوا في السنوات الأولى سوى العمل على تخليصه منه بسرعة، وأول ما حدث هو إرسال شيوخ الأحرار إلى الملك رسلا ثقات ليعزل وزيره الجديد. ومن المؤسف أن أبصر الملك الشيخ تحول عواطف رعاياه عنه، والملك في الأيام الأولى كان مكروها لوصفه ب «الأمير الرامي الرصاص»، فكان ينفر من تلك العواطف، ثم أخذ الملك ينال تلك العواطف في العصر المدعو بالحر، فلما مر على نصب بسمارك أربعة أشهر أخذ الملك كتابا من صديق قديم له جاء فيه: «إن الشعب مخلص لجلالتكم، ولكنه متمسك بحقوقه، فأدعو الله أن يبعد برحمته ما ينجم عن سوء التفاهم الهائل من النتائج السيئة.»
ويلهبه مثل تلك الكلمات، ويجعله التناقض أشد عنادا، ويضع خطين أو ثلاثة خطوط تحت العبارات المهمة، ويجيب بحماسة الشباب: «ما فتئت أكرر أن ثقتي بشعبي لا تتزعزع؛ وذلك لما أعرفه من ثقة هذا الشعب بي، ولكنني ألعن أولئك الذين يودون نزع حب شعبي لي واعتماده علي. وكل يعلم أن أولئك الذين يريدون فعل ذلك لا يتركون وسيلة لبلوغ ذلك. ألم أتنزل عن أربعة ملايين مع الأسف؟ ألم أتنزل عن أمور أخرى مع الأسف؟ يجب على من يتصرف في حقوقه على ذلك الوجه، أي من يخفض الميزانية بما تقف به أعمال الدولة، أن يقيم بمشفى المجانين، وأين النص في الدستور على أن الحكومة - لا النواب - هي التي تلزم بضروب التنزل؟» والملك لكي يكتب إلى أحد رعاياه غير الرسميين بمثل تلك الحميا، لا بد من أن يكون قد بلغ من عذاب الضمير ما يقض مضاجعه، والملك لا بد من أن يكون مغالبا للرب من أجل وزيره.
وفي أوقات الأزمات لا يدع بسمارك كتابا يقدم إلى الملك من غير أن يبتهل إلى الله، ويحل عيد الميلاد فيهدي الملك إلى بسمارك عصا فيشبهها بعصا هارون وإن لم توجد نسبة بين العصوين، ويرقب بسمارك قلب الملك دوما حين اتخاذ القرارات الكبرى، وذلك بعد أن يلقنه إياها مقدارا فمقدارا، فيضطر إلى اقتطاعها منه مع ذلك، ويكتب بسمارك إلى صديقه رون قوله: «إن فؤاد الملك في معسكر آخر، وأرى مشاعر الملك ضدي.» ويكتب بسمارك إلى رون قبل أمره بالتعبئة قوله: «إن من المأمول أن يصدر الملك أمره النهائي غدا؛ وذلك لأن الملك في خميس العهد لا يكون مستعدا لمثل ذلك العمل.» ويمضي بضع سنين فيقول بسمارك: «لقد أعيتني الحيل مرة أخرى، فعاد فؤادي لا يحتمل دوام مناضلة الملك.»
وما كان بسمارك في البداءة ليبادل ولهلم كرها بكره، وكان بسمارك يشعر بتفوقه فيكتفي بذلك على العموم، وكان هذا منهاج بسمارك، وبسمارك في شبابه قد تعود فحص بنية كل من يلاقيه، وبسمارك في شيبته يدرس صفات الناس النفسية ليتبين أنه أعلى منهم في جميع الأحوال والوجوه، ولم يلاق بسمارك عسرا في إقناع نفسه بأنه يسمو على ولهلم أميرا وملكا، بيد أنهما عندما أخذا يتقابلان ملكا ووزيرا لم ير بسمارك غير مداراة شعورين لا يمكنه أن يحتمل منصبه بدونهما، وهما: أن يرى في ولهلم ملكا وأن يبصر فيه أبا، ويكتب بسمارك إلى زوجه في الأيام الأولى من زواجه: «إننا حلفنا يمين الولاء لدمه.» ويصير بسمارك وزيرا فيجتمع بولهلم كل يوم، ويصبح مكلفا بحمايته وبظهوره ترسا لوقايته، وتشتد هذه المشاعر الرمزية بمنظر ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء، ويتكلم أوتوفون بسمارك بعد سنين كثيرة عن صلته بالملك الذي يثور في الغالب فيشبهها بعلاقة الابن بأبيه الذي لا معدل له عن معاناة مزاجه ونزواته، غافلا عن أنه في شبابه لم يجد في نفسه ما يدعوه إلى الإذعان لأبيه مع حبه له.
بسمارك في سنة 1865.
ويخضع بسمارك لمليكه رويدا رويدا إذن، وتنمو في بسمارك بالتدريج عاطفة نحو هذا الرجل الذي سلم إليه مقاليد الأمور، وتزيد هذه العاطفة بعد موت الملك فتتحول إلى حب تجد رد فعل له في حقده على ولهلم الثاني وبقية ورثته، ويشعر بسمارك في جميع أزمات السنوات العشر الأولى بثبات ارتباطه في مولاه مبصرا ما يبديه من الشجاعة في ميدان القتال ثم فيما يوجه إلى حياته من الاعتداءات.
وما كان الملك ولهلم ليخشى غير «حيل زوجه وانتقادها»، وما كان لأمر أن يخفف حقد بسمارك على النساء، ولا سيما أوغوستا، لمحاولتهن تمثيل دور في ميدان السياسة، ويرجع نفوره من الملكة إلى تلك المحادثة التي وقعت بينهما أيام مارس في غرفة الخدم بقصر بوتسدام، ولم يلطف أي شعور ملكي هذه الكراهية، ولم يعدل هذا النفور ما صدر عن بسمارك من تسامح تجاه النساء حين تكلم عن «حقوق السيدات».
ويحدث بسمارك عن اصطدامه هو وأوغوستا فيقول «إنه أعنف اصطراع وقع في حياته.» وكانت أوغوستا تؤثر في زوجها بدروس تلقيها عليه في مخدعها؛ فما يكون لهذه الدروس من النفوذ البالغ في الملك فموضوع ألم لبسمارك يكاشف به زوجه، ولم تكن أوغوستا التي «أبصرت عيني غوتة» على غير جدوى لتطيق نظر بسمارك في غير حمى مقامها الخاص، ولو كان لدى أوغوستا أي رأي سياسي أو خيال تقيمه حيال ما لديه لأمكن الإعجاب بها حتى في هزيمتها، ولكن لم يكن عندها سوى جمل إنسانية مبهمة يستتر وراءها خوفها من عودة مثل عام 1848. وهي حينما قابلت لدى خلصائها بين الملك ولهلم ووزرائه من ناحية ولويس السادس عشر وسترافورد وبولينياك من ناحية أخرى؛ بدا لها أن بسمارك رأس المؤثرات المهلكة في زوجها، وقد نسيت أنه - لا هي - هو الذي كان على صواب في أيام مارس، وأنه حفظ لها التاج برفضه الموافقة على خططها، وأنها كانت مستعدة لعزو أفظع المثالب إليه بدلا من أن تعترف بأنه المدافع عن حقوق الملك فتمجده.
وما كان عند بسمارك من سوء ظن وبغض للناس فيقوده في الغالب إلى اعتقاده الخاطئ بأنه مضطهد، ولكن ما كان من صبره في ست وعشرين سنة على «تدخل أوغوستا ومعارضتها في شئون الحكومة» بما لا يطاق فيحفزنا إلى الرثاء له في الحقيقة، ولا غرو ، فهذا البطل العاطل من السلاح كان يحتمل ضربات الملكة صامتا، وإذا وقع مولاه تحت نفوذ الملكة أوغوستا، وهذا يحدث وقت الإفطار في الغالب برسائل كتبت لهذا الغرض؛ عرف مصدر ذلك في الحال، وإذا حدث في السنوات الأولى أن ألمع إلى ذلك كانت النتيجة «إنكار ذلك بشدة، فالملك كان يحاول أن يحول دون اعتقادي تلك الأمور ولو كانت صحيحة».
وكان بسمارك لا يحول الملك عن زوجته ليصل إلى غايته إلا بوسائل غريبة ومداورات لطيفة. وفي سنة 1865 يناقش في غاستن
2
حول محالفة النمسة، ويبدو كل شيء ضد سياسة بسمارك مرة أخرى، ويبدي الملك له أنه اتصل بالملكة اتصالا سريا، ويذهب بسمارك إلى منزله قانطا لتلك الثرثرة البيتية التي أبصرها، والتي قد تفسد خططه، ويجلس ويكتب عريضة مطولة بخطه لعدم ثقته بغير نفسه في أمور دقيقة كهذه. وفي تلك الوثيقة يقول بسمارك:
أطمع في عفو جلالتكم الممزوج بحسن العاطفة إذا ما جعلني حرصي على خدمتكم العالية أعود إلى ما تفضلتم علي به من الاتصالات، وأشاطر رأي جلالتكم في أن جلالة الملكة تحفظ سر اتصالكم بها، ولكن إذا حدث في كوبلنز أن لمح إلى الأمر أمام الملكة فيكتورية وولي العهد وقرينته نتيجة لصلات القرابة، أو لوح به في فيمار أو في بادن؛ كان ذلك دليلا كافيا على أن السر الموعود لم يحفظ، فينجم عن ذلك إثارة حذر الإمبراطور فرنسوا جوزيف وحبوط المفاوضات، ويؤدي هذا الحبوط إلى محاربة النمسة لا محالة.
ولكم - يا صاحب الجلالة - ألا تنظروا إلى الأمر من حيث اكتراثي لخدمتكم العالية فقط، بل من حيث إخلاصي لشخصكم السامي أيضا، وذلك عند عدم منع نفسي من التفكير في أنكم ذاهبون إلى محاربة النمسة بمشاعر وشجاعة من طراز غير ما تقضي به الضرورة الصادرة عن طبيعة الأمور وعن واجبات الملك أكثر من صدورها عن رأي مبيت يحمل الإمبراطور، بما كان من إفشاء سر، على إعراضه عن أقصى ما ترضون به من الوسائل، وقد يكون تحسبي مخالفا للصواب، وتحسبي هذا إذا كان في محله، وكنتم - يا صاحب الجلالة - راغبين عنه اعتقدت معه أن الله هو الذي يوجه فؤادكم فأقوم بأمور الخدمة مسرورا، ولكنني أرى إراحة ضميري فأجرؤ على السؤال مع الإجلال عن أمركم إياي - يا صاحب الجلالة - بأن أستدعي الرسول من سالزبرغ برقيا، وقد تصلح الأعمال الوزارية المستعجلة ذريعة لهذا الاستدعاء، ويمكن إرسال رسول غيره أو إعادته في اليوم التالي مع ذلك. وأثق بكرمكم - يا صاحب الجلالة - ثقة احترام فأحس معها أنكم حتى عند عدم موافقتكم على اقتراحي، تغفرون لي ذلك فتعزونه إلى حرصي الخالص على خدمة جلالتكم، لا عن واجب فقط، بل عن غيرة لنيل رضاكم أيضا.
أحقا أن نصف قرن مر على قطب سياسي كذلك رأى من الضروري أن يكتب مثل تلك الرسالة إلى ملك لولا ذلك القطب ما كان لاسمه في التاريخ غير رقم؟ ألا نظن عند قراءة تلك الرسائل أننا تجاه مستعطف يلتمس وساما أو يطلب عفوا؟ إن ما يجري هنا في غاستن هو من الأمور التي أنعم كاتب تلك الرسائل نظره فيها طويلا راجيا أن ينقذ مولاه من الموافقة على الصراع الطويل، وما كان للرب ولا للضمير ولا للواجب ولا للخدمة فعل في ذلك الرأي، وإنما وجد هنالك لاعب شطرنج ماهر يدحر خصمه بحيل بعيدة الغور إلى زاوية فيغلبه في نهاية الأمر، والآن في أثناء أعقد المفاوضات يبصر بسمارك الذي تعب من مكافحته مولاه أن الخطر يحيق بعمله لما قد يفشي من سر خططه بثرثرة البلاط، ويفكر بسمارك في الطرق التي يمكن أن يباح بها سر خطة فينقل من بلاد إلى أخرى، وذلك بأن تطلع أوغوستا الأميرة فيكتورية عليه فيمكن فيكتورية هذه أن تنبئ أمها الإنكليزية به، فتخبر ملكة إنكلترة فينة أودرسدن بذلك عن ولع أو عن حقد، فيسفر ذلك عن إبطال كل شيء بسرعة. وهل من الغريب إذن أن يزيد ازدراء بسمارك لذوي التيجان يوما بعد يوم وسنة بعد سنة؟ والذي يثير دهشنا هو أن يظل ملكيا!
ولا تجد بين آل هوهنزلرن من يؤيده، ويبدو فردريك خصما معاكسا لحذر الملك، وتؤثر في فردريك هذا زوجه الأرقى منه ثقافة، ويدخل فردريك مبادئ الإنكليز العادلة من غير أن يكون لديه من القوة والبسالة ما يحمل على انتحالها في وطنه، ويجرؤ فردريك على المغامرة مرة واحدة، ويشتد الصدام، فلما أصدر بسمارك مراسيم ضد الصحافة واستقبل ولي العهد وزوجه في دانزيغ تشجع وصرح في دائرة البلدية بقوله: «يؤسفني أن يكون حضوري هنا في وقت يوجد فيه خلاف بين الحكومة والشعب فيدهشني خبره، ولا أعرف شيئا عن المراسيم التي أوجبت ذلك، فقد كنت غائبا، ولم أشترك في تلك التدابير.»
وتنشر تلك الخطبة في جميع صحف بروسية ويقرؤها الملك، فيشق ذلك عليه، لا لما تؤدي إليه من نيل ابنه حظوة لدى الشعب؛ بل لما أبصره من خطر يصاب به مبدأ الطاعة الذي هو قوام جيشه، وهو الذي تعود الجندية وغدا مؤمنا بالنظام، أجل كان ولهلم في وضع مماثل منذ عشر سنين، غير أنه لم يدع غضبه على فردريك ولهلم يعدو جدر غرفته، غير أنه لم ينبس بكلمة في إبان حرب القرم. وولهلم اليوم يسخط على فردريك لجهره بالاحتجاج على ذلك الوجه، وماذا يصنع بسمارك؟ كان يمكن بسمارك أن يحمل الملك في تلك الحال على إهانة ولده، كان يمكنه أن يحفزه إلى استدعائه أو وقفه أو اعتقاله، وهذا ما فكر فيه الملك فعلا، ولكن بسمارك نصحه بالصفح عنه، وهل قصد بسمارك بذلك أن يستميل ولي العهد؟ كلا! وإنما أراد أن يحرمه ما قد تسفر عنه مجازاته من تزيينه بإكليل مجد، ويقول بسمارك للملك الشديد الولوع بالتوراة: «عامل الابن أبشالوم برفق، وإياك والعمل عن غضب، وسر مع ما تقتضيه مصالح الدولة، وإذا ما كان هنالك خصام بين فريتز الشاب وأبيه كان عطف الشعب كله إلى الابن.» فبمثل هذه الكلمات المختارة بعناية يسوي بسمارك الأمر.
بيد أن ولي العهد حر في قول ما يود خفية، وكما أن ولي العهد يمقت بسمارك في الوقت الحاضر أكثر مما في الماضي تراه يلعن سياسة بسمارك اللاشعبية، ويرفض ولي العهد الاستمرار على الاشتراك في مجلس الوزراء، «لأنني خصم بسمارك الجازم»، ويمضي بعض الحين فيلتقي الرجلان فيسأل بسمارك فردريك عن سبب ابتعاده عن حكومة ستكون قبضته بعد سنوات قليلة، والأصلح أن يبدي ولي العهد من خلافاته ما يسهل معه الانتقال.
آلانتقال؟ تكهرب هذه الكلمة ولي العهد، «ويرفضها بشدة معتقدا، كما لاح لي، أنني راغب في تمهيد السبيل لانتقالي إلى خدمته، وتمضي سنوات فلا أستطيع أن أنسى ما كان من تصعير خده عند مخاطبته، ولا أزال أتمثل، بعد ثلاثين سنة، شموخ أنفه واحمرار وجهه وشفونه
3
إلي من فوق كتفه اليسرى، وأكظم غيظي، وأفكر في كارلوص وألبا، وأجيب عن ذلك بأنني حينما نطقت بكلمة الانتقال قصدت مسألة البيت المالك، راجيا أن يعتقد أنني لا أحاول نصبي وزيرا له ذات يوم، ولن أكون ذلك، وقد سكن عنه الغضب بسرعة كما بدأ، فختم الحديث بمودة.»
ونتمثل الرجلين في قاعة فخمة بين بابين، ونبصرهما واقفين لابسين بزتين رسميتين ومتقلدين سيفين، ويا لهول الساعة! ويا لهول ما أهين به زهوه! ولم يحدث قبل ذلك أن نظر إليه رجل بمؤخر عينه ومن فوق كتفه تكبرا، ولم يقع مع ذلك سوى احتماله تلك النظرة البغيضة بدلا من امتشاق
4
حسامه غسلا لذلك العار، ولكنه كان يعرف فكر خصمه، فينطق بصوت خافت قوله: «لن أكون ذلك!»
الفصل الثالث
وإذا عدوت أولئك الخصوم الأمراء بدمهم وجدت لبسمارك خصوما عن عاطفة وعن أسباب ذهنية، ويصنفهم بسمارك بعد زمن إلى صنف أول وثان وثالث.
وإذا عدوت رون وحده لم تجد بسمارك منسجما مع أحد، ولا تقرب ثقة وثيقة بين بسمارك وأي واحد من الوزراء والقواد ورجال البلاط وزعماء الأحزاب، ولا ينتسب بسمارك إلى أي حزب كان في الحقيقة، ويرى بسمارك في جريدة كروززايتنغ ولويس غرلاخ تطرفا شديدا، ويراه شيب الأحرار متطرفا، وتراه يحارب الشمال جهرا، وبسمارك لا يبدي صداقة فحولة لغير الجندي الحمس رون، فلا يكدر هذه الصداقة أي اختلاف في الرأي حول الأمور الذهنية، وبسمارك لم يمنح رون إجازة ستة أشهر سوى مرة واحدة غير مرتاح لها فيقول : «لا غنية لي عن الاعتماد على درايتكم السياسية؛ وذلك لأنني لا أعلم أحدا أكل ملحا مع المعلم أكثر مما أكلتم.»
ويستدعي بسمارك صديق حنة الموسيقي كودل لما بينهما من ثقة متبادلة، وتمضي بضعة أسابيع فيتصادما؛ فقد أوصى كودل بسمارك كتابة بأن يستند إلى الرأي العام في المسألة الدانيماركية، وقد أخبره بعزمه على الاستقالة والرجوع إلى الموسيقى عن ود عند عدم موافقته على ذلك، ويستدعيه بسمارك في اليوم التالي، ويقول له «بصوت مكبوت، ولكنه صوت ثائر كما هو ظاهر»: «ما هو السبب في كتابتك هذا الكتاب إلي؟ إذا كنت تظن أنك تؤثر بذلك فيما أقرر قلت لك إن ذلك لا يناسب سنك، أيجوز لك - وأنت الذي عرفني جيدا ومنذ زمن - أن تذهب إلى أنني أركب هذا المركب الصعب عن طيش، وكمرءوس، من غير أن أتزود بالذرائع التي أسوغ بها سلوكي أمام الله؟ إنني لا أصبر على ذلك، ولم يخالط النوم جفني منذ ليلتين، ولا أرى ما يبعث على استقالتك، وإنما أردت أن أدلك على عمق الجرح في صدري!» ويطلب كودل العفو ويسترد كتابه، ويقول بسمارك: «والآن سوي كل شيء، وإذا حدث أن كان لديك ما تختلف به عني مرة أخرى فلا تكتب إلي ذلك، وإنما كلمني في ذلك.»
ذلك هو أمر بسمارك الوحيد، ذلك هو أمر بسمارك تجاه ذلك الذي كان على وئام معه منذ خمس عشرة سنة، والذي عرف زوج بسمارك منذ أكثر من هذه المدة، والذي هو تابع لبسمارك في الساعة الحاضرة فينصحه بأدب لينسجم مع الصوت العام حول المسألة، فيسلبه ذلك ما لم تقدر شتائم الصحافة عليه من الرقاد، وأنت يا بروتوس؟ وعلى ما كان من رتق ما بينهما من فتق لم تعد صلة أحدهما بالآخر إلى ما كانت عليه، وما كان لكودل أن ينال من الحرمة لديه ما ناله شلوزر، وما كان كودل غير ظهير موهوب وموسيقي لوذعي، وما كان كودل عاملا يعتمد عليه القطب السياسي بسمارك.
وتجد وزارة الخارجية في مجموعها معارضة لرئيسها ، «ولكن هذا لا يزعجني» وهو؛ لما أبصر من سعي سفرائه في الخارج ضده اتخذ خطة دفاعية في ميدان جديد، ويطمع أوزدوم في فلورنسة وغولتز في باريس أن ينالا منصبه فيكتبان إلى الملك ضد سياسته رأسا، بيد أن الملك وفي لوزيره، ولا يود الملك أن يخون وزيره على غرار أخيه فردريك ولهلم في حال مماثلة، فهو يسلم إليه تلك الكتب ليجيب عنها، وبسمارك مع ما كان من إرساله منذ ثمانية أعوام رسائل خاصة إلى الملك وإلى غرلاخ ضد سياسة رئيسه لا تراه الآن متسامحا في ذلك بعد أن غدا رئيسا للوزارة، وبسمارك العبقري لما كان من وقوفه فوق الأخلاق لم يسلم بتماثل الأسلوبين، أسلوبه وأسلوب أوزدوم وغولتز، فحظر على سفرائه ما أباحه لنفسه أيام كان سفيرا، ولنا في الوجه الذي حرم به بسمارك ذلك في كتاب أرسله إلى غولتز على الخصوص - وبسمارك هو الذي نصبه سفيرا بباريس - مثال ساطع على الطريقة الفريدة التي يمزج بها بين اللهجة الرسمية واللهجة الودية؛ فقد جاء في ذلك الكتاب الذي خطه بيده:
لا أحد ينتظر تقارير تنطوي على صدى لرأي الوزارة فقط، ولكن تقاريركم ليست من النوع المعروف، بل هي من المعروضات الوزارية التي تشير على الملك بسياسة معاكسة، وتصادم أفكار كتلك قد يسفر عن ضرر لا ضرورة له، وهو لا خير فيه على كل حال؛ وذلك لما يؤدي إليه من التردد وعدم الاستقرار. وعندي أن كل سياسة هي أفضل من السياسة المذبذبة، وأقدر ما لديكم من بعد نظر في السياسة، ولا أعدني غبيا في الوقت نفسه، وأراني مستعدا لسماع قولكم إن هذا يخادع نفسه، ومن المحتمل أنكم تقدرون لي وطنيتي وقوة عارضتي إذا ما أخبرتكم أنني أعالج منذ أسبوعين ما ورد في تقريركم من المسائل.
ولكن كيف أفضي إليكم بمكنون فؤادي وأنتم تعربون بشيء من الصراحة عن عزمكم على مكافحة الوزارة الحاضرة ومناهضة سياستها وإسقاطها، إذا كنتم على ذلك من القادرين؟ ولا مناص لي وزيرا من أن أكاشف سفير باريس بكل كلمة من سياستي في جميع صلاتي به، ما لم توجب مصالح الدولة عكس ذلك، وما يكون عرضة له كل من هو في وضعي، وذلك في صلاته بالوزراء والمستشارين والبلاط والمؤثرات السرية والمجالس والصحافة والقصور الأجنبية، من الاحتكاك والدعك فمما لا يجوز زيادته بلغم النظام في دائرتي بالمنافسة بين الوزراء والسفراء. ومن النادر أن أكتب ليلة عيد الميلاد مطولا إلى سواكم على حين أرى جميع الموظفين في الإجازة، وأرغب عن كتابة ما يعدل ربع هذه الرسالة إلى غيركم، وأصنع ذلك تجاهكم؛ لأنني لا أود أن أجيبكم رسميا وبطريق المكاتب سائرا على منوال الأسلوب الذي تشتمل عليه تقاريركم، وإذا كنتم تريدون إسقاط الوزارة فما عليكم إلا أن تفعلوا ذلك هنا في المجلس وفي الصحافة وعلى رأس المعارضة، لا بطريق منصبكم الحاضر. وفي تلك الحال أهتدي بمثلكم الخاص القائل إن الفصل للوطنية عند الخلاف بين الوطنية والصداقة، وثقوا بأن وطنيتي بلغت من المتانة والنقاوة ما لا تقاس الصداقة بجانبه، مع بقاء هذه الصداقة قلبية.
ومن شأن ذلك الكتاب أن يفحم المرسل إليه، ووجه الاستعلاء فيه هو زيادة الغيظ المشروع بمقادير محكمة من الاحترام والتهديد تبلغ درجة صدم قلب صديق، وعلى ما كان من عدم استعماله عبارة دامعة تراه قد ترك منافسه غولتز يبصر ما ينتظره من حياة صعبة إذا ما أراد إسقاطه، وبسمارك لما يعرف من منزلة غولتز لدى الملك قد ذر السكر على دواء الرفض فجعل غولتز لا يرى في ذلك الكتاب عن زهو غير ثناء رئيسه عليه وإعجابه به، ولم ننقل غير ربع ذلك الكتاب الذي هو من الأوابد، وهو على جانب كبير من الذوق الفني فيجدر إنعام النظر فيه كثيرا كما ينظر إلى تمثال كلاسي،
1
ونرى أن كتابا كهذا يكفي وحده للدلالة على علو كعب كاتبه في الدبلمية.
ويحاول آخرون أن يزعجوا الرئيس البصير بالاستقالة، وقد كان محافظ شليسويغ صاحبا قديما لبسمارك وصديقا للملك فيلتمس السماح له بالاستقالة لتعبه من تدخل وزارة الخارجية المستمر في المسائل الجزئية، فاسمع جواب بسمارك: «إنني مستعد لأعرض على الملك ما أنتم فيه راغبون، ولكنني أعدكم بتنفيذ سياستكم تنفيذا وثيقا وبألا أزيد متاعب الوزارة إذا ما عينكم الملك وزيرا للخارجية وجعلني محافظا لشليسويغ. وإذا حدث أن أعلنت نصبي في تلك الحال فنلت ما أصبو إليه من الاعتزال أضعت راحة الضمير الذي أطمئن به إلى قدرتي على خدمة الملك والوطن؛ فلذا أطلب إليكم من صميم فؤادي أن تقبلوا هذا الكتاب دليلا على الثقة الأخوية التي أحملها لكم على رءوس الأشهاد.»
وهل هذا هو رجل الحديد والدم؟ هذا هو بسمارك الغاوي.
وغير ذلك لهجته تجاه أعدائه الأحرار، فهنا يترجح بين الازدراء والسخرية، وشأن بسمارك في ذلك هو كشأن كل طاغية من طغاة القرن التاسع عشر في إلباس ما يصنع لباس العدل والقانون، فهو يبدأ «بتفسير» الدستور الذي يود خرق حرمته في سبيل الجيش، وفي الدستور يجد من الدقائق ما يهزأ به في نفسه، وفي الدستور عوامل ثلاثة غير متطابقة إذا أريد المخرج. وبسمارك يتكلم عن حقوق التاج التي لم ينص عليها الدستور فيعيد النظام الذي غضب حين أبصره ينهار في مارس سنة 1848، وبسمارك يصرح أمام اللندتاغ بأن تحل المعضلة كما جاء في قوله: «بما أن الجهاز الحكومي لا يمكن أن يقف فإن المنازعات القانونية تنقلب إلى منازعات قوة، فهنالك يسير صاحب القوة وفق أفكاره.»
ولم تلبث هذه الكلمة أن فسرت بكلمة «القوة فوق الحق»، وبسمارك وإن اعتقد هذا في الأوقات الحاسمة لم يكن من الجنون ما ينطق معه بها، وما كان جوابه عن ذلك التفسير إلا قوله: «لم آت بأي حل كان، وإنما أشرت إلى أمر واقع.»
وبوثبة خطرة كتلك يصل بسمارك وحده إلى حافة الهوة التي يود أن يقع الصدام فيها، ثم يحمل مجلس الأعيان على إقرار الميزانية كما هي، ويقرر مجلس النواب عدم دستورية ذلك القرار، وينهض بسمارك في مكانه ويدعو النواب إلى القصر في الساعة الثالثة، وهنالك يخبرهم بأن الملك عزم على تنفيذ الإصلاحات، ويفض اللندتاغ، ويعلو صراخ جميع صحف بروسية، ويطالب بعضها بالقبض على هذا الوزير ، ويرى المحافظون أن الخير في عزله، وقد بقي من هؤلاء أحد عشر شخصا مع ذلك، وكان يمكن حزمهم في عربة نقل كما يقول أهل برلين!
وتحل الدورة الآتية بعد ستة أشهر، ويتخذ من التدابير ما هو أقسى من التدابير السابقة، وفي أثناء ذلك يشتد الصدام في الجرائد وفيما يلقى من الخطب، ويصفه لوسيوس من فوق المنبر ب «أنه كان يلبس بزة مدنية، وأنه كان ذا شاربين كثيفين أشقرين نحاسيين كما بقي من شعره، وأن قوامه الطويل كان قويا مؤثرا على المقعد الوزاري، وأن رصانة وضعه وما يبديه من حركات وما ينطق به من كلام أمور تنطوي على التحريض، وأنه كان يضع يده اليمنى في جيب سرواله الزاهي، وأنه كان يذكرني كثيرا بضجيج الحضور في مباريات التلاميذ.» وما في كلامه من الإثارة فمثل ما في سلوكه، ويتكلم بذلاقة أعظم مما في الأسابيع الأولى حين كان مترجحا بين الحكم مع اللندتاغ أو ضده، وفي ذلك يقول شلوزر: «إنه كان يتلعثم فيفلت زمام كل كلمة منه حينما كان يحاول أن يركب حصانين دفعة واحدة!»
والآن يتكلم من عل؛ «فالحكومة ستشهر كل حرب تراها ضرورية، سواء على المجلس أرضي عن ذلك أم لم يرض»، ويقول في وقت آخر: «إن مملكة بروسية لم تقم برسالتها بعد مع أنه ولد منذ أربع سنوات - وفي مثل هذا اليوم - وارث لعرشها، ولم تعد هذه المملكة بعد لتعمل عن زينة بأسلوبكم الدستوري.» وكان الملك قد رجا منه في الصباح أن يتكلم بذلك المعنى، وكان هذا في اليوم السابع والعشرين من شهر يناير. ووارث العرش الذي كان في الرابعة من عمره في ذلك الزمن والذي أشار بسمارك إلى قادم سلطانه هو الذي سيدعى ولهلم الثاني بعد حين.
وبسمارك في السنوات المقبلة يثبت أنه أعلى من أولئك الذين يكافحونه في تلك القاعة، ومن يود أن يتبين ذلك بإنصاف فليقرأ تاريخ السنين الخمسين القادمة التي صارت الآن من سنوات الماضي، وما وفقت أوروبة لنيله حتى ذلك الحين، وما حدث في جميع البلدان قبل الحرب العالمية وبعدها؛ فقد كان منصوصا عليه في برنامج الحزب البروسي التقدمي الفتي الذي كان لا يرغب في غير «جمهورية يرأسها ملك» على غرار حكومة الشعب في إنكلترة؛ فرجال هذا الحزب وحلفاؤهم الديمقراطيون الاشتراكيون هم الذين كان بسمارك يخشاهم - على الخصوص - في كتابه إلى صديقه موتلي، حيث وصفهم بقلة الخبرة في السياسة الخارجية، وما كان من عدم تدريب الشعب الذي ظل حتى الأمس خاضعا لملك مطلق والذي سارت الدولة والثقافة فيه على طريقين منفصلين فأمر بدا طبيعيا لدى الأحزاب الحرة في أوائل أمرها، وعلى ما كان من إخلاص أعضاء هذه الأحزاب وحسن تعليمهم تجدهم غير عمليين عاطلين من الابتداع فكان هؤلاء الخياليون يجلسون على تلك المقاعد شاخصة أبصارهم إلى المستقبل تجاه ذلك الواقعي الذي ينعم النظر في الحاضر بعينه النفاذة، فيحاول أن يهيمن عليه بوسائل الماضي.
وكان فيرشوف أكثر التقدميين إمتاعا، وكان أحدث من بسمارك سنا ببضع سنين، وكان صغير الجسم دقيق البدن تجاه بسمارك النشيط العملاق، ونشأ فيرشوف في بيئة فقراء الطبقة الوسطى محبا للتعليم طامحا في شبابه أكثر من بسمارك مماثلا له في التحليل، وإذا ما قابلنا بين الكتب التي دبجها يراعه في العقد الثالث من عمره والكتب التي كتبها بسمارك في مثل تلك السن حول موضوعات واحدة؛ وجدنا ذلك الطبيب الشاب الناهض الباحث خلف هذا الشريف الخلي العدمي المتواني، فكل شيء في فيرشوف مبهم وهمي طائش، وكل شيء في بسمارك وليد تأمل ورصانة، ويقول فيرشوف لأبيه دوما إنه ذو مشاعر، ولكنه كاتم لها، فهل كان يحن إلى المشاعر على هذا الوجه؟ إن في فيرسوف ثقة قوية بنفسه فتغمرها أفكار غير عملية مقتبسة من سواه فتتدحرج تحت الموج، «ولا أستطيع أن أكون غير جمهوري؛ لأنني عالم طبيعي، فتحقيق الرغائب التي توجبها سنن الطبيعة والرغائب التي تنشأ عن طبيعة الإنسان لا يكون إلا في نظام جمهوري.» والحق أن تلك السنن الطبيعية تسوقه إلى النتيجة الفاضحة القائلة: «إنني شرحت ألف جثة، فلم أجد للروح أثرا فيها.»
وتبصر رسائل بسمارك حافلة بأشخاص وأشياء مشاهدة مغربلة محقرة عادة، مجربة دوما، وتبصر رسائل فيرشوف حافلة بألفاظ باهرة، وما كان من وعده بترك الاضطراب السياسي في سبيل منصبه في خدمة الدولة فصواب كتنكر بسمارك بحلق ذقنه في أيام مارس سنة 1849، وكلا الرجلين يبدو هاويا للسياسة في الثلاثين من سنيه، ولكن بسمارك بينما كان مالكا من الدرجة الثانية كان فيرشوف حجة في التشريح المرضي، فضلا عن أنه كان ناقدا اجتماعيا على مقياس واسع حتى في فتائه، ثم يدرس بسمارك علم السياسة درسا أساسيا مدة خمس عشرة سنة، على حين يدرس فيرشوف علم الحياة، فلا عجب إذا ما قهر فيرشوف من قبل بسمارك المطلع على جميع أمور أوروبة، ولو كان فيرشوف ذا عبقرية سياسية.
وليس في جدالهما باللندتاغ ما يشرفهما، ومما يوجب حيرتنا ما نبصره من تبديد رجلين عبقريين مثلهما لوقتهما الخاص ولوقت أبناء الوطن حول تلك الحماقات.
بسمارك :
ألا يرى العضو المحترم أنه يمكن خطيبا هاويا لعلم التشريح أن يدعم بنسبة أهليته، وذلك أمام حضور عاطفين عليه سياسيا وشخصيا، وذلك مع عدم تعمقهم في مثل ما عند العضو المحترم من العلم، وذلك ببلاغة أقل مما أتاه العضو المحترم، رسالة في علم التشريح يعرف العضو المحترم عدم صحتها بصفة كونه خبيرا في الموضوع، ولكن مع تعذر رفضها في غيبة أناس عالمين بدقائق الموضوع مثله؟
فيرشوف :
أود أن يكون لرئيس مجلس الوزراء من الصيت بين الدبلميين بأوروبة مثل الذي نلته بين زملائي في دائرة اختصاصي، هو لا يمكن تعريف سياسته، وقد يقال أيضا إنه لا سياسة له، وإنه لا رأي عنده في السياسة القومية، وإنه لا معرفة لديه في الشئون الوطنية.
بسمارك :
أعترف بأن للعضو المحترم مكانا عليا في دائرة اختصاصه، وأعترف بأنه يفوقني في هذا المضمار، ولكن العضو المحترم إذا ما ابتعد عن منطقته ودخل منطقتي معتديا؛ أمكنني أن أقول له: إنني لا أجد غير وزن قليل لرأيه في الأمور السياسية، ولي أن أقول غير مبالغ - أيها السادة - إني درب بهذه الأمور أكثر منه (قهقهة ) ، ويتهمني العضو المحترم بعدم فهم السياسة القومية، فأستطيع أن أرد التهمة إليه مع حذف الوصف، فأقول: إن العضو المحترم لا يفقه من السياسة شيئا.»
ولو اختصم ممثلان روائيان في المشلح
2
حول خطرهما وحظوتهما لدى الناس ما كان لهما غير شأن الخطيبين (فيرشوف وبسمارك) الهزيل في اللندتاغ البروسي، ويضع فيرشوف في يوم آخر إخلاص رئيس الوزراء موضع الشك، فيدعوه بسمارك إلى المبارزة، ويجيب فيرشوف على ذلك بإبهام في بدء الأمر، ثم يصرح أحد التقدميين بعدم المبارزة فيرسل فيرشوف إذ ذاك رفضه، وكان هذا التحدي آخر نزوات الشباب في بسمارك، وكان بسمارك آنئذ في الخمسين من سنيه.
ويأخذ بسمارك حذره وزيرا، فيزيد نفوذا.
سيمسون :
تلك السياسة هي قصيدة رجل ليس بشاعر، ويمكننا أن نشبه بسمارك بالبهلوان
3
الذي نعجب به لأنه لا يسقط عن الحبل أبدا، وما يناله البهلوان من الإعجاب فمما لا يلائم ذوق جميع الناس مع ذلك.
بسمارك :
لا أود أن أقحم نفسي في جدال حول مسائل اللياقة والذوق السليم.
وهكذا يعامل خصومه جزرا ومدا، ولكن الأمر إذا مس الجهاز الحكومي لم يستحوذ على بسمارك ذي الحذق المنوع سوى استعمال العنف، وما كان من إمكان ممارسة بسمارك حكما استبداديا فقد بدا له نتيجة للصدام مرغوبا فيها، فبسمارك لم يكن ليأمل - في الحقيقة - سوى تمثيله دور بيل أو دور أوكونيل الذي حلم به منذ خمس عشرة سنة، وما كان من اتصاف بسمارك بالاعتداد بالنفس والطموح إلى السلطان فمن شمائل المستبدين؛ ولذا لم يرتح للدستور في السنوات الكثيرة القادمة ارتياحه له في النضال الذي دام أربع سنين، وبسمارك لا يساوره هم تجاه حقوق الشعب، وبسمارك لا يشعر بالخطر كما لو كان يصطاد دببة أو غيرها، وبسمارك يهنئ نفسه لإمكان وقوع مثل تلك المغامرات «في بلد ممل كبروسية».
والآن يصب جام الانتقام على عدو المستشارين الخصوصيين، والآن يفرغ بسمارك للسلسلة الكبرى التي تدير أمور الدولة، فعلى من لم يتبع تعليماته اتباعا حرفيا أن يستعفي، ويبدأ بسمارك فور نصبه بعزله من القضاء والإدارة كل من كان - أو يشتبه أنه كان - من ذوي الأفكار الحرة، فيرد أكثر من ألف موظف هذا المورد في السنوات الأربع الأولى، ويناضل أعضاء حزب التقدم عن هؤلاء الضحايا فيغدون عرضة للاضطهاد مثلهم، ويحال الضباط الأحرار المحليون إلى التقاعد من قبل محاكم الشرف، ويحال إلى نصف المعاش عمد البلد ومستشارو البلديات وجباة النصيب وموظفو المصرف ومطعمو الجدري، ويجازى موظفو العدل، فينقلون وتخفض رواتبهم ويحرمون رواتب تقاعدهم.
ويأتي دور الصحافة في نهاية الأمر، فيسار على الطريقة الروسية فتصدر مراسيم صحافية أشد من التي وضعها نابليون الثالث، فلا يقف جريدة لأجل قصير بسبب مقالة تنشرها بل يقفها نهائيا بسبب مسلكها العام، وذلك كله تحت ستار الأخلاق، وذلك كله استنادا إلى نصوص من الدستور، «فلا بد للهياج غير الطبيعي الذي ساور النفوس في هذه السنوات الأخيرة نتيجة لهرج الأحزاب ومرجها من أن يفسح في المجال إلى حال نفسية أكثر هدوءا وإنصافا»، ويستشهد بسمارك بالله وبالأخلاق ليقنع الملك بما تنطوي عليه تلك التدابير من عدل أساسي، ويرى بسمارك أن يتذرع بمثل هذه العلل لإقناع حنة أيضا؛ وذلك لما بقيت عليه أمها من القوى العقلية. وبسمارك لم ينس بعد ما كانت قد كتبته هذه العجوز إلى ابنتها عن ثوار المجر وما كان من جوابه حول هؤلاء، وبسمارك ليس محتاجا إلى هذه المعاذير ليسكن وجدانه؛ فهو يزدري الجمهور، وما يشعر به من قوة في نفسه فيكفي لقهر هذا الجمهور.
وكان حب بسمارك للقوة أكثر من حبه للحرية، فكان بهذا ألمانيا كما كان بغير هذا.
الفصل الرابع
كانت ألمانية بأسرها تفرح بما يقع في بروسية من الصراع، وإن كان هذا الصراع يسفر عن ازدياد الحكومة قوة شهرا بعد شهر، وتعلق الدويلات الرجعية أهمية على ما كان من سماحها بالمناقشة في الميزانية، وفي سكسونية يأذن بوست في إقامة مهرجان شعبي، احتفالا بذكرى معركة الأمم؛ وذلك لأنه لا يحتفل في بروسية بتلك الذكرى إلا مع الموسيقى العسكرية، ويوعز بوست إلى الشاب تريشكه بأن يلقي خطبة نارية حول حرية ألمانية إزعاجا لزميله ببرلين، وتسر فينة على الخصوص، ويشمل شميرلينغ مشروع دستور بعين رعايته، ويجد رشبرغ حلا للمعضلة الألمانية، ويستطيع ثوري سابق بسيط من «أبناء الطبقة الوسطى» أن يبسط مشروعا للتوفيق بين الحرية والشرعية، وبين النمسة وألمانية في عشر دقائق!
ويرى آل هابسبرغ اتفاق الروس والبروسيين فتخفق قلوبهم من أجل البولونيين الثائرين، والواقع أن ثورة بولونية ضد القيصر في أوائل سنة 1863 كانت موفقة؛ وذلك لأن غورشاكوف نفسه هو الذي كان يقود أصدقاء بولونية في سان بطرسبرغ؛ وذلك لأن رسل الحرية في الغرب كان يمكنهم أن يستروا عداوتهم لروسية وراء كلمة الحرية القومية، ويبدأ نصف أوروبة بالكلام حول إقامة دولة حاجزة، ويبدي نابليون الثالث حماسة في سبيل الحرية لولع الفرنسيين بغزليات شوبن الليلية، وتشتد الأزمة ويخشى صدور إنذار كما في سنة 1854، وقد يتوقف كل شيء على بروسية، وماذا صنع بسمارك؟ عقد من فوره اتفاقا عسكريا مع القيصر؛ راغبا في اغتنام تلك الفرصة واجتذاب ذلك العاهل إلى جانبه.
سفير إنكلترة :
لا تسمح أوروبة للجيوش البروسية بأن تخف إلى نصرة روسية.
بسمارك (بهدوء) :
وما هي أوروبة؟
سفير إنكلترة :
هي أمم عظيمة كثيرة.
بسمارك (مستفسرا) :
هل هي متفقة»
ولم يلق بسمارك جوابا عن سؤاله هذا، ولم ينفك بسمارك يسبر غور هذا السؤال في اثنتي عشرة سنة، وهذا هو السؤال الذي أدى إلى ترتيبات واحدة أو متماثلة في ثلاث أزمات كبيرة. ويزن بسمارك جميع احتمالات الوضع في مائة مذكرة وتقرير ورسالة يكتبها في ليال طويلة، والآن يستطيع بسمارك أن يوسع لعبته بسرعة واطمئنان كلاعب الشطرنج الماهر.
وفي اللندتاغ يصرخ الأحرار قائلين: «تسلم الحكومة منطقة مساحتها خمسمائة فرسخ مربع إلى فظائع حرب يشنها الروس! لا ينبغي للدم البروسي أن يسفك في سبيل سياسة طائشة كتلك! نزج بأنفسنا - من غير ضرورة - شركاء في مجزرة بشرية هائلة تنظر إليها أوروبة كلها بعين السخط!» ويضع بسمارك بأدب السؤال الآتي تجاه خطب تويستن وفالدك وفيرشوف تلك: «أتدع بولونية - إذا ما استقلت - جارتها بروسية قابضة على زمام دنزيغ وتورن؟ ألا إن التضحية بالنفس في سبيل القوميات الأجنبية على حساب الوطن مرض سياسي خاص بألمانية».
والأمر بين؛ فبسمارك على حق من حيث سياسة القوة؛ فما يريد أن يفعله في الساعة الراهنة فلا ينطوي على بغض لبولونية أكثر من ميل إلى روسية، فيسهل على دولة بولونية تبعث من جديد أن تصبح خطرة بمحالفتها روسية وفرنسة، ولكن بروسية إذا ما أزالت مخاوف القيصر المزمنة حول فتن تشتعل في بولونية بإمداده بما يحتاج إليه من العون غدا من العسير على القيصر إسكندر أن ينحاز إلى النمسة في تصفية الحساب بين بروسية والنمسة، وبذلك يمكن بسمارك أن يشري صداقة القيصر بثمن بخس؛ فما كان قراره ليوجب شهر حرب أو سفك دم، وما كان قراره ليكلف أكثر من إمضاء ومن بغضاء البولونيين، وبسمارك يتلقى حكما بالموت من وارسو في علبة صغيرة موثقة بحبل وعقدة سوداء وبيضاء، ويتلقى بسمارك حكما آخر بالموت من برشلونة جاء فيه: «إن اللجنة الثورية للدعاية حكمت عليك بالموت مجمعة، فعينت الأسبوع الأول من الشهر القادم للتنفيذ.»
بيد أن بسمارك لم يخف ذلك؛ فالشجاعة هي أجمل ما ورثه هذا الصنديد كابرا عن كابر، ولولا الشجاعة ما استطاع في العقد السادس من عمره على الأقل أن يشق طريقه وحيدا إلى الهدف رابط الجأش غير هياب، فيصمد لتهديد المجلس وريب الملك ونفوذ الكلمة وضغائن القصور ودسائس السفراء ثم لمسدسات المثاليين المتعصبين، ولو لم يبق شيء مما بنى بسمارك، ولو ظهر أن كل ما صنع بسمارك هو من الخطأ؛ لظل مثالا عاليا للشجاعة الأدبية لدى الألمان، وعنوان بسالة ثبت عطل الأمراء وزعماء طبقته منها، فكان ذلك سبب خسرانهم بعد حين.
وكانت المكايد في فينة أكثر من الشجاعة في بوتسدام، فيرى القوم فيها تلك اللهجة الجديدة من البلف
1
ويضحك أولياء الأمور في النمسة من زمجرة شمال ألمانية، وقد كانوا يبتسمون من برنامج بسمارك، وكان بسمارك قد قال لكاروليه بعد تسلمه منصبه بقصير وقت: «لا بد من تحسن صلاتنا أو فسادها، وتود بروسية أن تصير تلك الصلات إلى أحسن مما كانت عليه ، ولكننا إذا ما أبصرنا عدم تساهل من مجلس الوزراء الإمبراطوري لم نتردد في سلوك النجد
2
الثاني والاستعداد له. وتستطيع النمسة أن تختار بين ترك سياستها العتيدة في معاداة بروسية، وترك فكرة عقد حلف شريف، وأراكم ترون احتياجنا الكبير إلى الحماية، فالواجب يقضي علينا إذن بأن نثبت بالأعمال خطأ هذا الافتراض إذا لم تنظروا بعين الجد إلى أقوالنا وآمالنا.» ولم يحدث منذ شباب فردريك أن خاطب بروسي سفير آل هابسبرغ بمثل ذلك، غير أن كاروليه كان في الحقيقة معجبا بالوزير الخصم بسمارك، وكان له من مجريته ما يحول دون إثارته ضجيجا على غير جدوى؛ فقد جاوب عن ذلك مؤدبا بسؤاله: «وأين نجد العوض؟»
بسمارك :
إن أقرب شيء إلى الطبيعة هو أن تنقلوا مركز الثقل إلى بودابست.
فبهذه الطعنة المحكمة غلب بسمارك الكونت كاروليه الذي رحب بمثل تلك الأمنية لصدق مجريته وإن كان لا يجرؤ على الجهر بها، ويمضي قليل زمن فيقول بسمارك لسفير آخر من فينة: «أعارض بشدة استعمال كلمة حرب يقتل الأخ فيها أخاه، فلا أعرف سياسة تقوم على العاطفة ولا تهدف إلى رد العدوان بالعدوان، وعلى الحارك» وماذا كان أثر مثل هذه اللغة في فينة؟ قال الناس هنالك مبتسمين: «إن الرجل مصاب بمرض عصبي شديد.»
وتقوم خطة آل هابسبرغ على تجديد الجامعة الألمانية، فيكون هنالك خمسة مديرين، وعلى أن تكون الرئاسة للنمسة ونيابة الرئاسة لبروسية، وأن يضاف إلى ذلك مجلس عاطل من السلطان ومؤلف من مندوبين تختارهم برلمانات ألمانية، ويهدد بسمارك بانفضال بروسية، وتبصر النمسة بقاءها في الأقلية، فتأتي المبادرة منها، فترى دعوة جميع الأمراء للمناقشة في فرانكفورت، فيشعرون بأن شأنهم رفع، أفليست غاستن ينبوع ماء معدني لشيوخ الشرفاء؟ ونحن الأمراء بنعمة الله سندبر الأمور فيما بيننا، ويزور فرنسوا جوزيف من فوره ضيفه الملك ولهلم في غاستن، ويقترح إقامة برلمان إمبراطوري من الأمراء ومن مجلس شعبي، ويدعو الإمبراطور ملك بروسية إلى مجلس من الأمراء يعقد في فرانكفورت، ويميل الملك الشائب ولهلم إلى قبول الدعوة ويسر فرنسوا جوزيف بذلك.
واحسرتاه ! فما كان ذلك الرئيس للوزراء البغيض ليترك مليكه وحده حتى في جبال النمسة، واسمع ما قاله بسمارك في شيبته: «كنت في اليوم الثاني من شهر أغسطس سنة 1863 جالسا تحت شجرة الصنوبر، وكان يوجد فوقي وكر
3
قرقف
4
وجعلت الساعة في يدي لأعد مقدار ما يأتي به الطائر في الدقيقة الواحدة لفراخه من الأساريع
5
وما إليها من الدود، وبينما كنت أتأمل نشاط تلك المخلوقات الصغيرة كنت ألاحظ من بين اللهب
6
في شلربلاتز الملك جالسا على مقعد.» فلما عاد بسمارك إلى المنزل وجد كتابا من الملك يطلب فيه أن يوافيه في شلربلاتز للمناقشة في زيارة الإمبراطور. «وكان ذلك بعد فوات الوقت، فلو قضيت وقتا أقل مما قضيت في ملاحظة ذلك الحادث الطبيعي فأتيح لي الاجتماع بالملك مبكرا لكان لاقتراحات الإمبراطور أثر آخر فيه غير الذي كان لها في بدء الأمر على ما يحتمل.
فلم يلاحظ الملك أن تلك الدعوة المفاجئة لمدة قصيرة تتضمن معنى الاستخفاف، ومن المحتمل أن يكون الاقتراح النمسوي قد راقه لما اشتمل عليه من تضامن الأمراء، وتحثني الملكة الأيم إليزابت على الذهاب إلى فرانكفورت، وأجيب عن ذلك بقولي: إن الملك إذا ما رأى ذلك ذهبت إلى هنالك وقمت بأموره، ولكنني لا أعود وزيرا، ولا ترتاح الملكة لذلك الاتجاه، وتكف عن معارضة رأيي لدى الملك، ولم يكن ليسهل علي أن أحمل الملك على الابتعاد عن فرانكفورت، وقد ظننت أنني أقنعت الملك عند وصولنا إلى بادن، ولكننا وجدنا هنالك ملك سكسونية الذي جدد الدعوة باسم جميع الأمراء، ويجد مليكي مشقة في مقاومة تلك الحركة، ويكرر كثيرا قوله: أرى ثلاثين أميرا مالكا وملكا ساعيا! وأقنعه برفض الاقتراح بعد أن تصبب العرق من فوق حاجبي، وكان مستلقيا على متكأ وكان يسكب سخين العبرات، وقد بلغ مني الجهد في جعله يرفض ذلك الاقتراح فصرت لا أستطيع الوقوف بلا صعوبة، وغادرت الغرفة مترنحا وغدوت في حال من الانفعال والهيجان ما أحسست معه انفصال يدي عني عندما أغلقت الباب من الخارج!»
ويرسل بسمارك كتاب الرفض إلى المرسل إليه، ويكسر طبقا موضوعة عليه أوان زجاجية، ويقول: «لا معدل لي عن تحطيم شيء، والآن أتنفس مرة أخرى!»
ولنا بذلك الحلقة الأولى من سلسلة متشابهة المشاهد، يتألف منها تاريخ اصطراع بسمارك وولهلم كوعيده الذي وجهه إلى الملكة الأيم، وكتنويره ببطء بصيرة الملك العزيز الذي لم يبصر استهزاء النمسة به، وفيما كان وزيره بسمارك يرقب القراقف ذات الأذناب الطويلة فيبدو شبه عالم طبيعي وشبه أمير مالك ويحسب مقدار ما تحتاج إليه مملكة الطيور من الدود للتغذية؛ كان الملك يعد ابن خاله بأن يصبح ثاني أمراء ألمانية في أربعة أسابيع، ويبكي ولهلم الشيخ لما كان من رفضه ذلك مع أن ملكا جاءه ساعيا، ويغدو الرجل الحديدي بسمارك كتلة أعصاب، فكان لا بد له من كسر شيء تنفيسا عن نفسه وإن خرج فائزا، وهكذا يرتبط أحد الرجلين في الملك الوراثي، ويرتبط الآخر فيه برابطة الولاء والطاعة، والآن حين يبدآن ببناء البيت الألماني معا يلوح تعذر قدرتهما على إتمامه مع كثرة العوائق.
وكانت تلك آخر محاولة قامت بها النمسة لتظل زعيمة ألمانية، ثم تبدو مسألة شليسويغ فتكون مقدمة هجائية لمأساة.
الفصل الخامس
ولم يكن لعبقرية بسمارك منافس في ذلك الدور، ولم يكن الملوك والقياصرة ليقدروا على التفكير أو السير، فكانت التجربة تعوز فرنسوا جوزيف، وكان نابليون ضنى،
1
وكان إسكندر هزيلا، وكان كل من ولهلم وفيكتورية وفيكتور إمانويل متوسط الحال، فلا يستطيع أن يضطلع بأعباء السياسة معتمدا على وسائله الخاصة، وكان كل من غلادستن وديسرائيلي غير مدرك لذروة سلطانه، وكان غورشاكوف مغترا، وكان كافور ذو القدر بين أضرابه قد مات حين جاء بسمارك إلى الجبهة، وفي بروسية وحدها كان يوجد عبقري سياسي من نوع آخر، وكان اسمه فرديناند لاسال، ولاسال مع عدم انتسابه إلى حزب ومع أنه ثوري ومع عطله من قوة أو مماثلة أفكار يغري بها خصمه العظيم لم يعتم أن اعترف به هذا الخصم، وجاذبية العبقرية وحدها هي التي دانت بين بسمارك ولاسال.
كان بسمارك ذا بسطة في الجسم والعقل، وكان ذا رأس على شكل القبة ، وكان يتقدم إلى الأمام على مهل بعد استهلال طويل، وكان ينظر إلى عدة سنوات مقبلة كأعاظم بناة الألمان الذين يعملون مدى حياتهم فيما يسروا له، وكان يخضع خياله لواقعيته فيزن كلامه ويهيئ أفعاله، وكان في حسابه يفضل عظائم الأمور على الصور، وكان بسمارك - الذي هذا هو أمره - في الخمسين من سنيه حينما بدأ عمله العظيم، وكان لاسال أهيف نحيفا رعيشا كحصان عربي جامح، وكان ساميا مستطيل الرأس ضيق الهامة لامعا، وكان مصورا قديرا موهنا لغريزته في الوصف الباهر، وكان رجلا خياليا متأملا، وكان يتملص من مدرسة الأفكار إلى عالم الأعمال، وكان يكافح حتى في عالم الأعمال، بفصيح الكلمات أكثر مما بالضربات، وكان ينظر إلى المستقبل على الدوام، وكان لاسال الذي هو أمره في الأربعين من سنيه حينما دنا من نهاية عمله العنيف، وترعرع بسمارك مالكا فكان فارس طبقته، وقضى بسمارك شباب مغامرة، فعاد إلى حياة مقيدة وإلى عيش المالكين الذين ظهر منهم، وبدا القطب السياسي بسمارك غير عاطفي، فكان مستعدا للعمل مع أية أمة وأية دولة إذا ما لاءم هذا هدفه، ولاسال لما كان من يهوديته وعطله من وطن، ارتقى بفضل ما بذله من عمل عنيف في فتائه، ولاسال حارب طبقته وكافح وراثته، ولاسال كان فؤاده يشتعل بسهولة من أجل قضية أمة لا ينتسب إليها عرقا، ومن أجل قضية طبقة لا ينتسب إليها مولدا، ولم يضح بسمارك بشيء في البداءة، وجازف لاسال بكل أمر، ووطد بسمارك مقامه بارتقائه، وخسر لاسال في السجن حريته وصحته، وإذا كان بسمارك قد دخل المعترك في الثانية والثلاثين من سنيه وفق أساليب بيئته فإن لاسال بدأ ينكر - في الوقت نفسه، وحينما كان في الثانية والعشرين من سنيه - مبادئ عشيرته.
ومهما يكن الأمر فقد كان يحفز كل واحد منهما عوامل واحدة، أي كان يحث اليهودي الاشتراكي والمالك البوميراني زهو وإقدام وحقد، وقد أوجبت هذه العوامل فيهما ميلا إلى السلطان، وما كان الخوف ليجد إليهما سبيلا، وما كان أيهما ليطيق وجود من هو أعلى منه، وما كان أيهما ليحب حبا حقيقيا. وكما أن كره بسمارك للنمسة القوية أشد من حبه لبروسية التي هي أقل من النمسة قوة كان لاسال أقل حبا للشعب من بغضه للطبقة الوسطى؛ ولذا لم ينشد كل منهما، ولم يجد أصدقاء له، فلم يكن لبسمارك أصدقاء بين الشرفاء، ولم يكن للاسال أصدقاء بين زعماء الأحزاب، ولم يعش بسمارك عيش البلاط، ولم يعش لاسال عيش الشعب، وكان كلا الرجلين يتميز من الغيظ لضيق طبقته، وكان كل من الرجلين يشابه الآخر تهكما واستخفافا.
وبسمارك - لثبات أصله - مضطر إلى خدمة الملك التي اختارها ما دام حيا، ولاسال اختار خدمة الجمهور، وكان بسمارك يسكن حصنا، ولكن مع سماعه فوق رأسه على الدوام خطا رجل يتوقف عليه مصير حياته، وكان لاسال لا يسمع إنسانا فوقه، ولكنه كان ذا حصن خيالي وكانت ريح المستقبل تهز أعصابه بأشد من فرك الحقائق التي كانت تهد أعصاب بسمارك، وكان كلا الرجلين ذا مزاج فني فيلعب أسنهما لعبة الشطرنج ضد الدولة الأخرى ويمثل أحدثهما رواية هزلية، وكان الطموح يدفع أحدهما وكان الغرور يحرك الآخر على الخصوص، وكان يمكن لاسال أن يثمل بما يعلل به نفسه من ضروب الفوز والآمال التي يبصر بها مستقبلا أبعد مدى مما يبصر بسمارك الراغب فيما هو دون ذلك مع الحقائق الملموسة والموطن نفسه على الصبر، وفي هذا سر ما اتفق لبسمارك من العمر ما هو ضعف عمر لاسال، وفي هذا سر ما اتفق للاسال من أوقات الهناءة ما لم يتفق لبسمارك.
ولم يكد بسمارك ولاسال يلتقيان حتى عرف كل منهما للآخر قيمته قبل أن يعرفها العالم، ولو خر بسمارك صريعا في سنة 1863 في المبارزة التي تحدى بها فيرشوف ما زاد صيته على ما ناله رادوويتز ولنسيه الشعب منذ طويل زمن، وعلى ما كان من نقص سن لاسال عن سن بسمارك بعشر سنين في ذلك الحين؛ مات لاسال في مبارزة عند بدء عمله الذي كان يحيق به خطر النسيان، واسم لاسال مع ذلك يترنم به ملايين الآدميين من جميع الأمم في أغنية الائتلاف، ولا مراء في أنه سقط، ولكنه صار مشهورا في العالم؛ لما كان من رغبته في تحقيق مبادئ يوم لم يكن فجره قد لاح، وقد بلغ بسمارك غاية غده، فيبقى تمثاله قائما في بلده ألمانية.
والأمر الذي يقرب بين الرجلين هو الكفاح ضد الطبقة الوسطى، وأراد بسمارك السلطان ليناهض الدستور، وأراد لاسال تعبئة الجماهير، والسلاح قبضة بسمارك، ويجهز بسمارك الرجال بالسلاح كرها، والرجال قبضة لاسال، ويصرخ الرجال من أجل السلاح على غير جدوى، ويود كل من الرجلين الحكم المطلق لنفسه، ويزدري كل من الرجلين حرية مبادلة السلع والأفكار، ولا يقل عن ذلك ازدراؤهما لأبطال حرية المبادلة الأحرار، ويتماثلان حتى في كلماتهما الجامعة؛ فقد قال بسمارك في سبتمبر سنة 1862: «يسهل على مسائل الحق أن تصبح مسائل قوة.» وقد قال لاسال في أبريل سنة 1862: «ليست مسائل الدستور مسائل حق في الأساس، بل مسائل قوة، وليس للدساتير المكتوبة قيمة ولا ديمومة إلا لأنها عنوان علاقات القوة العتيدة في المجتمع.» وما كان جواب لاسال حينما هوجم من أجل تلك الكلمة غير جواب بسمارك، فقد قال إنه لا يضع القوة فوق الحق، وإنه لا يجعل من هذا مبدأ مسلما به، وإنما يسجل ظاهرة تاريخية، وكان لاسال كبسمارك من القائلين بسياسة القوة، فجعل سيكنجن، الذي هو صورة له، يقول في رواية تمثيلية: «بالسيف تنال عظائم الأمور.»
وليس من العجيب إذن أن وافقه كونتات بروسية في مجلس الأعيان، وأن قالت جريدة كروززايتنغ: «أولئك رجال حقيقيون، مع أن الأحرار ليس لديهم حراب ولا لكمات ولا فتون العبقرية.» وذلك لأن هدف الرجعيين في هذه الأيام هو استمالة طبقة العمال وفصل هذه الطبقة عن التقدميين، ومن قول المحافظين: «وهل نحار من عدم ميل العمال إلى شد عضد حكومة لا تعمل من أجلهم شيئا؟» ولم يعتم بسمارك أن تبنى الفكرة فعين لجنة للبحث في إعانة الشيب وتحسين حال العمال، وتوصي هذه اللجنة «بأن يعرف عزم الحكومة على تنظيم حال عمالها بصفتها مستصنعة، فتكون قدوة لأرباب المصانع الآخرين»، ويتكلم بسمارك حول ضرورة الإنذار لأمد بعيد قبل التسريح، وحول تنظيم الأجور ومقاسمة الأرباح وإسكان العمال والتحكيم عند الخلاف في أمور العمل، وحول جمعيات العمال التعاونية والتسليف وصناديق للإعانة عند المرض، وشركات للتأمين على الحياة، فهذا هو برنامجه الاجتماعي بعد خمسة أشهر من نصبه رئيسا للوزارة، ولا تجد لهذا البرنامج مثيلا في أي مكان آخر بأوروبة سنة 1860، وجميع هذه التدابير موافقة لمطاليب لاسال.
ولم يصدر ذلك عن حب بسمارك للشعب، وإنما نشأ عن بغض للطبقة الوسطى، وبسمارك لما كان من رفض الشعب سياسته، يحاول أن يستميل الشعب إلى وجهة نظره بانتحاله إصلاحات اجتماعية، وفيما كان الأغنياء في اللندتاغ يظهرون الصداقة للشعب كان لاسال يهزأ بهم في رسائله وخطبه لثنائية أخلاقهم، فلا يسر إنسانا بمقدار ما يسر رئيس مجلس الوزراء، وكان مؤسس اتحاد عمال الألمان العام لاسال قد نعت بأنه آلة الرجعية، وقد أنذره لوتار بوشر بقوله: «حذار! نراك تساعد الحكومة في ذلك المضمار، وستترك وشأنك حينا من الزمن ثم تبسط الأيدي إليك!»
ولاسال كبسمارك يبلغ أسباب الرجولة في أيام الثورة، وتدع هذه سمة ثابتة في أخلاقه، ويترفع عن الحذر، فلا ينظر إلى لون حليفه ويصافح عدو عدوه، ولاسال يجرؤ على ذلك مع اشتراكيته، فيدنو جهرا من وزير الخارجية البغيض. ونظرة كلا الرجلين في السياسة الخارجية واحدة على الدوام، وذلك عدا ما كان من سبق لاسال لبسمارك في القول بالوحدة الألمانية، ويسخر لاسال من لابسي المعاطف الذين سافروا في سنة 1849 من فرانكفورت إلى بوتسدام ليطالبوا بألمانية لملك بدلا من أن يقرروا وجود ألمانية. ولاسال إذ كانت الجماهير لا الأمراء قبلته، عد الوحدة الألمانية مسألة عرق لا مسألة بيت مالك، وتجعل السنوات العشر التي حلت بين سنة 1850 وسنة 1860 بسمارك برلمانيا، وتحفزه برلمانيته إلى كتابة مذكرته حول إقامة برلمان ألماني، ويعترف لاسال في ذلك الحين بإمكان تحقيق الوحدة الألمانية مع الأمراء، ويقف بسمارك ولاسال ضد النمسة وهنغارية حيث يعارض ستة وعشرون مليونا من السكان قيام الوحدة الألمانية، على أن كل واحد منهما يسلك سبيله الخاصة وصولا إلى غايته، وما كان لاسال ليبصر سياسة بسمارك الخارجية بواسطة سفرائه، وما كان بسمارك محتاجا إلى قراءة رسائل لاسال ليتأثر بها في رأيه حول المسألة النمسوية.
وكان وضع لاسال تجاه نابليون الثالث مثل وضع بسمارك، فعلى ما يحمله من مقت لاستبداد نابليون كان يفضل أن يسير بجانبه في الأزمات ضد النمسة على أن يسير بجانب النمسة ضد فرنسة، وما كان يجهر به لاسال فذو أثر كالذي يأتيه بسمارك في الخفاء، ومن قول لاسال: «إذا كان نابليون يرى تعديل خريطة جنوب أوروبة وفق مبدأ القوميات فإننا نرى صنع مثل ذلك في الشمال، وإذا كان نابليون يرى تحرير إيطالية فإننا نرى الاستيلاء على شليسويغ، وهكذا تكون بروسية قد غسلت عار أولموتز. وإذا كانت بروسية تتردد فإن ذلك يدل على عجزها عن القيام بعمل قومي.» والأمر الوحيد الذي يميزه هنا من بسمارك هو انتحاله أسلوب المحرض في الحقل القومي وسلوك بسمارك سبيل الدبلمية، وتلميذ هيغل وفيخته لاسال يصوغ مزاعمه بأسلوب أكثر فلسفة من أسلوب تلميذ مكيافلي بسمارك، ومن قول لاسال: «يتوقف على هذه الأمة الفلسفية النزعة، يتوقف على هذه الأمة الألمانية، وذلك بفضل نشوئها ووفق تاريخها الأدبي والمادي، ذلك المصير الأسمى وذلك الشرف الوحيد في التاريخ العام، فيكون لها من الأموال ما يسفر عنه المبدأ الشعبي البسيط غير المادي ويكون لها من الكيان ما يسفر عنه الفكر، ويشابه عمل كهذا خلق الرب للعالم! ولقد غدا هذا دينا حيا في كل قلب ألماني نبيل مسمى باسم الوحدة الألمانية الشعبي الجازم، وفي اليوم الذي تدق فيه جميع النواقيس إيذانا بولادة الدولة الألمانية نحتفل بعيد فيخته الحقيقي؛ أي باقتران روحه بالحقيقة!»
وكان بسمارك يغضي عن تكلف ذلك الأسلوب، وكان يقلب العبارة في ذهنه ويستخرج منها ما يراه من النتائج، وقد قرأ ما قاله الزعيم الجديد لاسال عنه في الاجتماعات العامة التي كان يمقتها، «ومما لا جدال فيه أن لدى بسمارك معرفة صحيحة بالمسائل الدستورية، فتنسجم وجهات نظره انسجاما تاما مع نظريتي، ويعلم بسمارك جيدا أن الدستور الحقيقي لبلد ليس قصاصة ورق، بل هو وليد أحوال واقعية.» ولسرعان ما سار خطوة واسعة إلى الأمام فقال في اجتماعات عامة عقدها في بلاد الرين: «إن التقدميين يلاطفون الأمراء في فرانكفورت ليزعجوا بسمارك، ولو كان علينا أن نتبادل نحن وفون بسمارك العيارات النارية لقضى العدل علينا بأن نعترف - حتى في أثناء ذلك - بأن بسمارك رجل وبأن الآخرين عجائز.»
وبسمارك قبل أن يقرأ ذلك الإقرار الحبي، أخذ برقية من سولنجن حيث منعت اجتماعات لاسال، وإليك نصها: «حضر العمدة التقدمي على رأس عشرة من الشرطة مسلحين بالبنادق والحراب فحلوا - بغير مسوغ شرعي - اجتماع عمال دعوت إليه، فاحتججت على غير جدوى، وليس من غير صعوبة أن حلت دون التجاء جمهور مؤلف من خمسة آلاف شخص إلى استعمال العنف؛ فالبدار إلى مراضاة قانونية حاسمة، لاسال.»
جاء ذلك في حينه؛ وذلك لأن بسمارك كان منذ بضعة أيام يقوم بلعبة ضد مؤتمر الأمراء فيطالب بإجراء استفتاء عام متماثل في أمر الجامعة الألمانية، ويدفع بسمارك تلك الشكوى إلى المراجع القانونية، ويزوره لاسال «ليعرب له عن شكره»، ثم يزور بسمارك في شتاء عام 1863-1864 ما يزيد على اثنتي عشرة مرة، ويطيل الاجتماع به في كل مرة، وتمضي عدة أعوام فيرى بسمارك من المصلحة أن يقطع تلك الصلات السياسة بلاسال فيقول في الريشتاغ: «أبصر في لاسال ما يجتذبني إليه اجتذابا شخصيا عجيبا؛ فلاسال هو من أكثر من عاشرتهم موهبة وأنسا، ولاسال طموح إلى أوسع مدى، وكانت محادثاتنا تدوم ساعات كثيرة فآسف على مرورها، وأظن أن لديه انطباعا جميلا بأنني كنت له مصغيا مدركا حسن الالتفات.»
بسمارك في سنة 1866.
وكانت تلك المحادثات بين أقوى ساسة الألمان في ذلك الدور تدور حول المسألة العظيمة القائلة بأن تقوم الوحدة الألمانية على أساس الأسر المالكة أو على أساس شعبي، والآن يرى لاسال أن الجمهورية الألمانية غاية لا تنال، والآن يرى بسمارك تعذر تحقيق حلف بين الأمراء، وكلاهما لا يقدر في نفسه هذين الحلين المثاليين، وإليك لمحة عن اجتماعاتهما ثبت أمرها بما رواه لاسال ، كما يأتي:
بسمارك :
ولم لا تصوتون مع المحافظين ما دمتم لا تأملون فوز مرشحيكم؟ فمصالحنا تسير مع مصالحكم، فأنتم تناضلون سائرين من وجهة نظركم ونحن نناضل سائرين من وجهة نظرنا، وذلك ضد رغبة الطبقة الوسطى في القبض على زمام السلطة.
لاسال :
يلوح أن تحالف المحافظين وحزب العمال أمر ممكن لأجل معين يا صاحب الفخامة، ولكننا لا نسير معا إلا لمسافة قصيرة في الطريق، ثم نصطرع بعنف أكثر مما مضى.
بسمارك :
وي، أدرك ما تعني، والمسألة هي أن يعرف أينا يقدر على أكل الكرز مع الشيطان، وسنرى!
وإذا ما نظر إلى الأمر من حيث الواقع رد نقاشهما إلى نقطتين في برنامج لاسال ود بسمارك أن يحققهما وفق مصالحه، ومن قوله عن التصويت العام: «إن التصويت العام في بلد ذي تقاليد ملكية ومشاعر صادقة؛ يؤدي إلى إبطال مؤثرات الطبقة الوسطى الحرة وإلى انتخاب ممثلين ملكيين، فانظر إلى بروسية تجد إخلاص تسعة أعشار الشعب للملك، وتجد أن جهاز الانتخابات المصنوع هو الذي يحول دون إعراب أكثرية الشعب الساحقة عن رأيها الصحيح.» وكان إدخال حق التصويت إلى بروسية يلوح لبسمارك أمرا مبتسرا، وإذا كان بسمارك يسير على رسله فإن لاسال يمشي على عجل، ولاسال يحاول إقناع بسمارك بانتحال التصويت العام، لا في ألمانية وحدها [في الوقت المناسب، لاعتقاد كلا الرجلين ضرورة نشوب حرب قبل قيام الاتحاد الألماني]، بل في بروسية أيضا، وفي الحال وفق مرسوم، وهكذا تدعو الراديكالية الديمقراطية إلى الانقلاب، ويشك بسمارك في حلول الوقت المناسب.
ويكتب لاسال إلى بسمارك قوله: «ألوم نفسي لما كان من نسياني بالأمس أن أذكر لكم مرة أخرى ضرورة جعل حق الانتخاب شاملا لجميع الألمان، وليكن هذا أداة قوة عظيمة! وليكن هذا فتحا أدبيا لألمانية! وإذا سئلت عن الجهاز الانتخابي قلت إنني قرأت في الليلة الماضية تاريخ الاشتراع الفرنسي فلم أجد فيه غير فائدة قليلة حول الموضوع، ومهما يكن الأمر فقد قلبت الأمور وصرت في وضع أستطيع معه أن أمدكم - يا صاحب الفخامة - بما تودون ، فأرى أن يصار إلى «الوصفة السحرية» المنشودة منعا للامتناع ودرءا لتبديد الأصوات، ولا أشك في أن الشفاء هو فيما اقترحت؛ ولذا أنتظر من فخامتكم تعيين وقت للمقابلة ذات مساء، ولي أن أصر على فخامتكم بتخصيص مساء لا يقطع فيه الحديث، ولدي قول كثير عن الجهاز الانتخابي وعن شئون أخرى.»
ومن يقرأ ذلك الكتاب الصميمي يبصر مصدر المبادرة، ويعتقد كتابته من قبل شاب إلى شائب مع أن لاسال كان قد جاوز الأربعين من عمره وأن بسمارك كان قد جاوز الخمسين من سنيه، ونتمثل بسمارك في المساء السابق جالسا على كرسيه مستمعا من خلال دخان سيغاره لمحاولة ضيفه النشيط هزه بكلمات ك «الوصفة السحرية»، وينشأ عن تلك المبارزة الروحية بعض ما يسر الرجلين، وتحول الحوادث دون اختلاطهما؛ فقد بدئ بغزو دانيماركة بعد تاريخ ذلك الكتاب بخمسة أيام، وقد وجد لاسال ما يحفزه إلى الكتابة ثانية:
لا ألحف،
2
ولكن الحوادث تحث، فاعذروني إذا ما بدوت ملحاحا؛ فقد أرسلت إليكم يوم الأربعاء كتابا أنبأتكم فيه بأنني الوصفة السحرية المنشودة الشافية، وأرى أن اجتماعنا القادم سيؤدي إلى نتائج حاسمة، وأرى أن يوصل إلى هذه النتائج على جناح السرعة؛ ولذا سأجرؤ على زيارتكم في منتصف الساعة التاسعة من صباح الغد.
يا له من ناري! يا لإغراء الأمر له! يا لشعوره بدنو تحقيق ما لم يكد يأمله حتى الآن! ولكن بسمارك يبدأ حربه، ويمكن مبدأ التصويت أن ينتظر!
وتمضي بضعة أسابيع، فيتهم لاسال بالخيانة العظمى، فيخاطب المحكمة العليا بقوله: «لا أريد قلب الدستور فقط، فمن المحتمل أن أقلبه في أقل من عام، ويمكن أن يلعب أكبر لعب؛ فأوراق اللعب على المائدة! ولذا أخبركم في هذا المكان الموقر أنه قد لا يمضي عام حتى يكون فون بسمارك ممثلا لدور روبرت بيل فيمنح حق التصويت العام المباشر!» ويرن اسم ذلك القطب السياسي الإنكليزي عاليا، وإن لم يدرك أحد في قاعة المحكمة معنى ذلك، ويبلغ صاحب تلك النفس العالية لاسال من النفوذ الأساسي في الوزير الحريز بسمارك ما يلمع معه إلى المثال الذي ذكره بسمارك في كتاب كتبه أيام كان في السنة الخامسة والعشرين من عمره حيث فسر سبب تركه للإدارة قائلا إنه لا ينتظر منه أن يمثل دور بيل في بروسية، ولم يعلم غير قليل من أقرباء بسمارك أمر ذلك الكتاب، ومن الممكن أن يكون كاتبه بسمارك قد نسيه، وهو ما زال يعرف أن بيل وأوكونل وميرابو كانوا يساورون ذهنه في قديم زمانه، فلما قرأ ما أبداه اليهودي الثوري لاسال من البسالة في الدفاع عن نفسه ضد الحكومة وما كان من كشفه عن السرائر؛ زاد إجلاله له.
ويتبع بسمارك لاسال في الجزء الثاني من برنامجه، فيغري هذا الاشتراكي ذلك الوزير الرجعي موفقا بتأليف جميعات للإنتاج وبإقراض العمال مائة مليون وبجعل الدولة مستصنعا كبيرا، ويريد لاسال إقامة دولة اشتراكية وفق مذهب ماركس الجديد، ويريد بسمارك تقوية الدولة الملكية بتوسيع سلطاتها، ويريد كلا الرجلين بلوغ غايات مختلفة بوسائل واحدة كما في مسألة التصويت العام، وتمضي سنوات فيصف بسمارك تلك الأساليب ب «الأمور الجدية الرزينة»، وبسمارك يكتفي الآن بشكره للاسال إرساله إليه كراسة جامعة لتلك الآراء.
ولاسال هو من الزهو ما لا يطيق معه ذلك، فكان على بسمارك أن يسلم تلك الكراسة إلى الملك حتى يعلم ولهلم «أية مملكة تكون في المستقبل»، ويتوجع لاسال فيرغب في محادثة الوزير في الأمر، وتزعج تلك اللهجة بسمارك، ولا يقطع بسمارك صلته بلاسال، بل يماطل، وهكذا لا يرى لاسال مرة أخرى لما كان موت لاسال في المبارزة بتلك السنة.
ولاسال مع ذلك استطاع في الربيع من تلك السنة أن يمهد لقبول الملك وفدا من فقراء الحاكة بسليزية قبولا حسنا، وكان هذا حادثا مهما منقطع النظير قبل ذلك الحين في بروسية، ويخرج أولئك الحوكة الجياع من حضرة المليك فيجدون بسمارك في غرفة الانتظار، فيسألهم ثم يقول لهم: «أخشى ألا تأكلوا إوزا مشويا بسرعة لا تعدو يوم الأحد القادم!» وهنالك يقف أولئك الفقراء مرتعشين، وهنالك يقف جمهور من البائسين الخائفين من الكبو على الأرض الذهبية المشمعة في القصر الملكي، والآن يلاقيهم رئيس الوزراء، فيوسع بنكتته الهائلة تلك الهوة التي وجب عليه آنئذ أن يهتبل فرصة إقامة جسر عليها مترفقا، ويشعر العمال بانقباض صدر حتى بين البسط التركية والتماثيل النصفية الرخامية في منزل لاسال الأنيق ببلفوستراس حيث خفوا إلى زيارته، ولم يسر العمال بمنظر الصدر الرائعة التي ترى على ذلك الزعيم الشعبي فوق المنابر العامة؛ فالزعيم ليس من أمثالهم.
ويتخذ بسمارك تدابير فعالة لتقييد امتيازات المكاتب الاجتماعية، ويود بسمارك أن يستميل حزب العمال الجديد، ويحاول بسمارك أن يجتذب أربعة كتاب اشتراكيين بجانب لاسال، فيغدو مقاوم الضرائب لوتار بوشر مديرا لجريدة بسمارك - نوردوتشه - بعد سابق نفي ولاحق عفو، ويغدو معه مديرا براس الذي كان قد أنشد قائلا: «ندهن بالأحمر، نجيد الدهن، ندهن بدم الطغاة!» ويتبع ليبكنخت براس، ويوصي بسمارك بوشر بأن يضم كارل ماركس إلى إدارة الجريدة، ويرفض ماركس ذلك، ويتملص ليبكنخت لما أبصره من ارتشاء براس، ويبقى بوشر عشرين عاما، ويرى الشريف المسعار بسمارك مرة أخرى من خلال تلك المغامرات في جمع الجنود من معسكر العدو.
وبسمارك - في الوقت ذاته - اشتراكي حكومي، فلما أصغى عمدة إحدى النواحي إلى ما قاله المستصنعون وحدهم حول فقر حوكة سيليزية مستندين إلى ما ذكره شرطي سأل بسمارك غاضبا عن السبب «في عدم اتخاذه وجهة نظر عادلة يمكن أن تعرف بها تلك المصاعب معرفة صائبة، وذلك بدلا من أن يتساوق مع مصالح المستصنعين فقط»، ويريد بسمارك أن يعزله لقلة نضجه، ويعين لجنة لدرس أجور العمال واحتياجاتهم الحيوية ووسائل مساعدتهم، «ولكي يستمع للعمال بواسطة أناس راشدين قادرين على الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة ضد المستصنعين»، وفي ذلك الحين يحمل بسمارك الملك على دفع سبعة آلاف تالير من ماله لإنشاء جمعية تعاون للإنتاج وفق خطط لاسال، «واختبارا لما يؤدي إليه تطبيق المبدأ على مقياس واسع من الممكنات والنفقات والنتائج»، ويجب تسجيل جمعية التعاون للإنتاج تلك، ويجب أن تكون تلك الجمعية من النشاط والاستقلال «ما يلزم لبيع السلع وما يمتع الحاكة بأقصى المنافع الممكنة فضلا عن أجورهم »؛ وهكذا يصبح بسمارك الاشتراكي الحكومي الأول في بروسية عن بغض للأحرار الأقوياء.
وفي ذلك الصيف يقتل لاسال بعيار ناري يصيبه به مكسال في مبارزة صادرة عن شعور بالشرف زائف، ويظل عمله بلا زعيم في الوقت العتيد، وتمضي سنة فتعلن وزارة الدولة معارضتها لكل محاولة اجتماعية، فيدرج بسمارك في التقرير قوله: «ينقص إلى أدنى حد ضروري للحياة طعام الحوكة المؤلف معظمه من حساء البطاطا، ومن حساء الطحين والملح ومن قليل دهن ومن قهوة الهندبا.»
ويقرأ بسمارك في ذلك التقرير قولا عن تقديم العمال في كل مكان طلبات واحدة لا يمكن الدولة تلبيتها فيكتب على هامشه بخطه الغليظ:
أذلك سبب لعدم إعانة الدولة أحدا؟ تستطيع الدولة أن تصنع ذلك!
فبتلك الكلمات الثلاث تهز إرادة بسمارك المنتجة مرة أخرى قضبان القفص الكبير الذي سجن فيه مع أبناء طبقته الأشراف، ومع كثير من الأحرار أيضا، وتلك الكلمات الثلاث هي صدى لمحادثات الشتاء الماضي حين حاول صاحب النفس النارية المتطلعة إلى المستقبل أن يفتنه.
الفصل السادس
«والآن أنا وزير هنا، أنا السهم الأخير في الكنانة، فإذا أردتم إقامة إمبراطورية سكندينافية أردت إقامة الوحدة الألمانية، وهنالك نؤلف جامعة ألمانية سكندينافية تكون من القوة ما نسيطر به على العالم، ولا عجب فديانتنا واحدة وثقافتنا واحدة، ولا نكاد نختلف لغة، فأرجو أن تبلغ بني قومك قولي إنهم إذا لم يوافقوا على خططي اضطررت - على ما يحتمل - إلى إبطال عملهم لكيلا يوجد عدو ورائي عندما يعن لي مهاجمة جهات أخرى.»
بذلك الكتاب الغريب يبدو بسمارك ممازحا صديقه القديم المرسل إليه، ممازحا رفيقه السابق في الصيد بدانيماركة، ولنا أن نفترض أن المرسل إليه في كوبنهاغن، البارون بليكسن، قرأه مرتين؛ وذلك لأنه رئيس الوزارة الدانيماركية، ولأن لدى الدانيماركيين من الأسباب الوجيهة ما يرقبون به الجو الألماني في الزمن الراهن، ولو كان يعرف بسمارك لوجب عليه أن يعرف أنه ليس ذا خنزوانية
1
أو ذا خيال، بل هو حاسب واقعي، وليست تلك الفكرة سخيفة كما قد تبدو أول وهلة، فارجع البصر إلى ما هو أقل من خمسمائة سنة تجد بلاد سكندينافية الثلاثة كانت موحدة وأن أميرها كان من أصل بوميراني، وذلك الكتاب أكثر من دعابة، وقد يكون إنذارا، وبسمارك إذ كان لا يحاول نيل غير الممكن، وبسمارك إذ كان لا يسعى إلى بهر الذراري كما كان يصنع نابليون الأكبر؛ لا يهدف ما قاله اليوم إلى سوى شليسويغ وهولشتاين.
كان ذانك البلدان الصغيران شوكة بجانب ألمانية، وإن شئت فقل حافزين لألمانية نحو الوحدة منذ خمسين سنة، فلما أراد ذانك البلدان أن يظلا متحدين إلى الأبد نقبت أوروبة في المعاهدات التي ترجع إلى أربعة قرون والتي لا تهم أحدا، والتي لا تهم حتى أهل شليسويغ وهولشتاين أنفسهم، وقد أعمل الناس أذهانهم حول الذكور والإناث من ورثة ملوك دانيماركة ودوكات هولشتاين؛ وذلك لأن أحد أولئك الملوك مات الآن، فوجب على وارثه أن يحلف يمين الولاء للدستور الجديد في شليسويغ وهولشتاين كما في غيرهما، فأدى هذا إلى تصادم القوميات المتناظرة هنالك، فوجد ابن دوك أوغوستنبرغ الذي تنزل أبوه عن بلده في مقابل مليوني تالير ثغرة في عقد تخلي أبيه، فرأى أن يفيد من النزاع القائم فتسرب في بلد آبائه فكتب بيانا بدأه بكلمة «رعاياي المخلصين»، ونادى بنفسه دوكا لشليسويغ وهولشتاين.
وكان يرقب الأمر عن كثب ذلك البروسي المخيف الذي لم يبال بألمانية ذينك البلدين؛ أي بأن يغدوا عضوين في الجامعة الألمانية لما يسفر عنه هذا من زيادة عدد أعداء بروسية، وبسمارك يود رفع شأن بروسية، وبسمارك مع أنه كان يعرف كيف يستغل ما ينعش بعض أهل الشمال أولئك من غيرة نحو الوحدة الألمانية لم يفكر في غير دستوره القائل: «ما السبيل إلى تحويل الدوكيتين إلى ولايتين بروسيتين؟» ويبدو تلخيصه الكلاسي
2
للأمر في الكلمة الآتية وهي: «إن اتحادا شخصيا مع دانيماركة خير من الأمر الواقع، وإن أميرا مستقلا خير من الاتحاد الشخصي، وإن اتحادا مع بروسية خير من الأمير المستقل، والحوادث وحدها هي التي تثبت أي الأمور الثلاثة هو الذي ينال»، وبسمارك - لمكيافيليته - ظاهر دانيماركة في البداءة، ثم ظاهر أوغوستنبرغ ضد دانيماركة، ثم ظاهر النمسة، وذلك كله رجاء الفوز في نهاية الأمر.
وإذا لم يكن ذلك نتيجة خطة فكر في جزئياتها مقدما كان ذلك - على كل حال - قلادة لؤلؤ فتل سمطها،
3
ويشتد الأمر في أواسط سنة 1863، وفيما كانت ألمانية بأسرها تهتف لدوك أوغوستنبرغ الشاب تقديرا لعزمه على تخليص أرض ألمانية من دولة أجنبية؛ نهض بسمارك على رجليه في اجتماع مجلس الدولة مقترحا ضم ذينك البلدين، ويرفع الملك بصره ويقول: «ولكن ليس لي حق في تينك الدوكيتين!»
بسمارك :
وهل كان للناخب الأكبر، وهل كان للملك فردريك حق أعظم من ذلك في بروسية وسيليزية؟ فآل هوهنزلرن جميعهم قد وسعوا رقعة الدولة!
ولم يجب الملك عن ذلك، ويرفع ولي العهد يديه إلى السماء كما لو كان يشك في سلامة عقل المتكلم، ويلزم الوزراء ومنهم رون جانب الصمت، وينتقل المجلس إلى جدول الأعمال، ويقرأ بسمارك المحضر فلا يجد ذكرا لاقتراحه فيذكر السكرتير أن هذا الإهمال وقع بأمر الملك الذي رأى أن بسمارك نفسه يفضل عدم تسجيل ما قال، ويقول بسمارك: «إن صاحب الجلالة - كما يظهر - أبصر أن ما أعربت عنه كان بتأثير غداء خمري فيسرني ألا أسمع شيئا مما قلت، بيد أنني أصر على تسجيل اقتراحي في المحضر.»
وفي ذلك الحين يكتب بسمارك قوله: «إن منهاجي الراهن في السياسة الخارجية هو كمنهاجي في غابر الأزمان، حين كنت أذهب إلى صيد الدجاج البري، وحين كنت لا أتقدم خطوة قبل أن أختبر التراب الذي أمشي عليه فأعرف قدرته على حملي.» والذي لا ريب فيه هو أنه لما كان من جزر ومد في مسألة شليسويغ؛ استطاع أن يسير النمسة فيجذبها إلى جهته في البداءة ثم ينفصل عنها ليتمكن من طردها من الجامعة في النهاية، فلولا دوبل
4
لصعب أمر كونيغراتز،
5
ولكن هذه الطريق تؤدي إلى شفا الهاوية بأوروبة، ولبسمارك عين لا تغفل عن مراقبة أحوال الدول العظمى أبدا، على حين يراقب الملك بالعين الأخرى مراقبة مروض الأسود، ويلوح غير مرة أنه يخسر اللعب الذي يدعوه بمكيدة الكاتب، وإذا كان من الصواب قول المثل التركي إن الحظ حليف العفيف؛ وجب أن يكون بسمارك في الدرجة القصوى من الفضيلة لعدم مفارقة الحظ له في تدابيره تقريبا ولا سيما ذلك التدبير الذاتي.
ولو هاجم بسمارك دانيماركة وحده، ومن فوره لوجد النمسة وراءه وأوروبة أمامه، وبسمارك، بدلا من ذلك، أنبأ وزير خارجية النمسة الكونت رشبرغ بأنه سيقوم بإنقاذ الدوكيتين الذي هو أكثر الأمور شعبية في ألمانية، فحمله بذلك على الانحياز إلى جانبه، فصار بسمارك لهذا الحليف القوي لا يبالي بالجامعة الألمانية، ويسكن بال أوروبة التي كانت ترى في تباغض دولتي ألمانية العظيمتين ضمانا تجاه نيل إحداهما فوزا شاملا على الأخرى، وهكذا يجعل النمسة حليفة وأوروبة محايدة بعمل واحد، وهكذا يزول شبح حرب عامة بشهر بروسية والنمسة الحرب معا على دانيماركة، وهذا هو الذي استطاع بسمارك أن يكتبه حتى قبل بدء تلك الحرب فعلا:
أليس من أتم الانتصارات ابتهاج النمسة بعد محاولة تجديد الجامعة الألمانية بشهرين تجاه ما أبصرته من السكوت عن المسألة ومن إرسالها مذكرات واحدة معنا إلى أصدقائها السابقين؟ لقد أنجزنا في هذا الصيف ما سعينا إليه مدة اثنتي عشرة سنة على غير جدوى؛ فقد انتحلت النمسة برنامجنا الذي كانت تهزأ به في شهر أكتوبر الماضي، وقد فضلت الحلف البروسي على حلف فرتزبرغ، وقد قبلت العون منا. واليوم لو أدرنا ظهرنا إليها لسقطت وزارتها، ولم يحدث قبل الآن أن اتبعت فينة سياسة برلين على ذلك الوجه إجمالا وتفصيلا، وتدارينا فرنسة. ولصوتنا في لندن وسان بطرسبرغ من التأثير ما لم يكن لنا منذ عشرين عاما. ويجب أن يقوم سلطاننا على سياسة القوة المستندة إلى السلاح لا على مناقشات المجالس والصحافة، وليس لدينا من القدرة والصبر ما نبدد معه تلك القوة في جبهة زائفة وفي تنميق الجمل وفي سبيل دوك أوغوستنبرغ. ولا أعتمد على النمسة اعتمادا لا حد له، ولكنني أرى من الصواب أن نجعلها بجانبنا في الوقت الحاضر، وسيحل وقت الانفصال، فأينا يكون مصدره؟ هذا ما يكشفه المستقبل.
وردت تلك العبارات في كتاب طويل أرسله بسمارك إلى غولتز بباريس في عيد الميلاد سنة 1863، ولا نكاد نلومه في مباهاته لمنافسه على ذلك الوجه، وكتابه ذلك ضرب من مناجاة النفس أو صدى لمائة مناجاة مقصودة على ما يحتمل؛ وذلك لأنه يعني نفسه بكلمة «نحن»، وهو يشعر بأن ساعة ظهوره قطبا سياسيا حانت ولم يبق لدخول سنة 1864 سوى أيام قليلة.
ويسبق ويرافق النزاع الصامت بين بسمارك والملك، جدال صاخب في اللندتاغ، ويثبت نقاش الديمقراطيين صعوبة القيام بسياسة خارجية مع برلمان ما لم تسر جميع الدول على هذا النهج، وهذا ما كان يتعذر أمره أحيانا.
فيرشوف :
يجب أن يخبر الملك بالخطر الذي يحيق بنا؛ فقد انتحل رئيس الوزارة وجهات نظر مختلفة في وقت قصير، وهو يسرع بلا بوصلة في بحر زاخر بالمعضلات الخارجية، وليس لديه مبدأ موجه له، ومن ضعفه أنك لا تجد لديه إدراكا لما ينبعث من قلب الشعب، وهو لما يلجأ إليه من العنف يصيب مصالح ألمانية وبروسية المقدسة بأفدح الأضرار، وهو ألعوبة بيد الشيطان، وهيهات أن يتخلص من براثنه.
بسمارك :
لا يستطيع مجلس مؤلف من ثلاثمائة وخمسين عضوا أن يدير في أيامنا دفة سياسة دولة كبيرة بأن يفرض على حكومتها برنامجا تسير عليه إلى أقصى حد، وإن السياسي الذي ليس اختصاصيا في العمل ليعد كل حركة على رقعة الشطرنج نهاية للعب، والوهم يتطرق إليه من تبدل الهدف باستمرار، ولكن السياسة ليست علما محكما، ولا أخشى الديمقراطية، ولو خفتها لخسرت اللعب (صوت: لعب! لعب!) وإذا رفض المجلس الموافقة على ما نحتاج إليه من الوسائل اضطررنا إلى نيل هذه الوسائل حيث نجدها.
ويرد المجلس اقتراح قرض الحرب ويفض المجلس ولا يجتمع قبل انقضاء سنة.
ويبلغ الكفاح غايته، فيبدو الخلاف من خلاله كالشرر، وتردد الكلمات: أقدس المصالح، والهوى السياسي بلا بوصلة ولا معرفة، والمبادئ، ولعبة الشطرنج! وما كان من تسليم الطبيعي الملحد فيرشوف عدوه إلى الشيطان بدلا من أن يتخذ السياسي النصراني بسمارك مثل هذا الوضع تجاهه، فيرجع إلى مثل تلك المحاولة كل ما تنطوي عليه هذه العبارات من لسع قارص.
وفيما كان بسمارك يشير في المجلس إلى سلطة الملك كان يهدد الملك بالمجلس قائلا لا شيء يسكت خصوم إصلاح الجيش غير سياسة خارجية قوية، غير الحرب، ويقرأ بسمارك العزائم على كاروليه ببرلين ويرهب رشبرغ بفينة حين يذكر له ما تشتمل عليه مشاعر الألمان القومية من بذور الثورة، ويبدي المجلس الإمبراطوري بفينة من الروية ما يهزأ به أحد أعضائه بتقرير رشبرغ المغرور، فيقول: «ترانا ذاهبين إلى الحرب حلفاء للوزارة البروسية التي يمقتها جميع العالم، وتقض أكاليل بسمارك مضاجع ساسة الدول الأخرى، وفي بروسية يصرح بضرورة التوسع، ولم تكد بروسية تهضم أرض سيليزية التي اغتصبتها حتى أخذت تنشب أظفارها في الدوكيتين، ونرسل أحسن فرقنا الموسيقية العسكرية للعزف بالسلام البروسي! فبأي لحن تخرج؟»
ويتردد الملك بين حث بسمارك وتحذير المقربين إليه، وينظر الملك إلى الفريسة، ويخاف أن يمسكها، ويسأل وزيره بجد: «ألست ألمانيا أيضا؟» وتمر على بسمارك أويقات قنوط، ثم يكتب إلى رون قوله: «يخالجني شعور بأن الملك خسر قضيته ضد الثورة؛ وذلك لأن ثقة الملك تتجه إلى خصومه أكثر مما إلى خدمه، وليكن ما يريد الله، ولسنا نبالي بانقضاء عشرين سنة أو ثلاثين سنة بعد الآن من أجل أنفسنا، ولكن لا من أجل أبنائنا، ولا معدل عن ضياع اللعب بغير معجزة، وسيلقي المعاصرون والأعقاب تبعة ذلك علينا، وليكن ما يريد الله، والله يعلم عدد ما تعيشه بروسية من السنين، والله يعلم مقدار حزني إذا انقطعت حياة بروسية.» وهكذا يتكلم بسمارك عن كسب اللعب وخسره فلا يذكر اسم الله في غير ساعة العسرة.
وبسمارك حتى بعد أن أقنع الملك ولهلم والإمبراطور فرنسوا جوزيف بشهر الحرب لم يكن واثقا بمصير البلاد التي تفتح، وبسمارك قد يعن له، خلافا لنفسه، أن يعلن حربا «شرعية» فينقذ الدوكيتين في سبيل الجامعة الألمانية، وبسمارك الدبلمي لم يهدأ باله حتى بعد إطلاق القذيفة الأولى، فهو لم ينشب أن أرسل إلى رون مذكرة مستعجلة جاء فيها: «أليس من القليل جدا أن يكون ل «ف...» فرقتان؟ وتقع فرقنا في مصيدة فئران ما لم تسيطر مدفعيتنا على الساند المذكور آنفا، ولدينا كتائب احتياطية كثيرة في هولشتاين، فلم لا نستولي على الجزيرة ببأس؟ فالعفو منك لما أبديت من تلك الملاحظات حول أمور عسكرية.» وماذا يقول بسمارك لو أبدى رون له نصيحة سياسية؟ ولكن مسئولية بسمارك أعظم من مسئولية كل قائد ما دامت تلك الحرب وليدة خياله وما دام قد فرضها.
وتمضي ثلاثة أشهر فتفتح حصون دوبل عنوة، ويستولى على المنطقة الممتدة إلى ألسن، وتدعو لندن إلى مؤتمر وتعلن الهدنة، وينظر بسمارك إلى باريس على الدوام، ويعد نابليون الثالث بمبهم الكلام إذا لزمت فرنسة جانب السكون في الوقت الحاضر، والآن لا يستطيع أن يصنع شيئا غير مشاركة الآخرين في الدفاع عن قضية الدوك أوغوستنبرغ، ويبحث عن وثائق مصفرة؛ ليثبت تلك الدعوى المهمة، ويتذرع بحيل المحامين، ويحمل ذلك الدوك على منح بروسية من الضمانات والحقوق ما يصبح به عاطلا من السلطان من البداءة.
ويدب الخلاف في مؤتمر لندن فيدعو بسمارك ذلك الدوك إلى برلين ثانية، ويقابله حوالي منتصف الليل (لما في هذا من التلقين)، وذلك بعد أن قضى الدوك يومه مع الملك وولي العهد عن مكيدة حاكها بسمارك، وتعرض عليه مطاليب جديدة؛ أي يطلب منه ألا يكون بلده ملجأ للأحرار المشاغبين، والدوك كان قد وافق على جميع الشروط بلا تردد (ما دام السلطان همه الوحيد)، فيشعر الآن بأن وضعه تقوى بمقابلته ولهلم وفردريك، والدوك يبدي رأيه الشخصي للمرة الأولى، فيقول إن نصوص دستوره تقضي عليه بأن يرجع إلى نواب بلده في جميع تلك الشروط وينال موافقتهم عليها، وهل شرب هذا المجنون كثيرا من رحيق الشنبانية على مائدة الملك؟ ألا يعني وضعه شروطا حول ما وافق عليه تجريدا لما قبله من كل قيمة؟ ويفكر بسمارك في الأمر، وليكن ذلك البلد من أملاك بروسية إذن، فلم يعتم بسمارك أن أبدى مثل تلك البراعة في بيان زوال حقوق آل أوغوستنبرغ في ذلك، ومن المحتمل أن سر بسمارك بما يحف الموقف من سخرية؛ فقد كتب يقول: «كلما أوغلت في السياسة قل إيماني في حسابات الناس.»
ولا يدوم الشوط الثاني من الحرب سوى أسبوعين من شهر يوليو، فتنال الحليفتان نصرا حاسما، وتصبح الأملاك قبضتهما، وتحاران فيما تصنعان بها، ويعقد اجتماع في قصر شونبرن، ويجلس العاهلان وبسمارك ورشبرغ حول مائدة واحدة فرحين بما تم من نصر، وكان الملك ولهلم مضطرب الوجدان، وكان مثله، على ما يحتمل، أمر رشبرغ الذي كان سليم الطوية مستقيما تجاه تلك السياسة، وكان كل من فرنسوا جوزيف وبسمارك هادئ البال موطنا نفسه على خدع الآخر.
بسمارك :
يدعونا التاريخ إلى سياسة مشتركة، ونحسن إلى أنفسنا من الناحية الشرعية والناحية السياسية إذا تضافرنا وأدرنا دفة ألمانية؛ فهي تبقى قبضتنا ما بقينا مؤتلفين، ولو كان ما نلناه معا قد وقع في إيطالية بدلا مما في هولشتاين، فغدونا مسيطرين على لونباردية، ما خطر ببالي إقناع مليكي بأن تكون رغائبنا معارضة لرغائب حلفائنا.
فرنسوا جوزيف :
أتصير الدوكيتان ولايتين، أم يكون لبروسية فيهما بعض الحقوق؟.
كان سكوت، وكان صموت من الملك
بسمارك :
من بواعث غبطتي أن وضعتم - يا صاحب الجلالة - هذا السؤال أمام مليكي المعظم، فأرجو أن أعرف الآن وجهة نظره.
ولهلم (مترددا) :
ليس لي - في الواقع - أي حق في الدوكيتين، ولا أدعي بشيء فيهما.
يا له من فصل روائي! هنالك عاهلان حائران فيما يصنعان بفتح حملهما عليه وزراؤهما وناله بالسيف قوادهما، ويبدو ارتياب متقابل يعرب عنه بعبارات مهذبة إلى أن صرح أسن العاهلين مضطربا بأنه لا حق له هنالك خاذلا وزيره الذي كان يود العكس، ويظهر كل واحد من العاهلين من الصداقة الزائفة ما يكلم به الآخر بصيغة المفرد المخاطب مع مجموعة من كلمة «صاحب الجلالة» و«صاحب الفخامة»، وتنتهي المناقشة بغداء على أطباق من ذهب وفضة، ويحاول الوزير اليائس أن يزيل غمه بخمر من قبو آل هابسبرغ.
الفصل السابع
لم تؤد الحرب الدانيماركية إلى حسم الخصام، بل زادته شدة، وأمكن الحكومة أن تشير إلى ما حف إصلاح الجيش من فلاح بعد أن ضن النواب بموافقتهم عليه، ولكن الأحرار لم يعسر عليهم أن يثبتوا أن الإصلاح لم يكد يبدأ، وتدور المسألة الأساسية حول معرفة أي الأمرين يجب أن يسود: آلحق أم القوة؟ وتبقى هذه المعضلة حائرة حتى بعد النصر الذي تم، حتى في بلد الطاعة، ويحل شهر يناير سنة 1865، ويفتتح بسمارك دورة مجلس النواب، ويظهر بسمارك أكثر تهذيبا، وأقل تهكما مما كان عليه قبل النصر، مما كان عليه أيام الكفاح، وما كان الأحرار ليتركوا الأمور تسير مع ذلك، فقد رفعوا عقيرتهم
1
قائلين: «لم تصنع الحكومة غير السير مع مجرى الرأي العام.» فأدى هذا إلى صولة بسمارك قائلا: «هل أوجبتم فتح دوبل وألسن برفضكم القرض الأول؟ فآمل - أيها السادة - أن يسفر رفضكم القرض العتيد عن تجهيز بروسية بأسطول جديد.» ويدوم الخصام.
ويقع مثل ذلك الخصام بين الحليفتين، فقد أرادت النمسة أن تجعل من تينك الدوكيتين المحتلتين دولة من دول الجامعة الألمانية؛ وذلك لكيلا تغدوا من أملاك بروسية، ويعين الكونت منسدورف وزيرا للخارجية في فينة، وكان منسدورف أريستوقراطيا أكثر من أن يكون قطبا سياسيا، وكان رقيق الإحساس متشائما، ومع ما كان عليه منسدورف من أدب جم بدا كيادا
2
كالكونت تون حين كان في فرانكفورت منذ عشر سنين، وفي برلين قال بسمارك لكاروليه: «ألا ترانا أمام الدوكيتين كالضيفين أمام طعام فاخر؟ فالفاقد لشهوة الطعام منهما يمنع الجائع من مس ذلك الطعام بشدة، فلننتظر مجيء الوقت إذن، والآن نجد أنفسنا هزلى في الوضع الراهن.»
ويأتي فصل الصيف، فيبلغ القوم في فينة من القلق الكثير ما يغدو معه قطع الصلات ببروسية قريب الوقوع، ويزيد نبض بسمارك، ويلوح أن غاية الحرب الأولى؛ أي غاية مجهود خمس عشرة سنة قد أخذت تدنو من دور التحقيق، ويقول بسمارك لمجلس الدولة بدم بارد: «إن الوقت ملائم لنشوب حرب، ولكن لا ينبغي للوزراء أن يشيروا بسلوك تلك الطريق، فيصدر قرار في ذلك عن غير قناعة الملك.»
بيد أن الملك يبعد شبح حرب مؤدية إلى قتل الأخ لأخيه، فيعود إلى غاستن فيأمر بسمارك بأن يتفق مع الصديق الحاقد، وكان هذا في شهر أغسطس سنة 1865، أي بعد محادثات شونبرن بعام واحد؛ أي بعد مؤتمر الأمراء بعامين، والآن «يصلح الفلح
3
في الصرح»، وتقسم المغانم، فتأخذ النمسة هولشتاين ولوينبرغ وتأخذ بروسية شليسويغ على أن تكون السيادة مشتركة في كلا البلدين، ويسقط الدوك أوغوستنبرغ تحت المائدة، وتسأل أوروبة بين ضاحك وغاضب: «إلى متى؟» ويقول بسمارك: «لعبت في ذلك الوقت خمس عشرة للمرة الأخيرة في حياتي، وقد بلغت في لعبي ذلك من الطيش ما دهش منه كل إنسان، وكان الكونت بلوم قد قال إن أحسن وسيلة لمعرفة أخلاق الناس هو أن يلعب معهم خمس عشرة، وأرى أن أريه لعبي! لقد خسرت مئات من التاليرات كان يمكنني أن آخذها من حساب الخدمة، وقد وفقت في خدعه؛ وذلك لاعتقاده أنني مجازف أكثر مما أنا عليه، فأذعن.» ويمضى العقد فيفترض أن بسمارك قال لبلوم: «ما كنت أظن وجود دبلمي نمسوي يمضي تلك الوثيقة!» والحق أن النمسة كانت مضطربة في الداخل، وليس لها حليف بين الدول الأجنبية، فأمضت النمسة وثيقة أفيد لبروسية مما لها إلى أبعد حد من حيث وضع بروسية وقيمة حصتها، وتبيع النمسة دوكية لوينبرغ من بروسية ب 2500000 تالير دانيماركي فيسر بسمارك بذلك، فيقول: «قل ما للنمسة من حرمة لدى الجميع؛ فالذي يبتاع هو رجل وجيه، والذي يبيع بثمن بخس هو رجل كريه!»
ويجعل الملك بسمارك كونتا بعد «توسيع رقعة الدولة» الأول ذلك، وينعم الملك على بسمارك بعد الحرب الدانيماركية بوسام النسر الأسود، فيعبر بسمارك عن مشاعره تعبيرا صادقا في كتاب يرسله إلى زوجه حيث يقول: «إن الذي هو أحب إلي من ذلك هو ما كان من معانقة الملك إياي عناق محبة ووداد.» وما كان ليبالي حتى بأسمى وسام منحه إياه ولهلم، وعكس ذلك ما كان من شدة كلفه بلقب كونت الذي ناله، فقد وجد بهذا اللقب مكافأة لشعوره الأسري الذي هو أقوى صفاته الموروثة، وبسمارك ما انفك يفاخر بصور أجداده المعلقة على جدر شونهاوزن، وبسمارك كان قد قال مباهيا إن حكم آبائه في بلاد المارش أقدم من حكم آل هوهنزلرن فيها، ولكنك تجد بين «أبناء عمه» وأصحابه من هم أعرق منه، فكانت صورهم تساور ذهنه دوما كلما حفزه طموحه إلى المعالي فكان يرغب في الظهور بما يليق أمامهم حذر كبرهم.
وما كان محتاجا إلى شعار شرف، فهو بسمارك، هو ذلك الرجل الذي أخذ صيته يطبق أوروبة، ولكن الذي راقه هو تلقيب زوجه بالكونتس بعد استخفاف الأوساط العالية بها وبعد أن كانت ابنة لوجيه بوميراني، ولكن الذي راقه هو تلقيب أبنائه وأبناء أبنائه بالكونتات، وهذا قد سر الشريف «بسمارك» أكثر من جميع المميزات والمناصب التي نالها فيما مضى، وهذا قد سره أكثر من التفات الملكات والإمبراطورات، وما يبغي بسمارك، فقد تقدم أقرب الناس إليه وأعزهم عليه خطوة إلى الأمام، وبسمارك كان في الخمسين من سنيه آنئذ، وبسمارك كان في الخامسة والعشرين من عمره حينما غادر الخدمة العامة فرسم مستقبله في كتاب أرسله إلى صديق له حيث قال: «أبيع صوفي بثمن أقل مما يجب بثلاثة تاليرات عندما أخاطب بالسيد البارون.»
ويقرأ بسمارك تفسير الملك ولهلم الودي حول منحه ذلك اللقب فيضحك قلبيا من زهو الملك؛ وذلك لما كان من اتباع الملك إياه خطوة بعد خطوة في العامين الماضيين، ثم لما كان من قول الملك حول فتح «ناشئ عن إدارتي للأمور بطراز اتبعتموه بحذر كبير أثير.
4
مليككم المحب: ولهلم.»
وفيما كان وقت الحساب الأكبر يقترب كان بسمارك يرقب نابليون الثالث، وكان هذا الإمبراطور والقوم الذين يملكهم ينظرون شزرا إلى ما تم من توفيق بين دولتي ألمانية المتنافستين اللتين كان خصامهما المزمن يسر أوروبة، وكانت إنكلترة في الحقيقة قد بدأت تفكر في إقامة حلف قوي ضد ألمانية الموحدة، ويقلب بسمارك الأمور، ويلوح لبسمارك أن الطريقة الوحيدة لمعرفة ماذا يدور في خلد نابليون الثالث هي الاجتماع به، ويهرع بسمارك، الذي كان قد حادث إمبراطورا في غاستن، من هذا المنهل إلى منهل آخر، إلى بياريتز، لينفث
5
إمبراطورا آخر، ويشعر بأن سفره ذلك هو إلى بلد معاد تقريبا، ويتخذ لنفسه منزلا قريبا من مغنى
6 «أوجيني» حيث مقر نابليون الثالث في الصيف، وإذا عدوت زوجة بسمارك التي ساءت صحتها، فحمله هذا الانحراف على سفره العجيب ذلك ظاهرا، لم تجد أحدا يعتقد صدق هذا، ومن بياريتز تكتب زوجته حنة قولها: «ساورني الحزن في الأيام الأولى لائمة نفسي على ما كان من تحميلي بسمارك المسكين نفقات كثيرة من غير أمل في أي تحسين! ويلوح لي أن صحتي في هنبرغ خير مما هي عليه هنا بدرجات.» فهذه الكلمة الساذجة تدل على مقدار كتم بسمارك لخططه السياسية عن زوجه منذ سنوات زواجه الأولى.
أفلم يكن أكثر هناءة في السنة الماضية حينما كان وحده في بياريتز؟ كان بسمارك بعد مصالحته دانيماركة قد زار ذلك السيف
7
زيارة قصيرة فلم يكن هنالك إمبراطور، ولم تكن معه زوجه، وإنما كانت ترافقه هنالك السيدة الفاتنة أورلوف وزوجها فقضى معهما وقتا في السباحة وركوب الخيل وتشنيف
8
الآذان بالموسيقى، وبسمارك في العامين اللذين مرا بعد استدعاء نفير رون إياه من بياريتز قد اجتمع بتلك الروسية الحسناء ست مرات، وهي في كتبها لم تدع نفسها بسوى كاتي الذي هو اسم لا يوحي بأنها أميرة روسية، ويقضي أولئك ساعات سرور، ويكتب إلى زوجه مرتين بشرود فكر غريب عن طبيعته - كما يلوح - «وأجدني هنا في حلم يا حبيبتي؛ فالبحر أمامي، وكاتي تمارس ألحان بتهوفن فوقي، ولم نر مثل هذا الجو في جميع الصيف، ولا قطرة مداد في البيت! سأفر إلى جبال البرانس إذا ما أبرقوا إلي ولن أشتري لوبن (القريبة من رينفيلد)، بل أبتاع إيشوكس أو أرضا أخرى قريبة من داكس، وإني إذ أفكر في ضرورة التدفئة ببادن، وبباريس أيضا، وفي حمل الشمس إيانا على خلع المعاطف والسراويل الثقيلة، وفي استلقائنا حتى الساعة العاشرة من ليلة أمس على الشاطئ وتحت نور القمر، وفي تناولنا الغداء في الهواء الطلق؛ أبصر مقدار ما يحبو به الله أهل الجنوب من الجو الرائع، ولا يعوز مسرتي غير أخبارك.»
وهكذا يخف فؤاد ذلك الألماني عندما يكون في صحبة غرباء ، ولا سيما امرأة جميلة تفتنه، وهكذا يخف فؤاد ذلك الألماني عندما يمتع نفسه بساحل البحر كسولا عدة أسابيع، فلا يتفق له مثل ذلك في غابات وطنه؛ ففي الآفاق الواسعة والأيام اللامعة والأجواء الزرق الساطعة والبحار البراقة والشمس الحارة وثياب النساء الزاهية واللغة المطربة؛ يتجلى خيال الألماني.
والآن حين ترافقه زوجته وابنته المتوجعتان، وحين يخلو المكان من السيدة الروسية، وحين يمتلئ ذهنه بالخطط، يبدو الساحل ذا منظر مختلف، والآن يقيم الكاتب المشهور بروسبير مريمه ببياريتز، وعلى ما كان من أجنبية بسمارك عنه ينفذ أخلاقه أكثر من أي ألماني كان، فاسمع قوله: «إن بسمارك أنبه من أي ألماني كان، إن بسمارك هو هانبولد الدبلمي، هو ألماني عظيم مهذب، هو عاطل من البهجة كما يلوح، هو يفيض ذكاء.» واسمع قوله بعد عام: «إن هذا الرجل العظيم كامل العدة، فلا ينبغي لنا أن نثيره، وخير لنا أن نغص بسببه حتى يكون لدينا مثل إبر بنادقه.» ولا يسع الإنسان إلا أن يعجب بذلك القطب السياسي أكثر مما أعجب به ذلك الكاتب؛ فبسمارك متفنن قادر على إبداء شيء من التحول، فكان الذي أظهره من انتحال بعض أوضاع ذلك البلد انتحالا كان في أشد الاحتياج إليه، فهل يقدر على خدع الإمبراطور؟
كلا الرجلين يمشي على الرصيف قريبا من البحر، ويبدو بسمارك قويا صحيح البنية حاد البصر فلا يغيب عن باله أن يسير في كل عودة عن شمال الإمبراطور، ويبدو الإمبراطور أصفر أحدب أشيب قبل الأوان، وإن كان عمره لا يزيد على عمر بسمارك بسوى سنوات قليلة، فيظهر قصير الخطا حائر البصر، ويسير الكلب نيرو وراءهما رويدا رويدا، ومن يقدر أن يبصر الحرب التي ستقع بين الرجلين بعد خمس سنوات يمكنه أن يرى نتيجتها من خلال نظراتهما.
بيد أن من يسمعهما يشك في احتمال نشوب الحرب بينهما ذات يوم، وكان كلاهما راغبا عن القتال، وكان الإمبراطور مصابا بالكباد
9
فلا يخاف شيئا خوفه من حرب جديدة، وإن ود في أيام صحته «اشتعال حرب في كل سنتين»، وإذا ما وجب عليه أن يحارب الآن رأى الخير في وقوع ذلك على شواطئ البحر المتوسط أو في البندقية حتى ينزل ضربة في سبيل إيطالية وانتصارا لمبدأ حرية الأمم ونيلا لشيء من السلطان وتحقيقا لآمال الفرنسيين. وأهداف كهذه إذ كانت لا تبلغ بغير حرب ضد النمسة، رأى الإمبراطور مظاهرة بروسية وصولا إليها، وماذا يطلب من بروسية في مقابلة هذه الخدمة العظيمة؟
وماذا يطلب نابليون الثالث؟ ذلك ما سأله بسمارك في نفسه غير مرة، ولا يستطيع بسمارك أن يقطعه أرضا ألمانية، ولا يدور في قلب الفرنسي أن يضم إليه أملاكا نمسوية، ويكلمه بسمارك في أمر بلجيكة، ويتحفظ نابليون فيلخص الوضع على الطريقة الميفيستوفلية
10
فيقول: «إن من الصعب أن تعرض أملاك أجنبية على رجل راغب عنها.» ثم يكلمه بسمارك عن سويسرة الفرنسية وعن أراض ألمانية واقعة على ضفة الرين وعن تريف ولندو، ويحدث ذلك كله حين سير الرجلين ذهابا وإيابا، ويحدث ذلك كله ضمن معنى الكلمة القائلة «لا نعرض عليك أرضا، ولكنك إذا ما استوليت عليها لم تجد أحدا يعترض دونك.» ويدع الإمبراطور أمر الضم غير صريح، وينطق بقوله العام: «نرحب ببروسية الموسعة المحرزة من أية عبودية.»
بسمارك :
تعلق بروسية الطموح أهمية كبيرة على صداقة فرنسة، وتنشد بروسية اليئوس محالفات ضد فرنسة، ولا نستطيع أن نوجد الحوادث، ولكننا نستطيع أن ندعها تأخذ مجراها.
الإمبراطور :
إذا ما قضت الأحوال بائتلاف أشد وثاقة وأعظم صداقة؛ أمكن مليككم أن يكتب إلي ذلك سرا.
ولا يسير بسمارك إلى ما هو أبعد من ذلك ولو أراد ذلك، فقد منعه الملك ولهلم من الارتباط في حلف، وهل يبلغ بسمارك إلى مليكه جميع تلك المحادثة؟ يبلغ بسمارك إلى الملك ما يراه مناسبا وبالمقدار الذي يستطيع الملك أن يستوعبه، وبسمارك قد أضحى غير صريح بعد أن قبض على ناصية السلطة، وبسمارك لا يطلع المستمع على غير ما يمكنه إدراكه، وبسمارك يعامل الملك كما يعامل سواه فلا يراه مستعدا لشهر حرب على آل هابسبرغ، «والذي يظهر لي أن عاطفة البلاط الفرنسي ملائمة لنا تماما »، وهكذا يضع تقريره بصيغة مبهمة مناسبة للحديث المنوه به، ونبصر من خلف اللثام سهام روحه الوثابة، فنرى كيف ينوي هذا القطب السياسي محاربة إخوانه الألمان متحديا رغائب قومه ومليكه وأوروبة، ونرى كيف يحاول تسكين فرنسة العظمى الطموح بالوعود الناقصة.
وكلا الرجلين - بسمارك ونابليون الثالث - كان يقصد الخداع فلم يعلم بالضبط أيهما غر الآخر في بياريتز، وقد أسفر انتصار المدفعية في سنة 1870 عن ختام المبارزة بين ذينك الرأسين من غير تعيين.
الفصل الثامن
بلغ بسمارك منتصف العقد السادس من عمره، فأخذ يصير ألمانيا.
ولا أقصد أنه في الوقت الحاضر وفي الماضي أراد أن يضرب النمسة ضمن الجامعة لسبب آخر سوى الحقد والكرامة، لسبب آخر سوى هذين العاملين اللذين كانا لديه أقوى من حب النظام والرغبة فيه، وقيام بروسية مقام النمسة ومقاتلة هذه الدولة المنافسة والانتصار عليها، لا «الفكرة الألمانية» أمور تنم على ما كان يهدف إليه ذو الطبيعة الصئول
1
ذلك، والحق بجانب الأحرار الذين يعدون تلك «الفكرة الألمانية» ديانة لهم عندما أنكروا في تلك الأيام مقاسمة بسمارك لعقيدتهم، وما كان بسمارك في ذلك الحين ليثق ببلاد الرين وبافارية أكثر من ثقته بفينة وسالزبرغ، فلم يزعج نفسه بتصنيف الألمان خارج الحدود إذن؟ واليوم كما كان عليه منذ عشر سنين حينما كتب إلى غرلاخ لا يتأخر عن صرع أي من أولئك الناس إذا ما جعلت سياسته العامة مثل هذا العمل أمرا مرغوبا فيه؛ ولذا سيرى بعد قليل أشهر، بارد الدم، مصارع الألوف من السكسونيين والهسيين والهانوفريين في حربه؛ فالواقع هو أن هؤلاء من الأجانب في نظره، وأن بروسية وحدها هي وطنه، هي بلده.
ومظهر حب الوطن - الخاص بالألمان - تبعا لنشوئهم هو مما يثير دهش بسمارك باتساعه أكثر مما بضيقه؛ وذلك لأن الألماني - كما قال بسمارك في مشيبه - مخلص لآله الذين نبت بينهم ومحب، في الغالب، لزاوية من الأرض، وهكذا لا يحب بسمارك سوى بوميرانية حبا أساسيا، وبروسية إذ كانت وليدة فتوح مصادفات وكانت أضيق مما هي عليه؛ عدت من اتساع الكيان ونبو البنيان ما لا تثير معه المشاعر الأسرية، ولم تكن هنالك وحدة مشاعر بين كولونية وميمل، وبسمارك كان مع ذلك من أولئك القليلين الذين عزموا على حب بروسية كما هي، كما كونت دوما؛ وذلك لأن الفتوح الملكية عنده ضرب من العقائد، ولأن الأصول قليلة الأهمية مهما كانت، وبسمارك إذ كان تابعا لملك بروسية وفارسا لبراندبرغ، كان همه مصروفا إلى توسيع بروسية، وكان يفضل أن يغلب أمراء ألمانية وفق أساليب سالف القرون، فيزيد رقعة بروسية، على أن يكافح في سبيل الجامعة الألمانية، فهو يريد أن يكون الأول، وهو الذي لم يكن بين النظراء إلا قهرا، وهذا هو منطق دمه!
غير أن ذهنه المضطرب وعلمه العميق بالتاريخ وبصره الحديد بالحقائق أمور كانت تتغلب على رغائبه الطبيعية فيتطلع إلى ما يمكن نيله ويعرض عما يبتغى ويوطن نفسه بعد قهر النمسة على جعل زعامة ألمانية لبروسية. أجل، ستضم بعض الولايات إلى بروسية، غير أن الفتح لم يظل غاية.
ويتنبه فيه طموح جديد، ويروي الشاهد الصادق كودل أن بسمارك قال له منذ عشر سنين: «إن تاج بروسية وحده هو الذي أكترث له.» فيقول له الآن: «إن أقصى آمالي هو أن أجعل الألمان أمة واحدة!» ومنذ عشر سنين يصبح بسمارك المتحزب دبلميا، فيتخلى عن بعض مزاعمه الرجعية، ولا يشغل نفسه بسوى المعالي معرضا عن المبادئ، واليوم يصير بسمارك وزيرا لبروسية فيتحول إلى قطب سياسي ألماني، ويبدأ بإعمال الرأي في شأن البلاد الألمانية، ومن صفاته الفطرية نظره إلى الأمور من خلال السلالة الملكية، لا من حيث الأصول القبلية، وما كان بسمارك لينقذ نفسه من تلك الفكرة الابتدائية الآن ولا بعد زمن؛ ولذا كان بسمارك أعظم قطب سياسي في عصره؛ ولذا لم يكن بسمارك نبيا.
ومما يسر بسمارك الآن عسر الوضع في النمسة، وترى النمسة أن إدارة ولاية هولشتاين من بعيد ينطوي على مصاعب كالتي تشتمل عليها إدارة المستعمرات، وترغب النمسة في بيع هولشتاين من بروسية وفي بيع البندقية من نابليون بأربعة ملايين ليرة، ولا تجرؤ النمسة على إتيان الأمرين ، بل تدع دوك أوغوستنبرغ يعود إلى سابق فتنه في هولشتاين ناقضة بذلك معاهدة غاستن التي تمنح بروسية صوتا في كلتا الدوكيتين، واليوم يستطيع بسمارك أن يثبت لمليكه وقوع اعتداء على حقوق بروسية، واليوم يستطيع بسمارك أن يحرك ساكن فردريك ولهلم، واليوم يعرب بسمارك عن مقاصده بصراحة عجيبة فيقول لسفير فرنسة بنيديتي: «إذا ما أردت حمل الملك على المطالبة بحق وجب علي أن أثبت له أن الآخرين ينازعون فيه، وإذا أقدم إنسان على تحديد سلطانه أمكنت موافقته على اتخاذ تدابير فعالة.» ويشتكى إلى فينة، ويؤخذ جواب محنق، ويجتمع المجلس الخاص ببرلين في شهر فبراير سنة 1866، ويتكلم الملك بحزم فيقول: «لا نرغب في إثارة حرب، ولكنه لا ينبغي لنا أن نخشى الحرب إذا حملنا عليها.» ويوافق الوزراء وينفرد ولي العهد بالمعارضة، ويقول الملك: «إن تملك الدوكيتين يستحق مشقة حرب، ولنفاوض ولننتظر، أريد السلم، ولكنني عازم على الحرب إذا قضت الضرورة بذلك، والحرب عندي أمر عادل، والآن أدعو الله أن يهديني إلى سواء السبيل.» والله منذ عام ونصف عام قد ألهمه أن يرى أنه لا حق له في الدوكيتين، والآن يرى الجامعة الألمانية والحقوق النمسوية دخلت في ذمة الماضي!
ويزيد بسمارك آمالا، ويجادل ولي العهد الذي «صار حريفا»
2
ويملي كتابا على سكرتير له في ذلك المساء، ثم يجلس قريبا من النافذة ويفضي إلى كودل بما في نفسه قائلا: «إذا عاد منسدورف إلى السياسة السابقة وجب علينا أن نلوح له بالأسود والأحمر والأصفر،
3
وأرى أن كلا من مسألة شليسويغ ومسألة ألمانية مرتبطة في الأخرى بما يحملنا على حلهما معا عند التصدع، وتسفر إقامة برلمان ألماني عن رد الدول الصغيرة والدول المتوسطة إلى حدود ملائمة»، ويسكت بسمارك قليلا ثم يقول: «وإذا وجد بينهم إفيالت
4
قضت الحركة الألمانية عليه وعلى مولاه!» ثم نهض بسمارك بسرعة وغادر الغرفة، وهكذا ينتهي بسمارك إلى حل المعضلات، فهو يفكر فيها ويقلب أمورها مقدارا فمقدارا، ثم يبدو له قياس تاريخي يقابل به الحال بالماضي فيحطم به خصومه، ثم يثب على رجليه ويفصح عن الحل المكنون في ذهنه.
وكلما اقتربت الحرب وضع بسمارك ذلك الحل موضع العمل، وهنالك يشتد حكمه المطلق، وتؤدي حرية النواب في قول ما يحلو لهم إلى عدم استعداد البلاد لقبول عظائم الأمور، وليتعقب النائب العام الأحرار أمام المحاكم بتهمة إساءة حق حرية الكلام إذن، وليعين قاضيان مساعدان لهذا الغرض إذن، ويسود اللندتاغ هياج، و«يمكنكم أن تزينوا قضاتكم بجميع ما في الدولة البروسية من أوسمة؛ فما كانت نجومكم لتغطي الجروح التي أصاب به أولئك الناس شرفهم، وما كانت تلك النجوم لتخفيهم عن أعين المعاصرين والأعقاب! وا أسفاه، إنهم جرحوا شرف وطنهم أيضا! تؤدي تلك الأساليب إلى التشاؤم الذي فيه خطر على الدولة! حتى إن أولي الدعة من الناس أخذوا يرون المستقبل حافلا ببذور الانتقام!» وهذا القول هو ما نطق به تويستن من فوق المنبر، وهذا القول هو للنائب تويستن الذي تعقبته النيابة العامة مع نواب آخرين، وهذا القول هو لتويستن الذي أشار به إلى الثورة عشية شهر الحرب.
ويجيب بسمارك عن ذلك بقوله: «وهكذا نجعل من المجلس محكمة استئناف أرفع من المحكمة العليا! وهكذا يجب علينا أن نمنح النواب من الامتيازات ما يجعلهم فوق أبناء الوطن الآخرين، وهكذا نمتع النواب بحقوق لا يحلم بها أشد الأشراف خيالا! وهكذا تطالبون لأنفسكم بحق كيل الشتائم وصب أفظع الافتراءات!» ويتعذر حل النزاع، ونزاع مثل ذلك هو الأمر الوحيد الذي كان يحفز الملك إلى شد أزر وزيره المكافح، ويحل اللندتاغ ويرضى بسمارك بالوضع.
والخطوة التالية هي الاطمئنان إلى فرنسة وإيطالية، ويجب على الملك أن يرسل كتابا إلى نابليون الثالث عند تأزم الأحوال إجابة إلى سابق رغبة في نابليون، وسيبلغ السفير إلى نابليون الثالث كل شيء، ويحل الوقت، ويقول غولتز للإمبراطور: «إننا لا نرغب في امتلاك الدوكيتين فقط، بل نرغب أيضا في اتحاد ألمانية الشمالية بزعامة بروسية.» ويعد الإمبراطور بالحياد، والإمبراطور لما كان يخامره من شك في وجود خطط أخرى لدى بروسية يصرح بأنه سيطالب بأملاك على الرين عند توسع بروسية بأكثر من ذلك، ويقوم بسمارك بالمفاوضات حذرا، ويرسل موضع ثقته، بليشرودر إلى باريس، وينقل بليشرودر رغبات بسمارك إلى روتشلد لكي يوصلها هذا إلى الإمبراطور، ومن ثم ترى كيف ينتفع بسمارك بصلاته الخاصة، ومن ثم ترى كيف ينتفع بسمارك حتى باليهود، ويمضي وقت قصير فيتكلم تيار في مجلس النواب بباريس عن قرب اتحاد دول شمال ألمانية فيقول إن رجحان فرنسة يتوقف على بقاء ألمانية مجزأة، وتهتز أركان المجلس بالهتاف لهذا القول، ويرتعب نابليون الثالث، ويبحث من الآن عن تعويض النمسة بسيليزية في مقابل شليسويغ منعا لزيادة بروسية قوة، وهكذا تنتقل تلك المساومة حول بعض الأقاليم من وزارة إلى وزارة ومن برلمان إلى برلمان، وهكذا تطفح جميع دواوين الشفرة
5
بالمذكرات المتبادلة عن الرغائب وعن سلوك الدول العظمى بعد حرب يمكن ألا تشهر.
ويزور برلين في ذلك الحين جنرال إيطالي، ويرى بسمارك من المصلحة أن تطلع فينة على المعاهدة السرية بين بروسية وفلورنسة؛ لما يؤدي إليه ذلك من احتجاج النمسة بشدة ومن غيظ مليكه، ويطلع على خططه فرانجل الشائب المشهور بإفشاء كل ما يسر إليه من فوره، ويقول بسمارك للجنرال الإيطالي: «أظن أنني قادر على جعل الملك يشهر الحرب، ولكنني لا أستطيع وضع يدي في النار!» وعلى ما كان من تحذير جميع الأجانب ببرلين لذلك الجنرال الإيطالي من مكايد بسمارك لم يقع أي سوء تفاهم في فلورنسة، ولما تصاعدت الشكاوى من فينة عزمت إيطالية على محالفة بروسية، وللطلاينة أن يستولوا على البندقية عند استيلاء البروسيين على بوهيمية، وهذه السفتجة
6
واجبة الأداء في ثلاثة أشهر، وما كان ليزعج ذلك الألماني الملكي «بسمارك» أن يستعين بالأجنبي ليضرب آل هابسبرغ الألمان.
ويأبى الملك ولهلم أن يوافق حينما استعد حلفاء بسمارك للإمضاء، وتخور أعصاب بسمارك، ويقول رون: «يشكو صديقنا من تشنج شديد في المعدة منذ يومين بعد أن نهكته أعماله الجبارة في الليل والنهار، وهو من انحطاط المزاج ومن الهياج والكدر ما صار معه في خطر؛ ولذا أجده يحتاج إلى جمع قواه الأدبية وإلى الخلاص من كل ألم بدني .» وفي ذلك الدور يفكر ويفكر معه رون في الاستقالة جديا، ولكن كلا الرجلين يتمالك بعد نهارين، ويكتب بسمارك إلى صديق له قوله: «تعرف من تجاربك الخاصة ما هي الحياة، وتعرف تكاليفها وحوادثها وغوائلها، وتعرف قلة الوقت ونقص القوة، ولا تظن أن القنوط هو الذي يملي علي ما أقول، فبالحرب أومن وإن كنت لا أدري هل أراها، ولكن الضنى يهلكني.» ولهجة مثل هذه مما لا يعرفه هذا المكافح، فلسفة فزهد فنصب.
ويحيط أعداؤه به إحاطة السوار بالمعصم، وتدب القوة فيه، ويهجره أكثر المحافظين في الساعة الراهنة، ويرى المحافظون تعذر محاربة آل هابسبرغ الشرعيين، ويبدو لهم أن الذي قاوم رادوويتز منذ ست عشرة سنة تحول إلى رادوويتز جديد، ويجلس صديقه وحاميه ذات حين لويس غرلاخ بالقرب من الموقد مساء فيلومه بين ماء الصودا والسيغارات مهددا إياه بلعنة الله، ويهاجم غرلاخ سياسة بسمارك في جريدة «كروززايتنغ»، فيقول بسمارك لهذا الشيخ البياتي مغاضبا: «لم أبلغ من الحماقة ما أورط البلاد معه في الحروب! وأسير وفق وجهة نظري في هذه المسألة من غير أن يكون للآخرين أي أثر في، وأدبر الأمر مستعينا بالله، لا بعد استشارة أعضاء حزبي.» ويبدو - مع هذا - «فظا شاحبا حادا هائجا بعيدا من القول اللين» ويعرب غرلاخ عن أمله بألا يؤثر هذا الخلاف السياسي في صداقتهما فيلزم بسمارك جانب الصمت، والسكوت في هذا المعرض رفض، وبسمارك لم يكلم غرلاخ بعد ذلك قط.
ويعمل ولي العهد وزوجه في ذلك الوقت، وتعمل أوغوستا أكثر من كل إنسان، ولم يأل الجميع جهدا ضد الحرب، أي ضد بسمارك، ويحصل دوك صديق على رسائل سلمية من الوزير النمسوي ليوصلها إلى الملك، وتقدم عرائض إلى الملك ولهلم من أخلص رعاياه إليه ومن الأمير شارل وسنفت بيلساخ وبوديلشوينغ وغرلاخ ومن جميع البياتيين، حتى الاتحاد المقدس يبعث من القبر، وتبصر غليانا عاما، ويظل رجل واحد هادئا بين الاضطراب، فلما نفخ في صور
7
بسمارك الحربي صرح مولتكه بأن الأنباء عن استعداد النمسة العسكري مبالغ فيها، وبسمارك مع ذلك لم يدخر وسعا في الاستمرار على سياسة حافزة للنمسة إلى مبادرة الهجوم؛ وذلك لما يعلمه من كون الملك لا ينزل الضربة الأولى، ولو خوفا من زوجه، ويروي بسمارك أن أوغوستا كانت في ذلك الوقت من اللاوطنية ما كانت تقع معه «مفاوضات مريبة في برلين تحت رعاية جلالتها على حين كان القتال شديدا على حدود بوهيمية.»
بسمارك في سنة 1868.
وتأتي ولية العهد ما هو أسوأ من ذلك أيضا؛ فقد كتبت في نهاية شهر مارس إلى والدتها بلندن تقول لها: «والدتي العزيزة، يروقك أن تعرفي أن الرجل الخبيث يتميز من الغيظ لرغبة الملك في كتابة فريتز إليك، والأمر هو أن الخطط تتخالط وتغدو غير مجدية، إلخ ... والخلاصة أن الرجل ساخط، وهو لا يألو جهدا في منع كل تدخل، وأرى أن تعلمي هذا؛ ولذا أكتب إليك مباشرة، وإن كان هذا من قبيل الدس الذي أبغضه.» وما كان هذا دسيسة، بل هو خيانة، حتى إن الأميرة فيكتورية، وإن فتئت تكون إنكليزية، وجب عليها أن تعرف أن من تقاليد وزراء إنكلترة في كل زمن عدم السماح للأمراء المنتزحين
8
بالتدخل في شئونهم.
وتساور بسمارك حمى من الهيجان، ويروي شاهد عيان أنه كان وهو جالس حول مائدة الطعام يضع يده على جبينه في الحين بعد الحين، فيقول بصوت خافت: «أرانا صائرين إلى الجنون!»
وماذا يصنع الأمراء الألمان؟ أيدعون بروسية تقودهم؟ يواثب بسمارك وحي سعادة في ذلك الحين فيتذرع بأدعى الوسائل إلى الحيرة؛ كسبا للرأي العام؛ فهو يقترح على الجامعة الألمانية دعوة مجلس ألماني تمثيلي منتخب بالتصويت العام انتخابا مباشرا! أجل، مات لاسال، غير أن إحدى فكره العظيمة تبعث بغتة على هذا الوجه، وبسمارك يقول في مشيبه: «نظرت إلى ضرورة الحال في أثناء مكافحة الخارج فلم أتحرج في الالتجاء إلى الوسائل الثورية، فأبشر بالتصويت العام الذي هو أقوى سهم لدى الأحرار؛ وذلك للقضاء على كل ميل في الممالك الأجنبية إلى وضع إصبع في عجتنا
9
القومية، وليس على الإنسان أن يدقق كثيرا في نوع السلاح الذي يستعمله عند نشوب معركة كتلك يتوقف عليها محياه ومماته، والأمر الوحيد الذي يضمن لنا الفوز هو أن نستقل عن الخارج.»
واسمع قول النائب فون بسمارك-شونهاوزن ضد التصويت العام منذ ثماني عشرة سنة: «لا يصلح رطل من اللحم البشري والعظم البشري أن يكون قياسا.» ويجيب فينكه عن ذلك بقوله «أرواح!»
والآن بتلك الخبطة يشهر بسمارك الحرب على الألمان، والآن يقابل ذلك بالضحك، والآن أيجرؤ هذا الذي ساس بلاده سياسة غير دستورية مدة أربع سنوات وبلا ميزانية ومثل الطغاة؛ أن يسخر بالألمان بعرض أمر يعد دليل خوفه على العموم؟ ولو أعلنت كلمات ولي العهد التي نطق بها في تلك الايام لهتف لها جميع الناس، وهي: «ويلعب بسمارك بأقدس الأمور لعبا آثما، فلا ينبغي لوزير شديد الخصام مثله أن يحل المعضلة الألمانية»، ولم يعلم ولي العهد أن بسمارك في مذكرته التي كتبها ببادن سنة 1860 أوصى الملك بأن يجمع برلمانا ألمانيا! ويكتب تريتشكه، ويصفق له نصف ألمانية، قوله: «كلا، ثم كلا، فلا ينبغي لتلك الفكرة التي يحملها الألمان في صدورهم منذ سنوات كثيرة أن تبرز على مسرح السياسة العملية كالروح التي تدعى وقت الخطر، ولا ينبغي لتلك الفكرة أن تظهر في الميدان قبل أن تعد إعدادا ناضجا في بروسية بنظام وفي للدستور، ومستند إلى عزم الأمة الألمانية الثابت، وموجب لابتهاج الرأي العام الألماني! وما أشد ما اعترى الشعب من الحيرة تجاه هذا الانقلاب المفاجئ في الحكومة البروسية!»
وهكذا تبصر العاطفة الألمانية تطغو على العقل، والعقل يشير بقبول ما كان يطالب به منذ زمن طويل، وفيما كان جميع خياليي الألمان يبكتون فيقولون: «كلا، لا يجوز أن يسار على ذلك الأسلوب.» كان بسمارك قاهرا لنفوره من البرلمانات، سائرا وراء العقل.
ولكن أذني ذلك اللاشعبي لم يؤذهما ذلك بمقدار ما صدر عن فينة من دعوة إلى السلم؛ ففي ذلك الحقل أيضا حدث تحول مفاجئ نحو السلم، ومن ذلك الحقل يخرج اقتراح داع إلى نزع السلاح من قبل الفريقين، ويمرض بسمارك الذي أصيب بتوتر الأعصاب عند سماع ذلك، فلا يستطيع أن يخاطب الملك في ذلك إلا كتابة، وهنالك يقرر فيكتور إمانويل أن يبرز في الميدان تحت رعاية نابليون الثالث، وتجيب النمسة عن ذلك بإعلان النفير العام وجمع جميع جيشها، لا جمع جيش كاف لمواجهة إيطالية وحدها؛ وذلك لما علمته منذ زمن من وجود معاهدة سرية، وتعود إلى بسمارك عافيته في الحال، ويشير بإصبعه - متهما - إلى أولئك «المخادعين» في فينة، ويبدو الملك في المجلس الخاص حازما أكثر مما في كل وقت، ولا يتطلب قفزه أكثر من وخزه قليلا.
ألتمس منكم - يا صاحب الجلالة - أن تتفضلوا فتثقوا بأن مما يخالف مشاعري، وهذا ما أقوله عن إيمان؛ أن أحاول، ملحا، أي تأثير في قراراتكم المكرمة المطاعة حول مسائل الحرب والسلم، فأكتفي بترك الأمر إلى الله القادر حتى يلهم قلب جلالتكم إلى ما فيه سعادة الوطن، وذلك مع الدعاء لكم أكثر من تقديم نصيحة إليكم، وليس لي، مع ذلك، أن أكتم عن جلالتكم اعتقادي بأن خطب الحرب يغدو أشد خطرا فيما بعد، وفي ثلاثة أشهر على ما يحتمل، وفي أحوال أقل ملاءمة، إذا ما حافظنا على السلم في الساعة الراهنة، وما كانت السلم لتدوم بغير عزم الفريقين عليها، وإن رجلا - كخادم جلالتكم المخلص - اطلع على باطن السياسة النمسوية مدة ست عشرة سنة لا يشك في أن عداء فينة لبروسية صار عاملها السياسي وحافزها الرئيس، ولا يلبث هذا الدافع أن يتجلى بأشد مما هو عليه الآن عندما تصبح الأحوال أكثر ملاءمة لوزارة فينة مما هي عليه الآن، وسيكون أهم عمل تأتيه النمسة هو أن تصهر الأحوال بإيطالية وفرنسة في قالب أعظم مناسبة.
وهكذا تتوقف تعبئة الملك على تعبئة الدعاء والرب والإيمان، ويصيب بسمارك المحز، ويذكر الملك بأيام أولموتز حين تخاصم هو وإياه منذ ست عشرة سنة بسبب أولموتز، وترتعش يد الملك ولهلم عندما لاح له إذعانه للمرة الثانية، ويكتب قوله: «يمكنك أن تقول لمانتوفل، إنني أتنزل عن العرش من فوري إذا ما همس بروسي إلي بكلمة أولموتز!»
وبعد لأي يأمر الملك بالتعبئة في أول شهر مايو على وجه لا يعني الحرب، وتغادر أوغوستا برلين محتجة، ويصرح ولي العهد، الذي هو ضابط من درجة عالية، بأنه لا مسوغ لحرب يقتل الأخ فيها أخاه، فيضحي عليلا على ما يحتمل، ويلوح إمكان ضياع سيليزية وولاية الرين، وتشتاط الملكة الأيم البافارية الأصل غيظا، ويعارض الحرب بعض قدماء الضباط الذين حدثهم آباؤهم عن معركة الأمم، والآن حين اتفق بسمارك والملك على الحرب تبصرهما واقفين وحدهما، والآن يقول الملك لقارئه: «أعرف أن جميعهم ضدي، ولكنني سأستل سيفي على رأس جيشي مفضلا الهلاك على خضوع بروسية في هذه المرة!» والآن يقول بسمارك: «أعرف أنني ممقوت على العموم، ولكن الحظ متقلب تقلب رأي الناس، وأجازف برأسي وألعب لعبتي وإن أسفرت عن سوقي إلى المشنقة، ولن تبقى بروسية ولا ألمانية كما كانتا، ولا بد لهما من سلوك تلك السبيل، وصولا إلى ما يجب أن تكونا عليه، ولا تجد سوى هذه السبيل.»
أجل، إنه يخاطر برأسه، ويترصده سفاح، ويترقب خروج هذا الوزير البغيض من بيته حتى يغتاله، وفي اليوم السابع من مايو يغادر بسمارك منزله للمرة الأولى منذ المرض الذي ألم به قاصدا الملك، ويرجع إلى داره من زقاق أونتردن لندن الأوسط (تحت الزيزفون)، ويسمع إطلاق بضعة عيارات نارية عليه من مكان غير بعيد، ويلتفت بعنف فيرى شابا يكاد يعيد محاولته وينقض بسمارك عليه بسرعة البرق ويمسكه من معصمه بيده اليمنى ويمسكه من رقبته بيده اليسرى، ولكن الجاني إذ كان مزمعا على القتل تناول المسدس بيده اليسرى من يده اليمنى وأطلق عيارين ناريين آخرين من كثب؛ فأما العيار الأول فقد أخطأ هدفه وأصلى معطفه بفضل تجنبه المفاجئ، وأما العيار الآخر فيخيل إليه أنه بلغ غايته، ويجمع بسمارك قواه بعد ثانية ضعف وهز فقار فيداوم على إمساك الجاني من عنقه حتى مر عابر سبيل وجنديان فقبضوا عليه، ويبصر بسمارك مع الحيرة أنه لا يشعر بغير ألم قليل فيسير ماشيا إلى بيته حيث تنتظره حنة وبعض الضيوف لتناول الطعام معا.
ويدخل بسمارك غرفته من غير أن يراه أحد، ويفحص ثيابه قبل كل شيء، ويرسل إلى الملك تقريرا مختصرا، ثم يدخل البهو ويقبل جبين زوجه ويقول لها: «لا تجزعي، يا عزيزتي؛ فقد أطلق شخص نارا علي فلم أصب بأذى والحمد لله.» وحول المائدة يقص الخبر كما لو كان حادث قنص، «وإني لما كان من سابق عهدي بالصيد قلت في نفسي: لا بد من أن أكون قد أصبت بالطلقتين الأخيرتين، وإنني قد هلكت بهما، ولكنني استطعت أن أسير إلى البيت ماشيا، وفي البيت فحصت الأمر فوجدت ثقوبا في معطفي وسترتي وصدرتي وقميصي، ووجدت القذيفة قد زلقت على ثيابي التحتانية الحريرية من غير أن تخدش الجلد، وشعرت بألم في ضلعي نتيجة للإصابة، ولكن هذا لم يلبث أن زال. ومما يقع في أثناء صيد الفرائس الكبرى أن تلتوي إحدى الأضلاع التواء لينا نتيجة لصدى صدمة الإصابة، ويعرف هذا بزوال الشعر من ذلك المكان، وأفترض انحناء ضلعي بمثل ذلك الفعل، ومن المحتمل أيضا ألا يكون للطلقات جميع قوتها لما كان من استناد فوهة المسدس على معطفي رأسا.»
يسرد بسمارك هذه القصة بهدوء العالم الطبيعي، وذلك من غير أن يفسر إنقاذه لنفسه ببسالته الفائقة وبالوجه الذي هجم به على المعتدي، وبسمارك قد أمسك رقبة المعتدي بما فطر عليه من البأس فأمكنه في تلك الساعة أن يرفع قدح راحه برصانة، ولم يلبث الملك أن حضر فعانق وزيره، ثم أظهر الأمراء مختلف العواطف، ثم تجمع جمهور غير قليل أمام البيت، فخرج بسمارك وزوجه إلى الشرفة، وبسمارك هو الذي كان أبغض رجل إلى الناس في جميع بروسية فلم يهتف له جمهور فيما مضى، وبسمارك لما كان من إطلاق ديمقراطي النار عليه في هذا النهار فلم يصبه؛ حياه الديمقراطيون، وبسمارك ينطق بكلمات قليلة ويهتف بحياة الملك، والجاني ينتحر في اليوم التالي بالسجن، والجاني يسمى كوهين بلند، وهو يهودي من طلاب جامعة توبنجن، وهو نصف إنكليزي مولدا فأراد أن يقتل عدو الشعب فيحول دون شهر الحرب، ولا مراء في أن بسمارك أسف على أن الانتقام فاته.
ولو كانت بنية هذا الرجل من فولاذ ، ولو كانت بنية هذا الرجل غير مرنة كروحه، فخر صريعا لأمكن اشتداد الكفاح بين بروسية والنمسة لزمن ولأمكن عدم اشتعال الحرب الألمانية؛ وذلك لأن هذه الحرب ليست حرب شعب، ولا حرب وزارة أيضا، بل هي حرب وزير قطر الوزارة والملك والقادة وراءه، ولو أقعده المرض عن العمل في تلك الأسابيع «لأسفر هذا عن خسران البروسيين لمعركة كولين مرة ثانية»، كما قال رون.
وعند كودل أن بسمارك بعد محاولة قتله «شعر بأنه وسيلة الله المختارة وإن لم يصرح بذلك»، وكودل هذا كان مراقبا ثاقبا فيرى الوزير يوما بعد يوم، فلا نشك في شهادته، وبسمارك قد حاق به خطر قاتل قبيل حربه ووقتما كان لا يعرف كيف تنتهي، وبسمارك قد نجا من هذا الخطر بما يراه معجزا، وتقف واقعية بسمارك ذات حين، ويخيل إليه أن يد الله تعمل.
الفصل التاسع
والفاصلة بين إطلاق المثالي لناره وقذيفة الواقعي على إخوانه من الألمان خمسة أسابيع، «والتعويض»، هذا ما صاحت به باريس حتى قبل أن يتحرك الجيش الألماني، ويخامر فؤاد نابليون الثالث ندم على سياسته تجاه حملات تيار العنيفة، ويمكن أنه ظل مؤمنا بالوعد الزائف الذي نقله الإيطالي إليه من بسمارك، «ولو نيط بي الأمر لوددت - على ما يحتمل - أن أخون بعض الخيانة وصولا إلى غاية جميلة فأقطع فرنسة جزءا من بلاد الرين ومن جنوب الموزيل ما دمت بروسيا أكثر من أن أكون ألمانيا، ولكن الملك لا يأذن لي في ذلك كما ترون»، وفي تلك الأسابيع يمزح بسمارك فيشبه نفسه بمروض الأسود ويشبه نابليون الثالث بالإنكليزي «الذي يقف أمام قفص الأسود في كل مساء منتظرا بدم بارد حل الوقت الذي تفترس فيه هذه الوحوش مروضها.»
وتمضي سنتان أو ثلاث سنوات فيدهش الملك من كشف تم فيؤكد له بسمارك دقته «حتى عند ظهور سياستي غير ملائمة لهم، والواقع أنني لا أستطيع أن أحبط سياسة نابليون إلا بإسماعي بنيديتي والطلاينة استعدادي للابتعاد عن سبيل الفضيلة، وعكس هذا وضعي تجاه مولاي الرءوف الذي لا بد له من كبير وقت لإقناعه، وتعرفون - يا صاحب الجلالة - أنني لم أحاول صنع شيء من ذلك، ولكن مما يفيدنا أن نحمل الفرنسيين على اعتقادهم محاولتي ذلك».
وفي تلك الأسابيع الأخيرة يحاول كل إنسان أن يحمل الملك على الإعراض عن بسمارك، وتتراكم لدى الملك كتب التحذير من قبل أمناء سره السابقين، ويتطرف بتمان هولويغ، وهو الذي أبدى حفيده لحفيد الملك مثل نصحه ذات يوم قادم، فيجادل حتى في صدق بروسية بسمارك، فيقول: «يتعذر كل تفاهم ما بقي هذا الرجل بجانب جلالتكم، وما ظل موضع ثقة جلالتكم، وما غدت جميع الدول غير واثقة بجلالتكم نتيجة لأفعاله، أوشكت الساعة أن تدق، فإذا ما ألقي بزهر النرد فات الوقت.» وما كان كاتب ذلك الكتاب ليعرف أن الساعة دقت، وما كان الملك ليعرف أنه منساق، والواقع أن النمسويين عندما دعوا أعيان هولشتاين في أول يونيو استطاع بسمارك أن يتهمهم بأنهم نقضوا العهد وأن يثير بذلك غضب الملك ولهلم! ويقول هذا الملك لأمير من أمراء الكنيسة أتى ليحذره: «إن النمسة تتذرع دوما بالغدر والكذب والخداع، ودعوت الله أن يوفقني لما يريد، ووضعت شرف بروسية نصب عيني، وسرت وفق ضميري!» والحق أن هذا الملك الطيب يعتقد ما يقول، على حين يستلهم بتمان هولويغ إله الألمان ذلك، فينتهي إلى أن الشرف الألماني لوث، وعلى حين يستلهم رجال شواطئ الدانوب ذلك الإله بشعائر مختلفة عن شعائر أولئك قليلا داعين إياه أن يحفظ شرف آل هابسبرغ.
حتى إن بسمارك - الذي أعياه العمل - يستفتح الكتاب المقدس فيقع بصره على المزمور التاسع حيث يقرأ: «أفرح وأبتهج بك، أرنم لاسمك أيها العلي، عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون ويهلكون من أمام وجهك؛ لأنك أقمت حقي ودعواي، جلست على الكرسي قاضيا عادلا»، ولم تكن حنة لتدهش من شعور زوجها بهذه الكلمات، ب «سكينة في فؤاده فيمتلئ أملا».
حتى إن كودل الذي روى ذلك لم يسأل في نفسه - كما يلوح - عن سير منسدورف في بلهوسبلاتز وعن سير بوست فوق رصيف بروهلشن على ذلك المنهاج، فيفتحان تلك الصفحة من التوراة ويفسران تلك الكلمة بما يعتقدان به أن الله معهما.
ولم يلاحظ أحد من أولئك أن ذلك النصراني الذي تقمصت فيه الفروسية والموت والشيطان كان - وقتما يستلهم الرب - يفاوض قائدا مجريا في إمكان مقاتلة فرقة هنغارية لملك المجر، وأن ذلك النصراني بسمارك أقنع مولاه الملك ولهلم بأن يستصوب هذه المؤامرة مع ثائري سنة 1848.
وبينما كان الجيش البروسي يستولى على بوهيمية كان بسمارك يحرض التشيكيين على الخيانة العظمى، ويذيع بسمارك منشورا يخاطب فيه: «أهل مملكة بوهيمية المجيدة» فيوكد لهؤلاء الأهالي أنه عند النصر «يكون الوقت من الملاءمة ما يحقق فيه البوهيميون والمورافيون أمانيهم القومية كما اتفق للمجر».
وينحاز معظم أمراء الألمان إلى النمسة في ذلك الحين، وتنفصل بروسية عن الجامعة الألمانية، ويوجه إنذار إلى أولياء الأمر في هس وناسو وهانوفر وسكسونية أعطوا فيه مهلة أربع وعشرين ساعة للتفكير، ويدعو بسمارك في تلك الأيام صحافيا باريسيا إلى الغداء مع عدم معرفته إياه سابقا، ويحادثه مليا ويمازحه ويناقشه في مذكرات باريس، ويتخذ من الوضع المطمئن ما يسرع معه الضيف إلى وصف ذلك في برقية يرسلها إلى باريس في ذلك المساء، وفي ليلة الإنذار يتنزه بسمارك وسفير إنكلترة في حديقة وزارة الخارجية، ويتكلم بسمارك معه عن أتيلا فيلوح أنه اكتشفه في ذلك الوقت لألمانية، «والخلاصة أن أتيلا كان رجلا أعظم من مستر جون برايت في مجلس نوابكم!» ويحل منتصف الليل، وينظر بسمارك إلى ساعته فيقول: «الآن تدخل كتائبنا هانوفر وهس، ويدخل الكفاح دورا جديا، ويحتمل أن تهزم بروسية، فثقوا بأننا سنقاتل ببسالة، ولا أرجع إذا ما غلبنا فسأقتل في آخر هجوم، ولا يموت الإنسان سوى مرة واحدة، والموت خير من الغلب.»
ويمضي أسبوعان، ويقرر كل أمر في الشمال، وترد أخبار النصر، ويبدأ فريق من الشعب بتغيير رأيه، ولم يحدث غير قليل هياج عند محاولة قتل رئيس الوزارة، بل زينت جثة الجاني المثالي بالأكاليل سرا بما كان لا يتفق لجثة بسمارك لو قتل في أونتردن لندن، وبيعت صور هزلية مشتملة على ملامح ولهلم تل
1
وممثلة لهذا المنتقم البطل وهو يطلق النار على بسمارك فيمنعه الشيطان من ذلك باعتراضه بينهما قائلا: «هو منتسب إلي!» والآن بعد ستة أسابيع يتجمع الجمهور أمام القصر هاتفا لولهلم الذي كان في أيام مارس قد فر من هذا القصر إلى جزيرة في الهافل،
2
ويقف الملك بجانب رون وبسمارك شاكرا لرعاياه، ويعود بسمارك إلى منزله راكبا عربته فيحل الجمهور الخيل منها ليجرها بنفسه، ويجتمع ألوف الناس أمام بيته فيهتف بعضهم قائلا: «عاش القائد المقدام في ميدان الدبلمية!» ويقف بسمارك مع زوجه بالقرب من النافذة فلا يسعه إلا أن يقول: «لقد ظهر الآن أن الملك كان على حق!» ويقصف الرعد فلا تسمع كلمة بسمارك الأخيرة بفعل الهزيم،
3
فيقول: «السماء تحيينا»، ولطائف مثل هذه لم تنشب أن انتشرت من العاصمة إلى الخارج فجعلت رجل الشارع يدرك أمر بسمارك أكثر من قبل، ولآراء بسمارك من البرهان بها ما ليس لأي إعلان كان.
ولم ينشد بسمارك حظوة لدى الشعب، واليوم يمكن بسمارك أن يزدريها هادئا، واليوم يبحث بسمارك عن أساس مكين لحل النزاع، فيرى أن يصار إلى انتخابات جديدة، وتمر ثلاثة أيام على إطلاق هذه القذيفة فيدعو إليه اثنين من زعماء المعارضة، ويأتي الآن لزيارة عدوه بسمارك تويستن الذي اتهم أمام القضاء بتحريض من بسمارك من أجل خطبة في المجلس النيابي، ونرى في عمل تويستن هذا دليلا على حس الطاعة لدى البروسي عندما يحيق الخطر بالبلاد، وإن ترك ينتظر عدة ساعات، ويعرض بسمارك الوضع عليه ثم على أونروه الذي هو من الأحرار، ويكلم أونروه في الحديقة في ليلة صيف باردة لما ليس لدى بسمارك من ساعات فراغ في النهار، ويشير أونروه إلى خلو البيان من أي ذكر للرجوع إلى حكومة دستورية، وهنالك يهيج بسمارك فيقول: «يظن الناس أنني قادر على كل شيء! يواجهني من المصاعب ما لا يتصوره غير القليل! لا أستطيع إقناع الملك بأن يصنع كل شيء أحبه! قبلنا ذلك فقال الملك: إن البيان سيئ سوء الدستور! يمكن أن يؤخذ بعض كتائبي بعد الحرب إذن ! لا أفعل ذلك!»
ويعدو ذلك حد الذريعة؛ وذلك لأن الصراحة الهائجة التي كلم بها بسمارك هذا الخصم وهذا اللاملكي عن الملك؛ تدل على ما يجب عليه أن يكافح به الملك.
أونروه :
يشابه وضعنا الراهن ما كانت عليه بروسية قبل حرب السنوات السبع ... وترانا ملزمين بتبجيل الملك مع ذلك.
بسمارك :
الوضع هو هو، ولكن بغير فردريك الأكبر! حقا! يجب صنع ذلك مع ذلك! أفاخر بأنني استطعت أن أحمل ملك بروسية على إمضاء مرسوم قائل بدعوة برلمان ألماني، ولكن سياسة كهذه لا يمكن أن تكون نافذة بالخطب والأنظمة، بل تقرر بنصف مليون جندي، وليست محاربة هنغارية وروتينية وسلوفاكية هي قتال الأخ لأخيه!
أونروه :
يحار كل واحد من بقاء العلم متموجا فوق القصر.
بسمارك :
سألت الملك غير مرة عند إصدار الأوامر بالانطلاق، فأجاب غاضبا بأنه سينظر في ذلك، ومن ثم ترى أنني لا أصل إلى ما أود في كل وقت، والملك في السبعين من سنيه، والملكة تعاكسني!
أونروه :
وماذا يحدث إذا ما نكسنا؟
بسمارك :
هنالك يتنزل الملك عن العرش.
وتدل هذه الأجوبة التي نطق بها كالبركان على اندفاع السباح الذي كاد يغرق في الماء، والذي يهم الآن هو الوصول إلى أقصى شاطئ، وفي هذا سر اقتضاب عباراته، ويسلم الملك ثلاث مرات في نصف الساعة تلك، ويعلم بسمارك جيدا أن أونروه سيقص ذلك على زملائه في الصباح، ويعرف بسمارك مصيره عند الهزيمة، وتنزل الملك عن العرش، فلما كلمه ولي العهد عن احتمال الانكسار جاوبه عن ذلك بصولة: «وماذا يهمني شنقي إذا ما ربط الجلاد بالحبل عرشكم بألمانية الحديثة ربطا وثيقا؟»
وبعد ثلاثة أيام من الانطلاق يقف بسمارك مع الملك على ذروة تل قريب من كونيغراتز،
4
والذي يهز نفوس الأعقاب من حديث هذه المعركة هو قصة مصير القائد المقهور بنديدك الذي أجرى عليه الإمبراطور فرنسوا جوزيف، بارد الدم، شيئا لا مثيل له في تاريخ الشرف الإنساني، وتميل كفة الحرب إلى بروسية بوصول الفيالق التي يقودها ولي العهد في الوقت المناسب، ويروى المتفنن كودل: «أن بسمارك كان راكبا جوادا كميتا
5
ضخما، وكان لابسا معطفا رماديا، وكانت عيناه تلمعان من تحت خوذته الفولاذية، وكان ذا منظر عجيب يذكرنا بقصص عمالقة الشمال القدماء التي قرأتها في طفولتي.» غير أن هذا البطل الأسطوري لم يلبث أن زال، فيظهر من تحت معطفه رجل ذو مشاعر بشرية، وذلك حين يقول بسمارك لكودل بصوت خافت وبين الجثث المحطمة: «إن مما يجعلني أشعر بالمرض إمكان وقوع هربرت صريعا هنا ذات حين أيضا.»
ويبقى بسمارك واقفا بين القنابل المتساقطة، ويضرع بسمارك إلى القائد - على غير جدوى - أن يجعل الملك خارج خط النار؛ فما كان جواب رون إلا قوله إن الملك يمكنه أن يذهب راكبا حيث أراد، «والقادة إذ كانوا فريسة الخرافة القائلة إنه لا ينبغي لهم - جنودا - أن يذكروا للملك أمر الخطر، وإني لما كان من عدي قائدا، أرسلوني إليه، وقد تمرغت في الدم، وبالقرب منه، مفرزة مؤلفة من عشرة مدرعين وخمسة عشر حصانا»، ويدفع حصانه نحو الملك ويقول له: «إذا ما أصابتك - يا صاحب الجلالة - قذيفة هنا فسقطت زال كل سرور بالنصر، فأتوسل إليك أن تتفضل فتغادر ميدان القتال!» ويسير الملك ببطوء نحو الشمال ويمر من طريق قاطعة لأخدود، ويتوارى من بنادق العدو وراء سلسلة من الأكمات، وكان الملك في السبعين من عمره، ولم يحدث أن شاهد معركة منذ خمسين عاما، ولا جرم أن بسمارك ساورته مشاعر مختلفة حينما حرض الملك على الخروج من خط الخطر، فمن الراجح أن يكون قد تمثل له تهيب الملك الراحل فردريك ولهلم، وأن يكون قد فكر في الرجل الذي يخلف ولهلم إذا ما قتل، وأن يكون قد فكر في الله أيضا، وعن الملك وبعد المعركة كتب يقول لزوجته هادئا متجملا: «ولكنني أفضل ذلك على أن أراه مفرطا في الحذر.»
وفيما كانت عزائم العدو تنحل ذهب بسمارك إلى مولتكه وسأله: «أتعرف طول المنديل الذي أمسكنا طرفه؟»
مولتكه: «لا أعرف ذلك تماما، وإنما أمسكنا ثلاثة فيالق، ومن المحتمل أن يكون ذلك جميع جيش العدو.»
وينال نصر حاسم، ويلخص ضابط مرافق قضية بسمارك تلخيصا رائعا بقوله: «إنك - يا صاحب الفخامة - رجل عظيم، فلو تأخر ولي العهد لكنت أكبر الفجرة!» ولم يضق صدر بسمارك بهذه الكلمة مع إحساسه، بل ضحك كثيرا.
الفصل العاشر
«العالم ينهار!» هذا ما صاح به سكرتير الدولة في الفاتيكان عندما وصل الخبر إلى رومة في الصباح التالي، وتغدو بروسية منذ ذلك الحين حليفة أمير اللصوص فيكتور إمانويل وتنال معه نصرا على صاحب الجلالة الرسولي، فيعد ذلك إثما قاتلا، وفي يوم المعركة ينتخب في بروسية مائة وأربعون نائبا محافظا قبل معرفة خبرها، وفي اليوم التالي يكلم بسمارك ولي العهد حول الصلح، وستهدف خطبة العرش إلى السلم، «ومع ذلك سنؤلف جامعة لدول شمال ألمانية؛ لتكون أول خطوة نحو الوحدة الألمانية»، والخطة واضحة في ذهنه، ويسنتجد بولي العهد تنفيذا لها؛ فقد هز ذينك الرجلين ما قاما به من عمل جليل معا على الرغم من نفسيهما، وتقرب معجزة الساعة الراهنة بينهما، ويسودهما ضرب من التفاهم الصامت، ويلبي ولي العهد دعوة بسمارك إلى العشاء للمرة الأولى منذ سنين.
والآن يعرف بسمارك حقيقة الشعب الذي لم يعلم عنه شيئا عمليا منذ أيام شونهاوزن، وكيف رآه؟ «إن رجالنا روع
1
طوع شجعاء ودعاء محبون للنظام، وكان رجالنا جياعا لابسين ثيابا مبتلة نازلين أرضا مخضلة، وكان نومهم قليلا وأنسهم كثيرا، ولا يعرف رجالنا النهب ولا الحرق، ويدفع رجالنا ثمن ما يبتاعون، وهم من الخبز الكارج
2
يأكلون، وليتأصل خوف الله في أفئدة الشعب خشية زوال تلك الأمور»، هذه هي الكلمات التي قالها بسمارك في كتاب أرسله إلى زوجه، وهي كلمات صدق ووليدة ملاحظة، فكأن بسمارك يتكلم بها عن مزارعيه، وكأن بسمارك الشريف يطلب بها طاعة وتضحية قبل كل أمر، وكأن بسمارك السري يرى الفضائل التي تبهره صادرة عن تقوى الله فلا تفسر بين البروسيين بغير هذا، أجل إنه مخلص في تأثره، ولكنك لا ترى في الحقيقة جسرا بينه وبين الشعب، وبسمارك مع أنه رئيس الوزراء لا يطلب لنفسه معاملة خاصة؛ ففي الليلة التي تلت معركة كونيغراتز نام على «ما هو أصلح قليلا من دمنة»
3
نام على مقعد عربة بين الجرحى في العرى
4
بلا تبن، وذلك إلى أن تبين دوك رئيس الوزراء فأخذه لينام فيما هو أحسن من ذلك المكان.
وصلات بسمارك مع القادة تجعله نزقا، فمما يشق عليه ولا يطيقه أن يصدر هؤلاء أوامر فيصمت، ومما حدث في ليلة من تلك الليالي أن أيقظه رجل ليخبره بأن الملك يريد ركوب حصان في الساعة الرابعة بعد منتصف الليل ليحضر مناوشة، فصرخ من فراشه غضبان قائلا: «يا لغيرة هؤلاء القادة الشاربي الجعة! فهم يودون إطلاع الملك على مناوشة في الساقة،
5
فأمنع من النوم مع شدة احتياجي إليه!» ويبدأ كفاحه للحربيين بهذا الاستهلال الهزلي، ويكتب إلى زوجه من فوره بعد النصر قوله لها: «إذا لم نفرط في مطالبنا، وإذا لم نحد عن الاعتقاد بأننا غير فاتحين للعالم كان لنا من السلم ما يستحق الهم، ولكننا إذ كنا فرحين خائرين في آن واحد، كان من واجبي الجحود أن أروي الخمر المختمر بالماء فأذكر القوم بأننا لا نعيش وحدنا في أوروبة، حيث تقوم ثلاث دول تكرهنا وتحسدنا!»
وفيما كان بسمارك يسمع ما تقوله أوروبة منتبها كان القادة يسمعون صليل سيوفهم زاحفين عامدين إلى فينة، ويعقد مجلس حربي في كزير ناهوره، ويصل بسمارك متأخرا، ويطلعه الملك على الأنباء وينتظر وصول المدفعية الثقيلة في أسبوعين، ثم يسار إلى فينة، ويرتجف بسمارك ويقول: «خمسة عشر يوما!» وبسمارك ليس سوى مقدم، وليس على كتفيه من السمات ما يسطع كثيرا، ولا قول حول الشريط الأحمر، ويجلس ناظرا إلى الخريطة وينصت له الجنرالات إنصات تهكم، فينصح بعدم ضرب فينة بالمدافع وينصح بالذهاب إلى برسبرغ وعبور نهر الدانوب، فيكون وجه العدو إذ ذاك إلى الشرق على وضع غير ملائم، أو يتقهقر إلى هنغارية مغادرا فينة بلا قتال، ويبصر الملك الخريطة، ويؤيد اقتراح بسمارك: «وتقبل الخطة على مضض، وكان همي الوحيد مصروفا إلى اجتناب كل ما يؤذي صلاتنا بالنمسة في المستقبل، وكل ما ينكأ القروح
6
من الذكريات الجارحة، ومن شأن دخول الجيش البروسي فينة ظافرا أن يسدد ضربة هائلة إلى كرامة النمسة مماثلة لترك ملك قديم قهرا، ولا أشك في أننا - كفردريك الأكبر - نكون مضطرين في الحروب القادمة إلى الدفاع عما نستولي عليه الآن في ميدان الوغى، ومن المنطق التاريخي أن نحارب فرنسة بعد محاربتنا النمسة في الوقت الحاضر».
وتمضي بضعة أيام فيعقد في هذه المرة مجلس حربي آخر في برون،
7
فينظر في مصالحة فينة، فيقول بسمارك هادئا بحضرة الملك: «إذا غادر العدو فينة وارتد إلى هنغارية وجب علينا أن نتعقبه، وإذا عبرنا نهر الدانوب وجب علينا أن نبقى على ضفته اليمنى لتعذر السير على الخيل من ذلك المضيق الهائل، والرأي حينئذ أن نزحف إلى الآستانة ونؤسس إمبراطورية بيزنطية جديدة تاركين بروسية وشأنها!»
ومن النادر أن يتجلى هدوء ذكاء بسمارك بأوضح من ذلك، وبسمارك وحده قد دعا إلى تلك الحرب، وبسمارك وحده قد فرضها، ولكن تلك الحرب ما كادت تكسب في معركة واحدة حتى رفض الدوام عليها، حتى وقف حركاتها؛ وذلك لأنه أبصر في الأفق حربا أخرى، أبصر حربا يحمل عليها طوعا أو كرها، ويعمل ذهنه بعد المعركة بعشرة أيام فيرى مصالحة النمسة بلا غنم ولا ضم، والذي يغري الجنرالات بفينة هو نزوات أفئدتهم، والذي يحفز بسمارك إلى رأيه ذلك هو كونه قطبا سياسيا، لا كونه قائدا عسكريا أبرع من الجنرالات، وبسمارك عليه أن ينفذ خطته من غير أن يكدر الملك الجندي، وولهلم في الحقيقة لم يرض بذلك لقول جنرالاته له إن الميجر بسمارك خوار، فهنالك تذرع القطب السياسي بسمارك الذي ترك هو ومصادره الخاصة بوسائل أخرى فحاول متهكما أن يقوي الوضع الذي ألمع إليه في المجلس الحربي السابق.
والواقع هو أن العاهل الفرنسي كان يضغطه؛ ففي عشية كونيغراتز عرضت فينة البندقية على الإمبراطور نابليون الثالث إذا ما وقف الزحف الإيطالي، ويفاوض الإمبراطور منفردا بدلا من التدخل مع الدول الأخرى، ويعرض على المركز البروسي في بوهيمية أن يتوسط في سبيل السلم، ويتنفس بسمارك الصعداء! قبول سريع، وعدم طلب شيء من النمسة، وتسوية المسألة الألمانية بواسطة غولتز في باريس، ويستعد بسمارك كما يقول: «لحلف يمين لذلك الغولي على مذهب هنيبال.» ويظهر في الحال بنيديتي الذي ترك يمر من قبل حرس قليل الدربة، فيقف قريبا من وسادة بسمارك كأنه طيف حقيقي، وهنالك يبدأ بتبادل البرقيات مع باريس، وكان يلوح زوال الخطر؛ وذلك لأن بسمارك كان يحاول أن يحول الدول العظمى، ثم أتت دولة عظيمة لتتدخل على غير انتظار، فظهر ملك بروسية.
حقا أن ولهلم دخل الحرب «لمقاصد دفاعية» والآن بعد أن ذاق هذا العاهل المسالم طعم النصر، وبعد أن حرضه جنرالاته؛ تحول إلى طامع في التوسع، ومع أن الواقع هو أنه لولا قلم بسمارك ما استل أحد سيفا يصرح الملك مغاضبا بأنه لا ينبغي للقلم أن يبطل ما ناله السيف، فيطالب بواسطة نابليون الثالث بشليسويغ وهولشتاين وبزعامة بروسية على ألمانية وبغرامة حربية وبتنزل جميع أولياء الأمور المخاصمين، ومنهم ملك سكسونية، عن عروشهم وبضم جميع تلك الأقاليم، فهذا هو السهم الذي أطلقه ولهلم نحو باريس، ولكن بسمارك أطلق سهما آخر من كنانته، فعلى السفير أن يقدم تقريرا عن أثر تلك المطالب في فونتنبلو، وذلك «لأنني أعتقد أن من الممكن أن نصل إلى اتفاق مع الإمبراطور بتعديل تلك الشروط تعديلا معقولا مقبولا عندنا».
ويضغط نابليون الثالث وزراؤه، «ويهز في الحقيقة ويسقط في يده تماما»، وماذا يعمل؟ هو قد اقترف خطأ، فيجب الإبقاء على النمسة وسكسونية، وتضطرب فرنسة ضد شيد إمبراطورية ألمانية، والرأي إذن أن يفصل الجنوب عن الشمال ولو ظاهرا، ويبدو القيصر في الميدان فيقترح عقد مؤتمر، ويعني هذا أنه يريد الربح أيضا، وتظهر العدوى التي ود الطبيب عدم شمولها، وتستحوذ حمى الضم على وزارات أوروبة، ويعلن تفشي الهيضة
8
بالجيش البروسي، ويتوقف على الهيضة عدم اشتعال حرب كبيرة.
وليعقد الصلح مع النمسة في هذا اليوم إذن! لا في الغد إذن! ولا تجوز المجازفة بالنصر ثانية في سبيل خصام حول كيلومترات مربعة وملايين نقود إذن! «فكل شيء يعوق تسوية الأمر أملا في نيل فوائد ثانوية يكون قد وقع على الرغم مني»، وإليك بنيديتي مرة أخرى؛ فهو يتكلم عن ضفة الرين اليسرى، ويسحره الغالب بدلا من أن يطفر
9
عليه، ويلمع الغالب بدلا من أن يقطع ويقمع، «والآن لا أقبل أي تصريح رسمي، وإن كنت مستعدا للمناقشة في كل ما يروقك، ولفرنسة كل الحق، ولنبحث في الوسائل التي يحقق بها هذا الرأي، ولا تستطيع بروسية أن تقطع أرضا بعد النصر، ويمكننا أن نبحث في إمكان صنع شيء في أمر بلاتينة الرين، وأبسط شيء لدى فرنسة هو أن تحدق إلى بلجيكة»، ويفتن بنيديتي بذلك فيبرق إلى باريس ناصحا بالقبول، ويوصل إلى اتفاق. وفي 27 من يوليو سنة 1866 يعقد مجلس حربي في قصر نقولسبرغ، ويعد كل أمر، ولا يبقى غير إقناع الملك.
وفكرت في الأمر من جميع نواحيه فقررت أن أجعل قبول السلم التي تعرضها النمسة مسألة وزارة، وكان الوضع صعبا؛ فما كان جميع الجنرالات إلا كارهين لترك دور النصر ذلك، وما كان الملك في ذلك الحين إلا عرضة لتأثير مستشاريه الحربيين الدائم، فيصغي إلى نصيحتهم أكثر مما إلى نصيحتي، وما كنت أقدر من غيري على البصر بالمستقبل وبما يصدر عن العالم من حكم في الأمر، ولكنني كنت الشخص الوحيد العتيد الذي يفرض عليه منصبه الشرعي أن يكون صاحب رأي وأن يجهر به وأن يدافع عنه، وما كنت أجهل أنهم يلقبونني بكويستنبرغ
10
في المقر العام، وما كان هذا ليروقني كثيرا.
تلك هي أخطر ساعات في حياة بسمارك، وليس مجلس الحرب أصعب شيء عليه، بل كانت الأيام التي سبقته، فكان عليه أن يكون فيها قراره فيشعر فيها بالمسئولية التاريخية أشد أوقاته حرجا، وبسمارك في تلك الأوقات وللمرة الأولى ولهذه المرة وحدها في الحقيقة كان مستقلا استقلالا تاما، فلما مضت أربع سنوات أوجب مختلف العوامل في فرساي ضياع قدرته على المبادرة والبت وحده، واليوم في المسألة النمسوية تبصر بسمارك منفردا، وفيما تراه يقضي نهره كلها في المفاوضات لما يجب من تمام كل شيء على يده؛ تراه يقضي لياليه ساهرا مفكرا في أجمل ما يعمل، ولو كان بسمارك ممن يذعنون للملك وللقواد لأمكنه دوما أن يقدم تقريرا أو أن يستقيل عند الضرورة فينقذ سمعته أمام البلاد والحفدة، ولكن بسمارك إذا ما قرر فرض وجهة نظره فاحتمل تبعة ذلك وحده كملك مطلق عارفا أن نجاحه هو شفيعه وأن فلاحه سبب للصفح عنه.
وكان بسمارك مريضا في ذلك الحين، وكان لذلك عاجزا عن إبدائه مظاهر مؤثرة ببزته الرسمية الزرقاء وبتقلده حسامه، وكان الألم يلم ببسمارك فيلزم غرفته مرتديا رداء مدنيا ويستقبل في غرفته الملك والقواد آتين من نزهة صباحية كانوا يقومون بها في الهواء الطلق راكبين خيلا، وبسمارك كان من الجرأة مع ذلك ما يشرح لهم به علل قناعته، ويريد العسكريون متابعة الحرب، وينحاز الملك إلى رأيهم، ويظل بسمارك وحيدا، «ولم تقاوم أعصابي تلك العوامل التي تؤثر في أياما وليالي، فأنهض صامتا، وأذهب إلى غرفة نومي المجاورة وأبكي بكاء شديدا، وأسمع في تلك الأثناء انفضاض مجلس الحرب في الحجرة القريبة».
وحدث له مثل ذلك منذ سبع عشرة سنة حينما كان يتكلم من فوق المنبر، وكانت آخر كلمات خاطب بها المجلس في ذلك الوقت هي: «إذا كان الوطن الألماني الموحد يبلغ على ذلك الوجه في الحقيقة، فإنه يأتي زمن أشكر فيه لمبدع نظام الأمور ذلك، ولكن هذا يتعذر علي الآن.» وكان النائب بسمارك يغالب هذه المعضلة منذ سبع عشرة سنة، فينظر إليها عن كثب تارة وعن بعد تارة أخرى، وبسمارك حل العقد، وبسمارك شدها ثانية، وبسمارك حلها مرة أخرى، وبسمارك في ذلك كله يتعقب فكرة، لا كخيالي ولا كمثالي، بل كمجاهد يعمل دوما عمل المستقتل على إزالة حجر العثرة؛ أي على تقويض النمسة ذات اللغات السبع، وذلك بالهزوء والتهكم والتلقين والمنطق، واليوم يدحرج حجر العثرة وتفتح الطريق، والكفاية فيما كان من حقد، والكفاية فيما أتي من تخريب، والآن وقت البدء بالبناء.
ولكن مليكه يقف مرة أخرى في طريقه، والملك منذ سبعة عشر عاما كان قد منعه من القضاء على الثورة التي عرض عليه أن يناهضها بفلاحي شونهاوزن وبما هو أقوى من هذا الجيش الرمزي، أي بعزمه الحازم، وكان ملك ذلك الوقت جبانا، ثم أصبح مجنونا فمضى لسبيله،
11
ويحل ولهلم محل أخيه، وينتحل مثل سلطانه، وولهلم ليس بالجبان ولا بالمجنون، وولهلم لم يرد القتال مع ذلك، ولم يكد ولهلم يرى ما كان قد رفضه يسير وفق فائدته حتى أعرض عن البناء وطمح إلى الفتح، ويجلس بسمارك هنالك مواجها له مريضا مهرما لابسا ثيابا مدنية، وما كان الملك ولا القواد ليروا فيه «موجد نظام الأمور الجديد»، فيعربوا له عن شكرهم، ولم يساور بسمارك غضب حينئذ، ولم يهدد بسمارك بالاستقالة آنئذ، وبسمارك لم ينبس بكلمة وإنما يقتصر على الانزواء بعيدا من عيون خصومه وآذانهم فيسكب من الدموع الكثيرة كما صنع منذ سبع عشرة سنة، ومن ذا الذي يقدر في القصر هنالك على إدراك ما في هذا المسرح من منظر روائي مؤثر مذكر بالمآسي الكلاسية؟
12
بيد أن الوقت ليس وقت عرض للمشاعر، ويرتبك الملك قليلا وينهض ويتبعه قواده إلى خارج الغرفة، ويظل بسمارك في حجرة نومه وتخنقه العبرات ويسمع وقع أرجلهم عند رحيلهم، ويعرف بشعوره الدبلمي ماذا يعني هذا، ويتمالك ويكتب ويبين الأسباب التي سيرته ويلتمس أن يؤذن له في الاستقالة إذا لم يجب إلى ما أراد، وفي الغد يذهب إلى الملك حاملا كتابه بيده فيعلم في بهو الاستقبال آخر الأخبار عن الهيضة ومدى انتشارها فيبصر أنها ستشتد في شهر أغسطس بهنغارية؛ نتيجة لقلة الماء وكثرة الفاكهة الناضجة، فيجد في غوائل الصحة العسكرية ما يقوي عوامله السياسية، ويدخل على الملك، ويبين له أن النمسة إذا ما ضربت بقسوة لم تلبث أن تحالف فرنسة، وروسية أيضا، فتنتقم من بروسية، وأن هدم النمسة يسفر عن ثغرة تكون بابا لثورات جديدة، وأن بروسية غنية عن النمسة الألمانية، «فجمع النمسة الألمانية مع بروسية ليس عملا صائبا، فلا تصبر فينة على سلطان برلين، وعلينا أن نسرع في تسوية الأمور بسرعة، وذلك قبل أن يكون لدى فرنسة من الوقت ما يصبح لها من الصلات الوثيقة بالنمسة أكثر مما مضى.»
ويصرح الملك بعدم كفاية هذه العوامل، ويصر على تنزل النمسة عن سيليزية وأن يؤخذ من الدول الألمانية الأخرى قطع أملاك، ويرد الوزير جميع هذا، ويحذر ولهلم من بتر شيء من تلك الدول لما يوجبه ذلك من انتقام حلفاء لا يوثق بهم، ولكن الملك ضابط، وليس الملك أكثر من هذا، والملك يريد ألا يقف زحف الجيش الظافر، والملك لما لم يجد ما يدحض به براهين بسمارك هز كتفيه هازئا وصاح قائلا: «لا يجوز للجاني ألا يجازى! ويمكن أولئك الذين أضلهم أن ينجوا بسهولة!»
بسمارك :
ليس لنا أن نقوم بوظائف القاضي، والسياسة الألمانية هي التي نبالي بها، وليست منافسة النمسة لبروسية بالتي تستحق العقاب أكثر من منافسة بروسية للنمسة، وعملنا الرئيس هو أن نؤسس وحدة ألمانية بزعامة ملك بروسية أو أن نخطو الخطوات الأولى نحو هذه الغاية.
وما كان بسمارك ليجاوز هذه الجمل الثلاث القومية العادلة المبدعة، وما كان بسمارك ليصوغها مجددا، وكان بسمارك يعلم - كما نعلم اليوم - ماذا يعني حجز ثمانية ملايين من الألمان عن إمبراطورية خضعوا لها منذ ألف عام، وهل كان بسمارك يعلم أيضا أنه يفض بذلك تلك النمسة التي سيعتمد عليها كثيرا في قادم الأيام؟ كان دمل الجرح أعظم منية لبسمارك، فلم يرد ضما ولا تعويضا، وكان رغب بسمارك الوحيد هو إيجاد اتحاد صائب بين دول ذات أمور مشتركة، ويعدل بسمارك عما ينال بالمدافع، ويضع بسمارك العقل فوق القوة، وبسمارك في نقولسبرغ يدنو بذلك المنهاج من المبدأ السياسي في القرن العشرين.
غير أن الرجل الذي يواجهه بسمارك قد ولد في القرن الثامن عشر، غير أن ولهلم يقصر عن إدراك بسمارك، فيقول هذا: «إن من المتعذر أن أستمر على عرضي، وأترك الغرفة معتقدا رد دعواي.» وأول ما يدور في خلد بسمارك هو أن يلحق بفرقته ضابطا، وأن يداوم على حرب يعدها حماقة حاملا سيفه، ومثبتا أنه لا يفتقر إلى شجاعة، ويعود إلى غرفته «في حال روحية أسائل نفسي فيها طرفة عين، عن أن الأفضل في الارتماء من النافذة الواقعة في الطبقة الرابعة، وما كنت لألتفت عندما سمعت فتح الباب، وإن خطر ببالي أن الشخص الداخل هو ولي العهد الذي مررت أمام غرفته حين عودتي إلى غرفتي، ويضع يده على كتفي ويقول لي: تعرف أنني كنت ضد الحرب، وقد أبصرتها ضرورية فغدوت مسئولا عنها، فإذا كنت تعتقد أن غايتها بلغت وأنه لا بد من عقد الصلح؛ وجدتني مستعدا لمعاضدتك ولدعم وجهة نظرك لدى والدي.»
ويمضي نحو نصف ساعة فيرجع ولي العهد فردريك إلى بسمارك هادئا، ويقول له: «وافق أبي على ما ترى بعد جدال طويل.» ويشرف ولي العهد تأييده لقضية خصمه، ويدل هذا التأييد على مقدار اتباع الملك لوزيره، والملك يكتب على هامش مذكرة بسمارك مغاضبا: «بما أن رئيس وزرائي تركني أمام العدو فلا أقدر على استبدال غيره به في هذا الوضع، وبما أن ابني جادلني في الأمر فوجدته على رأي رئيس الوزراء؛ فإنني أراني مضطرا - مع الأسف الشديد - إلى قضم هذه التفاحة المزة موافقا على صلح مخز بعد ذلك النصر الباهر.»
ويشابه ذلك إحدى الروايات الهزلية حيث تبصر سيدا شائبا يود أن يرقص فيمنعه طبيبه من ذلك مهددا بتركه، ويتعذر على ذلك الشيخ أن يستبدل بذلك الطبيب طبيبا آخر فلم ير بدا من قبول نصيحة ابنه، ويومئ إلى الجوقة وتقف الموسيقى.
الفصل الحادي عشر
مر أسبوع على أزمة نقولسبرغ، فوقع نزاع بين الرجلين في القطار المسافر من براغ إلى برلين، ولينتقم الملك من العدو في الداخل بعد أن حظر عليه الانتقام من العدو في الخارج، ويهرع جميع متطرفي اليمين الذين كانوا يكافحون بسمارك منذ طويل زمن إلى المقر العام مصرحين بأن ذلك هو الوقت الذي يقلب فيه الدستور أو يعدل على الأقل، وبأن ذلك هو الوقت الذي تقلع فيه أسنان الأحرار القليلين الذين أسفرت الانتخابات الأخيرة عن بقائهم نوابا. وتحف وفود المحافظين من حول الملك، وتجعله متشددا في هذا الأمر.
ويفكر بسمارك في هذا الأمر هكذا: «على جميع أولئك الذين لم يرضهم ما تم من النصر أن يهجروا بروسية المستبدة، وستقف الولايات الجديدة موقف المعارضة، وهنالك نكون قد أوجبنا حرب فتح على بروسية، وتكون سياسة بروسية القومية قد عرقلت.» فبمثل هذا البصر الثاقب يحاول بسمارك في أثناء العودة إلى الوطن أن يقنع الملك بضرورة توكيد أمر الدستور في هذا الحين، وأن يسار على غرار الإنكليز فيؤلف مجلس شعبي تعويضا من عمل غير دستوري كان قد وقع.
تعويض؟ اعتذار؟ التماس لذلك بعد ذلك النصر؟ أفلا يعد الملك وزيره جبانا؟ «لا أقول إنني جئت شيئا إدا!»
1
ذلك ما صاح به الملك، متحولا إلى رجل خلقي مرة أخرى غير مبصر وجه المجون، ويبين له الوزير - صابرا - أن ذلك يعني «اعترافا بأن الحكومة والملك سلكا سلوكا محمودا في مثل هذه الأمور، ولا ينطوي ذلك على غير معنى الاعتراف بهذا»، وعكس المغزى ما فهمه الملك، والفرصة تلحف،
2
ولا مناص من إدماج عبارة مثل تلك في خطبة العرش، «وتدوم المحادثة عدة ساعات، فتتعبني كثيرا لاضطراري إلى الكلام بحذر كبير، وكنا ثلاثة في حجيرة القطار، أنا والملك وولي العهد، ولم يعاضدني ولي العهد علنا، وإنما كان يشجعني بأسارير وجهه الدالة على ارتياحه لطراز تفكيري فيشد ذلك عزمي تجاه أبيه، ويذعن الملك في نهاية الأمر ممتعضا».
ويقع تبدل في الوضع؛ فقد كان ولي العهد - منذ أربعة أسابيع - عدوا لبسمارك وخصما للملك، والآن لا يود فردريك أن يجهر بالقول ضد الإبراء لما يعرفه والده من حريته الفكرية، وإنما يعطي خصمه بالأمس من الإشارات ما يؤدي إلى بقائه ثابتا، ويمضي وقت قصير فيقول الوزير في اللندتاغ: «نريد السلم، وسنحل المسائل الآتية متعاونين معكم، وترونني بعيدا من الانحراف عما صدر من الوعود تجاه الدستور»، وبسمارك الآن - وللمرة الأولى في حياته - يسمع هتافات استحسان من جميع الجهات، وبسمارك يداوم على كلامه مع كبير التواء في التفكير: «لا تزال المسائل السياسية الراهنة معلقة، ويزيد ما ناله الجيش من نصر باهر مخاطرنا، وقد نخسر أكثر مما في الماضي، ومما لا مراء فيه أنكم لا تكادون تجدون في أوروبة دولة يسرها أن توافق على إقامة هذه الحياة الجديدة العامة في ألمانية، من أجل ذلك - أيها السادة - سيقوم عملنا على توكيد وحدة جميع البلاد قلبا وقالبا، وأرجو أن ترجعوا البصر إلى الخارج؛ لكيلا تنسوا مقدار ما نحتاج إليه من التضامن تجاه الأجنبي.» فيالها من كلمات معدنية! ويصوت للإبراء بأكثرية كبيرة؛ أي أن المجلس يعدل عن حقه في اتهام الحكومة بعدم شرعية أفعالها.
حتى إن بعض زعماء الأحرار - ومنهم لاسكر وفينكه - وافقوا على الإبراء، وأبصر بسمارك ذلك فلم يأل جهدا في شق أعدائه الأحرار، ويتألف من الأحرار الذين أيدوه الحزب الحر الوطني فيما بعد، غير أن خبث الجذريين
3
في ذلك الأمر دون خبث الملك، فقد قال فالدك: «نحتج على تطليق ذلك الأمر الذي جاهدنا في سبيله كثيرا.» وقال فيرشوف: «لنحترز من الاسترسال في وثنية الفوز!» وهل السياسة في الحقيقة سوى فلسفة تطبيقية إذن؟ يصف بسمارك السياسة بأنها فن الممكن، فإذا لم ينظر إلى غير الفوز في السياسة لم يكن لسوى وثنية الفوز ما يدوم له النصر، ولم تؤد مدافع كونيغراتز إلى حل الخصام بين السلطة والحرية لفائدة بسمارك كما هو ظاهر، وتبدأ وثنية الفوز مع ذلك حينما دنا ذلك المرافق العسكري من بسمارك وقال له: «لو تأخر ولي العهد لكنت أكبر الفجرة!»
وما كان بسمارك ليعترف لفيرشوف إلا بعد عشر سنين حينما دخلت تلك المنازعات في ذمة التاريخ، فقال له: «إنني كبير التقدير لما كان من ثبات ممثلي الشعب في الدفاع عما يعتقدون صوابه، وما كنت لتعرف في ذلك الوقت ماذا كان هدف هذه السياسة، وما كنت لأعرف عقباها، ولو قلت لك ذلك لأمكنك أن تجيبني بقولك: «إننا نفضل الحقوق الدستورية على السياسة الخارجية»؛ ولذا تراني راغبا الآن عن لوم أي واحد في جميع الأحوال وإن كنت في حمى الحين أبدو مبكتا في بعض المرات.»
وتتقلب الريح في اللندتاغ أيضا، ويعترض له المحافظون في هذا المجلس وفي البلاط فيصرحون ساخطين بأن عليه أن يضم أكثر مما وقع؛ وذلك لعدم إمضاء معاهدة السلم بعد ، ويود الملك في الساعة الأخيرة أن يحصد في ألمانية ما انتزعه وزيره منه في النمسة، والملك هو الذي صرح منذ سنة في شونبرن بأنه لا حق له في شليسويغ، والملك هو الذي استخار الله في أمر الحرب منذ ثلاثة أشهر، والملك يعود الآن شابا بما تم له من النصر، فيقول لرون: «ذلك يدفعني إلى مباشرة حرب جديدة في الحال.» ويجب ملء الهوة بين الولايات الغربية والشرقية! ويجب علينا أن «نوسع» أملاكنا بهانوفر وانتخابية هس، ويبتلع أهل ورتنبرغ إمارة هوهنزلرن الصغيرة فيما مضى، فنرى الآن أن نجعل جزءا من أملاكهم الشمالية بروسيا، وكانت أنسباخ وبايروت تابعتين لأجدادنا في غابر الأزمان فنريد أن تعودا إلى بيتنا المالك.
ويرفض بسمارك نصف ذلك، وإن لم يكن في حال نفسية يعارض بها الملك، ويصل أناس من بادن إلى برلين ليثبتوا أن بافارية الكبيرة قادرة على عوق توحيد ألمانية، ويقولون إن الأمر الذي يؤدي إلى دوام السلم هو إيجاد توازن بين دول الجنوب، ويعني هذا أن توسع بادن بمنحها قسما من بافارية، ولم يكد البادني يغلق الباب حتى دخل منه الهسي مطالبا بجزء من أملاك بافارية تعويضا له من القسم الهسي الذي كان قد تنزل عنه، ويتحسر هذا الرسول ويذكر أن الأميرة شارل تبكي إذا ما طلبت بروسية همبرغ فيصرخ بسمارك الملكي قائلا: «إذا ما أزعجنا أنفسنا في برلين هنا بعبرات الأميرات لم ننل شيئا!»
ويجامل بسمارك دول الجنوب على الخصوص، ويلاطف بسمارك هذه الدول، ويرى فيها مقدما أجمل الغواني اللائي يدخلن دائرة حريمه قريبا، ويرغب في بافارية ويقول: «لا أبالي بمشاعر الأسرة ومطالبها، ولا أريد تمثيل دور نميزيس،
4
وقد يترك الملك ذلك لوزير الأديان والمعارف!» ويطلب بسمارك مالا وأرضا من الوزير البافاري في أول الأمر، ويقول له بعد أن ألانه: «يمكنكم أن تنالوا صلحا رخيصا من غير أن تتركوا أرضا.» - «وكيف وبأية وسيلة؟» - «أن تمضوا من فوركم حلفا هجوميا دفاعيا.»
ويروي بسمارك أن الوزير عانقه باكيا، وينال بسمارك مثل هذا الفوز تجاه دول الجنوب الأخرى ، ويجد بسمارك مكافأته في تلك المحادثات الخاصة وتلك الوثائق التي لا يعرفها غير رجلين أو ثلاثة رجال، وبسمارك عندما يقفل عليها يشعر بأنه سعيد.
ويرى اكفهرار السحاب في الغرب مع ذلك، ولا أحد يعرف كيف يقصف الرعد، ولم يتمالك نابليون أن أظهر طورا صارما في شهر أغسطس سنة 1866 فطالب بحدود سنة 1814، ويغير بسمارك لهجته تجاه بنيديتي حالا، فيقول: «إذا ما أصررتم على هذا الطلب اتخذنا جميع الوسائل، ولا نكتفي بدعوة جميع الأمة الألمانية، بل نعقد صلحا بأي ثمن كان، فنترك جنوب ألمانية للنمسة ونرضى بالبندشتاغ مرة أخرى، ثم نجمع قوانا ونزحف إلى الرين بثمانمائة ألف جندي ونستولي على الألزاس، وأنتم تعلمون أن جيشينا متأهبان وأن جيشكم غير متأهب، ففكروا في الأمر وقدروا النتائج.»
وهكذا يبلف
5
ذلك الفرنسي، ويبلغ التوازن من الاضطراب في صيف سنة 1866 ما يعتقد معه رئيس وزراء بافارية هوهنلوهه أن بسمارك يقترح فيما يقترحه «إقطاع جزء من بالاتينة البافارية لنابليون الثالث، فيعارضه الملك في ذلك بشدة، فإذا لم يذعن الملك وقعت الحرب بين بروسية وفرنسة»، ثم تسلك فرنسة سبيلا أخرى فتحاول محالفة بروسية؛ بغية ابتلاع بلجيكة، وينحاز غولتز إلى هذا الرأي، ويقضي غولتز أول أسبوع من شهر سبتمبر في برلين باحثا في هذا الأمر، ويساير بسمارك الريح ويتمور،
6
ومن المحتمل أن كان بسمارك يوافق على هذا الاقتراح لو لم يبصر تقلب آل بونابارت الحديثي العهد، ومهما يكن الأمر فقد أراد بسمارك أن تكون تلك الاقتراحات خطية وطلب من بنيديتي وضع مشروع معاهدة تنص على ضم فرنسة بلاد بلجيكة إليها، وبهذا يريد أخذ الوثيقة من مأمنه في أحرج وقت.
وهكذا يداور بسمارك ذلك الفرنسي حتى إمضاء معاهدة الصلح في براغ، حتى إقامة جامعة دول شمال ألمانية، وعلى النمسة في معاهدة الصلح أن تعترف بضم ثلاث دوكيات ألمانية إلى بروسية وبحل الجامعة الألمانية، وأن تعترف أيضا بتأليف جامعة جديدة في شمال نهر المين، وعلى النمسة في تلك المعاهدة أن توافق على «اندماج الدول الواقعة في جنوب ذلك الخط في جامعة يكون لحقها بدول شمال ألمانية موقوفا على اتفاق وثيق بين الجامعتين، ويكون لها كيان دولي».
تلك هي غاية ذلك القطب السياسي المكافح في نقولسبرغ، فلا ضم ولا تعويض، وكان ذلك القطب قد قال منذ اثنتي عشرة سنة: «إن النمسة بلد أجنبي» وعلى النمسة الآن أن تعترف أمام جميع العالم بأنها بلد أجنبي تجاه ألمانية!
وتضع الحرب أوزارها فيريد الملك أن يكافئه، وماذا يعرض الملك على بسمارك الذي كان قد نال لقب كونت؟ فلينعم عليه برتبة جنرال وبأربعمائة ألف تالير إذن، ويعبر عن هذه الهبة بكلمة «مهر»، كما يعبر عن الحرب بالتعبئة، وكما يعبر عن العفو بالإبراء، وتأتي الهبة طيبة وإن كان بسمارك لا يستطيع التمتع بها في ذلك الحين لاقترابه من شفا
7
جرف هار،
8
وفيما كان الشعب يهتف في ذلك اليوم من سبتمبر للجيش عند رجوعه إلى العاصمة كان بسمارك مدرعا راكبا حصانا بجانب الملك، وفيما كان ولهلم وقواه سفعا
9
نشاطا أكثر من قبل كان بسمارك شاحبا تعبا «كما لو كان ناقها لا ينبغي له أن يغادر سريره»، وكان بسمارك مطلعا على ضعفه الجثماني، وكان يألم من ضناه فيقول: «إن من الأفضل لي هو أن أقدم استقالتي الآن، وإني أصنع هذا شاعرا بأنني كنت نافعا لبلدي مقدرا تركي ذلك الأثر ورائي، ويساورني ريب في قدرتي على فعل ما يجب علي إنجازه من أمر باق.»
كودل (ناصحا) :
الرأي أن تذهب إلى الريفيرا فتقضي فصل الشتاء هنالك حيث تسترد صحتك وقوتك.
بسمارك :
يقول النساء في بوميرانية عند قرب الوضع: «والآن يجب علي أن أواجه الخطر.» ومن المحتمل أن تهدأ النفوس في فصل الخريف، فإذا لم أذهب نهائيا ولم يدبر الأمر غيري؛ وجب علي أن أجد بنفسي، ولا أجد من أوصي به خلفا لي، ولأعد إلى عملي فور استرداد نشاطي، ولأسافر ولأقض بضعة أسابيع على شواطئ البحر البلطي.
بسمارك في سنة 1871.
ويتوجه بسمارك فور عودة الجيش إلى برلين، ويتدهور في فندق ببتبس ويأخذه بعض الأصدقاء إلى منزلهم، وتسرع حنة إليه ، وتجده موعوكا منهوكا كما كان حين التهابه الوريدي، وتكتب حنة قائلة: «تجعله السياسة غضبان كئيبا، ولكنه إذا ظل هادئا تحت جلد
10
أزرق أو ناظرا إلى مرج أخضر أو متصفحا كتابا ذا صور؛ حسنت حاله.»
وهنالك يجلس على كرسي بعيدا من داره باكيا لاعنا عند القول حول أعماله، وبينما كان القوم يعجبون ببسمارك رجلا تصور النصر وفاز به، وبينما كان ينتشر خبر فخاره ويستعد الناس لتهنئته وتمجيده، تجده في ذلك المكان يقلب صفحات كتب مصورة!
الفصل الثاني عشر
في أصيل يوم من شهر سبتمبر سنة 1866، وبعد عودة بسمارك إلى بيته في عافية، يملي على صديق لاسال لوتاربوشير، دستور ألمانية الجديد، وفي الليل يهذب بوشير الأسلوب، وفي الغد يناقش فيه بمجلس الملك الخاص، وفي اليوم التالي يعرض على جميع المفوضين، «وتصل النسخ من المطبعة رطيبة متتابعة في أثناء الاجتماع»، وهذا الدستور الخاص بجامعة دول ألمانية الشمالية لم يكد يعدل من قبل الريشتاغ الأول وفي سنة 1918، وهذا الدستور ظل دستور الإمبراطورية الألمانية خمسين سنة، أي إلى سنة 1918، وهذا الدستور أملاه واضعه في خمس ساعات بعد تأمل عشر سنوات فجاء آية على تمثله لمبدأ الدولة، وإن شئت فقل عنوانا لروحه، وهذا هو دستور بسمارك، وهذا الدستور لا يعبر عن غير شيء في أمر الألمان، وهو أن بسمارك كان ألمانيا أيضا؛ أي فرديا.
ولذا أعد ذلك الدستور لتقوية النظام الملكي لا الشعب؛ ولذا كان ذلك الدستور نصرا لثورة أتت من عل، نصرا لثورة دامت ضد الشعب أربعة أعوام، نصرا لثورة استذلت أعداءها خمسين سنة فيما بعد، ومن الممكن أن كان الشعب الألماني غير أهل ليحكم في نفسه بنفسه، ومن الأكيد أن كان ذلك أقل تقريرا للأمر مما بعد نصف قرن، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن هذه القناعة لم تملل على بسمارك قراره، وإنما الذي حفزه إلى ذلك هو ازدراؤه البالغ للجمهور وزعمائه.
وهذا النفور وذلك الازدراء لم يصدرا عن ولوعه بسلطة الملك أو عن تقديس لها، وهو الذي لا يثق بحكمة الرئيس المتوج أكثر من ثقته بالرئيس المنتخب، ولكن عزته تجاه الناس وحقده على الناس كانا يدفعانه في جميع أمور الحياة والدولة إلى مقاومة قرارات الجمهور، وبسمارك إذ لم يسطع أن يضم إليه أحدا كان يود دوما أن يكون مسئولا وحده، وبسمارك إذ يرى نفسه خير رأس في البلد كان يعتقد علمه بالبلد أحسن من أي شخص كان. وبسمارك لهذه المشاعر الأساسية؛ أي الزهو والحقد والشجاعة، كانت تواثبه رغبة في المسئوليات ونفرة من القرارات التي يشترك في وضعها الآخرون، وقد أدت تلك الدوافع في بسمارك إلى رفضه مبدأ الحكومة البرلمانية؛ أي إلى رفضه طراز الحكم الذي كان جميع الأحرار ينشدونه للدولة الجديدة، وكلما أبصر الرجل المسيطر بسمارك تقمص سلطات الدولة فيه؛ جمع في شخصه جميع المسئوليات التي يفضل غيره ألا يحملها كلها على عاتقه. ويضع هذا المعلم الباني رسم صرحه راغبا في سكناه إلى الأبد، ويشابه في ذلك لاسال الذي أضر نظمه بعوامل شخصية مماثلة لتلك.
وتقوم خطة بسمارك على تنافس البندشرات والريشتاغ، وفي البندشرات «يجب أن تجد سيادة الأمراء لها تعبيرا لا جدال فيه»، وفي البندشرات - كما في مجلس الجامعة الألمانية السابق - يجب على السفراء أن يجلسوا برئاسة المستشار الذي لا يمثل سوى «بريد» وزير خارجية بروسية، وبهذا التدبير استطاع بسمارك أن يوكد للأمراء الذين لم يريدوا الخضوع لإمبراطور فرانكفورت ولا خسران شأنهم في إمبراطورية فرانكفورت؛ أنهم يغدون أولياء الأمر في الإمبراطورية الجديدة، وإن كان هذا لا يؤدي إلى غير ستر سلطان بروسية الحقيقي، وسفينة الدولة بعد تجهيزها على هذا الوجه، وسفينة الدولة بعد أن تمسك وتدرع على هذا الوجه، يمكنها أن تشق عباب المحيط البرلماني ببسالة ومن غير خطر.
وكانت روح الزمن لا تستمرئ ذلك، حتى إن الحزب الجديد المؤلف من أولئك الذين انحازوا إلى خصمهم القديم طالبوا باتحاد الشعب والحكومة في الجامعة الجديدة بدلا من وجود جبهتين كما في بروسية، وبأن يكون وزراء الإمبراطورية مسئولين أمام الريشتاغ، وهذا ما لا يطيقه بسمارك، «وفي مشروع حكومي كذلك لا يكون أحد مسئولا ، فإذا ما اقترف خطأ لطم الفاعل من قبل قوة خفية، وفي هذه الجماعة الغامضة الأمر تبصر سلطانا كالمحكمة السرية التي تهيمن دوما على رجل».
وهكذا يبدأ بسمارك المكافح الذي كان حكمه مطلقا حتى الآن بتجربة النظم البرلمانية التي قضت الضرورة بها، ولا ريب في أن بسمارك كان عالما بما يواجهه من ضروب النضال وإن لم يكد يلوح له كيف يختم تلك التجربة، وما كان ذلك المنهاج ليمضي، وهو لم يمض إلا بصعوبة، إلا إذا ترك الملك المتوسط الذكاء والعارف بنفسه وزيره القدير يوجهه، وإذا وجد ملوك ذوو صلف ومستشارون غير مستقلين كان من العبث أن تبحث الأمة الموحدة في مثل ذلك الدستور عن حقوق تقيدهم بها. وقد أبصر بسمارك جميع ذلك سلفا، ولكن كان عليه أن يختار بين ضمان سلطانه في الوقت الراهن وضمان سلطان من يخلفه في الغد، وبسمارك لم يسطع أن يضمن كلا الأمرين، ولو كان بسمارك يحب الدولة أو العرش حب رون لاختار عند الخيار
1
ما يفعله الملك المفكر في أمر وارثه الشرعي، بيد أن بسمارك إذ كان موظفا يمكن عزله في كل وقت رأى أن يصون سلطانه الخاص الذي أحس أنه أفضل شيء في الدولة تجاه هوى الأحزاب. وبسمارك لم ينظر إلى غير تذبذب الملك مع ما قد ينطوي عليه هذا التذبذب من إزعاج، عادا إياه أقل خطرا من تذبذب الريشتاغ.
حقا أن محاولات وقعت لمقاومته، وحقا أن النص الآتي وضع إيهاما بوجود سلطة عصرية للدولة، وهو: «أن أنظمة رئاسة الجامعة وقراراتها تصدر باسم هذه الجامعة، وأنها لا تصبح نافذة إلا بإمضائها من قبل مستشار الجامعة الذي يحتمل مسئوليتها»، وتجاه من يكون مسئولا؟ أتجاه الريشتاغ؟ أم تجاه البندشرات؟ أم تجاه الملك؟ أم تجاه المحكمة العليا؟ ويرفض الريشتاغ جميع الاقتراحات التي وضعت حول هذه المسألة، ويضحك بسمارك ويود أن يملأ الثغرة التي يمكن أن تقصيه عن الجامعة فيقرر تعيين نفسه مستشارا للجامعة بدلا من سافينيي الذي لم يعد أمره حد «حامل الرسائل»، وبذلك يجمع بسمارك بين مستشارية الجامعة ورئاسة وزراء بروسية نتيجة لتحويل انتقادات خصومه إلى فائدته، وبذلك تصير وظائف الجامعة تابعة لمستشار الجامعة بحكم المنطق، وبذلك يصير موظفو الجامعة موظفين لديه.
ويصبح بسمارك وحده مسئولا إذن، ولكن أمام من؟ لم يجرؤ أحد على قول هذا؛ فالذي يظهر هو أنه مسئول أمام الله فقط، والذي يبدو هو أن على بسمارك أن يقف في بؤرة
2
جميع المباريات التي يوجهها الريشتاغ ضده في السنين الثلاث والعشرين القادمة، وما السبب في قبول هذا المجلس لما عرضه هذا الوزير عليه إذن؟ كان يمكن المجلس أن يرفض ذلك المشروع لو أراد، وفي ذلك المجلس كان من الأعضاء من يكفون للتصويت لرواتبهم الخاصة، وفي ذلك المجلس لم يسجل سوى ثلاثة وخمسين عضوا أنفسهم للمراقبة البرلمانية وصولا إلى حكومة شعبية! وكان حزب الشعب وحده ويماثل جمعية العمال الألمانية العامة صريحا في مطالبته ب «الوحدة الألمانية ضمن دولة ديمقراطية، فلا سلطة مركزية وراثية، ولا ألمانية الصغرى برئاسة بروسية، ولا ألمانية الكبرى برئاسة النمسة».
وذلك الدستور لعدم فرضه من عل كالدستور البروسي، وذلك الدستور للتصويت له من قبل نواب ينتخبهم الشعب، يكون الشعب به مسئولا عن نتائجه أمام التاريخ.
وفي الواقع أن الريشتاغ انتخب وفق مبدأ التصويت السري المباشر وإن عارض بسمارك ذلك مدعيا أن ذلك يخالف صراحة الخلق الألماني وحريته، وكان لاسال ميتا، وكان لاسال أول من قال بحق التصويت العام، ولكن لاسال خسر الرهان الذي قال به كلاهما قولا ضمنيا؛ وذلك لأن أماني بسمارك تجمعت في بروسية الملكية، وكان الديمقراطيون يبصرون ما يحدث فلم يروا ترك مبدأ التصويت الذي لم ينفكوا يطالبون به منذ زمن طويل؛ لما في تركه من دواعي السخرية، وقد قال بسمارك «إذا دل التصويت العام على عدم صلاحه تخلصنا منه.» وبسمارك على الرغم من رغائب الأكثرية لم يكن ليريد مجالس جامعة لتأييد وضعه تجاه الريشتاغ، وبسمارك كان يرى - مع كبير ازدراء - أن أكثر أعدائه انحازوا إليه؛ لأن جيوش رون ومولتكه حققت سياسته، وبسمارك لم يرفض دستوره سوى تسعة عشر من ذوي النفوس الحرة عادين دستوره هذا «معيبا مضيقا معرضا حقوق الشعب للخطر»، ولم تجد في ذلك المجلس غير اشتراكي ديمقراطي واحد عرض مبادئ لاسال، وكان نظام الدولة الدستوري يذوي، وكانت حقوق الشعب ترجع القهقرى عند انتصار الحديد والدم، وأخذ قدماء المحافظين كغرلاخ يتأخرون بعد تمام الوحدة الألمانية بغير النمسة.
وكان الحزب الوطني الحر الجديد أقوى الأحزاب، وكان هذا الحزب يجمع بين عالمين كما يدل عليه اسمه، وكان لاسكر وتويستن وفوركنبك وأونروه الأعضاء في اللندتاغ البروسي، وبنيغسن الهانوفري زعماء له، وكان أرباب الصناعة الثقيلة وأصحاب السفن يمدونه بالمال، وكان الأساتذة يغذونه بالقواعد والاصطلاحات، ويعد بسمارك الأصوات ويتساهل في قليل من الأمور الشكلية ويسر حين يرى روح الإمبراطورية الجديدة شديدة القوة في بندشراته، وتجد لبسمارك في رئاسته لهذا المجلس سلطانا لم يتفق لآل هابسبرغ مثله في ألمانية قط مع أنه لم يكن له فيه سوى سبعة عشر صوتا من ثلاثة وأربعين صوتا، ويقول بسمارك في كتاب يرسله إلى رون: «لم أجد في الوجه الذي يسيطر فيه الملك على ألمانية كبير أهمية، ولكنني بذلت جميع جهودي وجميع ما أعطاني الله من قوة ليمارس سلطانه ذلك.»
ويتألف من الملك والمستشار والجيش ثالوث كان بسمارك يسعى في رفع شأنه، ويقع في الريشتاغ الجديد كفاح حول الأمر الذي وقف في اللندتاغ القديم؛ أي حول حق رفض المال في سبيل الجيش، والآن يشتد النزاع في اللندتاغ أيضا، «وإذا حدث أن جاهد رجل خمس سنين جهادا كبيرا إنجازا لما ترونه الآن بأعينكم، وإذا حدث أن بذل رجل أجمل أوقات حياته وضحى بصحته في سبيل ذلك، ثم إذا ظهر رجال هنا لا يعرفون غير قليل عن ذلك النضال فيسلكون مثل هذه السبل، أوصيتهم بأن يقرءوا فصلا من فصول هنري الرابع الأولى، وأن يقيدوا انطباعات هاري برسي عندما أتاه حاجب فسأله عن بعض الأسرى، وذلك وقتما كان ذلك الحديدي المزاج جريحا تعبا فأزعجه ذلك بكلام طويل عن الأسلحة النارية والقروح
3
الداخلية»، ويطالب بحق الريشتاغ في تعيين الميزانية؛ أي بحق تقرير مصير الجيش فينطق من فوق المنبر بقوله العاصف: «وماذا تقولون للرجل الذي أقعد في معركة كونيغراتز الهائلة إذا ما سألكم عن نتيجتها؟ تقولون له: إن ما هو خاص بالوحدة الألمانية لم يتم في هذه المرة بعد، فلا بد من إنجازه في فرصة أخرى. ومهما يكن الأمر فقد احتفظ مجلس النواب لنفسه بحق تعيين الميزانية؛ أي بما يلقي كيان الجيش البروسي في الخطر كل سنة. وهذا هو الأمر الذي من أجله قاتلنا إمبراطور بروسية خارج أسوار برسبرغ!»
ومنذ ست عشرة سنة كان النائب فون بسمارك-شونهاوزن قد وقف فوق ذلك المنبر وقال محتجا على محاربة النمسة، حين كان الأحرار يصرخون مطالبين الوزيرين، رادوويتز ومانتوفل، بشهرها ردا لإهانة أولموتز: «وهل يكون عندكم بعد ختام الحرب من الشجاعة ما تدنون به من الفلاح الذي ينعم النظر في حقله المحروق، أو من الرجل ذي العضو المقطوع، أو من الوالد ذي الولد المفقود، فتقولوا له: أجل، إنك لاقيت من الآلام ما لاقيت، ولكن كن قرير العين معنا، فقد أنقذ دستور الاتحاد؟!» ولا بد من وجود أعضاء في المجلس العتيد سمعوا قول بسمارك في تلك الأيام فيودون تذكيره بكلماته المذكورة قائلين له: «إن ما أراده رادوويتز من إقامة اتحاد برئاسة بروسية ومن غير النمسة تم بعد ست عشرة سنة، وإن بسمارك الذي لم يكن آنئذ كونتا ولا موظفا من موظفي الدولة سخر على غير حق من نأمة
4
الخطيب الحبلى ب «مرحى»
5
ومن أسلوبه الحافل بالأسرار ومن كلامه المرصع الفخم، وإنه ليس عليه إلا أن يكرر خطبة رادوويتز!» فلم يكن للحرب التي حال دونها في الأيام السابقة، ولهذه الحرب التي أدى إليها حديثا، غير غاية واحدة، غير الوصول إلى دستور ألماني جديد، وليس للرجال الذين جرحوا في معركة كونيغراتز نتيجة للحرب التي أوجبتها وزارة بسمارك سلوان أحسن مما يتفق لهم نتيجة لحرب كان يوجبها رادوويتز.
والحق أن أمر الوحدة الألمانية لم يتم حتى ذلك الحين، والحق أن ديمقراطيي جنوب ألمانية يجاهدون في سبيلها، غير أن أمراءهم كانوا يقاومونها، وأمير بادن وحده - وقد كان صهرا للملك ولهلم - هو الذي كان يبدي بعض الإخلاص، فلما دعا بسمارك دول جنوب ألمانية إلى برلمان اتحاد جمركي احتجت كلها على ذلك قائلة: «إن ذلك هو الخطوة الأولى نحو الوحدة الألمانية.» ولما شرب سفير بافارية نخب منافس ملكه البروسي صنع ذلك عاجيا
6
وجهه، وكان زعيم بافارية الأمير كلودويغ هوهنلوهه وقد ذكر هذه الملاحظة معارضا لفكرة انتساب بافارية إلى الجامعة، وكان البلاط البافاري والمجتمع البافاري معارضين لذلك أيضا، نعم إن بافارية بلد كاثوليكي، ولكن بروتستانية الشمال لم تكن وحدها سبب الاعتراض؛ فما كانت بافارية لتطلب أكثر من «جامعة لدول ألمانية» وفق ما يقتضيه «وضع آل فيتلسباخ التاريخي» وتفضل بافارية أن ترتبط في النمسة أكثر من ارتباطها في بروسية، ويرى هوهنلوهه بعد معركة كونيغراتز احتمال وقوع حرب بين بروسية وفرنسة، فيقول: «إذا ما حدث ذلك حاربت بافارية والنمسة بجانب فرنسة.» حتى إن الناس في ورتنبرغ كانوا في أوائل سنة 1870 يفضلون «أن يكونوا فرنسيين أكثر من أن يكونوا بروسيين»، وذلك لأسباب أخرى؛ وذلك لأن أهل ورتنبرغ كانوا يودون أن يكون لهم جيش محلي على طراز الجيش السويسري فلا يكون «آلة لقتل الأمم»، وذلك حين كانت ملكة ورتنبرغ الروسية الأصل تحوك المكايد ضد بروسية، ودوك هس الأعظم هو الذي كان يقيم أدق دليل على مشاعره الألمانية، فهذا الدوك ويؤيده وزيره دالفيغ قد أنبأ في خريف سنة 1868 محافظ ستراسبرغ بأن ذلك هو الزمن الذي يجب على فرنسة أن تهاجم فيه بروسية، ويقدم هذا الدوك في الوقت نفسه قسم هس الواقع في غرب الرين إذا ما عوضه نابليون الثالث من ذلك على حساب دوكية بادن.
وينتظر بسمارك هادئا، ويدع بسمارك للدول والأشخاص من الوقت ما يكفي للتقرب، ويقول لوزير ورتنبرغ في ربيع سنة 1870: «لا تؤدي محالفة دول الجنوب إلى تقويتنا عسكريا، ولا نحتاج إلى إدماج هذه الدول فينا سياسيا، ومن الصعب أن يعرف أشد الناس عداوة لبروسية: أمحليوكم أم ديمقراطيوكم، ويأتي الضروري قبل الكمالي عند السياسي، وإذا ما ألقيت شركا لاصطياد أيل لم أطلق النار على أول أيل يأتي، وإنما أنتظر تجمع جميع القطيع.»
الفصل الثالث عشر
ما انفك بسمارك يتطلع إلى فرنسة منذ عشر سنين، ولا سيما في الأشهر العشرة الأخيرة؛ ففرنسة هي الدولة الوحيدة القادرة على الوقوف بينه وبين هدفه، وكان هذا القطب السياسي يهدف بطموحه إلى توحيد ألمانية من غير أن يقهر فرنسة؛ وذلك لأنه لم يثر فخره شيء أكثر من براعته في منع فرنسة من التدخل في الحرب الأخيرة، ولا جرم أن ما فطر عليه بسمارك من عنف مزاج يوجب عده الحرب من «أحوال البشر الطبيعية»، ولكن كما أن خصام بسمارك للشعب كان لا يؤدي إلى رغبته عن الحكم بغير الأشراف، ولكن كما أن ما يجده بسمارك من لذة في مخاطر الصيد والغابات البرية والمبارزات الفردية والتمرينات العسكرية كان لا يؤدي إلى حسبانه الحرب وسيلة وحيدة لتقوية إحدى الأمم، كان بسمارك في عشرات آلاف الجمل التي كتبها أو نطق بها فرويت عنه لا يرى في الحرب مغتسلا يشد الشباب، وما كان بسمارك في كتبه حول الحرب ليتكلم عن عظمة الحرب، بل كان يتكلم فيها عن جدية الحرب، وبسمارك - وقد كبر أولاده - درس أمر الحرب عن كثب في بوهيمية فصار خصما للحرب، وبسمارك قال مؤكدا غير مرة: إن منظر ميادين القتال ومنظر المشافي العسكرية جعلاه أكثر حذرا مما كان عليه، وبسمارك لم يقل هذا أمام الأجانب وحدهم تسكينا لهم، وإنما قاله لخلصائه أيضا.
وإلى ذلك يضاف شعوره النامي بمهنته، وكلما ذاع صيت بسمارك في أوروبة وفيما وراء أوروبة وكلما اتسع نطاق استخفافه قل إعجابه بفن القيادة الحربية، وبسمارك قد قال بعد نصبه رئيسا للوزارة ببضعة أشهر: «إن الناس أكثر غباوة مما كنت أظن!» وبسمارك إذ لم يعرف الخوف قط، وبسمارك إذ كان يشابه سيغفريد
1
وهاغن
2
من هذه الناحية، وضع الحرب غير هياب في جامع أدويته، عازما على استعمال هذا السم القوي عند عدم نفع السموم الأخرى، والذي يجعل بسمارك وحيدا بين الألمان هو ما اتصف به من ذكاء نادر وشجاعة فائقة.
وبسمارك - فضلا عن ذلك - لم يجد له نفعا في فتح يتم له في فرنسة، وبسمارك كان يفضل قهر فرنسة في الميدان الدبلمي على قهرها بجيش مولتكه في الميدان الحربي، وبسمارك - مع ذلك - كان يعد الحرب - في غير دور - أمرا لا مفر منه، وبسمارك قال في اللندتاغ في أواخر سنة 1866: «ليس لنا ما نكسبه في حرب تقع بيننا وبين فرنسة فننصر فيها، ويختلف الإمبراطور نابليون «الثالث» في هذا عن بقية أسر فرنسة المالكة فيرى بعين حكمته أن السلم والثقة أمران تقتضيهما مصلحة الأمتين، وأن الطبيعة لم تعد إحدى هاتين الأمتين لتحارب الأخرى، بل تقضي عليهما بأن يسلكا سبيل الرقي جارتين، ولا تود فرنسة أن تقوم في ألمانية دولة قوية موحدة بزعامة النمسة، ولا توازن بقيام إمبراطورية مشتملة على خمسة وسبعين مليونا من الآدميين ولا بامتداد حدود النمسة حتى نهر الرين، ولا بتوسع فرنسة حتى نهر الرين، ولا يكون إلا قليلا ما يؤدي إلى علاقات عدائية من نقاط التماس بدولة ألمانية منفصلة عن النمسة، ولا أعتقد أن فرنسة ترى من مصالحها زوال سلطان بروسية أو سلطان النمسة.» وبسمارك منذ عشر سنين كان قد حادث نابليون الثالث في حديقة فونتنبلو فقال له: «إنك ستقع في الوحل.»
وبسمارك في خمس سنين ألهى نابليون بالحديث حول بلجيكة، وبسمارك بعد أن أبصر قوة نفسه أوصاه بأخذ اللوكسنبرغ على أنها في الدرجة الثالثة من بلجيكة؛ وذلك لأن طمع الفرنسيين في الأملاك وهم الذين أوجب توسع بروسية قلقهم، لم يهدف إلى غير فراسخ مربعة، سواء أكان ذلك في نيس أم في بروكسل أم في تريف أم في لندو أم في اللوكسنبرغ، ولا شيء يدل على حب نابليون الثالث للنفوذ المحض في مزاعمه أكثر من نقص خياره، وهو أنه لا يبحث عن الأنفع، بل يتطلع إلى ما يسوله له خياله، وكان بسمارك سخيا في عرضه بلجيكة على الخصوص، والآن حين حلت الجامعة الألمانية أمكنه أن يكون كريما بعرضه اللوكسنبرغ أيضا، وذلك مع تصريحه بزوال حقوق بروسية عنها مع مرور الزمن، ويلوح لبسمارك أن أسهل طريق وأنسب سبيل لإرضاء فرنسة هو أن يبيع ملك هولندة (وهو الذي أصبح بالوراثة والمبادلة صاحبا للوكسنبرغ منذ ثلاثين سنة) هذا البلد الصغير من نابليون الثالث ببضعة ملايين من الفرنكات، «فأمضوا عقد البيع من فوركم، ثم أخبرونا بذلك.» وهذا ما قاله بسمارك لبنيديتي، وهذا لكي يجعل بسمارك الريشتاغ أمام أمر واقع!
ويدور بين الناس خبر ذلك المشروع، ويرفع في جميع ألمانية صوت كما رفع أيام مسألة شليسويغ وهولشتاين، فيقال: «لا ينبغي لعدونا التقليدي أن يقبض على بلد ألماني من الأساس.» ويريد أركان الحرب شهر الحرب لعدم استعداد فرنسة لها، ويحول بسمارك دون ذلك، وينذر بسمارك خصومه بنشر صكوك الحلف الدفاعي الهجومي مع دول الجنوب، ويفيد بسمارك من مخاوف ملك هولندة الذي لم يبين له بسمارك ماذا يود، ولا يدع بسمارك جنرالا هنغاريا يباغته فيحول الحديث من فوره إلى احتمال محاربة فرنسة، ويقول ذلك الجنرال: «لا أزال أذكر التماع عينيه حينما أبصر معرفتي لأفكاره السرية، وقد كان من ضبط النفس ما لا أستطيع معه غير الإعجاب به، وقد قال لي برقة: لا أريد محاربة فرنسة أبدا.» ثم التمس بسمارك من هذا الجنرال المجري أن يبلغ إلى الإمبراطور ضرورة استدعاء بنيديتي، ويقول بسمارك لهذا الجنرال: «على أن صاحب الجلالة الإمبراطور يعرف آرائي حول بلجيكة من مشروع المعاهدة التي حادثت بنيديتي في أمرها، وأما اللوكسنبرغ فلا أبالي برأي الأكثرية فيها، وإنما أقول خذوها!» ويقص الجنرال الهنغاري الخبر في قصر التويلري فيقول الإمبراطور: «أعرف جيدا أن بنيديتي مزعج، وهو قد ملأنا وعودا، وزد على ذلك كون بسمارك يعرض علينا دوما ما لا يملك.»
ويريد بسمارك اجتناب محاربة فرنسة، ويحادث بسمارك نائبا في مسألة الحرب فيضع الأمر كما يأتي: «لا أعد الحرب أمرا لا مناص منه، ولا أجد نفعا جديا لنا ولا لفرنسة، لا يمكن تقريره بغير قوة السلاح، ولا يجوز لأحد أن يبادر إلى الحرب ما لم يوجبها شرف البلاد (الذي يجب ألا يخلط بالنفوذ) أو مصالحها الحيوية، ولا يحق لرجل سياسي أن يبدأ حربا لاعتقاده أنها أمر لا مفر منه في زمن معين، ولو سار وزراء الخارجية مع ملوكهم أو قوادهم إلى ميادين القتال لسجل التاريخ من الحروب ما هو أقل مما وقع، وقد رأيت الشبان يهلكون في ساحة الوغى وفي المشافي العسكرية، والآن أرى من هذه النوافذ كثيرا من مقعدي الحرب يرفعون رءوسهم وهم يمرون من ولهلمستراس فيقول الواحد منهم في نفسه حينما ينظر إلى وزارة الخارجية: لولا ذلك الرجل الجالس هنالك، ولولا ما أوجبه من حرب لعينة، لسلمت أعضائي الأربعة وتمتعت بصحة جيدة، وهذا إلى ما لا يتيسر لي من ساعة راحة، وهذا إلى ما يساورني من لوم نفسي على شهر حرب عن طيش أو عن طموح أو عن حب لفخر الأمة.»
ويروي نجيه
3
كودل صدور مثل تلك الأحاديث عنه سواء حول مائدة الكتابة أو في المساء بعد العمل، ويظهر أن تلك الأحاديث صحيحة وأنها تنم على شعور أعمق من الذي يخالط خطب المنابر المدقق فيها، ونسبر غور الفؤاد البشري في تلك الأوقات حين لا يحدث عن الله أو عن الملك، ونبصر كيف أن حسابات لاعب الشطرنج الدقيقة تحرك الفؤاد وتقيده، ونرى في المرصد الهادئ المنفرد تسجيل عقرب مقياس الزلازل الصادق لهزات داخل الأرض.
ويخاف ملك هولندة ثوران ذلك البركان ويطلع بسمارك على ما تعرضه فرنسة، ويزيد الهياج في ألمانية، ويتكلم كل إنسان عن ذلك الإخلاء الذي سيقع في الحال، ويزور بنيديتي بسمارك في اليوم الأول من أبريل صباحا ليهنئه بعيد ميلاده، ويود هذا السفير أن «يبلغ إليه رسالة مهمة»، ولكن بسمارك يقاطعه بقوله: «ليس لدي وقت أعالج فيه الأمور، وعلي أن أذهب إلى الريشتاغ لأجيب عن سؤال حول اللوكسنبرغ، وإذا ما رافقتني أطلعتك على مضمون جوابي، ولن أسمع قولا عن نتيجة المفاوضات؛ لأن هذا يعني قطع العلاقات بفرنسة، ولو حدث أن علمت بيع ذلك البلد رسميا لوجب علي أن أبلغ ذلك إلى الريشتاغ، والآن نحن هنا، ولأفارقك، وهل لديك يا صاحب السعادة برقية تعطيني إياها؟» ويبتسم المتفائلون.
وفي الداخل يغدو بنيغسن مشهورا؛ نتيجة لخطبة وطنية طنانة نطق بها، ويتفاهم هذا الخطيب مقدما هو وبسمارك ليظهر لفرنسة قوة الحركة القومية في ألمانية، ويقول هذا الخطيب: «وهل قررت حكومة بروسية أن تسير وفق رغبة الريشتاغ الإجماعية فتعمل من غير خطر وباستمرار على ربط دوكية اللوكسنبرغ الكبرى ببقية ألمانية وعلى حفظ حق بروسية في فتح قلعة اللوكسنبرغ؟» ولم تعد هذه المسألة حد البيان لما عقبها من تظاهر جميع الأحزاب العجيب، وينهض بسمارك ليلقي إحدى خطبه البارعة، واليوم يستطيع بسمارك أن يصير شعبيا، ولا شيء أسهل من هذا؛ فما عليه إلا أن يترنم بالشرف القومي؛ أي بالحرب حتى يلتف الجميع حوله، غير أن بسمارك رأى أن يسلك سبيل الحذر أمام ذلك المجلس الهائج بدلا من أن يبدو رجل الحديد، فإليك ما قال: «بعد النظر إلى دقة شعور الشعب الفرنسي، وبعد النظر إلى العلاقات السلمية الودية بين الحكومة البروسية وحكومة تلك الأمة المجاورة العظيمة، أترك السؤال الذي وجه إلى حكومة جلالته بلا جواب.» ويسود الجو صمت عجيب، ويقول بسمارك: «وليس لدى حكومة جلالته ما يدفعها إلى افتراض عدم وجود قرار حول مستقبل ذلك البلد حتى الآن، كما أنها لا تعرف أن العكس هو الصحيح، وأنه إذا ما اتخذ قرار في ذلك لم يصل إلينا أو أنه لن يصل إلينا.»
ويصل فحوى ذلك الكلام مساء إلى ملك هولندة فيمتنع عن التوقيع الموعود حول بيع اللوكسنبرغ، ويستحوذ الذعر على الرجل المريض نابليون، وتضطرب وزارات أوروبة، وتتبادل هذه الوزارات البرقية بالشفرة،
4
وتوضع خطط الغزو، ويقترح قيصر روسية عقد مؤتمر - على حسب عادته - وترى لندن مثل ذلك، وتقرر لندن حياد ذلك البلد الصغير وهدم حصونه، وعبثا يحاول في باريس وصف ذلك بتراجع من قبل بروسية، وعبثا يحاول في برلين وصف ذلك بتراجع من قبل فرنسة، وهكذا يكدر صفو الوفاق ويسود الحقد، وستقع الواقعة بين الفريقين بعد ثلاث سنين.
ويصبح نابليون الثالث بعد الآن عدوا لبسمارك بلا كيفية؛ وذلك لما يحس من مخادعته إياه للمرة الثانية، ويبدأ نابليون الثالث بمفاوضة فلورنسة وفينة جديا، وما تحمله هذه الدول الثلاث من بغضاء لبروسية فيقرب بينها، وتزيد أعصاب أقطاب السياسة توترا بين سنة 1867 وسنة 1870، ويضاعف أركان الحرب جهودهم في التأهب كما وقع قبل حرب سنة 1914، وتنتشر أسهم البغضة
5
المصنوعة من باريس إلى خارج الحدود بعد ختم الخصام الأخير، وأقول «المصنوعة»؛ لأن الأمة الفرنسية في مجموعها ليست أقل من الأمة الألمانية ميلا إلى السلم، والآن فقط يعطي بسمارك صحافة البلاد كلمة السر، فعلى الصحف «أن تظهر أكثر سلاطة وأشد وطئا وأقوى وعيدا، ويجب أن يكون المسدس في الجيب والإصبع على الزند وأن ترقب أيدي جارتنا المتهمة رقابة وثيقة فتعلم أننا لا نتردد في إطلاق النار بسرعة وبقصد القتل إذا ما حاولت مجاوزة حدودنا».
وشدة اللهجة هذه من قبل بسمارك تجاه فرنسة أمر جديد، وبسمارك كان يتكلم بهذا الأسلوب ضد النمسة وحدها، وبسمارك يقول لأحد زائريه في سنة 1868 إن تقلب نابليون سيجعل وقوع الحرب أمرا لا مفر منه في سنتين - على ما يحتمل - وبسمارك يعرب لزائر آخر عن السبب الأساسي الذي يجعله مسرورا من الباعث الذي يجعل وقوع الحرب أمرا لا مفر منه، «فلا تتم لأكثرية الألمان وحدة أوسع نطاقا مما حدث بغير العنف، أو بغير خطر مشترك يثير غضبهم»، ثم يتوارى هذا الباعث في نفسه، ويصف بسمارك لصديقه كيزرلنغ في حديث سري ما كان للحرب الأخيرة من انطباعات هائلة فيه، فيقول: «وماذا تكون النتيجة إذا كتب النصر لبروسية على فرنسة؟ ولنفترض أن الألزاس غدت قبضتنا، فهنالك يجب علينا أن نحافظ على فتحنا هذا بأن تكون لنا حامية دائمة في ستراسبرغ، وهذا وضع متعذر؛ وذلك لما يتفق لفرنسة من حلفاء في نهاية الأمر، ولما يكون لنا بهذا من سوء حال حينئذ.»
الفصل الرابع عشر
«إذا ما هددت بالاستقالة أخذ مولاي الشائب يجهش
1
بالبكاء وينشج
2
ويقول: وأنت الآن تريد أن تتركني؟ فماذا أصنع بعد ذلك.» فعلى هذا الوجه يصف بسمارك صلته بالملك في حديث له مع كارل شورز الغريب عنه تماما، ولا ريب في أن له غاية من وراء ذلك؛ فهو يريد أن يبين للولايات المتحدة ضرورته وأن يذيع أمره فيها، وهو يبلغ هذا الهدف مضحيا بكرامة ولي أمره، ويقول بسمارك لوزير سكسونية، ويريد نشر الوزير لقوله هذا في بلده: «ترى ثقافة مولاي ناقصة مع شعوره العظيم بالواجب؛ وذلك لأن أباه لم يعن بغير تربية أخيه الأكبر تربية كافية، وفي هذا سر ما نبصره من عدم وجود رأي خاص به ومن اتباعه للآراء التي تتجاذبه من مختلف الجهات.» وفي ذلك الدور يكون لبنيغسن صلات كثيرة به، فيقول في كتاب إلى خل
3
له إن بسمارك يزدري جميع الوزراء ماعدا رون، «وإن كل واحد من الملك وبسمارك يبغض الآخر أكثر من أن يحبه، وإذا نظرت إلى علاقاته بوارث العرش وجدتها فاترة إلى الغاية.»
ويلوح أن تعبير «البغض» غير صحيح؛ فبسمارك قد تعود الملك، وبسمارك عانى كبير عسر في جعل الملك يتعوده، وبسمارك يكون - بما تم له من فوز على الملك - قد روض صاحب السلطان الوحيد الذي يحتمل وجوده فوقه، وبسمارك وإن بدا الحصان الحامل للفارس الملكي في بدء الأمر غدا اليوم الفارس، ويتكلم بسمارك عن حرب الأسابيع السبعة من سنة 1866 فيقول: «لقد همزت
4
في ذلك الحين بشدة لأحمل الجواد الأصيل القديم على الوثوب والمجازفة.» والطريق التي يسلكها عندما يبصر جماح الملك هي ما يبديه من الروائية في طلب الإذن له في الاستقالة، وذلك كما فعل في أوائل سنة 1869 حين انتزع إقالة أوزدوم الذي ساوره شك في أنه سيخلفه ما أبصر من صلة الملك الوثيقة به كأحد البنائين الأحرار: «وإن الحافز الوحيد هو نقص قواي وصحتي نقصا لا أنجز معه ما تطلبه جلالتكم من الخدم، وإن مجموع الواجبات الملقاة على عاتقي مما لا يمكن إتمامه إلا ببذل جميع نشاطي، وبضمان جلالتكم تهوين ما يلازمني من شدة في اختيار زملائي، وبمنحي كامل ثقتكم، وبما يؤدي إليه هذا من حرية السير.» ومما يزيد عزمه تثبطا «هو أن جلالتكم بما عليه من أريحية مجيدة تجاه كل واحد من خدمها وتجاه مقتضيات الخدم تؤثر تأثيرا ضارا ببواعث ذلك الذي يحتمل نتائج أعمال الآخرين الناقصة، وما علي أن أحتمله من كفاح في حياتي الرسمية فقد أورثني زوال الحظوة لدى الأكابر وجعلني موضع نفور عند ذوي النفوذ، ولي أن أطمع في عفو جلالتكم تجاه هذا الضعف الذي هو نتيجة حبي لشخص جلالتكم والذي قد يكون نتيجة اعتلال، ولا أشعر بأنني أعيش طويلا، وأخشى أن أصير إلى ما صار إليه الملك الراحل، وليس لي معذرة لدى جلالتكم في إدارة الشئون الرسمية مع ضعف صحتي».
ذلك الكتاب من الغرر، ويروي بسمارك نفسه أنه ظل مضربا بعض الإضراب عن العمل عدة أيام قبل أن يرسل ذلك الكتاب، وفي الكتاب تعداد لمآثم الملك، وفي الكتاب يذكر بسمارك أن الملك ولهلم يفضل عليه لأسباب شخصية أناسا كانوا يتدخلون في أعماله فيعرضونه لبغض الناس، وهكذا يخسر قواه البدنية والذهنية، وهكذا يتدرج إلى الجنون كالملك الراحل، ولا يشفيه مما هو عليه غير أمر واحد، غير حرية السير.
ويفزع الملك، «وكيف تظن أنني أسلم بما تطلب طرفة عين؟ إن هناءتي في أن أعيش معك وأن نكون متفاهمين دوما! وكيف تكون مكتئبا بهذا المقدار فيدفعك اختلاف صغير في الرأي إلى اتخاذ هذه الخطوة التي لا مبرر لها؟ إن اسمك في تاريخ بروسية أعلى من اسم أي قطب سياسي بروسي كان، وكيف أدع سياسيا مثلك يترك خدمتي؟ كلا، إن في الهدوء والرجاء ما يذلل كل صعوبة، صديقك المخلص: ولهلم.» وتكرر كلمة صديق ثلاث مرات، ويضحى بأوزدوم، ويمكن قياس قوة مشاعر الملك عند تسريح أخيه من البنائين الأحرار، أوزدوم، بإظهاره الفرق بين دخل أوزدوم الرسمي وما ينفقه من ماله الخاص، وبلغ حز ذلك في نفس الملك ما قال معه في كتاب ثان: «ولي ثقة بأنك لا تراني أجعل أصابعي في أذني تجاه أصوات أولئك الذين يتوجهون إلي في الأوقات الخطيرة مطمئنين.» ولما بلغ من الحال ما طلب معه الإذن له في ترك منصبه الملكي بحجة التعب أيضا كما طلب بسمارك كتب بسمارك على الهامش قوله: «كلا! ولكن مع الاطمئنان - بسلامة نية - إلى ما لا يستطيع الإنسان أن يراه بنفسه بين ثلاثين مليونا، ومع اعتقاد ما يؤكده الوزير رسميا!» ويوقع الملك مع جملته الجميلة للمرة الأولى: «الشاكر لكم إلى الأبد: الملك ولهلم.»
ويصبح الوضع مقبولا مع ولي العهد، ويلطف النصر حدة كلا الرجلين، ويستطيع أمين سر فردريك دنكر وهو من الأحرار أن يضع مشروع دستور، وإن لم يقبل بسمارك هذا المشروع، وينطلق الأحرار الوطنيون إلى المناصب الوزارية، غير أن الأميرة فيكتورية وهي أكثر من زوجها حماسة وغطرسة اغتنمت ذات يوم فرصة حديث حول مائدة عشاء، فهاجمت الوزير «مع مؤانسة ومناكدة» قائلة له: «من الواضح يا كونت بسمارك أنك بلغت من الطموح ما تطمع به أن تكون ملكا أو رئيس جمهورية!»
ويجيب بسمارك عن هذا التنكيت قائلا بجد تام: «لا أكون جمهوريا صالحا، ومن تقاليد آلي أن أحتاج إلى عاهل من أجل سعادتي الدنيوية، ولكنني أحمد الله على أنني لا أضطر دوما إلى العيش على طبق كالملك، ومن المحتمل ألا تعم قناعتي الشخصية، ومما لا أفترضه أن يفنى الملكيون وإن هلك الملوك، وقد يكون الجيل المقبل جمهوريا عند عدم وجود ملك.»
ويشتمل ذلك القول على ثلاثة أفكار، ولكل واحد منها طعنة كالسهم، والطعنة الأخيرة مميتة؛ وذلك لأنه ألمع بها إلى عطل زوج الأميرة من الصفات الخاصة بالملك.
وإذا كان عدد مثل تلك السهام التي تنم على عبقرية ذلك الدبلمي الموهوب يزداد مع الوقت؛ فلأن كل واحد يقيد كتابة ما يقوله بسمارك له بعد الآن. وكان كارل شورز ثوريا في سنة 1848 فهاجر إلى الولايات المتحدة، فعاد إلى برلين بعد عشرين عاما جنرالا أمريكيا مملوءا تحاملا شخصيا على ذلك الشريف، ويدهم بسمارك ذلك الجنرال الذي لا تلين له قناة، ويجتمعان، ويقول الجنرال عن بسمارك: «تبصر حيوية نطق، وتبصر لطائف وأماليح،
5
وتبصر ضحكا يسري مسرة حينا ويسري استهزاء حينا آخر، وتبصر انتقالا مفاجئا من مزاج بهيج إلى شعور عميق، وتبصر مرحا في روايته أقاصيصه ، وتبصر إيقاعا منيعا، وتبصر وراء ذلك كله شخصية قوية.» ويدعى شورز إلى تناول العشاء في الغد، وكان الضيوف الآخرون من قدماء المحامين المتعبين، ويطلب منه أن يبقى عندما انصرفوا، والآن يبدو بسمارك ودودا فيسأله عن أمريكة بحرارة.
وحالة بسمارك الصحية هي من حيله الدبلمية، وهو إذا ما أراد انتحال الضعف وعدم النفوذ وعدم الاكتراث قال إنه عليل، وقد قال في عرض عسكري فسمع قوله نحو عشرين شخصا من الحضور: «ساءت صحتي سواء داعيا إلى الشفقة، فصرت غير قادر على الأكل والشرب والضحك والتدخين والعمل، وأفلست أعصابي، ولم يبق لي دماغ خلف هذا الجبين، ولم يبق لي وراء هذه الجبهة غير كومة من الهلام.»
6
وبسمارك إذا رافق الملكيين مثل دور الناصح المستقيم، ومع ذلك أن قال لأحد أساتذة الحقوق الدستورية إن آل هوهنزلرن إذا ما وجهوا قواهم ضد الأشرار العند «انحاز آلي إلى فرع الشرفاء الذي يقاتل بجانبهم على ضفة نهر الإلبة اليسرى حملا لأشراف ضفة نهر الإلبة اليمنى على الطاعة.» وإن كان هذا هو عكس الصحيح.
وإذا ما أتاه رجل سياسي من ستوتغارت انتحل وضع الديمقراطي وتكلم حول المائدة عن نعم الخدمة العسكرية الإلزامية؛ وذلك «لأنني كنت ابن والدتي المدلع،
7
وقد كان من الخير العميم علي أن ألزم في الحين بعد الحين بحمل بندقية على كتفي وبالنوم على التبن، ولا تعرفون مقدار أثر ذلك في الفلاح الذي يمكنه أن يقول: هنالك كان الشريف بجانبي وقت التمرين، وذلك أمر طيب لأبدان الضباط أيضا؛ وذلك لأنه إذا وجد بين الجنود العاديين مثقفون أمعن الضباط في ملاحظة أنفسهم بحكم الضرورة.» وبسمارك أراد أمام ذلك الورتنبرغي أن يطلي الخدمة العسكرية بصبغة شعبية وإن لم يكن ولدا مدلعا في الحقيقة، وإن لم ينم على التبن إلا عند تلهيه بالصيد في الحقيقة، وإن كان يكره التمرين العسكري في الحقيقة.
وقال رون في تلك الأيام: «هو يعتقد إمكان اكتسابه كل شخص وتسييره بأسلوبه الدبلمي وذكائه النادر، وهو محافظ مع المحافظين وحر مع الأحرار، وهو يستخف بجميع من يحيطون به أو يسير مع الظنون بما يفزعني، وهو يود - بأي ثمن - أن يكون كل شيء لدى كل إنسان في الحال والمستقبل؛ وذلك لأنه يشعر بأن البناء الذي أخذ يشيده سينهار بين ضحك العالم وازدرائه عندما يسترد يده، وليس هذا بعيدا من الصحة، ولكن أتبرر الغاية الواسطة؟ وهل تقدس الوسيلة؟» فهذا هو الذي يسأله صديق بسمارك الحميم رون، وهذا هو الذي يسأله الرجل الحديدي رون الذي يعد الواجب إلها، ويرتعش رون أمام تلك الروح التي استدعاها.
وبينما ترى بسمارك مع تغايره الشخصي يقدر أثر كل كلمة ينطق بها - ولو بين الأخدان - تجده غير مبال بالصيت، وقد ظل بسمارك على هذا الوجه مدى حياته، وهو لا يبالي بالصيت لاحتقاره إياه، وهو يحسب تأثير كلماته لقيمة هذا التأثير في سياسته، وهو لعطله من البطل يجد من المكروه «أن يحدق إلي في كل محطة كما لو كنت يابانيا.» أو أن ينظر إليه كل شخص إذا ما كان في فولكسغارتن بفينة «كما لو كنت فرس ماء جديدا معدا لحديقة الحيوانات.» وهو يرى الألقاب والأوسمة مثيرة للسخرية، وهو يحذف في الرسائل الرسمية بعض العبارات المزوقة المعهودة ليبدو على حقيقته.
وهو يدعى ذات يوم مع وزيرين إلى الاجتماع بالملك فيسأل الحاجب عند وصوله: «ألم يحضر المضحكان بعد؟» وهو يرى في حفلات البلاط الراقصة ما يسليه إذا ما رقص عند بدئها، بيد أن الملك لم يتمالك أن يمنع الأميرات من الرقص معه «لعذل الناس إياي على اختياري رجلا خفيفا لرئاسة مجلس الوزراء.» ولم ينفك شريط نسره الأحمر يملص ذات حين فيأذن لموظف بالبلاط في شده، وفيما كان يعاني مضض الصبر على ذلك أشار إلى أمير بإصبعه قائلا: «إن الأوسمة تظل حيث هي لدى هؤلاء الأمراء، فأظن أنهم ولدوا ذوي جلود مرصعة بالمحاجم،
8
أي بالممسكات لمثل تلك الأدوات.»
وتنشر صحيفة «كلاديراداتش» له صورة هزلية كصائد، وينصحه هوهنلوهه بعدم الاكتراث، فيقول له غاضبا: «لا أبالي بحملتهم على سياستي، وهذا لا يثير سوى تبسمي، ولكن لا هزل حول الصيد؛ فالصيد أمر جدي!» وعلى ما كان من اتصاف زوجه بالقناعة لم يسمح لها بتمثيل دور ربة المنزل الريفية المقتصدة في بلد الماء المعدني بادن على الأقل، ويميل بسمارك إلى السخر من مظاهر الحياة الرسمية، وإذا ما ذهب بسمارك إلى البرلمان أو إلى بيته، وهو الذي لا تجده في غيرهما إلا نادرا، تراه مع ذلك مبديا هدوء المولود أريستوقراطيا، ولا يري بسمارك أفعاله العصبية لسوى خلصائه، لسوى أقربائه في الغالب، لسوى أمناء سره في بعض الأحيان، حتى يرووها للأعقاب.
ونال بسمارك كبير شهرة في أوروبة بأسرها، ويلقبه الدبلميون في برلين بالساحر العظيم أو بساراسترو، ويملأ اسمه الرسائل والمذكرات في العواصم الأجنبية، ويقول ميريمه دوما إن هذا الشيء أو ذلك الشيء سيكون «ما لم يقرر السيد بسمارك عكس الأمر»، ويجيد زولا وصفه ضيفا في قصر التويلري، فيقول: «يجاوز ساكارد القاعة منتصرا متأبطا ذراع خليلته جومون التي يقاسمه الإمبراطور إياها ويتبعه زوجها فيغرق الكونت بسمارك في الضحك، مع بعض الضيوف، هنيهة طويل النجاد
9
رياضيا ساخرا ناظرا إلى مرور الثلاثة مستطلعا.»
واشتهر بسمارك في ذلك الحين بواقعيته أكثر مما في المستقبل، وعد بسمارك في ذلك الحين متحللا فحار الخبراء من اختلاط حريته بحيلته، وقال بنيغسن: «إنه خادع الفرنسيين في مسألة اللوكسنبرغ خداعا عجيبا، أجل إن الدبلمية من أكثر أمور الدنيا كذبا، ولكنها إذا ما استعين بها لمصلحة ألمانية فبذل كثير خداع وعظيم نشاط في هذا المضمار كما صنع بسمارك لم يسع الإنسان إلا أن يقضي منها العجب.» ومن غير وصف له بالبطل كان دبلميو العصر يتناقلون كلماته مشافهة وكتابة، ومن ذلك ما رواه بوست
10
وهو: «قال بسمارك لغاستن: لم نفكر طرفة عين في ضم النمسة الألمانية إلى الريخ، وأقرب من ذلك تفكيرنا في أمر هولندة، وتمضي بضعة أشهر فيذكر لي سفير هولندة الذي غادر برلين إلى لندن أن بسمارك صرح له موكدا بأن أحدا لا يتطلع إلى هولندة، وأن التفكير في أمر النمسة التي هي ولاية ألمانية أقرب من ذلك!»
والحق أن بسمارك لم يرد هذه ولا تلك، وإنما كان يهدف إلى جعل جيرانه وخصومه قلقين مذعورين، وما كان غير هذا حاله أيام دراسته، ومن المحتمل أن أتى بتينك الملاحظتين ليتناقلهما الأجانب، ولم يكن ليبالي بمن هو حاضر، ولم يكن ليمتنع عن صب أشد ما عنده من القدح، وكان يطيب له نعت خصومه باللؤم، وكان حين أنسه يقول عن هذا أو ذلك «إنه أبله!» وكانت هذه الحريات التي يبيحها لنفسه في تلك الأمور نتيجة ضرورية لزهوه ولكرهه لغيره وسببا لسروره، وقد يكون شعوره بأنه يستطيع أن يقول ما يروقه عن كل إنسان - وعن الملك أيضا - أحسن ساعات حياته.
وغوستاف فريتاغ - مع خصومته - نرى رأيه الآتي جديرا بالذكر، وإليكه: «حقا لا يكون بسمارك يسيرا إلا بين الليل والضحا، وتبدو بين الروائية وحب الجمال طبقة ثقافية ضيقة للرحالة الهوي، للشريف في مظهره الظريف، ويلوح بسمارك لي أنه متعوق متخلف عن العصر النباتي، وعندي أن أبرز صفاته هو عدم المراعاة ومحاولة كل شيء بنفسه، وكما يرى مع بواكير نشاط حيوي غض جريء؛ ولذا لا يكون هذا الرجل مؤسس مذهب؛ ولذا ليست عيوبه عيوب زماننا على الخصوص، ولن يتخلى الملك الحالي عنه ما لم يرد بسمارك ذلك، ولا نفع من خداع الوادع، ولا طائل في التجهم أمام العزم الخفي، وقد عرف ذلك الرجل المتردد الجامح العسير المعشر كيف يتأبط مجد بروسية وعظمتها ويتسنم متن المعالي بفضل إقدامه ورصانة صفاته، فصار كل من يؤذيه مؤذيا للدولة».
وبذلك الشذوذ يظهر بسمارك للعالم إذن، وعلى ما كان من تسليم الكثيرين بعلو خلاله التي ألمع إليها فريتاغ، وعلى ما كان من نفع هذه الخصائل للبلد؛ تجده - إجمالا - في ذلك الدور الذي أتى بعد إحدى منازعاته الحزبية العظيمة كما تقدم واحدة منها، غير محبب لجميع الأحزاب ولجميع طبقات المجتمع، ولا سيما حزبه وطبقته، ولم يكن لمظاهره العامة - أي لخطبه التي تتمثله الأمة بها وحدها - غير ذلك الأثر، وبسمارك يجرؤ على القول أمام الريشتاغ الجديد: «لو عدلت عن مقاومة معارضتكم على وجه ما لذهبتم إلى عدم اكتراثي للأمر، فأرى أن تسروا لعدم سلوكي مثل هذه السبيل.» (حركة)، وبسمارك يقول عندما حرض على قبول بادن عضوا في جامعة دول شمال ألمانية: «لا تذهبوا إلى ما هو أبعد من حدودكم أيها السادة، وارضوا الآن أن تتمتعوا بما نلتموه، ولا تطمعوا فيما لم تنالوه، وقد أكون مخطئا وقد تكونون مخطئين، وإنما الذي أستطيع قوله لكم هو أنني لا أوافقكم على رأيكم، فسأسير وفق رأيي في الأمر.»
ومن يعامل ممثلي الشعب على هذا الوجه يعده زملاؤه مستبدا، وبسمارك بعد أن صار يعد جامعة دول ألمانية الشمالية من صنعه الخاص أخذ ينتحل لنفسه حق السلطان عليها وعلى بروسية معا، وفي تلك الأيام صار خلصاؤه يتذمرون، فقيل: «غدت طريق أوتو (بسمارك) الاستبدادية لا تطاق بعد اعتزال رون (الموقت)، وهي قد بلغت من الحرج ما صار معه لا يحتمل أدنى معارضة.» ويقول رون في كتاب أرسله إلى بسمارك بعد اعتزاله الموقت ذلك: «يبدو بسمارك في الجلسات ذا حيوية لا مثيل لها، ويحتكر بسمارك الكلام فيها تقريبا فيعتقد مخطئا أنه يستطيع بنشاطه الذهني أن يتغلب على جميع مصاعب الوضع، وأنتسب إلى المعارضين المحافظين سياسيا؛ لأنني لا أرضى أن أغمض عيني وأن أساق ضد إرادتي، والله يعلم إلى أين، ولكن بسمارك يهمل أكثر أصحابه صدقا وأشدهم إخلاصا، وهو لا يتأخر عن معاملتهم بغلظة.» ويقول سكرتير الدولة المساعد تيله: «الرئيس عنيد كما هي عادته، والرئيس يبرطم
11
على الدوام، ويتدخل الرئيس في الدقائق تارة من غير أن يعرف الوثائق معرفة كافية، ويرفض الرئيس - تارة - أن يتدخل في الأمور المهمة، ولا ضير، فإذا ما عادت إليه صحته أمكننا أن نسأله بلا حياء: ما هي قيمة أوروبة؟»
ويخشى الجميع ذلك الطاغية، فلا يجرؤ أحد أن يتخذ أقل قرار، فيغضبه ذلك، ومن الريف تكتب حنة إلى كودل قولها فيخيل إلينا أننا نسمع به صوت زوجها: «لا تعرف درجة حنق بسمارك من خجل أولئك السادة الطفلي في برلين لما يرون من عجزهم عن تحمل أية مسئولية كانت ، فيرسلون كل أمر تافه إليه هنا حتى يوافق عليه أو يتخذ قرارا حوله، وتعرف ربان دولتنا العظيم جيدا، وتعرف ماذا يضجره وماذا يكدره.» وإذا غاب بسمارك فلم يسر كل أمر كما يروم كتب يقول: «إن مما يؤسفني ألا يكون لحثي في القسم الثاني غير أثر يسير، ويلوح لي مع ذلك أنني لا أزعج هؤلاء السادة إلا نادرا، فحمل رجل مريض على الرجوع إلى مثل ذلك الأمر ثلاث مرات هو من المخزيات في الحقيقة.»
وفيما يتحول بسمارك إلى مغن وإلى نجم تصمت الجوقة حوله، ولا أحد يميل إلى الاشتراك مع هذا الذي هو أقوى الألمان وأدعاهم إلى الالتفات، وتنحسر ألمانية الذهنية حتى قبل قيام الإمبراطورية الألمانية الحديثة عن غير قصد وبلا برنامج وبدون نية للمعارضة، ولا تجد في الرسائل ولا في الأحاديث ذكرا لأناس من ذوي القرائح بين ضيوف بسمارك، وإذا كنت ترى وضع بعض الوثائق تحت تصرف تريتشاك، وإذا كنت تسمع ذكرا لرواية سبيلهاغن الجديدة، وإذا كنت تعلم شكره لفريتز روتر كتبه فإن القائمة أقفلت لسنوات، ويزور الرقيب الأريب إكارت بيت بسمارك للمرة الأولى فلا يجد فيه سوى أشراف لا يكلمون بسمارك بسوى ضمير المفرد المخاطب، وإن كانوا في الغالب يناهضونه في الخارج، وهنالك يسأل إكارت: «وماذا يمكن أن يكون المجتمع الخالص المعتاد لهذا الألماني العظيم ما دام زعماء الفكر في الأمة يظلون غرباء عن ذلك المنزل أو لا يدخلونه إلا نادرا؟»
واليهود هم الذين كان بسمارك يشير إلى أحاديثهم مسرورا في تلك الأيام، ويقول بسمارك عن لاسال إنه من ألمع الناس وإن كان لا يعاف محادثته إلى ساعة متأخرة من الليل، ويتخذ بسمارك من بليشرودر نجيا يمكنه الدخول عليه بلا قيد، ويوكله بسمارك وكالة كاملة لإدارة أمواله وأملاكه، ويرفع بليشرودر إلى مرتبة الأشراف الوراثية وفق توصية بسمارك، ويعتمد بسمارك على الدكتور كوهين صديقا وطبيبا ولا تقطع الصلات بينهما إلا بموت هذا الطبيب، وهكذا يثق بسمارك باليهود في شئون صحته وأمور ثروته، وبسمارك يقول: «إن لي مسرة بمعاشرة سيمسون، وهو ذو ذكاء خالص ، ولي متعة بزيارته لي خلافا لمعظم ضيوفي، وهو محب للوطن، وهو إناء نبيل صبت فيه أصفى العواطف.» ولا تجد حكما كهذا في جميع ما خطه يراع بسمارك، وبسمارك منذ عشرين عاما حينما كان سكرتيرا لبرلمان إرفورت، قد جعل من سيمسون هذا أضحوكة، وبسمارك قد قال: «يفضل والدي أن يذهب إلى قبره إذا ما أبصرني كاتبا عند أستاذ يهودي.» وكان سيمسون قد نعت بسمارك بالبهلوان في أثناء نزاع، فلم ينس بسمارك جميع هذا قط، ويمضي زمن فيضفر بسمارك أكاليل المدح لديسرائيلي، ولا يسعنا هنا سوى السؤال: ولم جعل بليشرودر بدلا من هانسمن، وجعل كوهين بدلا من فريريشز، وجعل لاسال بدلا من ليبكنخت، وجعل سيمسون بدلا من ريشتر، وجعل ديسرائيلي بدلا من ساليسبري؟
وفي ذلك الدور يترك بسمارك مبدأ اللاسامية مع جميع أفكار شبابه الرجعية، وبسمارك حتى في أوثق نجاواه لم يصدر عنه أدنى ملاحظة ضد اليهود، ولا نكاد نشك في زوال أوهامه الوراثية حول ذلك زوالا تاما كما يوجبه العقل، وبسمارك بعد خطبته التي ألقاها منذ عشرين سنة ضد قبول اليهود في المناصب الحكومية هو الذي أتم قانون تحرير اليهود قائلا: «إن الحكومة لا يمكن أن تحابي في مثل هذه المسائل ما دام لا يوجد دين للدولة في بروسية.» وبسمارك هو الذي أطرى اليهود في الريشتاغ بسبب «استعدادهم الخاص وإدراكهم الرئيس في أمور الدولة»، وبسمارك هو الذي مدح فضائلهم المنزلية؛ كاحترام الأبوين والإخلاص الزوجي وحب الخير، وبسمارك هو الذي حض على تزاوج الأشراف واليهود مشيرا إلى أسر لينار وستيروم وكوسيروف وما إليها من الأسر التي أسفرت مصاهرتها لليهود عن «مولد أناس ألباء لطفاء، وأحسن من ذلك اقتران حصان نصراني من أصل ألماني بحجر
12
من أصل يهودي، فتداول الأيدي للمال أمر ضروري، ولا يوجد عرق رديء، ولا أعرف ماذا أنصح به أولادي ذات يوم في هذه المسألة»، وبسمارك يلخص في شيبته قيمة اليهود الاجتماعية والحيوية في الكلمة الجامعة الآتية، وهي: «إن اختلاط الدم اليهودي بمختلف العروق الألمانية يؤدي إلى بريق لا يستهان به.»
والواقع أن بسمارك فاتر تجاه جميع الناس، نصارى كانوا أو يهود، وزراء كانوا أو رؤساء أحزاب، أمراء من بلاده كانوا أو أمراء من الأجانب، والواقع أن بسمارك لم يحمل ودا لغير رون من بين رفقائه القدماء، ومن المؤثر، ومن المضحك أيضا، أن يمسك كل من هذين الصديقين بطوق
13
الآخر في سنة 1869 حملا له على الخدمة عند ميله إلى الخروج منها، وينظر رون بعين الجد - وعن سلامة طوية - إلى ما ذكرناه آنفا من محاولة بسمارك أن يستقيل، فيقول في كتاب يرسله إليه: «ما فتئت - منذ تركتك أمس - يا صديقي الكريم، أفكر في أمرك وفي قرارك، فلم أذق طعم الراحة، دع في كتابك منفذا عند وضعه، لتعلم أن في الكتاب الذي أخذته من الملك أمس طابع صدق، ولا يغب عنك أن كل شيء لا ينم على الحق فيه هو نحاس من حياء زائف لا يراد الاعتراف به، وأن وضع الذي يكتب يمنعه من الإقرار بعمله الخاطئ فلا يرجع عنه، وليس من الرأي أن تحرق سفنك، ولا ينبغي لك أن تصنع ذلك، فإذا فعلت ذلك خسرت صيتك في البلاد وضحكت أوروبة، وسيقول الناس إنك استقلت لأنك قطعت الأمل من القدرة على إنجاز عملك، ولا أرى أن أؤكد ذلك، وذلك مع توقيع صديقك الثابت المخلص ...»
بسمارك في سنة 1877.
يا لنبل ما يجد رون من معذرة للملك من غير دفاع عنه! يا للبراعة التي كتبت بها تلك الكلمات وشعر بها! يا لصحة ما تشتمل عليه تلك الجمل من بصر تاريخي! يا لتأثير تحفظ رون! وتمضي بضعة أشهر فيزعج رون بمعارضة بسمارك في أمر بحري فيريد الاستقالة بجد تام ومن غير رأي خفي، فيكتب بسمارك إليه من فارزين قائلا: «لم أكن لأفكر في غير كنيبهوف عندما مددت يدي إليك مصافحا ثابتا قائما على العهد في شهر سبتمبر سنة 1862، ولا يجوز لنا أن نختلف اختلافا جديا في مسألة بحرية بعد سبع سنوات مجيدة قضيناها في الجهاد معا، يجب عليك أن تقرأ شعار اليوم الرابع عشر من شهر أغسطس مع تفسير دنيوي له، ويلوح لي - قبل كل شيء - أن تلك المسألة ليست من الأهمية ما تسوغ به أمام الله والوطن توديعك الملك البالغ من العمر ثلاثا وسبعين سنة، وإعراضك عن رفقائك، وأنا منهم، باستقالتك.»
وفي هذا الكتاب حسب تأثير كل كلمة في شعور المرسل إليه بالواجب وفي تقواه، وفي هذا الكتاب الصادر عن أثرة على الطريقة البسماركية تلقى المسئولية على عاتق ذلك الذي كدر صفوه ذات يوم فيود اليوم أن يبديه جائرا عليه باستقالته.
ويمضي يومان فيمسك القلم ذلك الذي يتكلم عن أهمية الواجب وضبط النفس بتقوى، ذلك الذي كتب كأنه قس، ويجلس حول المائدة ذاتها ويرسل إلى رون قوله الناري: «لا ينبغي لأحد أن يطلب مني أن أضحي بصحتي وبحياتي وبسمعتي الشريفة وبإصابة نظري سيرا وراء الهوى، ولم أنم منذ ست وثلاثين ساعة، وقد قئت مرة
14
في الليل كله، وكان رأسي يشتعل كالنار مع لفه بضماد بارد، وكان هذا يكفي لانخلاع عقلي! غض الطرف عن هياجي الكثير، ولكن الكتاب مذيل بإمضائكم، ولا أراني معتقدا أنكم سبرتم غور الأمر بأسره، وإذا كان لا بد من تدهور العربة التي تحملنا حق لي أن أجعل الناس يعرفون براءتي من شائبة الاشتراك في الجريمة، وقد يكون كل واحد منا من حرارة المزاج ما لا يستطيع معه أن يجذف القارب بأطول مما صنع، وعلى المرء أن يكون ذا قلب وشعور قدا من رق جاف حتى يقدر على احتمال ذلك.» وماذا حدث؟ وهل دبر الملك حلفا خارجيا بعد أن باحث الوزراء ببرلين في شأنه؟ أو هل أنبأ بنيته فعل ذلك؟ وهل حل الريشتاغ، وهل استرد مشروع لبسمارك؟ وهل عزل وزير؟
حدث أن أوصى بسمارك بتعيين أحد موظفي البريد بهانوفر مديرا عاما للبريد فرفض مجلس الوزراء ذلك لسبب مضحك!
الفصل الخامس عشر
«أفطر وأقرأ جريدتي وأطوف في الغابات لابسا حذاء الصيد وأتسلق التلال وأسير في البطائح والأوحال وأتعرف بالأماكن والمغارس، وأعود إلى المنزل ويشد السرج على حصاني وأرجع إلى ذلك ، وهكذا ... وهنا العوسج الكثيف والسوق المقطوعة والأرض الواسعة والمنابت والجداول والسباخ
1
والخلنج
2
والرتم،
3
وهنا الظباء والحجلان، وهنا ما لا ينفذ من شجر الزين
4
والسنديان، وهنا غير أمر يلقي السرور في قلبي كثلاث الحمائم والبلشون
5
والحدءان،
6
وهنا شكاوى المزارعين من غارات الخنازير البرية، وهنا ما أصعب وصفي لك كل هذا!»
ويكتب بسمارك من فارزين غير البعيدة من رينفيلد، ويشعر بسمارك عندما يطوف بها في زيارته الأولى بأن الأمة كافأته على جهاده وانتصاراته، والأمر الغريب هو قبوله المال الذي اشترى به تلك الغابات، وبسمارك يقول بعد بضع سنين: «ما كان ينبغي أن يعطى ذلك نقدا، وقد أنفت من ذلك طويل زمن ثم أذعنت للإغراء، ومما أمضني أن كان ذلك من اللندتاغ لا من الملك، ومما كنت أرغب عنه هو أن أقبل مالا من أناس كافحتهم بمرارة في سنين كثيرة.» واقترح الأحرار في ذلك الحين ألا يعطى الوزيران، بسمارك ورون، أي مهر قائلين: إنه عمل لهما ما فيه الكفاية من الإبراء، وما كان من قبول بسمارك ما قدم إليه من نقد فيعد دليلا على حبه المتزايد للثراء واقتناء الأملاك الأسرية مع تقدمه في العمر، وإن لم يكن رجل عمل في شئونه الشخصية، ومهما يكن من أمر فإنه كان من الاحتياج إلى الوقت والهدوء ما لا يعنى معه بتوظيف ماله توظيفا نافعا.
ورغبة بسمارك في المال مما يصاول كبرياءه، فلما قرر اللندتاغ في بدء الكفاح إمكان حجز أموال الوزراء ضمانا لما ينفقونه خلافا للدستور بدا له نقل أملاكه إلى أخيه، ولكن «تنزلا كهذا لأخي فرارا من المصادرة التي لا يتعذر أمرها عند جلوس ملك جديد على العرش مما يوحي إلى النفوس بطمعي في المال خلافا للواقع، وهذا إلى أن محافظتي على مقعدي في مجلس الأعيان موقوف على امتلاكي كنيبهوف.» وذلك التخلي وإن كان غير محبب له لم ير غير فعله مع اعتراضه ذلك، ومع أن فقده لمقعده في مجلس الأعيان يجعل الأمر عاما ويؤدي إلى تفسير حار. ويعرض بسمارك ملكه على أخيه فعلا، ويستند في ذلك إلى السبب المهم الآتي وهو: «إن مما يشق علي أن أترك فكرة قضاء أواخر عمري هنالك، غير أنني خرافي ولدي ما يحفزني إلى البيع، وتجعلني حالي المالية أو حال أولادي المالية لا أطلب منك ثمنا يقل كثيرا عما أطلبه من الغريب»، فيا للغز! والذي لا ريب فيه هو أن البيع لم يقع في ذلك الحين.
والآن بعد أربعة أعوام عندما يكافئه اللندتاغ على أعمال كان يعدها مساوئ يغدو غنيا، فيسرع في التخلص من كنيبهوف التي قضى فيها ما بين السنة الثانية والسنة الثامنة والعشرين من عمره! أفلم يحزن حزنا شديدا عندما أجر ذلك الملك للمرة الأولى منذ طويل زمن؟ والآن - أيضا - عندما يقصده من فارزين «لا يدعونني وحدي أبدا، ولدي ما أقوله للشجر هنالك أكثر ما للبشر مع ذلك»، وتظل تلك الأماكن التي كانت شاهدة على صباه جنة عنده في مشيبه، على أنه لم ينشب أن كتب من فارزين يقول لأخيه إنه يريد بيع كنيبهوف في الحال، «مفضلا بيعها من فيليب أو منك، ولكن على ألا يكون الثمن دون ما في السوق كثيرا»، وقد عاد لا يقول شيئا عن خزعبلاته ولا عن ارتباطه الوثيق في الأرض وفي البيت، كما كان يشعر به في أمر شونهاوزن وكنيبهوف فيما مضى.
أجل، تروقه غابات فارزين، ولكن من غير أن تنفذ فؤاده، وما كان منزل فارزين ليقاس بمنزل شونهاوزن الكبير، «فلذلك المنزل منظر المشفى؛ أي له جناحان، وهو منزل عادي ذو نوافذ كثيرة، وليس له مظهر القصر ولا مظهر المغنى».
7
وهذا هو وصف كيزرلنغ له عند إقامته به، وبما أن الغابات لا تأتي بدخل وجب إنشاء مناشر
8
بخارية ومعمل ورق، «فيتطلب هذا مائة ألف تالير، ولكن كل شوحة
9
تحول في يوم واحد إلى ما لا يحصى من الورق»، ويا لتحول هذا الولوع بالطبيعة إلى رجل عمل! هو اقتصادي سياسي! هو رب أسرة!
وبسمارك، إذ كان لا يصبر على الراحة، وكان لا بد له من الحركة؛ بدأ ينشر الحياة في الغابات وفي البيت بفارزين، «فأرسلي من شونهاوزن الأقداح الحمر والكراسي المنقوشة وما يمكن إقفاله من مكتب أو مكتبين وما بقي من سرر، ويمكن أن يؤتى من برلين بموائد، ويمكنك أن تضعي في غرفة مطالعتي المكتب الأمريكي الموجود في غرفة الاستقبال بدلا من ذلك، ولماذا يجب علينا أن نجهز غرف صاحب الجلالة؟ والآن أذهب لأرى الغاب والأيل وضوء الشمس، ولا أستطيع الكتابة كثيرا، والحبر لا يحبني، تعالي مسرعة إلى هنا، والأولاد يتبعونك وحدهم، ولي أمل في أن يكون بكوسلين أسرة، ولا تأتي بأية خادمة معك، خلا وصيفتك، وقد تكونين في غنى عن هذه الوصيفة أيضا؛ وذلك لوجود فتاة غسالة عملت ثلاث سنين في بلومنتهال، إذن لا ضرورة لإحضار الطاهي ولا الخادمة ما لم تودي غير ذلك، وابعثي بنسج كثيفة سمر خضر غير لامعة؛ لتكون ستائر مزدوجة تغطى بها الأبواب الزجاجية، فلا يرى ما وراءها، ولا أظنني ذاهبا إلى برلين قبل وصولك، وبلغي إلى الناس أنني منهوك، ولكن مع تحسن، ولكن مع رغبة عن سفرة أخسر فيها ما اكتسبت، تعالي مسرعة، المخلص لك كثيرا ...»
ومن ثم ترى بسمارك مسرورا؛ فبسمارك قد بعد من الخدمة، وصار ينتظر زوجه، وعاد لا يدعو أحدا ولا يستقبل ضيفا ولا يتلقى برقية ولا يرسل رسالة، وصار لا يتطلع إلى غير حرس الصيد وخفراء الغاب وجياد الخيل والحساب المناسب، وفي أحوال كهذه يجد بسمارك الحياة أمرا طيبا لأسبوع واحد، ثم يساوره شوقه إلى الأعمال مرة أخرى أو يواثبه ميله إلى السير والقيادة مجددا، وبسمارك حتى في عزلته الريفية لم ينج من رغبة في السلطان، ولا تخلو من رمز كلماته عن ملك جار له، وهي: «يستحوذ علي في كل مساء عطش شديد إلى ضم تلك الأرض إلى أملاكي، ويمكنني في صباح الغد أن أتأملها مليا.» فهوى بسمارك واعتداله؛ أي جميع هزج سياسته، تجدهما في تلك الجملة.
وهنا - في الريف - تقف غباوة الضيوف نظر بسمارك أكثر مما في كل وقت، أجل، يمكن بسمارك أن يدعو إذا أراد أرجح الناس عقلا في ألمانية ليحادثهم ، ولكنك إذا عدوت زائريه من وزراء الدولة أو أمناء السر أو زعماء الأحزاب وجدته جالسا «بين اثني عشر قريبا يتصف ثلاثة منهم بالصمم ويتصف معظمهم بالصخب مع الكلام في وقت واحد، وبسمارك مع ذلك يبدي كبير أنس لكل واحد منهم، فيفتنون بهذا، فلا يعودون إلى منازلهم قبل منتصف الساعة الحادية عشرة»، ومما يحدث أحيانا أن يجيء كيزرلنغ أيضا، «فنجلس كلنا إذ ذاك على سرير سهل النقل، ونستمع بين حديث سار إلى عزيف فون كودل»، ومما يقع في الغالب أن يضنى فيسر إلى كودل بمقدار تعبه من رفيق صباه كيزرلنغ فيسر في نفسه من دنو الوقت الذي ينصرف فيه.
وموتلي هو صديق بسمارك المفضل في كل وقت، وإذا نظرت إلى الوجه الذي مال به قلب بسمارك إلى هذا الأمريكي الفرح الصريح، إلى هذا الرجل الأريب العالي الثقافة، أبصرت دليلا على صبوة
10
بسمارك إلى تسكين هياجه الطبيعي بتأمل ذوي الطبائع المنسجمة، وما كان الملك ولا حنة ليقوما بهذا الدور، وإن كان كلاهما ذا مكان خاص في نفسه، وإن كان يستثنيهما من ازدرائه لكل إنسان في الدنيا تقريبا، غير أن كل واحد من الملك وحنة عاطل من العذوبة والإنعاش والمبادرة، وتتصف زوجته بالحنان وعدم الدربة،
11
ويتصف الملك بالشيبة وشدة العناد، وعلى ما يتصفان به من الهدوء لم يكونا قادرين على إلقاء السكينة في فؤاده، وموتلي هو جوهر السلام، وموتلي شهم همام، وموتلي قانع بالعالم، وموتلي ساذج على سجيته، وموتلي ممتاز مخلص لبسمارك غير مطالب إياه بشيء، وموتلي هو - قبل كل شيء - أكثر استقلالا من كل إنسان يعرفه بسمارك، وموتلي هو الذي يستطيع بسمارك أن يركن إليه بين أناس من ذوي المكر والخرق، وموتلي هو صديق بسمارك. ولم يحدث أن كتب بسمارك كتبا إلى أحد بخط يده كما كتب إلى موتلي، ومع أن بسمارك يدع مئات الناس ومنهم أقرباؤه بلا جواب تجده يبادل موتلي بالرسائل باللغة الألمانية عادة، وباللغة الإنكليزية أحيانا، كالرسالة الآتية، وهي:
عزيزي جاك، أين أنت يا شاطر؟ وماذا تصنع ما دمت لا تكتب إلي سطرا واحدا؟ تراني عاملا من الصباح إلى الليل كزنجي، وليس لديك ما تعمل، فكان يمكنك أن ترسل إلي كلمة بدلا من أن تتأمل رجليك حين استنادهما إلى قضبان نافذة للرب عارفا بما في اللون من قتوم، ولا أقدر على الكتابة إليك بانتظام، ومما يحدث أن تمضي خمسة أيام من غير أن أجد ربع ساعة للنزهة، ولكن ما الذي يمنعك أيها الشيخ الشاب الكسلان من التفكير في الكتابة إلى صديقك القديم؟ وإني إذا ذهبت إلى السرير نظرت إلى ما لك أو إلى صورتك، وأمسكت عن المعيد العذب ونمت لأذكرك بأولدلانغ سينه، ولم لا تأتي إلى برلين أبدا، والأمر لا يعدل ربع رحلة عطلة أمريكي يقوم بها من فينة، ويسرني مع زوجتي أن نراك مرة أخرى في هذه الحياة الكئيبة، ومتى تحضر؟ ومتى تعزم على ذلك؟ أقسم لك بأنني سأجد من الوقت ما أذهب فيه معك إلى جهات لوجير فنشرب زجاجة راح في حانة جيرولت حيث لا يسمح لك بأن تضع ساقيك الدقيقتين على كرسي، علق السياسة وجئ، ومما أعدك به هو جعلي العلم يخفق فوق منزلنا، وسيدور حديثنا حول صب اللعنات مع الرحيق على العصاة، ولا تنس الأصدقاء القدماء ولا أزواج الأصحاب الأوفياء، وتود زوجي أن تراك مثلما أود، وإن لم تفعل ذلك فأسرع في إرسال كلمة بخطك، كن لطيفا، فإما أن تحضر وإما أن تسطر، ودم لصديقك.
بسمارك
وما كان من حذف كلمة «فون» من توقيعه هنا فلا مثيل له منذ سنة 1848.
ويعين صديق بسمارك الأمريكي ذلك سفيرا للولايات المتحدة بلندن، ويغدو قريبا من بسمارك بذلك، ومن فارزين يكتب بسمارك إليه قوله: «تفضل فسرنا بإرسال كوخك الأحمر إلى غابات بوميرانية، والأمر أهون على سائح مثلك يجاوز البحر المحيط الآن من هونه عليه في مجاوزة ما بين برلين وغوتنجن
12
فيما مضى؛ فما عليك إلا أن تتأبط ذراع زوجك وأن تدخل نفسك إلى حجيرة معها، وأن تصل إلى المحطة في عشرين دقيقة وأن تبلغ برلين في ثلاثين ساعة، ثم تكون هنا بعد رحلة نصف نهار، وفي ذلك روعة، وسنطير فرحا أنا وزوجتي وابنتي وأولادي، وسنكون من المسرة ما نعيد به مرح سالف الأيام، وقد بلغت هذه الفكرة من الأخذ بمجامع قلبي ما يمكن أن يؤدي رفضك معه إلى مرضي فيكون لهذا تأثير جالب للنوائب في الوضع السياسي، صديقك المخلص.»
ولموتلي وهب بسمارك ما في فؤاده من حب حقيقي، ويمازج حب بسمارك لزوجه غبطة المالك، ويحب بسمارك هذا الأمريكي بلا داع ولا غرض، وترجع صداقة بسمارك القلبية لهذا الأمريكي إلى أيام بلوغه السابعة عشرة من سنيه، ويدوم ولوع بسمارك بهذا الأمريكي جيلين دواما مطردا، ومن الجلي أن يكون موتلي قائما مقام شيء يتوق إليه بسمارك توق زيلتر إلى غوته، ويلوح موتلي لبسمارك بين الرجال كما تلوح ملفين له بين النساء؛ ذلك الشخص الإنساني المتزن الذكي البهيج المحنك الجدي التفكير، وليس من المصادفات أن يكون هذا المثال الألماني قد أغرم بهذا الصديق الذي هو من أبناء العالم الجديد.
وتألم حنة، ويسلب كل راحتها خوفها من محاولة قتل زوجها في ذلك الدور من الصدام، ويصفها في الغالب ب «الأرقة الخفاقة القلب والخائرة النفس»، ويرسلها وحدها إلى مدن المياه المعدنية، ويبدو عصبي المزاج من أجل نفسه ومن أجلها، وتبلغ الأربعين من عمرها فتضع مع توقيعها كلمة «الأم العجوز» إذا كتبت إلى أولادها، ويكبر أولادها فلا يمرضون إلا قيلا فتغدو أما لزوجها تماما فترقب صحته وتسكن روعه وتعنى به وتحميه، وتزهد في كل شيء، ولا تبالي برغائبها ولا بأهوائها ولا بآرائها الخاصة، ولا تقدم على نصيحته، ولا على إبداء مشاعرها له حتى بعد معركة كونيغراتز، وهي تعتصم بصديقها كودل لتعرف هل تستطيع أن تذهب حتى فينة فتشترك في «دخول هذه المدينة رسميا»، ولا يرى كودل من الحكمة أن يطلع الرئيس المهيب على ذلك، وهكذا تفنى حنة في حب زوجها، ومما وقع ذات مرة أن خرج بسمارك وزوجه وكيزرلنغ للنزهة، فسألها بسمارك عن ميلها إلى الدوام أو العود فأجابته بقولها: «اصنع كما يحلو لك، فليس لي غير إرادتك .» ولما انحرف مزاجه في فارزين ظلت «بجانبه ليل نهار خلا فترات الغداء والعشاء القصيرة، فأبدو هادئة قارئة أو عاملة أو معدة شيئا له، وتضنيه كل كلمة ينطق بها أو يسمعها فأصير نصف ميتة هلعا.»
والأولاد سلبيون أيضا، فلا يجرءون على شيء، وهو لا يطالبهم بشيء، وهو إذا ما ود أن تكتب ماري إليه أذعن عند علمه أن ذلك يشق عليها ابنة في السادسة عشرة من سنيها، وما يساوره من ذكريات فتائه الممض فيقوده إلى ترفيه أولاده، وما يمازج هذا الذي هو أكثر الناس نجاحا من حقد على العالم وسوء ظن به فأمر بان عندما قال لكيزرلنغ إنه لا يقترح أن يربى أبناؤه لخدمة الدولة؛ «وذلك لأنه ينظر إليهم نظر سوء في نهاية الأمر، وعليهم أن يحملوا صليبهم في هذا العالم»، وبينما يعلم في نقولسبرغ أن ألمانية منتظرة بأسرها يكتب إلى ابنه الأصغر في عيد ميلاده كتابا يبدؤه فيه بأنباء سياسية، وهو لم يلبث أن أبصر الورطة التي وقع فيها حين أصبح سياسيا ومربيا معا؛ وذلك لقوله: «إن على المرء في الحقل السياسي أن يتخلص من أقوى خصومه عند وجودهم، وذلك بما ينزله من الضربات، وعليه بعد ذلك أن يسلخ جلد أضعفهم، وفي الحياة الخاصة يعد هذا سلوكا مزريا بمن هو فارس.» والصحة والقوة هما ما يتمناه لأولاده، وإذا ما عن له أن يمدحهم فلما يراه من سواعدهم المفتولة، وقد اعترت الحيرة ضيفا شابا «حينما رأى مقدار ما يلتهمه بسمارك وأولاده، فهم كالأسد وأشباله!»
وتتوقف صحته على أعصابه، وتتوقف أعصابه على أشغاله، وأدويته عنيفة عنف حياته، وهو إذ كان يرغب عن حمل مظلة أو لبس جرموق،
13
وهو - إذ كان يركب عربة مكشوفة - لا يرجع إلى الأطباء عند مرضه، بل يكون طبيب نفسه، ومن فارزين كتب بلانكنبرغ يقول: «يغدو مرضه داء عضالا إذا داوم على حياة غير صحية كما في الماضي، فهو ينهض متأخرا كثيرا، وهو يطوف في الغابات كالحارس، وهو يتعشى في الساعة الخامسة أو الساعة السادسة أو الساعة السابعة، ثم يلعب لعبة البلياردو نصف ساعة، ثم يشتغل فيما لا بد منه حتى الساعة العاشرة أو الساعة الحادية عشرة، وهو يختم يومه بتناول حساء بارد، وهو يأرق لعسر الهضم، وهو يحدثني كأنه يبكي من كثرة همومه، وهو يقول: إن الناس هجروه غير تارك لي من الوقت ما أنطق فيه بكلمة واحدة، ثم يصاب بتشنج في المعدة؛ نتيجة لهذا الهياج.»
وهو لم يظفر بغير أكثرية خمسة أصوات في أمر خاص بميزانية هانوفر، «فيهزه هذا في فؤاده ويلم الألم برجليه ويقيء صفراء ويصاب بوجع الأعصاب من فوره»، وينذره رون بقوله غير المجدي: «أرى أن يكون لديك من ضبط النفس ما يكفي للتغلب على اندفاعك الطبيعي فتفرض على نفسك حياة جديرة بأبي الأسرة الألمانية المجيد! حقا يجب أن تقدر على ذلك!» وكلمة «يجب» هي ما يستطيع رفيق الجهاد رون وحده أن يخاطبه به، ولكن بلا طائل.
ويألم بسمارك عن نزق فطري من جزئيات الخدمة التي تقع في كل يوم أكثر مما بعظائم الأمور التي تقع في أوقات نادرة، وإذا نزل من السماء ماء متواصل بغاستن في يومين أو ثلاثة أيام فإنه يتذمر من ظهور جو المكان كجو المغسل، وهو يتجنن من الشلال بقرب الفندق، وهو بين الجبال يأسف على الآفاق الواسعة، وهو حينما تذكر له زوجه سحل
14
أسنان الأولاد يقول: «إن هذا يزعجني فيجعلني أحس ذلك في أعصابي.» ويسأله رئيس حزب هسي عن مستقبل بلده، «فيتلبد وجهه الجلي مع عدم جماله بعاصفة من الفكر، ويتبرم صامتا متأملا، والآن يمسك قلما رصاصيا، والآن يمسك مقصا، وتظهر ابتسامة سارة على فمه وقتا قصيرا، ثم تزول فتبدو على سحنته علائم جنون على حين يزوي ما بين عينيه».
وفيما كان يهرم جسما وروحا على ذلك الوجه، وفيما كانت قواه الطبيعية تكافح السنين كنت تراه يدنو من إلحاد شبابه فيرجع بخطا واسعة إلى ارتياب دوره الأول، فلم يبق عنده غير القليل إلى الغاية من أيام جهاده في سبيل الإيمان الديني، ولما اتهمه جار تقي من بوميرانية بالاستهتار انتحل تجاهه وضعا نصرانيا في كتاب مطول أرسله إليه في عيد الميلاد، فقد جاء فيه: «أعترف طائعا بأنه كان يجب علي أن ألازم الكنيسة أكثر مما كنت أصنع، ولكنني إذا كنت لا أفعل ذلك فليس لعدم الوقت، بل لأمر يتعلق بصحتي في فصل الشتاء على الخصوص، ومن الظلم أن يدعوني أي واحد من الناس بالسياسي المستهتر، وليتفضل فيحاول أن يثبت لي وجود ضمير له في مضمار النضال هذا.» وإذا كان العفو والتوبة ركني النصرانية الأساسيين لم يسعنا سوى التبسم عند سماعنا نبأ سرور بسمارك حينما علم خبر إضافة ضابط إلى شعاره رمزا فنديا قائلا: «لا تستغفر أبدا، ولا تصفح أبدا!» وقد قال بسمارك: «إنني وجدت منذ زمن طويل أن هذا المبدأ كثير الفائدة في حياتي العملية!» ويكتب بسمارك العبارة الشيطانية الآتية قبل بدء محاربة النمسة ببضعة أيام: «لقد ألقي زهر النرد، فننظر إلى المستقبل مطمئنين، ولكن لا يغب عن بالنا أن الله القادر يفعل كما يهوى!»
والآن كما في الماضي ينضد بسمارك مبادئه الملكية فوق شعائر نصرانيته، شأن الرجل الذي يعلق ترسه على شجرة طلبا لظله، ويبلغ بسمارك من العنجهية
15
ما يرى معه أن يأتي بثورة أو يهلك ما لم يلقن نفسه دوما بأن السلطة الملكية صادرة عن أصل إلهي، قال بسمارك حول مائدة عشاء وعلى مسمع من مدعوين كثيرين: «لو لم أكن نصرانيا ما خدمت الملك ساعة واحدة، فلدي ما أعيش به وما أمتاز به وما أستغنى عنه به، ولست بالذي تفتنه الأوسمة والألقاب، أومن بوجود حياة بعد الممات، وهذا هو الذي يجعلني ملكيا، وإلا لاتبعت ميلي الطبيعي وصرت جمهوريا، والحق أنني جمهوري إلى أبعد حد! ولم يجعلني شيء غير ثبات إيماني الديني رصينا في السنوات العشر الأخيرة، ولولا ما في من أساس ديني عجيب لقلت للبلاط منذ وقت كبير: اذهب إلى جهنم!» ويقول أناس إن كثيرا من الناس من يخدمون الملك عن حس حكومي، فيجيب بسمارك عن ذلك بقوله: «إن إنكار النفس هذا؛ أي إن التضحية بالنفس هذه، في سبيل الدولة والملك هو من بقايا إيمان آبائنا وأجدادنا، هو من إيمان تحول فغدا غامضا، ولكن مع تأثير، وعاد غير إيمان فبقي إيمانا مع ذلك، ويا لشدة سروري بعودتي مختارا! ولي بهجة في الحياة الريفية وفي الغابات وفي الطبيعة، فإذا ما قطعتم صلتي بالله حزمت رزمي في الغد وانزويت في فارزين وانغمست في الملذات وقلت على الملك العفاء، ولم أخضع لآل هوهنزلرن لولا أمر الله؟ فآل هوهنزلرن من الأرومة السؤابية التي ليست خيرا من أرومتي والتي لا أجد ما يحفزني إلى المبالاة بها لهذا السبب، وأكون شرا من جاكوبي الذي يمكن قبوله رئيسا للجمهورية، وهو رجل عاقل من عدة وجوه، وهو لا يكلف غاليا في الحقيقة.»
وأفكار كتلك مما أبداه بسمارك في غير حال، وبسمارك لم يظهرها بمثل تلك السخافة في أي وقت مع ذلك، وبسمارك إذ يقول إن الشعور الحكومي من بقايا الإيمان الديني يكون قد أيد حس الواجب العام الذي لم يعترف بوجوده في شخص، وبسمارك كما أبصر صدور أتفه أعمال رجال التاريخ وأعمال معاصريه عن عوامل شخصية طمع في المسرح السياسي وانساق إلى خدمة الدولة وارتقى إلى السلطة العليا عن طموح ورغبة في السلطة، وما في جبلته من قوى أولية فقد دله على تلك السبل، وهو لم يسلك تلك السبل خوفا من الله كلوثر، ولا حرصا على مساعدة الملك كرون، ولا شعورا بالواجب تجاه ألمانية كشتاين.
وبسمارك لاعترافه بأنه جمهوري نفترض أن مشاعره الثورية تحفزه إلى ابتغاء رئاسة الجمهورية لو ولد في بلد موتلي (الولايات المتحدة)، وما كان يساور بسمارك من شعور بالكرامة فيجعله راغبا في رؤية أمته وطبقته وأسرته في موقع الشرف، وهو للوصول إلى هذه الغايات لا بد له من خدمة أسرة سؤابية كان أجدادها أبعد نفوذا وأكثر جدا
16
من آل بسمارك، ولا بد من الخضوع لأناس يفوقهم ذكاء ومزاجا وحماسة، بيد أن أمرا كهذا مما يتعذر عليه بغير تلقين ديني ذاتي يعتقد به أن تلك الأسرة تملك بفضل الله.
وكيف نفسر بغير ذلك مشاعر ذلك الشريف في فتائه، حينما كان يصرح بأنه من القائلين بوحدة الوجود ساخرا من النصرانية؟ ولم ازدرى ذلك الأريستوقراطي الملحد فريق الأحرار الذين كانوا يهدفون إلى إقامة جمهورية معتدلة؟ فلما غدا وزيرا معتقدا صار يود أن يحكم مستعينا بهم، وإذا كان عدوا لله في ذلك الحين وجب عليه أن يكون خصما للملك وفق منطقه المصنوع إذن، وإذا كان اليوم عبدا لله وجب عليه أن يمجد النظام الملكي إذن، أفيمجده فعلا؟ لقد سئل عما يجب أن يتعلمه الأمير، فاسمع جوابه الخفي: «يجب أن يربى الأمير على الطريقة الفارسية في الحقيقة؛ أي أن يتعلم ركوب الخيل والقتال، وهو إذا ما أراد أن يعرف مهنته الخاصة - فضلا عن ذلك - وجب عليه أن يتعلم الوقوف طويل ساعات، وأن يتعلم كيف يخاطب كل أجنبي بكلام لين وأن يتعلم الكذب، وليس عليه أن ينطق بالحقائق المرة، فليدع أمرها إلى وزرائه، ولا يعرف ملكنا كيف يكذب، وهذا ما يبدو عليه عند محاولته ذلك.»
واسمع الآن كيف يتكلم عن الأسرة المالكة: «إذا ما ذهبت إلى الصيد مع الملك في ليتزلينجن كان ذلك في غابة خاصة بأسرتنا في غابر الأزمان، فقد اغتصب آل هوهنزلرن بورغاستال منا منذ ثلاثمائة سنة لصلاحها للصيد ولاشتمالها على ضعفي ما تحتويه من الغاب في الوقت الحاضر، وإذا عدوت ما فيها من صيد وجدتها ذات قيمة كبيرة أيضا، وهي تساوي ملايين من الدراهم في هذه الأيام، والحق أن آل هوهنزلرن انتزعوها منا بما اتخذوه من ضروب القهر وأعمال العنف وانتهاك الحق ومن زج للمالك في السجن المظلم وتغذيته بطعام كثير الملح مع عدم تقديم شيء ليشربه، وذلك عند رفضه التنزل عن أرضه، وما كان يعطى من تعويض فأقل من ربع قيمتها.» ومن ثم نرى طبيعة اعتقاد بسمارك بنعمة الله الذي جعل آل هوهنزلرن فوقه.
ونحن إذا ما أبصرنا حاقدا عرفناه جيدا، وهو ولوع بذكر ميفيستوفل كما يجب، وهو يحفظ فصولا طوالا من الجزء الأول من رواية فاوست فيتلوها عن ظهر القلب بما يثير العجب، وبسمارك هو الذي نطق بهذا الرأي الأدبي الرائع، «وإذا سألت عما كتب غوتة أعطيتك ثلاثة أرباعه، وأما الباقي - وهو سبعة مجلدات أو ثمانية مجلدات من أربعين مجلدا - فأود أن أقضي به وقتا في جزيرة قفر.» ثم يصف غوتة بأنه عامل مياوم
17
عند خياط فيقول: «طوبى لذلك الذي يخلو من الضغينة فيعتزل العالم! طوبى لذلك الذي له صديق حميم فيتمتع بالحياة! طوبى لذلك العامل المياوم عند خياط فيبدع تلك الأشعار! فكروا فيه بلا حقد إذن! واجعلوه في قلوبكم إذن!» وتتكلم ابنة كيزرلنغ بحماسة - وفي مناسبة أخرى - عن المأساة حيث يضع الإنسان نفسه في مكان البطل طائعا، فيقول لها بغلظة: «أتريدين أن تقتلي كما قتل نشال فالنشتاين في حانة حقيرة؟» ويتكلم كودل عن الخوف والرأفة فيجيب بسمارك عن ذلك بعنف قائلا: «أجل، إنني أبلغ من شدة الخوف والرأفة ما أستعد معه في دار التمثيل إلى الأخذ بخناق النذل.» ويتمسك كودل الإنساني ب «الفكرة الظافرة» في الرواية، فيتكلم بسمارك عن الإوز المشوي ويسأل: «أيأكل الناس في الولايات البلطية الإوز مع البطاطا أم مع التفاح؟ إني أفضل أكله مع البطاطا.»
والآن لا يستمع إلى الموسيقى إلا عند مطالعته أو عند عمله، فلما غدا مستشارا للإمبراطورية عاد لا يصغي إليها أبدا؛ لأنها تحول دون نومه جيدا.
وإذا ما تكلمنا عنه بوجه عام وجدنا تحول حاله الروحية إلى حال «التائه»، ويزيد اضطرابه الباطني مع زيادة نجحه وبلوغه من السلطان ما لم يكد يحلم به، والأمر كما لو كان ينتظر تحقيق رغائبه في التحرر من تلك الأحاسيس الفاوستية فأبصر تبدد أحلامه أكثر مما في البداءة، «ويشكو فاوست من وجود روحين في صدره، ويتنازع في صدري عدة أرواح، وتسير كما لو كانت في جمهورية، وأبلغكم معظم ما تقول، ولكن هنالك من المناطق ما لا أبيح لأحد أن يلمحها.» وينطق بهذه الكلمات عندما كان راكبا عربة مع اثنين من مساعديه اللذين لا يميل أحدهما إليه.
وتعبر هذه الكلمات عن تبرم أكثر مما عن عزلة، وإلا لكان قد كتم أمرها، ويكتب إلى أقرب الناس إليه وأعزهم عليه في أيام عيد قائلا بصراحة: «إن قلق الحياة أمر لا يطاق، وليست هذه حياة جديرة بشريف ريفي، أحن إلى أيام الهدوء في الوطن حيث كنت سيد وقتي وحيث كنت - كما يخيل إلي الآن - أكثر هناءة، وإن كنت أذكر تماما أن كلمة: «يلم الغم به ويعدو معه» أمر صحيح عندما كنت أركب كالب القديم»، وتتردد النغمة، نغمة الاستياء الواهن التي تعبر عن سجيته، بأوضح من ذلك، في كتاب يرسله إلى أخته بسبب عيدها الفضي، فقد جاء فيه:
يسرني أن أبادلك، مرة أخرى، بتأملات حول بطل الحياة، وسيمضي كبير وقت قبل زوال الوهم في أن الحياة تبدأ مرة ثانية من فورها، وأننا صائرون إلى ذلك البدء، ونحتاج إلى مثل تلك الصوى،
18
كهذا العيد الفضي، لنرجع البصر إلى الوراء ونبصر طول ما قطعنا من طرق ومقدار ما جاوزنا من محاط حسنة وسيئة، وهل يعد دليلا على نقصنا، أو على خطأ خاص بي شعوري، دوما، بكون المحطة العتيدة أصلح من جميع ما تقدمها وأنه لا ينبغي لي أن أكف عن الكفاح بلا انقطاع سائرا إلى الأمام؛ أملا في الوصول إلى ما هو أحسن منها؟ أرجو من صميم فؤادي أن تحتفلي بعيدك راضية مسرورة فتنادي حوذي
19
الزمن بقولك: «سق برفق يا صاح!»
20
وأجدني جاحدا - بفضل الله - لما أراني غير راض على ما لدي من عوامل الرضا عندما أفكر في زوجي وأولادي وفي أختي قبل الجميع وفي أمور أخرى مشتهاة في الدولة وفي حياتي الخاصة فلم تقدر بعد ظفري بها.
فيا لدقة حوك هذا التحليل القاسي من كمد!
21
ويا للطف مسه تلك السخريات! ويا لعصر عمل حياته في مقطع واحد مع كبير تحفظ! ويا لبضع نفسه بقلمه منفعلا عارضا لشخصه التائه! وما كانت جميع انتصاراته وكفاحاته وما انتهى إليه من نتائج عظيمة في عشرين سنة قضيت في جهاد متصل سوى محطات سيئة، فلا بد له من السير إلى الأمام طلبا لما هو أطيب منها!
الفصل السادس عشر
كان نابليون الثالث راغبا عن الحرب، ولكنه كان مفتقرا إليها، ومن الصعب أن يعرف ماذا كانت فرنسة تريد، ولا أن يعرف عدم احتمالها عن طموح لاقتراب الوحدة الألمانية التدريجي بأوضح مما في الماضي، ومن المحتمل عدم ذيوع أي شعور في هذا الأمر ما انحصر في باريس سخط أيام يوليو، وقد اقتصر ما وقع من تظاهر على بضعة شوارع بباريس، وقد نظم هذا التظاهر بفعل بعض الجرائد المأجورة من قبل الحكومة، والشيء الوحيد الذي تستبر به مشاعر الشعب الفرنسي في ذلك هو الاستفتاء العام الذي وقع في شهر مايو، فعلى ما تخلل هذا الاستفتاء من ضغط وفساد لم ينل نابليون الثالث سوى سبعة ملايين صوت على حين صوت ضده مليون ونصف مليون، وعلى حين أبدى ثلاثة ملايين خصومة ضمنية له بالإمساك عن التصويت.
ولكننا إذا علمنا أن نابليون الثالث كان يزدلف بنظامه إلى الشعب مدعيا أنه يود أن يحافظ على مجد فرنسة وعظمتها؛ أبصرنا أن فريق الأمة الفرنسية المعارض والمستنكف ذلك كان يعرب جهرا أو سرا عن رغبه في سياسة عمل وسلم ثابتة، وما كانت الأمة الفرنسية الهادئة المرحة بطبيعتها، والتي لا تسير مع العاطفة إلا بفعل زعماء ممتازين أو عن ضرورة؛ لتميل إلى مقاتلة أي كان، وحال روحية كتلك مما لا يروق فاتحا يرى بهر عيون الجمهور حفظا لمقامه، والأمة كانت راغبة في النظام الجمهوري حبا للسلم، والإمبراطور كان يبحث عن انتصارات فيرتعد عند تفكيره فيما قد يمنى به من غلب بدلا من الوصول إليها.
وكان نابليون الثالث يرى الحرب أمرا لا مفر منه بعد مسألة اللوكسنبرغ، وكان أهون على بسمارك من غيره أن يحول دون وقوعها بعد الهرج مع عسر ذلك، وكان نابليون الثالث قد تفاهم هو وإيطالية والنمسة، فلما كانت أوائل سنة 1870 وضع مع أرشيدوك نمسوي خطة مشتركة لمحاربة بروسية، ويعين في ذلك الحين دوك دوغرامون وزيرا للخارجية مع مقته له شخصيا؛ وذلك لما كان من إصرار الإمبراطورة وكارهي بروسية في البلاط على ذلك التعيين، وكان هذا الوزير قد أبدى في سنة 1866 رأيا في الهجوم على بروسية، فلا بد من أن يكون قول بسمارك «إن غرامون غبي» قد انتهى إلى مسمعه، وهكذا كان كل شيء معدا للحرب، وشهر الحرب لا يحتاج إلى غير ذريعة، ولسرعان ما ظهرت!
طرد الإسبان ملكتهم، فبحثوا عمن يقوم مقامها على غير جدوى، ثم ولوا وجوههم شطر ألمانية التي أمدت بيوت أمرائها نصف أوروبة بالملوك، ويسأل عن كلالة
1
لآل هوهنزلرن كانت قد جهزت رومانية بملك، ويستأذن رئيس الأسرة ولهلم فيبدي نفوره من ذلك، وكان من سياسة بسمارك فتح فروع لشركته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن الحماقة أن يفترض أن غايته هي إحداث ثغرة ضد فرنسة، وكل ما يمكننا قوله هو أنه كان يفضل أن يرى رجلا من آل هوهنزلرن فوق عرش إسبانية على تسكين باريس، وأنه كان يفضل نصرا دبلميا على ملك لآل هوهنزلرن في إسبانية، وأنه كان يفضل تفاهما على نصر دبلمي.
وبسمارك إذ لم يكن لديه سبب ولا شوق إلى الحرب (ضما للألزاس مثلا)، وبسمارك إذ كان يرى الحرب آتية من أجل توحيد ألمانية، وبسمارك إذ كان مستعدا لقبول الحرب على هذا الأساس، لم ينشد أية ذريعة مطمئنا إلى أن فرنسة ستجد من ناحيتها ما يكفي لذلك في مسألة إسبانية؛ ولذا كان عازما على الانتظار.
وكان بنيديتي قبل الاقتراحات الرسمية قد أنبأ في شهر مايو سنة 1869 بأن صداما من الطراز الأول يقع لا محالة إذا ما قبل رجل من آل هوهنزلرن تاج إسبانية، واجتنب بسمارك تحريض الملك على رفض العرض الإسباني ناظرا إلى أن المسألة مسألة أسرة يمكن الكلالة أن تصنع ما تراه فيها، فلا يرتبط في شيء تاركا الخصم خائفا، ولم يلبث بسمارك أن أبصر أن المسألة شائكة، وكيف يغري الملك بقبول العرض الإسباني بعد أن كان الملك مخالفا قبول العرض الروماني؟ «ومن المحتمل أن يكون الإسبان كثيري الشكر لألمانية إذا ما حررتهم ألمانية من خطر الفوضى، وإذا ما نظر إلى صلاتنا بفرنسة رئي من الأمور الطيبة أن يكون في الناحية الأخرى من فرنسة بلد يمكننا الاعتماد على عواطفه ولا معدل لفرنسة عن الركون إليه»، وبهذا تقتصد بروسية فيلقا أو فيلقين، وبذينك الفيلقين يوجه ذهن الملك.
ويعرف بسمارك أن تلك الخطوة مما يؤدي إلى الحرب، وبسمارك كان مستعدا للمخاطرة، وبسمارك إذ كان لا يعمل إلا من أجل سلطان بروسية وما يتعلق به لأسباب سياسية، وبسمارك إذ كان اليوم قليل المبالاة بالألزاس قلة مبالاته بسليزية النمسوية سنة 1866، وبسمارك إذ لم يرد اليوم ولا في أي يوم آخر أن يستولي على أرض ألمانية أو أجنبية في سبيل بروسية، وبسمارك إذ كان راغبا في بسط زعامته السياسية على ألمانية، أعد العدة لمحاربة نابليون الثالث كما كان قد أعدها لمحاربة فرنسوا جوزيف، ومن كلا العاهلين نزعت جامعة دول ألمانية الشمالية ثم الإمبراطورية الألمانية.
وكانت رغبة ذلك القطب السياسي الألماني المعقولة في جمع أبناء أمته - ولو على الرغم منهم - سبب كلتا الحربين، ولم يكن في ألمانية شيء يقال له مسألة الألزاس في الحقيقة كما أنه لم يكن في فرنسة شيء يقال له ضفة الرين في الحقيقة، وما كانت هاتان المسألتان إلا من اختراع متحذلقين قليلين أرادوا تحريض شعوب مسالمة على مسك بعضها برقاب بعض. ولكل من سياسيي فينة وباريس حق كبير في الحيلولة دون قيام دولة موحدة على الحدود، ولكل من جموع الألمان والأمراء أن تجاهد في سبيل شيد تلك الدولة مع اختلاف الخطط وتفاوت الأدوار والمبادرات.
ويطبق المثل الذي ضربه بسمارك في نقولسبرغ، فقال فيه إن محاربة النمسة لبروسية ليست أنفى للأخلاق من محاربة بروسية للنمسة، على الحرب الفرنسية الألمانية بمثل ذلك الوضوح أيضا، وما كانت أمة لتأذن للأمم الأخرى في إتمام وحدتها وفي تحولها إلى أمة ذات سلطان عظيم إلا حربا ما دامت الدول العظمى في أوروبة الصغيرة ولوعا بالزعامة والسيطرة كلفة بالمحالفات.
وكان بسمارك لا ينشد غير الممكن لا المشتهى فيتجاذبه متباين العوامل لما كان من تباغض الألمان وانقسام بلادهم، ولو كان بسمارك بافاريا لقاوم مقاومة عنيفة كل وحدة بزعامة بروسية، وبسمارك - بروسيا - أراد هذه الوحدة وهدف إليها عن عز شخصي وشعور طبقي وزهو قومي، وبسمارك - سياسيا - وجد رغبه معقولا من الوجهة الألمانية العامة، ويلائم هذا المفهوم المجرد رغبه الطبيعي فيجعل هذا الرغب موافقا للأخلاق وحافزا له إلى ضغط دول الجنوب ضغطا سهلا غير معترف به.
وإذا كانت الأمة «لا توحد إلا بسخط عام»، فكيف يثار هذا السخط بأكثر من التدخل الأجنبي؟ إن مواربات نفسية مثل تلك التي تهدد بها فرنسة لا تكون إلا ملائمة لرجل التحليل بسمارك، كما أن الحرب تلائم رجل السياسة بسمارك مع عدم طلبه إياها.
ويبصر بسمارك في أمر إسبانية إمكان إبلاغ المسألة إلى حدها، وتثار غيرة بسمارك الدبلمية بما رآه من وجوب تذليل بعض العوائق، ويرسل إلى إسبانية وكيلين، يرسل إلى إسبانية بوشر وأحد ضباط الجيش؛ ليبعث الاقتراح من مرقده بعد أن كاد يترك، ويصنع بسمارك ذلك سرا ليضع نابليون الثالث أمام أمر واقع وليوقع هذا الإمبراطور في الخطأ إذا أبدى اعتراضا، إسبانية بلد مستقل! ولم لا تستطيع أن تنشد لنفسها ملكا أينما شاءت؟ لقد أرسل الطلب الرسمي، وقبل في سيغمارنجن من خلف ولهلم، والملك في النهاية، وملك بروسية، «وافق على الأمر كرها بعد كفاح عنيف».
وهنالك وقبيل البلاغ الرسمي يعرف الأمر في باريس، ويصبح الشحم في النار! ويقيم غرامون صحافة باريس ويقعدها بمقالة شبه رسمية يوعز بنشرها حول الموضوع، ويستحوذ غضب حقيقي أو مصنوع على الصحف فتذيع نبأ «المفاجأة باختيار ملك ألماني»، والواقع هو أن غرامون كان يعلم أن بسمارك تكلم عنه مزدريا، فأراد أن يلطم الوزير البروسي على وجهه جهرا ليرى العالم ذلك.
ويقيم بسمارك بفارزين هادئا، ويجلد
2
المكان في منتصف الصيف، ويصف بسمارك ذلك في كتاب يرسله إلى زوجه، كما يأتي: «كنت قد أكلت من لحم السمك الرمحي ولحم الضأن، واليوم آكل من لحم السمك الرمحي ولحم العجل ومن قضبان الهليون
3
التي هي أحسن مما في برلين، وقد أشاط
4
الصقيع بعض أشجار الزين
5
الحديثة في فالدشن وسود كثيرا من أشجار السنديان الصغيرة، وأسوأ من ذلك ما أصاب وردك ، ولا أجد أثرا للحياة في ست أو ثمان من ذوات السوق الطويلة، ويرى على الجاودار
6
أثر للجليد، ولم تصب البطاطا بشيء - كما يظهر - فكان لأهل بوميرانية سلوان بهذا، وأتناول طعامي وحيدا حزينا، ولا أفكر في غير جعة غراتز عندما أتسلق التلال في الدفء، ولم يبق شيء من هذه الجعة ولا من جعة كليت، ولا أجد ما يدفعني إلى طلب جعة برسلاو؛ لما فيها من عبيثران
7
يجعلها غير ملائمة للشرب بانتظام، وتنزهت في الحديقة بعد الغداء وسرت في الحقل بين الصيد المصان، ورأيت أربعة أوعال منها ثلاثة أتياس، وما غرسته من الحور في الغدير الأبيض فقد أفسده الجليد بعد نجاح، وابيضت الأرض السوداء تحت شجر الصنوبر لسترها بالزهر الأبيض على ارتفاع ثلاث أقدام كالآس، فتجدين نماذج منه مع هذا الكتاب، وهو ما يعرف بحي العالم
8
الغيضي،
9
وهو ما يدعى في بوميرانية بوبر الخنزير وبإكليل الجبل، وأذهب إلى السرير في الساعة العاشرة، المخلص.»
والآن تنفجر القنبلة في باريس، ويذرع بسمارك غرفته ذهابا وإيابا بعد قصير زمن ممليا موحيا ما يود طبعه جوابا عن صخب باريس، ويملل بسمارك «أكداس ملاحظات؛ لتكون مدارا لمقالات ولرسائل مفصلة، ويجب أن تكون التصريحات الرسمية هادئة، وأن يؤذى شعور الفرنسيين في البيانات شبه الرسمية»، «ويظهر أن الإمبراطورة التي تزيد النار لهيبا راغبة في إيقاد حرب جديدة حول وراثة عرش إسبانية، والفرنسي كالملايوي الذي يثار فيسير في الشارع مزبدا حاملا خنجرا ليطعن به كل من يجد في طريقه ...» وفي اليوم السابع من شهر يوليو يقرأ بسمارك الخطبة التي ألقاها غرامون في مجلس النواب قبل يوم، فجاء فيها: «لا نعتقد أن احترام حقوق دولة مجاورة يحملنا على احتمال نصب دولة أجنبية أحد أمرائها على عرش شارلكن مقوضة أركان التوازن الأوروبي الراهن بما فيه ضررنا معرضة للخطر مصالح فرنسة وشرفها، فإذا ما حدث ذلك قمنا بما هو واجب علينا بلا تردد ولا ضعف!» عاصفة تصفيق!
فلما قرأ بسمارك ذلك قال لكودل: «يلوح أنه لا مفر من الحرب، وما كان غرامون لينطق بهذا قبل تفكير في الأمر وتقدير له، ولو هجمنا على فرنسة لأسفر ذلك عن نصرنا لا ريب! ومن المؤسف أنني لا أستطيع ذلك لأسباب كثيرة.»
وفي ذلك اليوم يوعز غرامون إلى سفير فرنسة في برلين بمقابلة الملك ولهلم ما دام بسمارك قد رفض كل بحث رسمي في مسألة أسرية.
وكان الملك ذا مزاج رضي، ولم يكن ليريد تكدير صفو صيفه في إمس؛ أي كان راغبا عن تعكير معالجته ومجده وسنه، فرضي بمباحثة بنيديتي في الأمر بدلا من صرفه من فوره كما أراد بسمارك، وفي اليوم التاسع من الشهر يقول الملك الذي أبصر شؤم الأمر لسفير فرنسة إنه بصفته رئيسا لأسرة هوهنزلرن سينصح ابن عمه بالعدول، وإنه أرسل مرافقا له إلى سيغمارنجن، ويكتب ولهلم إلى زوجه قائلا: «أسأل الله أن يلهم آل هوهنزلرن الصواب!» وينتهي الخبر إلى بسمارك بفارزين فيغضب ويصرخ قائلا: «وها هو ذا الملك يبدأ بالارتداد!» ويشعر بسمارك بأن أمله خاب، وبأن وضع ولهلم يفسر باستسلام بروسية.
ويبرق بسمارك في الحال سائلا مقابلة الملك فلم يتلق الأمر إلا في اليوم الحادي عشر من الشهر، ويا لهول الانتظار يوما واحدا! ويقصد في اليوم الثاني عشر من الشهر برلين مع كودل لما لا غنية له عن المرور بها، ويدخل بسمارك ساحة وزارته بعد رحلة عشر ساعات فيسلم برقية فلا يجد أن ينتظر نزوله من العربة فيفتحها غير صابر، فيعلم منها أن بنيديتي حاول محاولة جديدة في إمس وأن الملك قابله بجواب مهذب، ويدعى مولتكه ورون إلى العشاء بسرعة، ويصلان بعد بسمارك بوقت قصير، وفيما كان هؤلاء الثلاثة حول المائدة وردت برقية أخرى قائلة بإقلاع الأمير الهوهنزلرني عن رغبته في العرش الإسباني.
قال بسمارك بعد حين محدثا عن الماضي: «كانت الاستقالة أول ما فكرت فيه؛ وذلك لما ينطوي عليه ذلك الإذعان الإلزامي من خزي على ألمانية، لست مسئولا عنه رسميا، ويفت ذلك في عضدي إلى الغاية؛ لأنني لم أسطع أن أجد ما أصلح به فتقا نشأ عن سياسة خائرة ، فيمكن أن يؤثر في وضعنا القومي ما لم ألجأ إلى نزاع عامدا، وأعدل عن الذهاب إلى إمس وأرجو من الكونت أولنبرغ أن يذهب إلى هنالك ويعرض على الملك وجهة نظري، والملك لما كان من ميله إلى توجيه أمور الدولة بشخصه وعلى مسئوليته الخاصة؛ وضع نفسه في مأزق لا يقدر على الخروج منه، ومولاي المعظم لما كان له من رغبة شديدة في أن يكون له قرص في كل عرس، إن لم يقرر جليل الأمور بذاته، لم يكن ليستطيع أن ينتفع بالشعار القائل بالعمل من وراء ستار، ومصدر هذا الخطأ إلى مدى بعيد، هو تأثير الملكة في الملك من مدينة كوبلنز المجاورة، وكان الملك في الثالثة والسبعين من سنيه، وكان محبا للسلم، وكان كارها لتعريض إكليل المجد الذي ناله سنة 1866 للخطر، والملك إذا كان طليقا من هذا النفوذ النسوي خضع لما يوحي به حس الشرف على الدوام، والملك لما اتصف به من الفروسية تجاه المرأة، كان عاطلا من الحول أمام نفوذ زوجه الصادر عن وجل ثابت وعن قلة وطنية.»
وبسمارك لم يصب كأس النقد ذلك على ملك بروسية وملكتها إلا بعد عشرين عاما من الحوادث التي أشار إليها، وبسمارك فعل ذلك في وقت يفترض فيه أن تكون الأعمال العظيمة والانتصارات الكبيرة قد محت ما ساوره من الأحاسيس عن عطل الملك من حس الشرف وخلو الملك من الشعور القومي، لا كما فعل غرامون الذي ملأ وصفه لتلك الأيام بلوم الإمبراطور والإمبراطورة حين خسر معركة سياسية، وبسمارك بلغ من الغضب الغاية؛ لأن الملك أباح لنفسه النقاش المباشر في «أمر خاص بالأسرة المالكة»، وبسمارك كتب في تلك الليلة يقول لأسرته: إنه سيعود سريعا، وإنه لا يعرف أنه سيرجع إلى منزله وزيرا.
وتلك ساعات سهاد،
10
وتقضى ليلة بأسرها في وضع التدابير ورسم الخطط، وفي إيقاظ كوامن العجب والحقد، وفي صباح اليوم الثالث عشر من الشهر تأتيه أنباء من سفارة روسية، لا من إمس لا ريب، فيعلم منها أن باريس لا تزال غير راضية، فيا له من إسعاف! والآن في محادثته سفير إنكلترة يمكنه أن ينتحل وضع الغاضب الصائب فيقول: «إذا ما قدمت باريس طلبات أخرى شهد العالم أنها تود شهر حرب انتقام في الحقيقة، وقد عزمنا على ألا نحتمل الشتم وأن نصمد للتحدي، ولا نستطيع أن نقف موقفا سلبيا تجاه تسلح فرنسة وسبقها في الاستعداد الحربي، نحتاج إلى ضمان وثيق ضد خطر هجوم مفاجئ، وستطالب بروسية بالاعتذار ما لم يكف غرامون عن خطب وعيده.»
وكانت الأمور سائرة سيرا ملتويا، فأعادها إلى نصابها، ويضع غريمه القصير البصر والضعيف المستوى الورق الرابح في يده، فبينما كان بسمارك مسافرا بالأمس وبينما يتنزل الأمير الهوهنزلرني عن تاج إسبانية يبرق غرامون من تلقاء نفسه إلى بنيديتي ليطالب ملك بروسية ببيان رسمي عن ذلك التنزل، ويحمل غرامون سفير بروسية بباريس على الكتابة إلى الملك ولهلم قائلا إن نابليون الثالث يريد منه كتابا مشتملا على أن بروسية لا تأتي عملا ضارا بمصالح فرنسة ماسا لكرامتها، ويأمل غرامون أن ينال نصرا مؤزرا في مجلس النواب بوضعه تينك الوثيقتين في قمطره،
11
وفي ذلك المساء يبدي غرامون نفسه في سان كلو هائجا مغاضبا، ومما حدث منذ أربعة أيام أن مرض الإمبراطور نابليون الثالث مرضا شديدا فرفض العملية التي حضه عليها ناصحوه خشية الهلاك، وتمضي ثلاث سنين فيرضى بهذه العملية، فلو ارتضاها الآن لمات بالمبضع
12 - على ما يحتمل - ولسلم أناس كثيرون من القتل في ساحة الوغى.
ويحتدم بسمارك عند سماعه نبأ ذلك الاقتراح الذي قدم إلى سفيره وما كان من رد سفيره له بأدب، ويستدعي بسمارك سفيره ذلك من فوره، ويبرق بسمارك إلى مليكه بإمس مهددا بالاستقالة إذا ما قابل بنيديتي مرة أخرى، ويأتي مولتكه ورون للغداء معه بعد الظهر، ويعرب لهذين القائدين، اللذين قالا أمس بالحرب، عن عزمه على الاستقالة، ويقول رون إن هذا يعني الارتداد على حين يجب على الجنود أن يحتملوا كل شيء، وينتصب بسمارك قائلا: «إنكما جنديان تمتثلان الأوامر، ولا تستطيعان أن تشاطرا بصر وزير مسئول، ويتعذر علي أن أضحي بشرفي في سبيل السياسة.» ثم يؤتى ببرقية من إبيكن مكتوبة بالشفرة، فتوضع على المائدة، وهي:
كتب صاحب الجلالة يقول لي: «دنا الكونت بنيديتي مني في أثناء نزهتي ليسألني ملحا أن آذن له في الإبراق حالا بأنني ألزم نفسي في المستقبل بألا أوافق على ترشيح أحد من آل هوهنزلرن، وقد رددته بشيء من الشدة قائلا إنه لا يمكن، ولا ينبغي إعطاء مثل هذا التعهد إلى الأبد، ومن الطبيعي أن قلت له إنني لم أتلق خبرا بعد، وإنه إذ كانت عنده أنباء أحدث مما لدي من باريس ومدريد، يمكنه أن يحقق أنه لا شأن لحكومتي في الأمر.» ثم أخذ الملك كتابا من الأمير شارل أنطوني بعد ذلك، وبما أن صاحب الجلالة قال للكونت بنيديتي إنه ينتظر أخبارا من الأمير عزم على عدم مقابلة الكونت بنيديتي لما تقدم متبعا نصيحتي ونصيحة الكونت أولنبرغ كما عزم على تبليغه بواسطة حاجب أن لديه الآن ما يوكد النبأ الذي تلقاه بنيديتي من باريس، وأنه ليس عنده ما يقوله للسفير، فصاحب الجلالة قد ترك لفخامتكم أن تقرروا: هل من الأصلح أن تبلغوا إلى سفرائنا وإلى الصحافة في الحال خبر طلب بنيديتي الجديد وخبر رفضه.
ويدل نص تلك البرقية البعيد من الأسلوب الرسمي على بلوغ الاستياء غايته، وكانت نصيحة أولنبرغ تلك، وفق إرشادات بسمارك، آخر الوقش،
13
وكانت نصيحة أولنبرغ تلك كسهم ولهلم تل!
14
ورسول بسمارك أولنبرغ هذا أخبر الملك بغضب مستشار الجامعة بسمارك، وأولنبرغ هذا قص على الملك نبأ أسف مولتكه ورون، وأولنبرغ هذا أطلع الملك على خيبة أمل بسمارك بسبب سلوكه، ثم كان امتناع بسمارك عن زيارة إمس، ثم كانت برقية تهديده! وبدا الملك مؤدبا مع «قليل شدة» تجاه السفير الفرنسي، ولا بد من أن يكون الجميع قد أرخى للغضب عنانه في الحجرة، وإذا كان الأنيس أبيكن، وهو الذي يعجز عن إلحاق الأذى بذبابة - وهو الذي يعجز عن إيذاء دوك لذلك - يتكلم رسميا عن «طلب قسري»، وعن «رفض»، أمكننا أن نستنبط من هذا استعمال ألفاظ أقوى من تلك في أثناء المفاوضة، وما الأمر ، وقد فوض إلى حاجب أن يقول لسفير دولة عظيمة: إن الملك راغب عن مقابلته مرة ثانية وإن الملك ليس عنده ما يقول له؟ ومن المحتمل أن يكون الملك الشائب قد انساق وفق تحريض أولنبرغ أو أحد الحجاب، فوافق على الفكرة القائلة بأن يطلع الناس على ذلك الرفض بطريق السفراء والصحافة، وبسمارك في هذه المرة، كما في سنة 1862 حينما كان في إحدى حجيرات القطار مع الملك بين جوتربوغ وبرلين، ولكن مع التجاء بسمارك إلى الواسطة الآن، يشعر الملك بأنه بذل أقصى جهده كضابط في الجيش، فعليه أن يحاول العمل بتردد أقل من قبل.
ويكون لتلك البرقية تأثير هاد في بدء الأمر، ويفقد كل من القائدين شهوة الطعام، «فلا يأكلان ولا يشربان، وأفحص الوثيقة غير مرة، فأقف عند حد ما تشتمل عليه من تفويض صاحب الجلالة إياي، وأضع بضعة أسئلة لمولتكه مستفسرا عن درجة استعدادنا الحربي، وعن الزمن الذي لا بد منه تأهبا لحرب قريبة الوقوع»، ويجيب مولتكه عن ذلك بأن شهر الحرب في الساعة الراهنة أفيد لبروسية من التأجيل، وهنالك يمسك بسمارك قلمه الرصاصي الضخم، وهنالك يلخص تلك البرقية الرقمية به لتنشر كما يأتي:
بعد أن بلغ رسميا خبر عدول الوارث الهوهنزلرني عن كل مطالبة بالتاج الإسباني إلى حكومة فرنسة الإمبراطورية بواسطة حكومة إسبانية الملكية قدم سفير فرنسة إلى الملك بإمس طلبا آخر بالإذن له في الإبراق إلى باريس بأن صاحب الجلالة الملك ألزم نفسه بعدم الموافقة في المستقبل على ذلك إذا ما عاد آل هوهنزلرن إلى خطة الترشيح، فهنالك رفض صاحب الجلالة مقابلة سفير فرنسة مرة أخرى، مفوضا الحاجب العتيد بأن يقول لهذا السفير إنه ليس عند صاحب الجلالة ما يبلغه إليه.
ومن ثم ترى أن كلمة جدية لم تدس إلى البرقية، أجل حذف منها بعض الكلمات، ولكنه لم يضف إليها شيء، حتى إن الكلمة الجافية: «ليس عنده ما يقوله للسفير» قد حولت إلى ما هو ألطف منها؛ أي حولت إلى: «ليس عنده ما يبلغه إليه»، وتبليغ الأمر إلى السفراء وإلى الصحافة، وهو خطوة ذات تأثير هائل، هو من إيحاء الملك وإيصائه وإيعازه، ويمكن ذلك الرجل الذي أعاد كتابة البرقية أن يتمثل، وأن يسمع ترجمتها إلى الفرنسية، وأن يرى بعين بصيرته «رفضه» حينما ينادي به باعة ملحقات الجرائد في شوارع باريس، ولا يوجد تزوير مع ذلك، ولا يوجد أكثر من تكثيف مع ذلك.
ولا يعدو الأمر حد منطاد طويل لا شكل له مشتمل على قليل غاز جاثم فوق الأرض فلا يستطيع الصعود في الهواء، فلما ذئط
15
قب
16
ما بقي منه فطار في الجو بسرعة وصار ظاهرا لألوف الأبصار. وتنطوي تلك البرقية التي نشرت على ذلك الوجه؛ على الجواب الذي قصده بسمارك تجاه الفرنسي، فعلى الفرنسي أن يختار الحرب أو الإذعان، وعلى ما كان من تسمية ليبكنخت بعد زمن لتلك البرقية ب «الجريمة التي لا نظير لها في التاريخ» لا نرى هذه الجريمة من صنع بسمارك، وإنما الجريمة كل الجريمة هي في نظم المجتمع والحكومة التي تبيح لرجلين أو ثلاثة رجال إيقاد نار حرب من غير استشارة الشعب.
وأراد بسمارك أن يباغت الملك فضلا عن ذلك، وبسمارك كان يفكر في الملك حينما أتى بذلك البت السريع الذي هو نتيجة سلسلة من الأفكار القديمة ساورت ذهنه في سنوات كثيرة كما هو أمره مدى عمره في أحوال مماثلة، ويود بسمارك الضرب والحديد حام؛ وذلك خشية قول زوجة الملك بالسلم غدا وخشية قول ابن الملك بها بعد غد، والواقع أن بسمارك بنشره تلك البرقية جعل الحرب أمرا لا مفر منه من غير أن يسأل مولاه عن رأيه، بيد أن الملك كان ذا منازع حربية في ذلك الحين، وآية ذلك ما كان من إرساله برقية ثانية من إمس بعد قصير وقت وبعد أن كانت البرقية الأولى مرسلة لتنشر على العالم، فقد جاء في هذه البرقية رفض ثالث لمقابلة بنيديتي كما يرى من العبارة الآتية، وهي: «إن ما قاله صاحب الجلالة في هذا الصباح هو كلمته الأخيرة في الموضوع، وصاحب الجلالة يذكركم بقوله السابق.» وهذه الكلمة جاءت مصدقة لما أذاعه بسمارك!
بسمارك في سنة 1883.
وتصرف بسمارك منطقي ما أبصر القائد العام يصرح له بأن الوقت ملائم، وما رأى أن تطور الأحوال في السنوات الأخيرة القليلة ينبئ بأن الحرب آتية لا ريب فيها، وما أريد بناء ألمانية الحقيقية. وبسمارك إذ كان عليما بأحوال النفس، وبسمارك إذ كان عارفا أن فوزه يتوقف على روح أوروبة إلى أبعد حد؛ وجد تلك الفرصة أحسن ما يبدو به معتدى عليه شكلا وجوهرا. وإذا ما ظهر لنا، نحن أبناء الجيل الأخير، أن توحيد شعب في المستقبل يستحق الكفاح كان جيراننا الفرنسيون في أسوأ مأزق خلقي؛ لعزمهم على شهر الحرب منعا للوحدة الألمانية من القيام.
ومهما يكن الأمر فإن بسمارك قبل كل شيء وبعد الظهر لم يخل من سبب ومن وضع يلهب بهما آخر بافاري موال لفرنسة وآخر ورتنبرغي معاد لبروسية؛ بغية الاشتراك في السخط العام الذي كان محتاجا إليه، وتمضي ثلاثة أيام فتشيع بين الأنام أسطورة تنزه الملك الشائب المحب للسلام في بلد المياه المعدنية وانتظار الفرنسي الشاطر له مترقبا في غيضة كالمغتال، ويرى بسمارك ذلك ببصيرته، وبسمارك يكتب في الساعة السادسة تلك البرقية التي سيقذفها في منتصف الليل في جميع عواصم أوروبة كما لو كانت قنبلة هائلة.
الفصل السابع عشر
ويمضي أسبوع فينطق بخطب العرش في برلين وباريس معا، إنباء للعالم بأن العدو حمل الأمة على امتشاق الحسام؛ فالله الذي كان نصيرا لحق أجدادنا سيكون نصيرا لحقنا، وهلم جرا، ويدعو كل من البرلمانين ناخبيه إلى السلاح، ويتصرف كل من البرلمانين في نقود ناخبيه، ويحرق كل من البرلمانين الأرم
1
على الآخر من غير عرفان بالعدو ومن غير حقد عليه، وفي شهر يوليو ذلك وفي كل من البلدين يتجمع ضد الحرب - ولأول مرة في التاريخ الحديث - بعض الناس على شكل جماعات، لا على شكل جماهير، ومن باريس يخرج نداء موجه إلى عمال جميع الأمم حاو للكلمة الآتية، وهي: «يرى العمال أن حربا تهدف إلى هيمنة دولة أو إلى تأييد أسرة لا تكون إلا حماقة جارمة»، ويردد غير بيان وغير منشور ذلك المعنى، ويتجاوب عبر الرين أصداء ما يلقى في مجلس سكسونية وبافارية الاشتراعية من الخطب، وفي بروسية وحدها لم يجرؤ أحد على الكلام بذلك الأسلوب، وكل ما استطاعه الخطيب الاشتراكي ببرلين هو خفضه الجناح دفاعا عن الفرنسيين ضد نابليون الثالث موصيا بشهر الحرب على هذا الإمبراطور، ثم أعلن مجلس العمال الدولي العام أن على العمال أن يشتركوا في حرب دفاعية ألمانية، وأن عليهم أن يقاوموا كل محاولة لتحويل هذه الحرب إلى حرب هجومية.
ويكون للشعور بأن فرنسة هي الفريق المعتدي بالغ الأثر في الجذريين
2
بالمجالس، وفي باريس وبعد خطب تيار وغنبتا النارية لا يرفض قروض الحرب سوى عشرة أصوات، وفي برلين يمتنع ليبكنخت وبيبل عن التصويت مجتنبين الدفاع عن سياسة بسمارك وسياسة نابليون الثالث، وتجد بين الديمقراطيين الاشتراكيين من انتقد ذلك الوضع، فتقرأ في جريدة اشتراكية قبل كل شيء قولها: «إن انتصار نابليون يعني انكسار العمال في جميع أوروبة، ويعني تجزئة ألمانية تماما، وتقضي مصلحتنا بالقضاء على نابليون، لانسجامها مع مصالح الشعب الفرنسي.»
وتقرأ في هذه الجريدة الشعبية بعد ثلاثة أيام: «دعوا القيصرية الألمانية والقيصرية الفرنسية تتنازعان الأمور هما والرأسمالية، وليس لنا - نحن الصعاليك - ما نعمله في الحرب!» وفي الغد يصدر منشور معاكس لذلك، ويدور حديث الشعب حول «ملكية ليبكنخت»، وإن كان هذا قد صوت ضد القروض.
ويبدي كارل ماركس سعة بصر أوروبية فيكتب إلى إنجلس من اليوم الأول: «إن ترتيل نشيد المارسلياز هو جد في هزل كجميع الإمبراطورية الثانية، ولا فائدة لبروسية من القرديات القائلة إن يسوع هو ملاذي ومرتجاي والتي تعد مارسيلياز الألمان فيتغنى بها ولهلم الأول وبسمارك عن يمينه ووزير الشرطة ستيبر عن شماله، ويظهر أن الألماني الفلسطيني سعيد بأن له من الحظ في الوقت الحاضر ما يطلق به العنان لعبوديته الفطرية، ومن ذا الذي كان يظن إمكان اتفاق مثل ذلك التعبير النظري لحرب قومية في ألمانية بعد سنة 1848 باثنتين وعشرين سنة؟» ولكن تحاور المبعدين لا يزال بلا صدى.
وكانت عواطف أوروبة مع فرنسة خوفا من بروسية، ويرى بسمارك أن يوجه الرأي العام الإنكليزي حيث يريد فيرسل إلى جريدة «التايمس» صورة عن مشروع معاهدة سلمه بنيديتي إليه في أثناء مسألة اللوكسنبرغ، فينص على رضا نابليون بالوحدة الألمانية إذا ما أطلقت يده في ضم بلجيكة، ويسأل بنيديتي رسميا، فيقول إن الفكرة هي لبسمارك وإن بسمارك هو الذي أملى تلك الوثيقة، ويجيب بسمارك عن ذلك بأنه بحث في الأمر مع نابليون مرارا وبأنه إذا لم ينشر الوثيقة في الساعة الحاضرة فإن الإمبراطور يقترح - لا ريب - إجابته إلى رغائبه على حساب بلجيكة وذلك بعد إتمام استعداده الحربي، وذلك تجاه أوروبة العزلاء، وذلك مع الاستناد إلى مليون جندي؛ أي وفق ما اقترح بسمارك نفسه قبل إطلاق العيار الناري الأول في سنة 1866.
ومن الصحيح ما ذكره بنيديتي، وإذا ما صدقته أوروبة دل ذلك على علم الناس بما يتم بسمارك عمله به من الدهاء، ويكتب إنجلس قوله: «وللأمر حسنة واحدة، وهي تنظيف الثياب القذرة علنا، ولا بد من خاتمة للمكايد بين بسمارك وبونابارت.»
والأمر الذي لم يعرفه أحد في ألمانية، (وذلك لأنه لم يعلن إلا في سنة 1926 حينما نشرت مراسلة الملكة فيكتورية) هو: كيف أن النفور الأعمى من بسمارك أدى إلى حوك الأميرة فيكتورية البروسية الإنكليزية المولد وزوجها للمكايد ضد الوطن، ولما وضعت الحرب أوزارها زار ولي العهد إنكلترة، فكتبت الملكة فيكتورية في يوميتها ما يأتي:
أوسبرن، 30 من يوليو سنة 1871، نهار رائع، غداء في الخيمة، اجتماع بفريتز الجميل وحديث حول الحرب، هو حسن، هو أنيس، هو طيب، هو يمقت بسمارك مقتا شديدا، هو يقول إن بسمارك نشيط ذكي، ولكن مع خبث وخلو من كل مبدأ، هو يقول إن بسمارك صاحب السلطان والإمبراطور الحقيقي، هو يقول إن بسمارك غير محبب لأبيه «ولهلم» مع عجز أبيه عن عمل شيء ضده، ويرى فريتز أن المعاهدة التي نشرها بسمارك على أنها من اقتراح بنيديتي هي من صنع بسمارك ونابليون معا، ويشعر فريتز بأنهم يعيشون على بركان فلا يدهشه أن يحاول بسمارك شهر الحرب على إنكلترة ذات يوم!
فهذا هو شكر وارث عرش آل هوهنزلرن للرجل الذي كسب له تاجا إمبراطوريا تشرئب إليه الأعناق!
والناس - كما حدث في سنة 1866 - قائلون لسياسة بسمارك ما سوغت المدافع - التي لم يصوبها بعد - سيره، ويمكن ذلك الضابط الذي خاطب بسمارك مساء معركة كونيغراتز أن يكرر بعد المعركة الأولى قوله: «إنك من العباقرة ما دام الفوز قد كتب للهجوم الأول، فلو عبر العدو نهر الرين لغدوت أكبر المجرمين!»
وعلى ذلك القطب السياسي أن يتدخل في هذه المرة أيضا؛ أي بعد بضعة أسابيع، ففي الليلة التي عقبت معركة سيدان التمس التعس وينبفن
3
من مولتكه أن يبقي على الجيش الفرنسي وأن يقهر الأمة الفرنسية بكرمه، فهنالك توسط بسمارك قائلا: «لا يمكن الاعتماد على شكر أمير ولا على شكر قوم ولا على شكر الأمة الفرنسية، ولا ثبات لوضع الفرنسيين العام؛ فالحكومات والأسر تتغير عندهم على الدوام، ومن يقبض على زمام الأمور منهم لا ير أن يرتبط في عهد من جاء قبله، والفرنسيون قوم حسد، فلا يزالون ينفسون علينا نصرنا في معركة كونيغراتز مع أن ذلك لم يضع لهم حقا، وما هو الكرم الذي ينتظر منهم فيحملهم على العفو عن نصرنا في سيدان؟» ويطلب تسليم الجيش بأسره تسليما مطلقا بلا أسلحة ولا رايات.
فبمثل ذلك العبوس يبدأ بسمارك سياسته ضد الجمهورية الفرنسية القادمة مبصرا قرب إعلانها، وهو لا ينفك يبدي غلظة في أثناء أشهر المفاوضات الستة المقبلة، ويتخذ بسمارك سياسة قاسية، وينتحل بسمارك سياسة الفاتح، ويحيد بسمارك عن السياسة التي اتبعها في نقولسبرغ، وقد ذكر بسمارك أحد الأسباب التي يتمسك بها وهو عدم ثبات حكومات باريس، وسيأتي دور الأخرى، وتحفزه هذه السياسة إلى ضم اللورين، ولهذه السياسة نتائج لا تحصى.
وفي اليوم الثاني من شهر سبتمبر يستدعيه نابليون باكرا، فيجتمع به على الطريق في عربة محاطا بضباط راكبين خيلا، «وكان مسدسي على زناري، فلما وجدتني وحيدا أمامه وأمام ستة ضباط ألقيت نظرة على سلاحي ذلك غير قاصد على ما يحتمل ، ومن المحتمل أن وضعت يدي عليه بغريزتي، ومن المحتمل أن أبصر الإمبراطور ذلك لما رأيت من اغبراره مع الاصفرار»، ويتجلى اجتماع الرجلين وأخلاقهما في تلك الساعة كما لو كان الأمر في رواية؛ فالغالب يجد نفسه من فوره تجاه عدوه، وإن شئت فقل رجلا تجاه ستة فيقبض بحركة طبيعية على مسدسه الذي يحمله للضرورة، والمغلوب يلاحظ وهو في عربته تلك الحركة فيصفر وجهه، وكلا الرجلين يعرف أنه لن يطلق عيار ناري هنالك، وكلا الرجلين يتأثر بغريزته كأنه يتوقع إطلاق عيار ناري في كل دقيقة.
وإذا عدوت هذه المقدمة وجدت اجتماع الرجلين في كوخ حقير على جانب الطريق غير ذي بال. والفروسي المتحرز بسمارك قال عن ذلك - بعد زمن - إنه «حديث رقص موسيقي»، وبسمارك في ذلك الاجتماع وافق الإمبراطور، ولكن بعد الأوان، على أن كليهما كان راغبا عن الحرب، والمبغض الأكبر بسمارك لم يحاول شهوة انتقام في تلك الساعة كما كان يصنع في أحوال أخرى، ولم يكن المخاطب، ولم يكن غرامون هو الذي يشكو ضعفه ضارعا، بل نابليون الذي وصفه بسمارك منذ ثلاث عشرة سنة بأنه رجل لا وزن له مع طيبة، ولم يكره بسمارك نابليون قط، وبسمارك وإن خشي الإمبراطور أحيانا كان يسعى في اكتسابه على الدوام، وبسمارك يمكنه الآن أن ينظر إلى خصمه المقهور نابليون كما ينظر الرجل إلى امرأة تمناها طويل زمن فنالها في نهاية الأمر فصار لا يمن عليها بسوى الشفقة.
وإذا نظرت إلى جوهر الأمر أبصرت أن هذا الإمبراطور الأسير مصدر زعج لبسمارك، وبسمارك هو الذي قال في المساء بعد المعركة وبعد استسلام نابليون بما عرف عنه من وميض ذهني: «والآن يجب علينا أن ننتظر طويل زمن ليتم الصلح.» وبسمارك يخشى حتى ما تصير إليه الأمور من نصيحة بالسير على غرار ما حدث بعد معركة كونيغراتز، ومن نصيحة باجتناب أي تقدم عسكري آخر، ومن نصيحة بالبقاء في القسم الذي احتل من فرنسة حتى الآن! وذلك لأنه قضي على جيش العدو، أو لأن هذا الجيش قد استسلم، أو لأنه حوصر حصارا تاما؛ وذلك لأنه لا بد من انقسام الأمة الفرنسية إلى أحزاب فتذعن عن ضعف، ولو عمل بسمارك بتلك الآراء في ذلك اليوم كما صنع قبل أربعة أعوام لكان هذا تتويجا لسياسته في نقولسبرغ، ولكنه إذا كان قد وجد مصاعب في حمل الملك والقواد على العدول عن دخول فينة كان من المتعذر أن يقنع هؤلاء بالابتعاد عن باريس في هذه المرة، وكان أركان الحرب على حذر تجاه مثل تلك الحماقات المدنية! وكان ذلك المدني يعرف أن رفعه إلى مرتبة جنرال منذ أيام كونيغراتز لا قيمة له، وفيما كان بسمارك يدخل القطار الذي يسافر فيه إلى الجبهة سمع بوديلسكي يقول في الحجيرة المجاورة: «أخذنا حذرنا في هذه المرة، فلن يستطيع بسمارك أن يدخل بيننا!»
والذي يدفع بسمارك - قبل كل شيء - هو الرأي العام الألماني الذي كان يخشى دخول فينة بعد معركة كونيغراتز أكثر من رغبته في ذلك، فصارت الصحافة الألمانية تطالب الآن بضم الألزاس «ضمانا تجاه هجوم يقوم به أعداؤنا التقليديون في المستقبل».
والاشتراكيون وحدهم هم الذين صرحوا بأن الحرب انتهت بسقوط نابليون، وتعلن الجمهورية بباريس في اليوم الرابع من سبتمبر، ويعرب عن عطف على هذه الجمهورية في تظاهرات شعبية كثيرة تقع في ألمانية في اليوم الخامس من شهر سبتمبر، ويمكن القول باشتمال كل عدد من جرائد العمال بعد ذلك الحين على عناوين كبيرة مثل: «صلح عادل مع فرنسة! لا ضم! مجازاة بونابارت وشركائه!» وتتداول الأيدي في جميع ألمانية بيانا بقلم كارل ماركس ينبئ فيه بأن ضم الألزاس «يؤدي إلى عداوة قاتلة بين البلدين وإلى هدنة لا إلى سلم»، وهنالك يقف جنرال في المؤخرة أعضاء لجنة الحزب ويرسلهم إلى إحدى القلاع مقرنين في الأصفاد،
4
ويوقف يوهان جاكوبي أيضا لما كان من إلقائه خطبة في كونيغسبرغ حمل فيها على فكرة الضم فيهز هذا أقوياء الديمقراطيين هزا عنيفا، وكان ماركس قد كتب في منتصف شهر أغسطس يقول: «يظهر أن مصدر التوقان إلى الألزاس واللورين طبقتان: إحداهما هي طبقة الندماء في بروسية والأخرى هي طبقة وطنيي الجعة في جنوب ألمانية، ويعد ذلك أعظم مصيبة تصاب بها أوروبة ولا سيما ألمانية، وعلى البروسيين أن يعلموا من تاريخهم الخاص أنه لا ضمان ضد حرب انتقام يقوم بها عدو مقهور بتقسيم بلاده ... إلخ.» ورأي مثل هذا مما يلوح قول بسمارك به في بدء الأمر.
قال بسمارك مؤكدا في خطبة العرش عند اشتعال الحرب: «يدعى الشعب الألماني والشعب الفرنسي، وهما اللذان يرغبان في التمتع ببركات الحضارة النصرانية وبرخاء كبير، إلى تنافس نجيع
5
أكثر مما إلى تنافس مسلح مضرج بالدم، وقد عرف أولياء الأمور في فرنسة كيف يستغلون كرامة جارنا الشعب العظيم الصالحة الحساسة ويسيئون استعمالها وفق مآربهم الخاصة وشهواتهم الشخصية.» ولا تجد رجلا في العالم يمكنه أن يتكلم بصراحة ولباقة كما صنع بسمارك في اليوم الأول من الحرب مخاطبا العدو وأوروبة معا على ذلك الوجه، ولا تجد قطبا سياسيا فرق بوضوح بين أمة وحكومتها كما فعل بسمارك على ذلك الوجه، والشيء الوحيد الذي كان بسمارك لا يفكر فيه في تلك الساعة الملحة - على ما يحتمل - هو انهيار نابليون مولى ورجلا بسرعة، وبسمارك حتى عند إدراكه مثل تلك العاقبة الحائقة
6
قد غاب عنه - لا ريب - تقدير ما يمكن أن يكون لذلك من الفعل في فريق من أبناء بلاده.
وفضلا عن ذلك بدأ بسمارك بيانه بالكلمة الآتية، وذلك حينما وطئت قدما الملك ولهلم أرض فرنسة في منتصف شهر أغسطس: «بما أن الإمبراطور نابليون هجم بحرا وبرا على أرض الأمة الألمانية التي كانت ترغب - والتي لا تزال راغبة - في العيش بسلام مع الشعب الفرنسي ...» وفضلا عن ذلك أصدر فردريك شارل أمرا يوميا جاء فيه: «لم يسأل الشعب الفرنسي عن رغبته في شهر حرب طاحنة على جاره، فلا داعي إلى الحقد.»
ثم ماذا حدث؟ مضت خمسة أسابيع على تلك البيانات فجاء إلى المقر العام للغالب أول وزير لخارجية الجمهورية ليطلب هدنة في أثناء انتخاب نواب لمجلس وطني، أفلم يكن لدى جول فافر ما يأمل به أن يكون الفارق الواضح بين نابليون وشعبه أكثر من جملة بسيطة؟ أفلم يكن لدى خصوم تلك الحرب في البلدين ما يرون به أن ذلك الشعب أقام الدليل على مناحيه السلمية بإسقاطه حكومته المحراب
7
ورفعه خصومها إلى السلطة محولا النظام الإمبراطوري إلى نظام جمهوري تحويلا أساسيا؟ أفلم يكن تيار وفافر قد حكما على الحرب في يوم الفصل مع رفقائهما الذين رفضوا الموافقة على القروض فتسلما الآن إدارة الجمهورية؟
ومن المؤسف أن كان النظر لا يطبق على العمل في كل وقت وإن أدى اكتساب اثنتي عشرة معركة إلى فرق، فبسمارك الذي كان قد أعرب في خطاب العرش عن عطفه على الشعب الجار العظيم لأنه ضلل من قبل أناس يسيرون وراء مصالحهم الخاصة، وبسمارك الذي قال في بيان أذاعه في منتصف شهر أغسطس: إن الألمان لا يزالون راغبين في سلم مع فرنسة، هو بسمارك الذي أصدر نشرتين لتبلغا إلى السفراء فصرح فيهما بأن الأمة الفرنسية بأسرها هي المسئولة عن حرب الفتح، وفيما كان فافر يذكر لبسمارك أن الفرنسيين طردوا إمبراطورهم المحراب وأنهم يريدون السلم وأنهم يقدمون تعويضات؛ قال بسمارك لرسول مغامر أرسلته الإمبراطورة أوجيني إليه:
لا نكترث لشكل حكومتكم؛ فلو كان نابليون ملائما لمصالحنا لأعدناه إلى باريس ... ولو كنت واثقا بأن سياستكم هي سياسة فرنسة لحملت الملك على الرجوع غير مطالب بأرض ولا بدانق،
8
ولكنكم لا تمثلون سوى أقلية لا يؤبه لها، ولا نرى فيكم ولا في أية حكومة تخلفكم أي ضمان لنا، ولنا أن نفكر في سلامتنا المقبلة، فنطالب بجميع الألزاس وبجزء من اللورين مع مدينة ميتز.
وكان واقفا هنالك جول فافر المحامي الشاحب اللون والغليظ الشفتين والصاحب للحية شعثاء كبيرة، فيأخذ «معطفه المغبار
9
وعمرته
10
المتجعدة»، ويقول: «إننا لن نتخلى عن ذراع من أرضنا ولا عن حجر من حصوننا!» ويروقه بسمارك الغضوب مع ذلك فيقول عن هذا السياسي الألماني: «إنه وقور عنيف، فتلطف عنفه بساطة طبيعية وبعض البشاشة، وقد قابلني بالحسنى، وبأدب ومن غير تصنع وغلظة، وهو لم يلبث أن أظهر طلاقة وجه وأريحية فلم يفارقه ذلك حتى نهاية الاجتماع.»
وكان لما طرأ على بسمارك من حال نفسية جديدة نتائج خطرة في نصف قرن، وكان يمكن بسمارك أن يحمل الملك على السلم على الرغم من جميع القواد كما ينم عليه تاريخ الأشهر الآتية، وما كان من ذهابه إلى أن سلامة الريخ تكون بالتنزل عن الألزاس واللورين فيدل على إظلام ذهنه، ولما تمض سنة على إسرار بسمارك إلى كيزرلنغ بقوله:
وفضلا عن ذلك أسأل: ماذا تكون النتيجة إذا ما كتب النصر لبروسية على فرنسة؟ ولنفترض أن الألزاس غدت قبضتنا، فيجب علينا إذ ذاك أن نحافظ على فتحنا بأن تكون لنا حامية دائمة في ستراسبرغ، وهذا وضع متعذر؛ وذلك لما يتفق لفرنسة من حلفاء في نهاية الأمر، ولما يكون لنا بهذا من سوء حال حينئذ.
ولدينا قول آخر لكارل ماركس وهو «تكون هدنة بدلا من السلم!» وبسمارك قد أبصر الحرب آتية لا ريب فيها، وكان يسر بسمارك أن يرى هذا؛ وذلك لأن الربح الذي كان يطمع فيه من الحرب هو بناء الريخ، وما كانت أفكار بسمارك ورغائبه لتوجه ضد جار لأنه جار متبرم، وكاد الفرنسي ينسى في خمس وخمسين سنة الغزو الألماني الأخير، وأعصاب فرنسة لم تضطرب في السنوات الأربع الأخيرة إلا لتوسع بروسية، ولا تجد في أية مذكرة من مذكرات بسمارك ولا في أية خطبة من خطبه ولا في أية رسالة من رسائله ولا في أي حديث من أحاديثه الخاصة كلمة العدو التقليدي، أجل إنه لا يحب الفرنسيين، ولكن من هو الذي يحب؟ والآن - بغتة - وخلافا لبياناته الأخيرة يجد بسمارك أن من غايات الحرب سلامة الريخ التي هي وليدة هذه الحرب، ومن ثم تبصر تبدلا تاما في المبادئ الأساسية لسياسته العالمية، فقد تحول بسمارك الباني إلى بسمارك الفاتح.
وتسأل أوروبة: لماذا لا تكون تانك الولايتان محايدتين ما دامتا راغبتين في الحياد، وعن هذا يجيب بسمارك مؤخرا في تصريح ألقاه في الريشتاغ حيث يقول:
يعني ذلك إقامة سلسلة من الدول المحايدة من البحر البلطي إلى جبال الألب، فيؤدي هذا إلى تعذر هجومنا على فرنسة برا ... إن من عادتنا أن نحترم المعاهدات والمحايدات (بخ بخ!) ... ولفرنسة الوقاية من ناحيتنا إذن، وذلك على حين ليس لنا من الوقاية البحرية شيء ما دام أسطولنا أضعف من أسطول فرنسة.
وهذا سبب ثانوي، والسبب الرئيس هو أن بلجيكة وسويسرة ترغبان في البقاء دولتين مستقلتين محايدتين مع أن الألزاس واللورين لا تريدان ذلك. ... ومما يجب توقعه هو أن العناصر الفرنسية تظل كما هي في ذينك البلدين زمنا طويلا، فتبقى إلى أمد بعيد مرتبطة في فرنسة بمصالحها وعواطفها وذكرياتها، فإذا ما وقعت حرب فرنسية ألمانية جديدة أثرت هذه العوامل في تلك الدولة المحايدة الجديدة، ولا نجد ما يفعل إذن غير وضع ذينك البلدين وما فيهما من حصون تحت السيطرة الألمانية وغير الدفاع عنهما كصياص
11
ألمانية في وجه فرنسة، فبذلك نعوق بدء كل هجوم فرنسي منتظر على ألمانية لعدة أيام.
وعداوة السكان كانت أول حائل دون تحقيق ذلك الرأي، وكان يوجد مليون ونصف مليون من الألمان لهم ما للألماني من المزايا، فكانوا يعيشون بين أبناء أمة لها مزايا أخرى غير تلك، فكان لهم بذلك مقام مرموق، وإن من خلق الألماني أن تكون له أفضلية على أقرب جار إليه، وكان يوجد خلف أهل الألزاس واللورين باريس مع سنائها وفرنسة مع عظمتها ووحدتها، فإذا ما واجهوا أبناء جلدتهم من الألمان قالوا إن باريس لنا! وجود هذا النفور أمر لا ريب فيه، وعلينا أن نتغلب عليه صابرين، ولدينا، نحن الألمان الآخرين، وسائل كثيرة، والحكم من دأبنا على العموم، وحكمنا يكون قليل الحكمة في بعض الأحيان، ولكنه يكون مع الزمن أكثر إنسانية وأدعى إلى الخير من حكم أولياء الأمر بفرنسة (ضحك) ... ولكن لا ينبغي لنا أن نتمدح فنقول إننا سنصل إلى تلك الغاية بسرعة فنرى المشاعر الألمانية في الألزاس تحولت فصارت كما في تورنجية.
ومن خلال جميع تلك العوامل المعقولة الصائبة تبصر اكتراث القطب السياسي ولو جرؤ هذا القطب السياسي بعد صلح ظافر أن يقول لبني قومه عند الكلام عن أسلاب الحرب: إنه لا معدل عن أخذها لأقام دليلا آخر على أنه لم يحتفظ بها بلا طول روية وإنعام نظر، ولم أخذها؟ صرح بسمارك بعد سنوات كثيرة لممثلي ولايتي الألزاس واللورين بأنه ضمهما على الرغم منه وعملا بضغط القواد العسكريين.
تجد الأسباب الأولى في مزاج الجيش وقواده؛ فالحق أن معارك كبيرة وخسائر عظيمة كانت هنالك، وكان العدو سيئ الاستعداد، فلا يستطيع الدفاع عن حصونه طويل زمن، وكان الأمراء والجنرالات سكارى النصر، فأضف إلى ذلك كله مقت بسمارك لجيرانه المتكبرين الذين لا يحتملون قيام دولة قوية عبر الرين مساوية لدولتهم، وهذا إلى العامل الألماني القومي القائم على شعور بسمارك بأن ألمانية معرضة لخطر هجوم فرنسي جائر، وكان ملك ورتنبرغ قد بين لبسمارك - ذات مرة - أن ضعف البلاد من تلك الناحية مما يعوق اتجاه جنوب ألمانية نحو الوحدة، وبسمارك قد عرض الأمر على الريشتاغ بقوله: «إن الطرف الذي تدخل به زاوية الألزاس في ألمانية بالقرب من فيسنبرغ يفصل بالحقيقة جنوب ألمانية من شمالها بأكثر مما يوجبه خط نهر المين السياسي.» بيد أن هذه الملاحظة الواقعية تنطبق على الألزاس وحدها، وهي لا تنطبق إلا على قسم من هذه الولاية.
وبسمارك - فضلا عن ذلك - سخر من الأقاويل الوحدية الألمانية التي زعم أنها ألهبت الحماسة خلف خط القتال، فقال: «إن الحصون هي التي نحتاج إليها؛ فالفكرة القائلة بألمانية الألزاس هي من اختراع الأساتذة.» وكان بسمارك يعلم أن وضع الأمير الناخب الأكبر تجاه لويس الرابع عشر هو السبب الرئيس في ضياع الألزاس، وأنه ليس لآل هوهنزلرن أدنى ادعاء ممكن بهذه الولاية، وقد اعترف بسمارك بما في ضم اللورين من خطر، فقال في اليوم السادس من سبتمبر: «لا أريد ضم اللورين، ولكن الجنرالات يرون أن ميتز ضرورية وأنها تعدل قوة 120000 جندي.» ولم يلبث بسمارك أن أفضى إلى دبلمي إنكليزي بقوله: «لا نطمع في الألزاس ولا في اللورين، ويمكن فرنسة أن تحتفظ بهما على أن يتعذر عليها اتخاذهما نقطتي ارتكاز في حرب تقوم بها ضدنا، وإنما نحتاج إلى ستراسبرغ وميتز.»
ولكن أهم سبب حفز بسمارك إلى ذلك الضم البادي الخطر هو فكرة الريخ التي كانت في دور التكوين، ويلوح لبسمارك أن قلوب الناس القاسية تلين وتصير مرنة ب «غضبة عامة»، ثم إن هنالك عهدا بين الحلفاء الألمان بأن تكون تلك الولاية مشتركة بينهم، فرأى بسمارك أن زواج شمال ألمانية بجنوبها يبدو جليا لهما بتعاونهما على تربية هذا المولود الجديد.
وفي يوم سيدان قال أمين سر بسمارك دلبروك كلمته: «من أرض الريخ (ولايتي الألزاس واللورين) يلد الريخ (الإمبراطورية الألمانية).»
الفصل الثامن عشر
يسير بسمارك قدما نحو إمبراطوريته هادئا هدوء المعلم، ولما قتل البروسيون بجانب البافاريين في المعركة الأولى أخذ الناس يقولون في صحف برلين بضرورة المناداة بولهلم إمبراطورا، وقد أعرب بسمارك لسفير بافارية عن امتعاضه من هذه التفوهات، كما صرح له بأنه لم يدر في خلد أحد أن يحط شيئا من استقلال بافارية، «وترانا - بالعكس - شاكرين إلى الأبد لحليفتنا المجيدة، ولا ضرورة إلى نشدان الوحدة الألمانية ولا إلى صنعها؛ فهي قائمة فعلا»، وستكون السياسة التي يتبعها بسمارك في الأشهر الثلاثة القادمة مثل سياسة شركة مثرية تبيح للشركات الدنيا أن تطلب الاندماج فيها، فلما أرسل بسمارك دلبروك إلى درسدن لم يقصد بذلك سوى تقبل اقتراحات من تلك الناحية، ويقول بسمارك لأهل ورتنبرغ: «ننتظر طلباتكم.» ويبدو بسمارك عازما على سماع جميع الأصوات ثم يصنع ما يراه صوابا.
والحق أن شعبنا المؤلف من فرديين عندما حاول أن يتحد، عرض كل واحد من رجاله خطة مخالفة لخطط الآخرين، فكانت جميع الفصائل والطبقات والجمعيات و«الفلسفات» تتصادم، وكانت كل واحدة منها تنوي عدم بناء ألمانية إذا كان هذا البناء وفق وصفة الأخرى، وكان القوميون ببروسية يريدون اتحاد إمارات ألمانية بزعامة آل هوهنزلرن، وكان الأحرار يودون أن تكون ألمانية واحدة فيكون الحكم فيها للشعب، وكان الملك راغبا عن سماع شيء يقال له إمبراطور وإمبراطورية، قاصدا وضع معاهدات تنص على وجود جيش مشترك فقط، وكان ولي العهد يهدف إلى الإمبراطورية وإلى خضوع أبناء عمه الملوك للتاج الإمبراطوري ، وكانت بادن وحدها - شعبا وأميرا - تحب بناء الريخ برئاسة بروسية، وكانت حكومة بافارية ترى إنشاء جامعة لدول جنوب ألمانية مع النمسة على حين كانت مدنها الكبرى ترى الانتساب إلى جامعة شمال ألمانية، وعلى حين كان ملكها يفضل عدم قيام أية جامعة، وكانت ملكة ورتنبرغ تحوك الدسائس ضد بروسية على حين يسعى أحرار ورتنبرغ في الانضمام إلى دولة ألمانية في الشمال الديمقراطي، وكان الوزير القدير في هس يقترح سن دستور للإمبراطورية الألمانية مخالف لما يبتغي عارفا أن المستشار «بسمارك» لا يوده مثيرا بذلك ارتباكا عاما.
وغاية القول أن الجميع يتوجهون إلى فرساي حيث يجلس بسمارك أمام فرنه معدا هومنكولوس
1
في قارورته.
وكان ولي عهد بروسية يظهر أنه رجل المستقبل، وأنه أهم شخص ما دام الإمبراطور الأول في الرابعة والسبعين من عمره، وكان بين فردريك وبسمارك اختلافات خطيرة من أول الحرب، ولولي العهد حلم روائي أسري ديمقراطي في أمر الريخ؛ فهو يريد أن تبرز بروسية في ألمانية، وألا يترك شيء لأمراء ألمانية الآخرين خلا الألقاب وحقوق الشرف وبعض المقاعد في المجلس الأعلى، وأن يكون التاج الإمبراطوري والسلطة الحقيقية لآل هوهنزلرن، وأن يقوم بأمر الحكومة وزارة إمبراطورية مسئولة أمام الريشتاغ، ويطلع ولي العهد أمين سره غوستاف فريتاغ على خطته تلك في منتصف شهر أغسطس وفي أثناء تقدم الألمان، ويبدو ولي العهد «هائجا لامع العينين فيقول: يجب أن أكون إمبراطورا»، ومما قاله فريتاغ أيضا: «إنني نظرت إلى الأمير دهشا، فقد وجدته مزملا
2
بمعطف جنرال مشتمل على قوامه الطويل كما لو كان هذا المعطف عباءة ملكية، ووجدت حول عنقه سلسلة آل هوهنزلرن الذهبية التي ليس من عادته أن يحملها في المعسكر، ووجدته يجوب القرية صعودا وهبوطا رافع الرأس ناضرا، ومن الواضح أن كان ذهنه مملوءا بحسه ما للمبدأ الإمبراطوري من شأن فيأخذ من المظهر الخارجي ما يناسب موضوع حديثه.»
وكان صديقه ذلك أديبا، وكان من العبث تحذيره لولي العهد من مخاطر ذلك ومن إنبائه «أن بزة آل هوهنزلرن الزرقاء البسيطة لن تكون أكثر من ذكرى قديمة في نهاية الأمر ... وكلما زاد الرخاء وعم صعبت المحافظة على النظام القديم والبساطة القديمة بين الضباط، ولن يمكن ذلك إلا إذا جعل أمراؤنا من أنفسهم المثل في هذه البساطة على الدوام، والأمر كما حدث حتى الآن يبدو في انتشار رغبة حقيرة بين الناس؛ أي في انتشار روح ملق بين الشعب غير ملائمة للإخلاص البروسي القديم، وكل وجهة نظر تستدعي ما يخالفها، ويرى سيل ديمقراطي جارف يخترق عصرنا، وإذا ما وقعت مصائب ومساوئ وسرى الاستياء في الشعب ذات يوم وقع في الخطر أكرم الأسر المالكة، وما مثل أمرائنا إلا كمثل ممثلي المسرح الذين يؤثرون في الحضار بين الهتاف وطاقات الأزهار على حين ينتظر العفاريت تحت الباب الأفقي ليقضوا على جميع مظاهر ذلك البهاء!»
ترك ولي العهد فريتاغ يتكلم، فلما أتم فريتاغ نبوءته العجيبة قال ولي العهد محتدا: «والآن أنت تسمع لي!» وماذا كان جوابه عن مثل ذلك الإنذار المهم؟ لا شيء أكثر من أن الملك ولهلم لما سأله نابليون عن أي العاهلين تكون له الصدارة في معرض باريس العام: أقيصر روسية أم ملك بروسية، أجاب عن ذلك بقوله يجب أن يكون المكان الأول للقيصر، «فهذا هو الذي لا ينبغي لأحد من آل هوهنزلرن أن يقوله بعد الآن! وهذا هو الذي لا ينبغي لأحد من آل هوهنزلرن أن يرضاه بعد الآن!» وهذا هو الذي تمخض عنه ولي العهد، ويقول فريتاغ: «استطعت بهذه الكلمات أن أسبر غور فكره، فوجدته مشبعا من عجب أميري، وشعرت بأن من غير المفيد أن أنطق بكلمة أخرى صرفا له عما يساوره.» ولدينا نحو اثني عشر فصلا غير ذلك مقنعا لذلك الأديب بأن لمثل تلك المشاعر سلطانا مطلقا على عقل الأمير.
وبعد معركة سيدان يكلم ولي العهد بسمارك في أمر الإمبراطورية، فيجتنب بسمارك الخوض فيه، ولما وصل الجميع إلى فرساي أثار منظر رداه الملك الشمس في ابن أخي فردريك ولهلم الرابع
3
فكرة قائلة: «إن هذا هو أصلح مكان للاحتفال بإعادة بناء الريخ ونصب الإمبراطور»، وهو لم يلبث أن أضاف إلى ذلك قوله: «كنت قبل هذا مضطرا إلى الاعتراف بأن (قطبنا السياسي العظيم) الكونت بسمارك غير ذي حماسة خالصة للمسألة الألمانية، وإذا لم تثر الانتصارات الباهرة التي كتبت لنا نارا مقدسة فيه لم يبق لنا سوى الإذعان لما لا بد منه، ولا يستطيع موظفو المملكة البروسية أن يجاوزوا أفق برلين الضيق، وويل للذين لا يعرفون الحقيقة حتى من خلال وقت عصيب كوقتنا، وويل للذين لا يعلمهم شيء ولا يريدون أن يتعلموا الحكمة!»
ذلك هو الرأي الذي سجله ولي عهد بروسية في يوميته عن رئيس وزراء بروسية حين دنو إقامة الإمبراطورية الألمانية، وما السياسي العظيم الذي سخر من عظمته بوضعها بين هلالين إلا «موظف في خدمة ملك بروسية»؛ فالويل له؛ لأنه لم يتعلم شيئا من الحرب الألمانية! ويدل رأي فردريك الذي أبداه في شهر أكتوبر سنة 1870، ويدل طيشه الذي أبداه في شهر أغسطس سنة 1871 على تدرج آل هوهنزلرن إلى الانحطاط، ويظهر الملك الشائب بطلا بجانب ابنه.
ولم يعتم ولي العهد والقطب السياسي أن اصطدما، فقد طلب ولي العهد أن يدعو بسمارك دول جنوب ألمانية إلى إعمال العقل وأن يهددها وأن يحملها على الاتحاد، «ولا خطر في إطلاعنا هذه الدول على ما نحن عازمون عليه، فإذا ما أخذناهم بالحزم وبما يقتضيه من روح أبصرتم أنكم لم تعملوا ما في وسعكم بعد!»
بسمارك :
نحارب بجانب حلفائنا، ولا نستطيع أن نهددهم لهذا السبب، ولا يؤدي تهديدهم إلى غير إلقاء أنفسهم بين ذراعي النمسة.
ولي العهد :
وما هي أهمية ذلك؟ لا شيء أبسط من إعلان الإمبراطورية بأكثرية الأمراء الحاضرين، ومن إعلان دستور! وسيرى الملوك أنهم مضطرون إلى قبول الأمر الواقع.
بسمارك :
هذه سبيل لا يستطيع الملك ولهلم نفسه أن يسلكها.
ولي العهد :
إذا كنت يا صاحب الفخامة لا تود ذلك كفى هذا لمنع الملك من التقدم خطوة.
بسمارك :
الرأي أن نترك تطور المسألة الألمانية للزمن.
ولي العهد :
بما أنني أمثل المستقبل لا أطيق الوقوف غير مبال تجاه هذا البطء.
بسمارك :
لا يجوز لولي العهد أن يبدي مثل هذه الآراء.
ولي العهد :
أحتج بكل قوتي على كم فمي على هذا الوجه، وصاحب الجلالة وحده هو الذي يستطيع أن يأمرني بما يمكن أن أقول وبما لا يمكن أن أقول.
بسمارك :
إذا كان ولي العهد يأمرني سرت كما يوجهني إليه.
ولي العهد :
ليس لدي ما آمر به الكونت بسمارك، وأحتج على هذا الكلام أيضا.
بسمارك :
إنني مستعد لأن أفسح في المجال لأي شخص ترونه قادرا على حمل أعباء الأمور بما هو أحسن مني.
ولولي العهد أن ينتقد، وليس عليه أن يميل إلى ما يريد بسمارك، وقد سلم أبوه مقاليد الأمور إلى هذا الرجل الذي لا تروقه آراؤه في الدولة، وإذا كان بعض أبناء الطبقة الوسطى يهدفون إلى زيادة استقلال ألمانية فلا يكون هنالك سبب يحول دون طلب ولي العهد مثل ذلك، والأمر هو أن أفكاره حول شئون الدولة يجب أن تصدر عن اختبار شخصي، وأن يشعر بها شعورا خالصا، وأن تكون ديانة خاصة به. والواقع هو أن شخصا أذكى منه هو الذي لقنه تلك الأفكار، والواقع هو أنه لم يصور النسيج، والواقع هو أنه نسيج إنكليزي أزرق من تصوير زوجه التي يعجب بها أيما إعجاب والتي يؤثر وطنها فيه بحكم الطبيعة، وما السدى
4
البروسي الأرجواني الذي هو خيوط إمبراطورية غير دليل على اللحمة
5
الإنكليزية، ويود هذا الهوهنزلرني دعوة قومه إلى الحكم معه على الطريقة الإنكليزية، وتراه مع ذلك يريد أن يضع عن الإمبراطورية نظراءه من الأمراء وأن يحصر سلطاتهم في الألقاب والأشعرة!
ويريد فردريك ولهلم الحكم ولبس الثوب الأرجواني الإمبراطوري ووضع التاج الإمبراطوري على رأسه، ويريد فردريك ولهلم أن تشاطره زوجه هذا الشرف، ولكنه لا يريد أن يكون الأول بين نظرائه، ولكنه يريد أن يكون شعاره التهديد وحط ملوك ألمانية الآخرين إلى مستوى العصاة وتأديبهم، وهو يصرح لبسمارك بأنه لم يكن لديه شعور كاف بسلطانه، فكانت هذه هي المرة الأولى التي يوجه فيها مثل هذا التعزير إلى هذا الموظف على ما يحتمل، فلا يسعنا سوى التبسم إزاء هذا، وهو يود خيانة رفقائه في السلاح وأن يصوب إليهم السلطان الذي لم ينله إلا بفضل معونتهم، فلا يؤذيه ذلك، فيختلف بذلك عن أبيه اختلافا تاما، وما أشد صراحة الشريف بسمارك بجانب ذلك الديمقراطي المتلبس، وذلك حينما سخر من «خنزوانية
6
أمراء الألمان الملحدة العاتية»، فكان يود لو يستطيع خلع جميعهم كأمراء هانوفر وناسو، لا من أجل أشعرة، بل من أجل السلطة العتيدة التي لا يأذن لأي ريشتاغ في التطاول عليها، وتبدو الأوقات «عصيبة» في تلك الساعات التي تنكشف فيها الأخلاق من غير أن يلجأ فيها إلى إطلاق المدافع وإلى الهجوم ما دمنا لا نتكلم عن عنف الجيوش الذي لا يقاس بتدابير ذي ذكاء قدير.
وترى الرجل العبقري القوي يشق عباب البحر على الرغم من ريح الوقت على حين ينقاد ولي العهد النع
7
مع ذلك، وولي العهد هذا يسجل في يوميته عشية رأس السنة قوله: «يبدو أننا في ذلك الدور لم نحب ولم نحترم، بل كنا مرهوبين، وكنا نعد قادرين على كل جرم ولؤم، فتزيد عدم الثقة بنا، وليس ذلك نتيجة هذه الحرب، وإلى ذلك جرتنا نظرية الحديد والنار التي ابتكرها بسمارك فسار عليها عدة أعوام! وما هي فائدة كل قوة وكل مجد وكل رفعة في الحروب إذا ما وجدنا الحقد والارتياب أمامنا في كل مكان؟ أجل، إن بسمارك جعلنا عظماء وأقوياء، ولكنه أفقدنا أصدقاءنا وعطف العالم علينا وراحة البال فينا. ولا أزال أعتقد أن ألمانية كانت تستطيع بغير الدم والحديد أن تأتي بفتوح أدبية وأن تصبح موحدة حرة قوية بحقها الخاص الصالح، وكان للشريف المقدام - وهو رجل عنف - وجهات نظر أخرى، وقد أسفرت حيله ومكايده في سنة 1864 عن الإضرار بانتصار قضية صالحة، وقد هزم النمسة في سنة 1866 من غير أن يحقق الوحدة الألمانية، فما أصعب مقاومة عبادة القوة الجافية والفوز الخارجي! وما أصعب تنوير البصائر! وما أصعب توجيه الطموح والغيرة إلى غايات جميلة ومقاصد سليمة!»
تلك الكلمات جديرة بأريستيد العادل وأبراهام لنكولن، وهي من الكلمات التي استطاع فريتاغ وليبكنخت أن ينطقا بها هنا وفي الوقت الحاضر، ولكنها مما لا ينبغي أن تصدر عن قائد عام جعل رايات الماريشال بلومنتال المنصورة تخفق تحت اسمه وأراد أن يكره أبناء عمه الحلفاء من الأمراء على الخضوع ورغب عن استفتاء الشعب واقترح الاكتفاء بإعلان الدستور وأن يلبس فرو السمور الأبيض وقورا ساحرا وفق الوضع الذي انتحله في تلك القرية المورقة، وهو لم يفقه تاريخ السنوات العشر الأخيرة، وإلا فبأي شيء تكون الحرب الدانيماركية «قضية صالحة» إذا لم تعد الدوكيات إلى بروسية؟ ولم هزمت النمسة وهو الذي أيد طلبات بسمارك في نقولسبرغ حفظا لها؟ ولم أجل مستشار جامعة دول الشمال الألمانية «بسمارك» اندماج الجنوب في هذه الجامعة إن لم يكن قد رأى هذا الاندماج لا يتم بسوى الحديد والدم؟ ولا جرم أنه كان من الممكن إتمام الوحدة الألمانية بغير استعمال السلاح، غير أن هذا يعني فقدان الأسر المالكة العتيدة لسلطانها، ويعني عدم ترك شيء لذلك الناقد في عشية رأس السنة سوى فرو السمور الأبيض الذي يلبسه اثنان وعشرون من أبناء عمه الأمراء بجانبه، ويا لحسن حظ هذا الأمير الذي أنقذه عمر والده الطويل من الامتحان العملي فمكنه بذلك من دخول حظيرة التاريخ متوجا بهالة الرجل المثالي الذي لم يجرب نظرياته!
وبجانب هذا اللامكيافيلي يسير ذلك الواقعي العظيم قدما نحو هدفه، ويريد ولي العهد الديمقراطي «إعلان» الدستور في المعسكر، ويفكر الوزير الرجعي في دعوة جميع الريشتاغ الألماني إلى فرساي، ومع أن هذا التدبير الرئيس لا ينطوي في الظاهر على غير تهديد الأمراء المترددين يحول بسمارك هذا تهديده إلى غيرة وجد، وكان بسمارك قد أحصى المنازل في القصر، وكان وزراء دول الجنوب الأربع يذهبون ويجيئون، وتعترض بافارية على اثنتين وعشرين مسألة في المشروع ويتشدد بسمارك، ويرجع الوزراء إلى ميونيخ، ويظل كل شيء ساكنا كما في الماضي.
والآن يتظاهر بسمارك بأنه يرى التفاهم مع بادن وورتنبرغ وحدهما، والآن تبدو بادن مستعدة لعمل هذا ما أبصرت بافارية تطلب التوسع على حساب بالاتينة البادنية، وترفع دوائر البريد والخطوط الحديدية ومصالح البرق أصواتها، وتطالب جيوش مختلف البلدان الألمانية ببزات مميزة، وتكاد الوحدة الألمانية تصاب بالخيبة من أجل لون الطوق، ويقول أحد وزراء بادن عن بسمارك مادحا: «إنه أبدى أطيب العواطف نحو مصالح الدول، وإنه لم يصب هذه المصالح بشيء من غير سبب مقبول، وإنه لم يمس مصالح بافارية إلا بالمقدار الذي تتطلبه مصالح الريخ.» وبسمارك إذ كان راغبا في إيجاد الريخ تساهل في جزئيات البزات وما إليها من الترهات، وتبلغ الوحدة، وإذا عدوت بافارية بدا لك كل شيء جاهزا ووجدت الفرقاء الذين اشتركوا في المفاوضة راغبين في الإمضاء، وهنالك تتدخل ملكة ورتنبرغ التي هي من أصل روسي، وهنالك تتأثر بدس أحد البارونات فتحمل زوجها الضعيف الإرادة على الإبراق قائلا إن من الرأي أن ينتظر أمر بافارية، وهنالك يبدي بسمارك غضبه لخلصائه مع هدوئه الظاهر فيمرض ويفكر في تعبئة جماهير جنوب ألمانية ضد حكوماتها.
والآن ينتصب عرف
8
البافاريين مرة أخرى، والآن عند عودتهم يعطون الشيء الكثير، والآن يدخل إلى الدستور نص قائل بتأليف لجنة دبلمية ترأسها بافارية، وستتمتع بافارية باستقلالها في دوائر بريدها وخطوطها الحديدية ومصالح برقها، وفي جيشها أيام السلم، وتنال بافارية ضرائب الجعة والمسكرات، ويضمن بسمارك لها كل ما تريد، «وتمضي بافارية العقد».
وفي ذلك المساء من شهر نوفمبر وبعد المفاوضة؛ يدخل بسمارك القاعة حاملا قدحا ويجلس بين زملائه، «وتهيأ معاهدة بافارية وتوقع، وتصير الوحدة الألمانية أمرا واقعا، ويغدو الحكم قبضة الإمبراطور، وهذا حادث، ولا ترضى الصحف بهذا، ومن يكتب تاريخا وفق الوجه المألوف يستطع أن يقول: كان يمكن الأغبياء أن يطالبوا بما هو أكثر من ذلك، وكان يجب عليهم أن يصنعوا ذلك، وقد يكون للمؤرخ حق في استعمال كلمة «يجب» هذه، ولكن ما هي فائدة المعاهدات إذا قامت على كلمة «يجب»؟ أراهم قد انصرفوا راضين، وللمعاهدة نقائصها، ولكن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ويمكن في المستقبل تلافي ما فات، وأعد المعاهدة من أهم ما أنجزناه في السنوات الأخيرة».
ثم يتكلم بارتياب عن ملك بافارية، ويقول أبيكن الدائم الولاء : «ولكنه رجل كثير الظرف مع ذلك».
وينظر بسمارك إليه دهشا فيقول: «كلنا ذلك الرجل هنا».
وبمثل تلك البساطة يؤدي حسابه عشية إتمام عمله، ويطيل تعاطي رحيق الشنبانية قاعدا مفكرا غير مبال بالحضور، وإنه لكذلك إذ يقول من غير انتقال: «سأموت في الحادية والسبعين من عمري.» وهو يستخرج هذا من حسابات لا يدركها الحاضرون. - «لا ينبغي لك أن تموت بهذه السرعة! فعلينا أن نطرد ملك الموت!»
بسمارك هادئا: «كلا - في سنة 1886 - لا يزال لدي ست عشرة سنة، وهذا رقم مقدر.»
الفصل التاسع عشر
وفيما كان بسمارك مكبا على تحقيق عمله في فرساي كان يفكر في التاريخ أحيانا، ومما قاله ذات مرة: «نعيش اليوم في عالم رائع، وكل شيء يقف الآن على رأسه بعد أن كان واقفا على رجليه، ومن المحتمل أن يسرع البابا إلى الحياة في مدينة بروتستانية ألمانية، وسيأتي الريشتاغ إلى فرساي، وسيكون في كاسل جمعية «اشتراعية»، وسيصير غاريبالدي جنرالا فرنسيا، وسيحارب جنود البابا بجانبه!» ولما انتظر الملك لويس قال: «لم يكن ليدور في خلدي أن أكون وكيل خرج في تريانون،
1
وماذا كان نابليون ولويس الرابع عشر يقولان عن ذلك؟»
وبسمارك في الأشهر الخمسة الأخيرة، وعلى العموم؛ قضى وقته في أعمال لا أهمية لها، ويدل ما صدر عنه من مئات الأحاديث في تلك الأثناء على أنه كان مكتئبا، ولما سئل عن كيفية تمتعه بالساعة العتيدة قال: «ليس في الحياة السياسية ذروة يمكن أن ينظر منها إلى الوراء بما يسر، ولا أدري ماذا أحصد مما أبذر اليوم.» ولنا بهذا اعتراف بين فاوست وميفيستوفل، وترى كلامه مملوءا غضبا وبغضا أكثر من ملاته عطفا وحصافة، وما ينطق به من الكلام حول المائدة فضرب من مناجاة النفس، فإذا لم يدر هذا الكلام حول اليوم والغد وإذا ما نفد حديثه عن حياته الخاصة، تكلم عن الصيد والسياحة والطبخ والخمر دون أمور السياسة والثقافة التي هي موضوع بحث في جميع ألمانية، ودون ذكر لمثل المسائل التي يتبادلها رينان وستراوس، ويكثر بسمارك من ذكر الفطر
2
والسمك والكباب والنقانق
3
والسلاف
4
وراح مدوك وديدسيمر ورحيق الشنبانية فيدل هذا على ما لهذه الأشياء من الأهمية في حياته اليومية، وما كان بسمارك ليعنى بالمقادير فقط، بل كان يعنى بالجيائد
5
أيضا، وهذا دليل على امتزاج القوة والأعصاب الخطر في طبيعته.
وإذا ما دعي بسمارك إلى الغداء مع الملك أكل في بيته قبل ذلك أو بعده، وذلك «لعدم كفاية الطعام هنالك، ولا أتناول من الأضلاع المشوية غير ضلع واحدة لما أراه من كونها بعدد المدعوين، ولما أخشاه من عدم بقاء شيء منها لبعض الضيوف عند أخذي قطعتين منها، ولما يحدث من تخصيص كل طبق بقطعة واحدة منها، ولا أستطيع أن أوقع صلحا صالحا ما لم آكل وأشرب بما هو واف! وهذا من أجزاء مهنتي؛ ولذا أفضل الطعام في بيتي»، ويكرر بسمارك هذه الملاحظة كثيرا عندما يكون أحد مرافقي الملك حاضرا، ويظهر بسمارك حول المائدة وطنية فيقول: «أين الخرنق
6
الفرنسي من الخزز
7
البوميراني، فليس للخرنق الفرنسي طعم الطريدة، وهو لا يقاس بصيدنا الذي يحسن مذاقه
8
باقتياته بالخلنج
9
والنمام
10 ... ولا تجد في أسرتنا سوى نهماء،
11
ولو كانت هذه هي حال كثير من الناس لأفلست البلاد كما يخيل إلي.»
وما أكثر ما يشكو عدم استطاعته النوم بعد تلك الأعشية
12
الهائلة، وهو لا يذهب إلى سريره بعد طعام العشي قبل منتصف الليل، وهو ينام هنيهة، وهو يفيق في الساعة الواحدة عادة، «وهنالك تتوارد إلي أفكار في جميع الأمور، ولا سيما ما كان من إيذائي ... وهنالك أكتب في رأس رسائل وبرقيات من غير أن أنهض، وهذا إلى أنني كنت أنهض وأكتب بالفعل في أوائل وزارتي، فإذا قرأت في الصباح ما كتبت في الليل وجدته من السخافات الخليقة بصاحب السمو (س) ... وأريد الرقاد، وهذا ما لا أقدر عليه، فلا بد من التفكير والتدبير»، وينام صباحا متأخرا فلا يجرؤ أحد على إيقاظه قبل الساعة العاشرة أو الساعة الحادية عشرة فتفوته التقارير الحربية.
ويتوج حياته عدم صحة بقلة ركوبه خيلا، وتصبح رياضته الوحيدة أن يمشي في الحديقة المحاطة بأسوار عالية عند عدم وجع رجليه، ويجد نفسه ذات مرة تجاه مرقاة مستندة إلى الحائط، «وتساورني من فوري رغبة كبيرة في الصعود فوق الحائط، وإذا وجد هنالك حارس؟ وأكلم الخفير في نهاية الأمر ويهمه أن يعرف عزمنا على دخول باريس»، وهو لم يكن متقلدا سيفا عند خروجه، «ولكنني كنت حاملا مسدسي؛ وذلك لأنني وإن كنت لا أبالي بالقتل عند الضرورة لا أود أن أهلك من غير انتقام لنفسي!» ويكرهه الناس في فرنسة بالحقيقة، فنظمت مؤامرة لاغتياله في أثناء تقدم الجيش، ولزوجه يقول في كتاب يرسله إليها: «يلوح لي أن القوم يعدونني هنا كالكلب الضاري المتعطش إلى الدم، فإذا ما طرق اسمي آذان العجائز ركعن طلبا للعافية، وما أتيلا إلا حمل بجانبي!»
ويندر أن يسبح بسمارك في الخيال كما في الماضي، ولا نرى غير بيان واحد لهذه الحال؛ فقد كتب يقول: «اليوم هربت من همي لأتمتع بهواء الخريف الرخو على الطرق المستقيمة في حديقة لويس الرابع عشر، وبين حفيف أوراق الشجر ومقصوص الدغل والحياض الهادئة والآلهة المصنوعة من المرمر، وما كنت أريد أن أسمع غير صليل سيف يوسف الراكض ورائي، وأسير مع حنيني إلى الوطن، ويثير هذا الحنين في ما يقع في هذا الفصل من سقوط الورق وما أجدني فيه من العزلة في بلاد الغربة، وتعود إلي ذكريات الصبا وذكريات ما غدا مفقودا من العوسج المقصوص.» وعاد راغبا عن مثل هذا الخيال مرة أخرى وإن أصبح يقضي في فرساي حياة أهدأ مما في برلين.
وأمر بسمارك بنيه في بدء الغزو بقوله: «أبرقوا إلي بمقر الملك العام، وإياكم والإبراق إلى والدتكم في أول الأمر!» وفي مساء من أمسية شهر أغسطس يكون بسمارك مع الملك بعد المعركة التي وقعت بالقرب من مارس لاتور فيدخل ضابط ويبلغ إلى مولتكه - الذي كان هنالك أيضا - شيئا فيذعر هذا، فيسأل بسمارك بغتة: «أيتعلق الأمر بي؟»
الضابط :
سقط الكونت هربرت بسمارك وجرح الكونت بيل جرحا قاتلا في الهجوم الأخير الذي قام به فرسان الحرس.
بسمارك :
ومن أين أتى النبأ؟
الضابط :
من قائد الفيلق العاشر.
ويسرج
13
بسمارك فرسه من فوره، ويمتطي صهوته
14
من غير أن ينبس بكلمة، ويبحث مع ابن عمه في مشافي الميدان فيجد بيل جيد الصحة وأنه تدهور مع حصانه فقط وأن هربرت جرح بطعنة رمح، وتكون تلك الساعات التي قضاها بسمارك في التفتيش أشد عليه من جميع ما احتمله منذ مرضه في روسية، ولو وجد ولديه قد قتلا - كما كان يخشى - لأدى ذلك إلى نفاد قواه الحيوية كما كان يحدث لو بترت ساقه كما أريد سابقا، ولمات بسرعة بعد أن تضع الحرب أوزارها، فلا غاية لحياة بلا أولاد عنده، ولا يجد في عمله آنئذ ما يكافئه على ذلك، وهو على ما كان من عدم عنايته بتعليم أولاده يود بمشاعره الفروسية أن يطمئن إلى وجود ورثة من الذكور له كما كان شعوره اللاإنساني يجعله محتاجا إلى موضوع عاطفي، وكما كان دمه يحتاج إلى ضمان للديمومة.
إذن، كان بسمارك في الحرب يفكر في أولاده أكثر مما في الأيام العادية، ومن فرساي كان بسمارك يدير ملكه في فارزين مع إدارته لمملكة بروسية، ويرسل بسمارك كتابا إلى زوجه، ويبرق بعد ذلك ليسلم الكتاب المتأخر إليها؛ وذلك لما علمه من مغادرتها رينفيلد ولإمكان فتحه من قبل حميه البالغ من العمر ثمانين سنة وإطلاعه القسيس عليه وانتهاء أمره إلى الصحافة، وفي ذلك الكتاب يبدي بسمارك قلقا حول صحة بيل، وفي ذلك الكتاب يسأل زوجه عن وجود ثياب تحتانية من صوف لها وللأولاد، وفي ذلك الكتاب يبدي استياءه لعدم نيل ولديه وسام الصليب الحديدي مع استحقاقهما له ومع اجتنابه قول كلمة للملك في ذلك، ويكون ابنه هربرت ناقها في عيد الميلاد فيهدي إليه سيفا جميلا، ويمتنع عن البحث له عن عمل في الجبهة مرة أخرى متبعا نصيحة رون الذي قتل ولد له في الحرب.
ونحن حين نسمع أن بسمارك وهو مع الملك بغرافيلوت في أثناء المعركة فقد رباطة جأشه لأنه علم أن ولديه بين الغوغاء حيث اختلط الحابل بالنابل، «فمال إلى الأمام بادي الهيجان»، نعتقد زيادة رغبته في تعجيل عقد الصلح تبعا لعواطفه الأبوية.
وتضغط جميع تلك المؤثرات الكثيرة بسمارك من كل ناحية فتؤذي أعصابه، فيتأذى تابعوه من نروزته،
15
ومما حدث ذات يوم أن خط بالقلم الرصاصي إيضاحا على هامش ما كتب فلم يمر الحبر على ذلك قبل إرسال الوثيقة إلى الطبع، فعنف موظفيه الخصوصيين بقوله: «إنكم لا تنظمون المكتب! لسنا الآن في رحلة للراحة، تتركوني كلكم، تدعونني جميعكم أتميز من الغيظ، تختارون أسوأ الأوقات لذلك ناظرين إلى صعوبة الاعتياض مني.» وفيما كان بسمارك يخاطب نفسه حول المائدة في أحد الأيام قاطعه أحد البارونات فقال له بسمارك بغلظة: «لا يجوز أن يقاطع المرء حينما يقص أمرا، فقد ذهب عني حبل أفكاري، وكان يمكن الملاحظة التي أردتم إبداءها أن تنتظر.» حتى إن المفضال أبيكن قال لزوجه متوجعا: «إن أسوأ شيء هو أن يعرض عن السماع علي حين يريد الرجل أن يعرض عليه أمورا بسيطة لا غنية له عن معرفتها ... وفي الغالب لا يجيب أبدا، أو يجيب عن أمور لا تمت إلى السؤال بصلة، وهو لا يلتفت إلى ما أقول، وإنما يفكر فيما يريد أن يقوله لي، وهو يتعمد ذلك في أكثر الأحيان.» وفي الوقت نفسه يشعر بسمارك بأنه منكور مكروه، فيشتكي إلى زوجه قائلا: «وليصعد غدير الحسد والحقد القارس إلى القلب رويدا رويدا، فلا أحد يكسب لنفسه صديقا جديدا، ويموت الأصدقاء القدماء أو يتوارون، ويزيد البرد الذي يأتي من عل؛ لأن هذا طبيعي عند الأمراء وعند أحسن الأمراء، أشعر بالبرد وأشتاق إليك، وأحن إلى العزلة معك في الريف.»
بسمارك في سنة 1885.
ويعاشر بسمارك أناسا من الأجانب مع الحذر، ومما قاله بسمارك لأمريكي موكدا إنه يتوجه «إلى الجمهورية» منذ شبابه، وإن المؤثرات الأسرية هي التي تصرفه عن ذلك، وإن ألمانية لم تتقدم بدرجة الكفاية إلى النظام الجمهوري مع ذلك، ويألف بسمارك محادثة مراسل جريدة «التيمس» فيعلم بسمارك من هذا المراسل حوادث أكثر مما يعلم هذا المراسل من بسمارك، وينبأ بسمارك وجود مراسل جريدة «نيوفري برسه » عند بوشر فيدخل بسمارك عليه من غير إخبار، ويظهر له أن هذا المراسل بوميراني شريف حكم عليه بالموت في أيام سنة 1848 فحول هذا الحكم إلى عقوبة السجن لمدة ست سنين، ويرى بسمارك أن يظفر بهذا الخصم، فيزعم أنه يعرفه مع أنه لم يبصره قبل الآن، ثم يقول له بسمارك: «أنت لدتي،
16
ولا تزال جيد الصحة بما يثير العجب.»
وعن هذا يجيب كورفين مسرورا: «يمكنني أن أدلك على وسيلة جيدة تحافظ بها على فتائك، وهي أن تقضي حكم ست سنوات سجينا في حجيرة!»
ولبسمارك تسلية في ذلك، ويسأل بسمارك كورفين عن كثير من أبناء الأعمام، وهو لم يتمالك أن قال:
نشأ كل منا في أحوال واحدة تقريبا، وكنت مثلك حينما أثرت ذعرا في أسرتي بأفكاري الحرة، وكنت مثلك حينما أشبعت في شبابي من مبدأ الوحدة الألمانية، ولكنني نفرت من عجز كثير من زعماء سنة 1848، أجل، يكون الإنسان أكثر حماسة في فتائه، ثم تمحي أشعرة الأحزاب من عل، ثم إن تراث الشريف لا يزول تماما كما ترى ... وترى كيف يسير القدر الأمور؛ فالمشاعر الواحدة جعلتك في السجن وجعلتني في منصبي الحاضر.
ويصغي الصحافي إليه حائرا، فيا لبراعته البالغة في تضليل خصم سياسي بمقايسات فاسدة واستنباطات باطلة! ويا لمهارته في الترحيب بكورفين كشريف وفي تملقه هذا الصحافي بإشارته إلى تماثلهما في الشباب وإلى مذهبه الحر الباكر! ويبلغ بسمارك في ذلك غايته؛ فقد حدثنا كورفين عما لقيه من وداد المستشار بسمارك وعطفه وتقديره!
ويمكن تقسيم أعداء بسمارك في فرساي إلى مدنيين وعسكريين، وإلى أمراء ورجال دواوين، والفرنسيون وحدهم هم الذين كان معهم على وئام، ومن المقر العام يكتب ستوش قائلا: «لم أر في الماضي مرارة أبديت لإنسان كما يبدى لبسمارك الذي لا يألو جهدا في فرض أفكاره.» وهو ذو صلات سيئة مع أركان الحرب على الخصوص، وهو يصرح ب «أن جحود هؤلاء العسكريين أمر كريه تجاهي، مع أنني لم أدخر وسعا في عمل كل ما يطيب لهم أمام الريشتاغ! وسيرون ما جعلوه في من تبديل، فسأعود إلى البلاد برلمانيا بعد أن ذهبت إلى الحرب رائدا، وسيرون الميزانية الآتية عاطلة من الحديد!» ويذكر بسمارك بعد سنين ما كان من «المقاطعة العسكرية» ضده، ويدل الواقع على أن رجال الجيش كانوا يبذلون ما يستطيعون ليقصوه عن مذاكراتهم وليبحثوا في المسائل عندما يكون نائما، «وكان مراسل جريدة التيمس رسل أحسن وقوفا مني على ما يزمع عمله وعلى ما تم فعله فيكون لي مصدرا نافعا للأنباء»، ويراقب خلصاء مستشار الجامعة بسمارك من قبل أركان الحرب وتفتح العيون حول كل من يأتيه بالأخبار، ويرصد القواد بسمارك كما لو كان محايدا لا يركن إليه، وهنالك سببان كانا يحفزان رجال الحرب إلى اتباع سياسة حمقاء مؤدية إلى كتم سير الأعمال العسكرية عن ذلك القطب الذي كان قابضا على زمام الأمور فيستند في قسم من حساباته إلى تلك الأعمال، فأما السبب الأول فلا يعدو حد حسدهم له على قوته، وأما السبب الثاني فهو الاستياء الناشئ عن أسلوبه الاستبدادي في توجيه كل شيء. قال مانتوفل: «كان يرى من العار أن يكون لرجل سياسي من النفوذ ما ليس لقواد الجيش!»
وبسمارك من ناحيته يدع منذ عشر سنوات - وللمرة الأولى - وقوع أمور كثيرة على غير ما يرضى وخلافا لما يود، وبسمارك يكره على التغافل عن الملك ولهلم الذي لم يغفل بسمارك عنه طرفة عين حتى الآن، فيخالط الملك القواد فيؤثرون فيه سياسيا وعسكريا، وما عليه بسمارك من عزة واستبداد وعادة في تقرير جميع المسائل - بما عرف عنه من عناد - فيدفعه إلى الثورة على عزلته التي ما فتئ القواد يوطدونها، وبينما كان رجال الجيش ينتقدون سياسته حول السلم والإمبراطورية كان يري الجيش أنه يجب عليهم أن يعرفوا جهره بلومهم على خططهم في الغزو، «فخطط القيادة العليا الحربية هي خطط غرفة، والجندي العادي هو صاحب جميع الانتصارات، ونحن مدينون بما تم لنا من نصر لسواعد جنودنا الذين هم أقوى من جنود فرنسة بدنيا، فهم خير من هؤلاء سيرا وصبرا وشعورا بالواجب وصولة في الهجوم، ولو كان مكماهون قائدا لجنود من البروسيين وكان ألفنسليبن قائدا لجنود من الفرنسيين لقهر هذا الأخير»، ويؤنب ستينميتز ألفنسليبن حول المائدة ويدعو الوزير أولنبرغ إلى المعسكر «ليرى رجل خفيف الظل بين هؤلاء اللابسي البزات العسكرية»، ويشعر بانحراف مزاجه ويكون في غرفة بالغة الحرارة فيبدي ألمه لفالدرسي بقوله: «يخفى عني أهم الحركات، ولا أطلع إلا مصادفة على خبر أعظم الحوادث عندي.» وقد روي لنا أنه حين قوله ذلك «كانت عيناه تتسع وكان العرق يتحدر على وجهه وكان يدخن سيغارا كبيرا، وكان يشرب خمرا صرفا كما بدا لي من القنينة.»
ويصرح بسمارك للأمير هوهنلوهه بأن الجيش لم يأت بغير الغباوة بعد معركة سيدان، «ومما لا ريب فيه هو أنني لست صاحب ذكاء كبير ولا صاحب استعداد كثير، ولكن هنالك أمرا أحسن إدراكه في الحقيقة، وهو فن الحرب، فنحن بدلا من أن نجمع جميع قوانا في غابة أرغون فننتظر هجوم العدو علينا، تقدمنا إلى باريس رأسا من غير أن نعرف السبب، وقد احتججت فلم يرد مولتكه أن يسمع شيئا»، ومولتكه هو أشد الناس خصومة لبسمارك في أثناء حصار باريس، وليس هذا سوى نفور تراكم في زمن طويل، ثم ظهر في نهاية الأمر.
وارجع البصر إلى وصفهما في فتائهما، في سن يمكن الإنسان أن يختار فيها ماذا يصير، تجد بينهما اختلافا بينا، فترى بسمارك كله من عضل وجوهر وإرادة، وترى مولتكه كله من عظم ورسم وفكر، وفيما كان بسمارك يكتب، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، رسائل هزوء بالنفس مع زهو؛ كان مولتكه يترجم نفسه بقوله: «يحيط بوجه شاحب جلي خصل شقر، وعلى ما لا يزعم هذا الوجه من حسن منظر فيه تجد عليه سمة الجد والنبل، وله هيئة ذات ظرف، وله ملامح لا تهتز بغير دافع باطني، وهو كالنهر العميق الذي يتدفق إلى الأمام بلا انقطاع تحت سطح هادئ، وهو لا يضطرب مزبدا إلا إذا اعترضت صخور لمجراه.» وروح بسمارك الدائمة الحركة منذ شبابه كانت تشابه البحر الهائج.
وكان مولتكه لطيفا رءوفا نحو كل واحد وكان إيجابيا كرون مع فتور أشد مما عند هذا، وكان معتدلا في كل شيء، وكان بلا بدن تقريبا، وكان غير محتاج إلى العمل تسكينا لاضطراب نفسي فيه، وكان رصينا في الشغل والراحة، وكان قليل الكلام لا عن غموض أمر ولا عن حقد على الناس، بل لعدم اضطراره إلى التذمر، ولا إلى البيان عن أثرة، ولا إلى كتم شيء وراء ألفاظ عن مهارة، وكان لا يلتزم جانب الصمت عن كبرياء ولا عن سوداء، بل عن ميل إلى مشاهدة الممثل وعن كره لمشاهدته إذا ما مثل.
وكان ذا مزاج معتدل وذا طبع صباحي حتى في نزهه، حتى في نومه وشربه وقراءته، وكان يفضل حديقته على الغاب، وكان ينجز عمله بيده سواء أكتب تقارير إلى الملك أم نشر شجرا أم طعم نباتا، وكان بلا ولد، وكان يفكر في الآخرين على الدوام، وكان غير ذي خدم، وكان كاتبا روائيا ومغرما بموزار ومترجما لقصائد أجنبية، فإذا ما حولنا كل واحدة من صفاته هذه إلى ضدها وجدنا صورة بسمارك.
ويشتد ذلك التضاد بما كان من عدم وجود وطن له، وهو في ألمانيته كبونابارت في فرنسيته تقريبا، وهو وإن كان ألمانيا مولدا اتخذ أبوه الدانيماركية له جنسية حينما كان (القائد القادم الصبي مولتكه) في السنة الخامسة من عمره، ويصير مولتكه ملازما دانيماركيا فيعود إلى وطنه الأصلي ألمانية ابنا للثانية والعشرين من سنيه، وتمضي أربعون سنة فيحارب مولتكه دانيماركة بحماسة لا تزيد على حماسة قائد جنود من المرتزقة موجها مدافعه إلى أبطال هذا البلد وراياته وكتائبه التي أقسم على الدفاع عنها في غابر الأزمان، ويقوم حسابه على الأرقام على حين يقوم حساب بسمارك على الأجرام،
17
وتقوم خدمته على خبرته المهنية على حين تقوم خدمة بسمارك على ما له من شخصية؛ ولذا يمكن مولتكه أن يبرر سيره في ذلك الأمر بأسهل مما يبرر به بسمارك قراره في إطلاق النار على الألمان، وبسمارك هو الذي سبق فعين وجهة حركات مولتكه وخطط هجومه، وبسمارك هو الذي يتخذ تصاميمه فيجعل نفسه مسئولا عنها، ويحب مولتكه أن يسيح ويقضي سنين كثيرة في البلدان الأجنبية، ويجاوز مولتكه الأربعين من عمره فيتزوج فتاة إنكليزية يمكن أن تعد ابنة له لصغرها، ويبتعد مولتكه عن الألماني في أوضاعه وأخلاقه وطرز حياته، ولو كان من طالع مولتكه أن يكون ملازما في الجيش الروسي لشعر في روسية بأنه بين أهله كما يكون في الأرض السيليزية التي سيشتريها بمهره، وهنالك لا بد من أن يكون في المقدمة من مهنته بروسية كما أصبح في بروسية، وبذلك بفضل عبقريته الحربية التي هي أكثر المواهب والمهن دولية.
وتناسق في الخصائص والسلوك كذلك، واعتدال مع صموت كذلك، مما يجعل مولتكه غير محبب إلى بسمارك كما يجعل بسمارك غير محبب إلى مولتكه، ويقوم وصفهما المشترك على شك كل منهما في الآخر شكا عميقا، وما كان مولتكه ليدرك أن رجلا يعيش هائجا بذلك المقدار، وما كان بسمارك ليدرك أن رجلا يعيش هادئا بذلك المقدار، ولم يتبادل الرجلان كلمة وداد مع أن رون كان ودودا لكليهما، واليوم حين وجب عليهما أن يعملا معا كثرت عوامل تصاكهما. وفي المساء بعد معركة سيدان يدعو مولتكه بسمارك التعب المنهوك إلى الترجل والركوب معه في عربته، فلما كانا سائرين فيها هتف الجنود لقائدهم مولتكه هتافا حارا، فقال بسمارك: «من الغريب أن يعرفني جميعهم بهذه السرعة!» ويصمت مولتكه آنئذ، ثم يروي القصة بعد بضعة أيام مبتسما.
وفي شهر أكتوبر يشتكي بسمارك من القائد مولتكه لعدم سماعه بيانا له، «مشابها طيرا طريدا رويدا رويدا»، مع أن الآخرين يصفون مظهر مولتكه ب «البتولي
18
تقريبا».
ويجادل في مسألة ضرب باريس بالمدافع، فلما «تدخلت أميرات إنكليزيات وغير إنكليزيات عن إنسانية» في الأمر فصرحن بأن من الخير أن تكره عاصمة الدنيا الفرنسية على التسليم بفعل الجوع لا بإطلاق النار، ولما مضت أسابيع مع عدم اشتمال البلاغ الرسمي في أثنائها على غير كلمة «لا حادث في باريس» المملة أخذ القطب السياسي بسمارك يخشى توسط المحايدين كما كان يخشى في نقولسبرغ، فصب جام
19
غضبه على مولتكه الذي صرح بأن كبريات المدن تستسلم من تلقاء نفسها إذا ما حوصرت.
وقد استفزت بسمارك هذه النظرية التي نبذها أساتيذ فن الحرب فيما بعد، وقد أبدى لبلومنتال بعنف ألمه من الملك ومن مولتكه قائلا حنقا: «إنهما لم يخبراني بشيء، إنهما عاملاني بغلظة ... فمتى انتهت الحرب اعتزلت من فوري، لا أطيق هذا الازدراء زمنا طويلا، هو قد جعلني مريضا، هو سيقتلني ما لم أضع حدا له، ما فتئت أعارض من البداءة حصار باريس الذي أعده خطأ كبيرا، والأفضل أن يعاد نابليون مع كتائبه التي لا تزال مخلصة له، فهذا الرجل المريض ليس خطرا، ولا يريد الملك أن يعرف شيئا، لقد كنت ملكيا حينما ذهبت إلى الحرب، فلن أكون كذلك بعد العود.» وقال لبنيغسن: «لن يطول انتظاري، فإذا دام وقف الحركات هذه انطلقت على حصاني إلى الحدود الألمانية مع خادمي!» وفي ذلك الحين يتظلم مولتكه إلى ولي العهد من بسمارك بقوله: «يريد بسمارك أن يقرر الأمور الحربية كما يقرر الأمور المدنية غير مستمع إلى ما يقوله الخبراء المسئولون، ويوجه الكونت بسمارك - فضلا عن ذلك - أسئلة إلى أركان الحرب عن أمور عسكرية سرية فلا أجيب عنها في مرات كثيرة، وأجدني مستشارا حربيا للملك، ولا أجدني ملزما بالانحراف عن مقاصدي عملا بآراء الكونت بسمارك.»
ويلجأ بسمارك في منتصف شهر ديسمبر إلى أسلوبه المفضل، فيضرب ويظل غائبا عن الأنظار أسبوعا كاملا، ويطلع صحافيا على الخصام الواقع فيأذن له في إنباء أمريكة بذلك، وبسمارك لم يظهر إلا بعد تقرير الضرب بالمدافع، وولي العهد يدعوه مع مولتكه إلى الغداء إذ ذاك حتى يوفق بينهما، ويتدخل فردريك مرارا مسيرا للحديث بهدوء؛ وذلك لما يبديه بسمارك من انتقاد لاتجاه الحرب منذ معركة سيدان على مسمع من مولتكه.
وفي المقر العام يجيء أمراء الألمان بعد القواد في إغضاب بسمارك، فقد كتب بسمارك بعد نشوب الحرب بثمانية أيام يقول لزوجه متذمرا: «إن من الفظاعة بمكان تلك الطريقة التي يشغل بها هؤلاء الأمراء النظار أحسن الأماكن، فيعرقلون عملي وعمل رون فيحملوننا على صرف موظفينا تمكينا لأصحاب السمو الملكي من إسكان خدمهم وحصنهم وحجابهم على الرحب والسعة.»
وكان بسمارك في أثناء تقدم الجيش يجتنبهم جهد الاستطاعة، فإذا ما صادفهم في أثناء زيارته للملك مضطرا وصف لزملائه ما أبصر من مهزأة بقوله: «يضم الاجتماع من الأمراء الكثيرين ما لا يكون معه مكان لجلوس الناس ... ويرى هنالك ذلك الأحمق الصاحب لرأس فارغ مع كلام لا معنى له ... والمعتز بنفسه لأنه أمير على حين تبصرني مستشارا في الجامعة له! ومصدر هذا ما يتلقونه من تربية تهدف إلى إتقانهم صوغ الجمل فقط، والكرسي هنالك في القصر، ويأتي عميد البلد فون (س) ليقدم واجب الإجلال، فيقال له: سررت برؤيتك أيها السيد العميد! وماذا تصنع هذه المدينة؟ أتنتج تبغا وجوارب قصيرة؟ وأوضع حول مائدة الملك بين أمير بافارية ودوك فيمار الأكبر، ويخلو الحديث من روعة.»
وذلك الدوك الأكبر من أشد بلايا بسمارك، فقد قال ذلك الدوك لبسمارك: «بما أن المفاوضات تتقدم الآن آمل منك يا مستشاري في الجامعة أن تزودني من الأنباء ما أتقدم معه بما يسر روسية.» وهذا الذي يريد بسمارك أن يجتنبه، وينحني بسمارك ويقول ساخرا سخرا مضمرا: «لن أترك أمرا يرضي دوكي الأكبر.» ولما أرسل الدوك الأكبر وزيرا إلى بسمارك بعد ذلك قال هذا الأخير إن مما يذهله أن يأتي الدوك الكريم بما يؤثر في وقته وصحته من الادعاء، ويرسل أمير كوبرغ إليه كتابا مؤلفا من اثنتي عشرة صفحة عن السياسة الألمانية، فيخبره بأنه وجد واحدا من جميع الاقتراحات يكاد العمل به يكون ممكنا، وبأن هذا الاقتراح لا يستحق أن يناقش فيه بالحقيقة.
ويبرق دوك فيمار الأكبر إلى زوجته بأسلوب الملك ولهلم فيقول لها: «إن جيشي قاتل ببسالة.» وتمر البرقية من يد بسمارك فيأتي بأمين سره في منتصف الليل ليطلعه عليها وليذيع أمرها المضحك بين الناس، ويفرط دوك سكس ميننجن في شغل دائرة البرق المرهقة بأموره الخاصة، فيرسل إلى هذا الأمير الصغير من يخبره بأنه لا يسمح باستعماله برق الميدان في شئونه الشخصية؛ أي في موضوع مغارسه ومغانيه ومرابطه، ويفرط أمير كوبرغ في الأمر أكثر من ذلك، وكتب أمير هس في شهر نوفمبر، وهو وطني ألماني آخر أراد في شهر يوليو أن يحفظ لنفسه حرية القرار مستقلا، يقول له إنه سيأتي إلى فرساي إذا ما ضمن له ألا يكون راكبا حصانا لدى دخول الغزاة باريس ظافرين!
ويجد بسمارك جميع أمراء ألمانية عند الملك في يوم آخر، «فيجتمع أصحاب السمو حولي كتجمع الغربان حول البوم ... ويزين كل واحد منهم نفسه باقتطاعه أكثر من سواه دقيقتين أو ثلاث دقائق من قوتي ... ويروى لهم في نهاية الأمر وجود رجل أو ظهر لأريكة تتويج قديمة في الغرفة المجاورة فيذهبون ليروا هذا الشيء الغريب، فأغتنم فرصة ذلك فارا»، وفيما هو يتغدى في مسكنه ذات يوم يدعى لوصول دوك بادن الأكبر، ويعود بعد عشر دقائق مغاضبا قائلا: «هذه عادة رديئة! هم لا يدعونني وحدي حين الطعام! هم سيقتفون أثري حتى غرفة نومي! الناس في برلين ينبئونني كتابة قبل حضورهم، فلم لا يصنعون مثل ذلك هنا؟ وماذا أفيد من هذا؟ الانزعاج! أقيء صفارا
20
في كل مرة إذا ما ناداني إنسان وقت الأكل! هم يظنون أن وجودي هنا هو من أجلهم فقط!»
وبعد مثل تلك المهازئ، وبعد إبداء ذلك «الملكي» ازدراءه للأمراء، يسمع ذلك الطاغية المحكوم عليه بالخدمة تحسرا مؤثرا، ويدخل البهو متأخرا ذات مساء من شهر نوفمبر بعد مباحثات طويلة مع وزراء دول جنوب ألمانية، ويطلب جعة، ويتأوه، ويقول: «آه! كنت أفكر مرة أخرى في أمر سبق أن فكرت فيه مرات كثيرة، ويا لجلال ما يكون لو قيض لي أن أقول في خمس دقائق: سيكون هذا، ولن يكون غير هذا! ويا ليتني أجد مالا أزعج به نفسي بكلمة «وبما أن» وكلمة «وعليه» مساوما مبرهنا على أتفه الأمور! ويكون قليل تبديد للوقت مع أناس كفردريك كانوا جنودا عارفين بعض الشيء من سير الأمور عاملين كوزراء دولتهم، وكان نابليون كفردريك في هذا الشأن، ولكن يجب على المرء هنا أن يتكلم دوما ويرجو دوما!» ويقول بعد هنيهة: «ذلك كابوس على صدري ! ذلك يمنعني من التنفس! ليت الإنسان أمير ألماني! كان يمكنني أن أكون شديدا، ولكنني لست أميرا ألمانيا!»
ويلخص لغز وضعه ومأساة حياته بتلك الكلمات القليلة الحاقدة التي دمدم بها حسيرا ذات مساء وقتما كان يشرب جعة، فهو قد ولد ليسود، وهو قد اختير ليخدم، والعالم لا يروقه، وما يحب أن يفعل، وما عليه أن يصنع، فيلوح أنه قبضته، بيد أنه إذا ما بسط يده أرخى أمير ستارا زجاجيا من عل مقصيا القطب السياسي ملزما إياه بالانتظار خارجا، أجل ليت الإنسان أمير ألماني!
الفصل العشرون
«عاد الوضع غير ما كان عليه في شهر سبتمبر، فإذا ما زلتم تقولون: إننا لا نسلم حجرا واحدا من حصوننا عد البحث في الأمور لغوا»، هذه هي الكلمة الأولى التي خاطب بسمارك بها جول فافر عندما زاره هذا الأخير في آخر شهر يناير للمرة الثانية؛ أي عندما كان الألمان يحاصرون باريس منذ ثلاثة أشهر. ويضيف بسمارك إلى ذلك قوله: «إنك تشيب - يا جناب الوزير - أكثر مما كنت عليه حينما رأيتك في المرة الأولى، ومهما يكن الأمر فقد وصلت متأخرا، فوراء الباب هنالك ينتظر سفير نابليون، فسأفاوضه ... ولم أفاوضك؟ ولم أعطي جمهوريتكم مظهرا شرعيا؟ لم تؤلف جمهوريتكم من غير شرذمة قليلين من المردة، ولو عاد إمبراطوركم لحق له أن يقتلكم رميا بالرصاص كخائنين.»
فافر: «يؤدي هذا إلى الفوضى وإلى الثورة.»
بسمارك :
أأنت واثق بذلك؟ لا أرى في حربكم الأهلية ما يؤذينا نحن الألمان!
فافر :
ألا تخشون أن تسيروا بنا إلى اليأس؟ ألا تخشون أن تجعلوا مقاومتنا أشد مما هي عليه الآن؟
بسمارك :
آه! أجل! مقاومتكم! أحسن السماع لي، لا يحق لكم أمام الله والناس أن تسلموا مدينة يزيد عدد سكانها على مليونين من الآدميين إلى المجاعة وصولا إلى مجد حربي هزيل! إن الطرق مقطوعة، ولا يمكننا أن نعيدها إلى سابق حالها في ثمان وأربعين ساعة، وستخسرون مائة ألف شخص في كل يوم، ولا تتكلموا عن المقاومة؛ فهي جريمة في مثل هذه الحال!
وهنالك يلتفت بسمارك إلى الباب الذي افترض وجود سفير نابليون منتظرا خلفه.
فافر :
والآن، لا تفرضوا على فرنسة عار الإذعان لرجل من آل بونابارت بعد تلك المصائب التي أصبنا بها!
وتمضي خمس دقائق فيتفق على التنزل والغرامة الحربية مبدئيا، ويعقب الغداء ذلك، وينظر الجميع إلى طعام رسول العاصمة الجائعة، ويبحث في المقدمات ويعرض بسمارك سغاير فيرفض الفرنسي.
ويقول القطب السياسي الألماني: «أنت مخطئ؛ فالأفضل التدخين عند البدء بحديث يلوح اشتداده، ولا تجد مدخنا يريد رمي سيغاره، والمدخن يجتنب كل حركة بدنية عنيفة، والتدخين يصقل أذهاننا، وأدخنة التبغ الزرق التي تتصاعد من سغايرنا تسحرنا فتجعلنا أكثر مجاملة، والأعين تبصر، والأيدي تعمل، والرائحة تسر والناس يشعرون بسعادة عند التدخين.» ويمضي بضع دقائق على قوله هذا فيلتهب غيظا حول موضوع غاريبالدي، فيقدم الكونت الفرنسي - الذي كان رفيقا لفافر فروى ذلك الحديث - سيغارا إليه وهو يتبسم.
ويعترف الفرنسيون لبسمارك بتمام نبوغه وكمال لطفه، أجل إنه يلاعب الفرنسيين كما يلاعب الهر الفار، غير أنه يبدو للحضور بأسلوب غولي فتنا لخصومه الذين لا يقل رغبة عنهم في السلم، ولو كان مفاوضا لأناس من الإنكليز لاختلف أسلوبه عن ذلك لا ريب، ويقابل تيار بسمارك بعدئذ ويجيد تيار الكلام ويطلب بسمارك ستة مليارات، ويصرخ تيار قائلا «هذا عيب!» ويبدأ بسمارك الكلام باللغة الألمانية في الحال ويقول إن عليه أن يطلب حضور ترجمان، ويقول في ذلك: «إن معرفتي لغتكم هي من الضعف ما لا أستطيع معه أن أفهم ألفاظ مسيو تيار الأخيرة.» ثم يتشاوران ويتفاوضان ويداومان على النقاش، ويتكلم بسمارك بالفرنسية مجددا.
ويقول فافر: «لقد أبصرت في بسمارك رجلا سياسيا أسمى من كل ما يمكن الإنسان أن يتصوره من مدلول هذه الكلمة، وتدل سيماه على أنه لا يبالي بغير الموجود وعلى أنه لا يبحث عن غير الحلول العملية ... ويتقبل كل مؤثر مهيج فلا يملك صولته دائما، وكنت دهشا لما يبديه من حلم أحيانا ومن قسوة في أحيان أخرى ... وهو لم يخدعني قط، وهو يؤذيني ويثيرني بقسوته في الغالب، ولكنني أجده في الأمور الصغيرة والكبيرة مستقيما مدققا.» ويعد هذا الحكم الصادر عن عدو أعظم من كل مدح نفح به بسمارك.
ويعوق المفاوضات ما يقع بين الملك والقواد من طويل مشورات، ويعرض أناس كثيرون غير رسميين ما يعن لهم من نصح، وتبدو أوغوستا في طليعة هؤلاء، ويقول بسمارك: «أعرف هذه المكايد الكريهة، ويكتب الملك إلى أوغوستا رسالة مطولة وفق طلبي فلا تجيب عنها من فورها!»
ويريد بسمارك أن يفرض على باريس مائتي مليون تعويضا لأمراء الألمان، الذين هم حلفاء بروسية في الوقت الحاضر، مما ابتز منهم في سنة 1866، فيرفض الملك ذلك، وإذا عدوت بسمارك أبصرت كل واحد يصر على تسليم القلاع، ويوافق بسمارك في نهاية الأمر على المطالبة بالألزاس مع بلفور وبقسم من اللورين مع ميتز، ويوافق بسمارك؛ لأن مولتكه يؤكد أن ذلك التنزل ضروري لسلامة ألمانية، ويطالب بسمارك بستة مليارات غرامة وبدخول الألمان باريس، وينقص بسمارك هذا المبلغ إلى خمسة مليارات ليكون مناسبا للمبلغ الذي دفعه أهل بروسية عن كل شخص غرامة في سنة 1807، وذلك تبعا لحساب بليشرودر الذي استدعاه بسمارك لهذا السبب، ويخير بسمارك العدو بين تسليم بلفور والموافقة على دخول باريس فيختار الفرنسي إنقاذ ذلك الحصن بقبول العار خلافا للخلق الفرنسي المعهود.
وفيما كان الجميع في حبور كان بسمارك غير مرتاح لذلك الضم، وقد قال لولي العهد: «لم يحفزني إلى الإصرار على ضم ميتز غير داعي الجنود، وهذا إلى ما أشعرني به الملك من استعداده لإدامة الحرب في سبيل فتح ذلك الحصن.» وكتب بسمارك يقول لزوجه: «لقد نلنا أكثر مما أراه مفيدا من حيث حسابي الشخصي السياسي ... وعلى أن أراعي ما يصدر عن الأعلى والأدنى من أصوات تدل على قصر النظر، وقد أخذنا ميتز مع عناصر يعسر هضمها إلى الغاية.»
ويتنفس بسمارك الصعداء بعد أن سويت الأمور مع تيار وفافر. وبسمارك كان في الأيام الأخيرة القليلة يعاني ألما عصبيا شديدا فشفي الآن، ويذهب بسمارك إلى ردهة ضباط الحرس ويدندن بنغم الصائد، ويدعو بسمارك في المساء وزير بافارية وبليشرودر إلى العشاء معه رمزا إلى الوحدة والمالية، فلما انصرفا طلب ما تيسر من الموسيقى بعد طويل حرمان، وكان نشيد هوهنفربرغ أول شيء رجا من كودل أن يشنف الآذان به.
ويأتي تيار بعد يوم للإمضاء، ويتحول إلى مؤرخ رصين، ويرمق الغالب، ويقول: «نحن الذين صنعوا لكم وحدتكم مع ذلك.»
ويصيب السهم هدفه، وينظر بسمارك إلى ذلك العلامة الفرنسي بدهاء، ولا يقول له غير كلمة: «ربما».
وترفعنا هذه المحاورة القصيرة من جو المنافع وأرقامها إلى نسيم الروح المحض بعدما اكتنف تلك المفاوضات الطويلة من المناضلات والدسائس والأكاذيب والحيل، ويقوم ما بين ذينك الشعبين المجتورين
1
على منع أحدهما الآخر من الوصول إلى الوحدة وعلى عدم استطاعة هذا الآخر أن يصل إلى الوحدة بلا قتال.
وما يبدو في ألمانية من تقدم قومي مستند إلى ما بين ألمانية وفرنسة من عداوة دولية، بعد ضرب بالمدافع ونزاع بالبراهين؛ فأمر باد لكل ذي عينين، ولا يمكن أوفر الفريقين المتحاربين حظا أن ينكر هذا، وكان تيار - وهو أسن من بسمارك كثيرا - بارعا أيضا، ولم يرد بسمارك الألماني أن يكون فظا تجاه تيار الفرنسي كما أنه لم يرد أن يفترضه هذا الفرنسي ناقص البصيرة، وأقل من هذا رغبة بسمارك في وضع نفسه رهنا بين يدي تيار باعتراف يستطيع تيار أن يلوح به من فوق منبر مجلس النواب الفرنسي فيما بعد كتاج فخر جديد غير منتظر.
ويبصر بسمارك جميع هذا بأقل من لمح البصر، ويزن بسمارك هذا ويقدره، فيعرف كيف يتخلص من المعضلة، فيجيب عن ذلك بعبقريته قائلا: «ربما».
وفي نهاية شهر نوفمبر، وبعد إعداد لأوليات الوحدة الألمانية؛ صار التاج هو الشيء الوحيد، وحول هذا الأمر دام كفاح الجميع ضد الجميع، فانحط إلى مهزأة كقصة للإمبراطورية لم تعرف أوروبة مثلها منذ رفض قيصر الأول للتاج ثلاث مرات، وكان جميع الأحرار معارضين لمبدأ إقامة إمبراطورية، حتى إن فريتاغ قاوم انتحال ذلك اللقب الذي يوحي بسيادة العالم والذي يعني «بعثا لمثالية باطلة» وكان جميع ملوك ألمانية ومعظم أمرائها مناوئين له عن حسد، وكان الرئيس الذي هو موضوع التاج أكثر من أولئك كلهم مخالفة لذلك، وهل كان منذ عشر سنين يتوج نفسه بيده فتأتي الآن جوقة الأمراء ثم يأتي الشعب ليقدموا إليه تاجا آخر كان أخوه قد رفضه داعيا إياه تاجا من قذر ومدر؟
2
وكان الملك ولهلم يقول مفكرا في أجداده وفي بلوغه الرابعة والسبعين من عمره وعازما على مقاومة كل غصب من ذلك الضرب:
3 «إنني بروسي.»
وقال الملك ولهلم الذي كان ضابطا في الجيش قبل كل شيء: «وما الذي يغريني بمثل هذا اللقب الذي أكون به كمن يلهو لابسا ثياب التنكر في حفلة رقص؟» فلم يسع بسمارك إلا أن يجيب عن هذا ماجنا: «لا ترى - يا صاحب الجلالة - أن تبقى مجردا إلى الأبد، أي رئاسة!»
وقال الملك المتواضع لابنه في عيد ميلاده: «إن أبغض شيء إلي وأثقله علي هو أمر اللقب، ولا يسعني إلا أن أذكر أن توحيد ألمانية على مقياس واسع كان أهم مقاصد صاحب الجلالة أخي الملك الراحل، ولا يسعني إلا أن أحمد الله على أنه رفض ذلك التاج الورقي عندما عرض عليه! ... وعلي أن أرى، على الرغم من كل شيء، وذلك ببصري البروسي، تواري ذلك اللقب الذي كان شاهدا على ما بلغ من شأو بعيد في ميدان المجد، أمام لقب آخر ظل خصما لبروسية مدة قرن ... فالأقدار تأتمر بي.»
وكان شارلمان قد شعر منذ ألف سنة بمثل شعور ولهلم العتيد، وكان من المباغتة أن توجه البابا مع رغبته عن التاج، فقال بعد ذلك: «لو كنت أعلم مقدما عزم البابا ما دخلت الكنيسة على الرغم من الاحتفال العظيم الذي أقيم فيها.»
والواقعي بسمارك قاوم مبدأ «صنع إمبراطور» في البداءة، وبسمارك في شهر أكتوبر كلم ولي العهد عن روعة البلاط البروسي القديم، ولكن بسمارك صار يتحمس للمبدأ الإمبراطوري رويدا رويدا معترفا بأن اللقب الإمبراطوري عنصر نافع للوحدة والمركزية.
وكان معظم البيوت الألمانية يقول بإقامة إمبراطورية، شأن دوك بادن الأكبر، وشأن ولي العهد قبل كل إنسان، وعن ولي العهد يقول فريتاغ الذي كان يصاحبه في ذلك الحين صحبة وداد فيحادثه كثيرا: «كان ولي العهد يرى تجهيزه هو وزوجته بتاج جديد وبسلاح جديد على جانب عظيم من الجد، وأقصد بهذا أنه كان أول مبشر بالنظام الألماني الجديد، وأنه كان الباعث الرئيس على إقامته.» وولي العهد فردريك هو الذي عمل عند افتتاح الريشتاغ الأول على إدخال الكرسي القديم الخاص بتتويج أباطرة السكسون إلى الاحتفال الحديث، موجبا بذلك عجب النواب.
وما كان ابن ملك بروسية ولا ختنه
4
في وضع يصنع به اقتراح حول ذلك، وأمر مثل هذا مما يصدر عن أقوى ملوك ألمانية، وكان هذا المصدر ملتزما قصر أحلامه فيسحر بالموسيقى ويسير - مثل لوهنغرين - على بحيرة محاطة بالصدف، ولا يجيب عن كتب ابنه خاله البادني الرائعة؛ لما يراه من عدم احتياج الملك لويس إلى الإمبراطور ولا إلى الإمبراطورية، وهو لم يلتفت إلا بعد أن قيل له إنه يمكنه أن يقيم بدار التريانون التي هي أجمل مما هو فيه، فيرسل سائسه الأكبر إلى ساحة الحرب ليدل على منازل وأصابل
5
قريبة من باريس المحصورة.
ويظفر بسمارك بالسائس الأكبر الكونت هولنشتاين، وهل تحبط خطط بسمارك بعد جهده؛ لأن ملكا يرغب عن التاج الإمبراطوري، ولأن ملكا آخر يرغب عن عرض التاج الإمبراطوري؟ هو يكتب ثلاث رسائل تعد من أروع ما خطه يراعه «إذ ذاك وهناك على مائدة الطعام بعد أن نظفت، وذلك على ورق ليس أحسن من ورق النشاف إلا قليلا».
ويبين بسمارك للرجل البسيط الملك لويس أنه لا يسمح لملك بروسية بأن يزاول نفوذا في بافارية، وأن إمبراطور ألمانية ليس جارا لبافارية، بل هو ابن لها، وأن الملك لويس لا يمنح امتيازا لسوى إمبراطور ألمانية لا لملك بروسية، وإذا كان هذا البرهان غير مقنع سمع لبسمارك ما هو أقوى منه، أفلا يمكن أن يكون هنالك نسب بين آل فيتلسباخ وآل بسمارك؟ أجل! لما يمض ثلاثمائة سنة على وجود هذا النسب! ويضع بسمارك كتابا ثانيا في غلاف ذلك الكتاب يشكر فيه للملك «ذلك اللطف البالغ الذي عامل به آله البافاريون أجدادي في أكثر من جيل حينما كان آله يملكون مارش براندبرغ!»
وإليك إذن برهانا ملكيا وبرهانا بشريا! وإذا ما كتب الملك لويس فماذا يكون جوابه؟ إذا جاء اقتراحه مخالفا لما أشار به بسمارك وإذا أتى ما يمس عصب آل ولهلم ضاع كل شيء ما انتظر ملك بروسية وسيلة للرفض، وعند بسمارك أن ولهلم «ليس راغبا عن إظهار أفضلية آله أمام الأسر المالكة الأخرى ... وهو أكثر عناية بتوكيد نفوذ التاج البروسي من الحمل على الاعتراف باللقب الإمبراطوري».
وعلى طبيب الأعصاب بسمارك أن يعطي دواء واحدا لمريضيه العجيبين إذن، وعلى طبيب الأعصاب بسمارك أن يعالج بهذا الدواء على وجه مختلف في الحالين إذن، وبسمارك يصنع أصوب الأمور؛ فهو يربط بكتابه إلى الملك لويس - خاشعا - مشروع الجواب الذي يرسله هذا الملك إلى الملك ولهلم «راجيا من جلالتكم أن تتفضلوا بنسخه فقط»، وينطلق رئيس السواس بالكتب الثلاثة، فيجد الملك لويس منحرف المزاج؛ أي إنه في هوهنشفانغو، فلا يريد أن يسمع شيئا عن سوى الملك هنري في أثناء فصول فاغنر الثلاثة، لا عن الإمبراطور ولهلم، وهذا إلى ما كان من ألم أسنانه. ويوفق الكونت هولنشتاين في الدخول عليه مع ذلك، ويقرأ الملك لويس الكتب مرتين، ويشعر بأنه أطري فيها كما توقع بسمارك، ويرسل من فوره سائسا ليأتي بالمداد والقرطاس ويستوي على سرير نومه وينسخ من غير أن يستشير أي واحد من وزرائه ذلك الكتاب المملى عليه، ويقفل
6
الكونت هولنشتاين إلى فرساي بما يمكنه من السرعة.
وكان الجمع يحتفل هنالك بعيد ميلاد إحدى الأميرات، ويتلقى أمير بافاري «أمرا، غير محبب إليه طبعا، بأن يقدم الكتاب إلى الملك قبل العشاء ببضع دقائق»، «وهل الكتاب رسمي؟ فعلى بسمارك أن يقرأه قبل سواه؛ لأن ذلك من أعمال منصبه»، وبعد العشاء يسلم الملك ولهلم الكتاب إلى بسمارك ويأمره بأن يقرأه بصوت عال لنفسه ولفردريك، ويتلو بسمارك الكتاب الذي هو من إنشائه بجد، وماذا يكون قول المرسل إليه؟ لم ير ولهلم أن يداري شعور المرسل الغائب، ولا غريب هنالك، فيصرخ هذا الملك الشيخ غاضبا قائلا : «أتاني هذا الكتاب في وقت غير ملائم!» ويروي فردريك أن الملك «فقد صوابه وخارت قواه مما احتواه هذا الكتاب».
ثم يصرف ولهلم فردريك وبسمارك من غير أن يدور في خلده أمر المؤامرة، ويشعر ولي العهد في خارج الغرفة بنفاذ رغبته كما يلوح فيصافح بسمارك ويسجل وقت المساء في يوميته قوله: «اليوم تم أمر الإمبراطور والإمبراطورية بما لا ينقض، والآن انتهى الدور المرهوب الذي لم يكن فيه إمبراطور، وفي هذا اللقب النبيل ضمان كاف.»
ويبدي الإمبراطور مقاومة سلبية في البداءة، ولا يجرؤ أحد على مخاطبته في أمر التاج الجديد؛ لزهده فيه، ولكن كل شيء كان معدا، والآن يمكن الأمة أن تقول: «آمين»، ويمثل الفصل الثاني من المهزأة في الريشتاغ، فيؤذن إلى أحد النواب في السؤال عن إمتاع الشعب بعاهل عال، وهنالك «يقرأ دلبروك بصوت جهير رسالة ملك بافارية، فكأنه أخرج تاج ألمانية الإمبراطوري الشقي من جيب سرواله ملفوفا بجريدة»، وعن هذا يقول بسمارك: «أجل، إن هذه الأغنية الإمبراطورية الصغيرة كانت تقتضي مديرا أكثر براعة وتمثيلا أعظم تأثيرا.»
ويدعى ثلاثون نائبا من الريشتاغ إلى فرساي، لا لعرض التاج الإمبراطوري، بل لالتماس قبوله، ويبدي اللندتاغ البافاري ميلا إلى عدم الموافقة على المعاهدة، ويصب الملك ولهلم غضبه على «الوفد الإمبراطوري» فلما وصل هذا الوفد مساء صرح الملك بأنه لا يقابله ما لم يقدم جميع الأمراء إليه طلبا رسميا خطيا، «وذلك خشيه أن يلوح أمر إقامة الإمبراطور والإمبراطورية صادرا عن الريشتاغ أكثر من صدوره عن الأمراء».
ويروي ولي العهد أن رجالا من البلاط تساءلوا جهرا: «لماذا جاء هؤلاء إلى هنا؟» ويكتب رئيس الشرطة في المقر العام ستيبر إلى زوجه قائلا: «يبدو الفتور على حزب البلاط والحزب العسكري، وأما أنا فإنني أمثل الشعب الألماني هنا.» وستيبر هذا إذ كان شيوعيا في غابر الأزمان حق له أن يضيف إلى ذلك كلمة: «يا لها من أوقات عجيبة!»
ولم يبق لتمام الأمر غير مقابلة ممثلي الريشتاغ، ولكن الأمراء والقواد لم يقرروا الحضور إلا قبل الاحتفال بساعة واحدة، فيصلح المسرح بدائرة الشرطة في أثناء ذلك، ويقول ولي العهد متلهفا: «إن من المؤسف ألا تستعمل المرقاة المرمرية الرائعة في هذا النهار.» ويلقي الفاضل سيمسون خطبة، ومن المحتمل أن يكون قد ذكر ما نطق به منذ إحدى وعشرين سنة من كلمة أمام أخي ولهلم، الملك الراحل، حين عرض ذلك التاج عليه فقوبل بالفرض فأثار هذا دهشته، ثم تلا سيمسون طلبا مشتملا على القول: «إن ريشتاغ شمال ألمانية يلتمس - متفقا مع أمراء ألمانية - أن تتفضل جلالتكم فتبارك الوحدة الألمانية بقبول التاج الإمبراطوري الألماني.»
ويدع جواب الملك الوضع الشرعي «سديميا»
7
كذلك الالتماس، فقد قال ولهلم: «أبصر النداء الرباني في صوت أمراء ألمانية والمدن الحرة الإجماعي وفي رغبة الأمة الألمانية وممثليها الملائمة لرغبة الأمراء، فأرى تلبيته معتمدا على نعمة الله.» وهكذا ترى للأمراء أصواتا، ولا ترى للرعية غير رغائب، وهكذا يموه «القذر والمدر» بالتبر، وتمثل ألمانية في هذه المرة بيهوديين؛ وذلك لأن ما تلاه سيمسون هو بقلم لاسكر، وقد قال الملك بعدئذ: «أراني مدينا للهر لاسكر دين شرف!»
وفي تلك الأيام - حين إقامة الإمبراطورية - يقبض على بيبل وليبكنخت بتهمة الخيانة العظمى، فهما قد جهرا بانتقاد الدستور الجديد، وهما قد رفضا الموافقة مع ستة آخرين على قروض جديدة لحرب فتوح، وكان هدف وقفهما إبعاد الزعماء الاشتراكيين من المعركة الانتخابية.
وكان على العاهل الشائب أن يمثل الفصل الثالث الذي هو أصعب الفصول؛ ففي اليوم الثامن عشر من يناير أصدر ناظر القصر الدعوة الآتية، وهي: «سيحتفل بالتولية في ردهة المرايا من قصر فرساي وقت الظهر، وستقام صلاة فور الإعلان»، وتكتب هذه الدعوة بلغة ألمانية سقيمة، ولا يريد الملك أن يعترف بها، والملك قبل يوم رفض أن يكون «إمبراطورا ألمانيا» مصرحا بأن من مقاصده أن يكون «إمبراطور ألمانية» أو لا يكون إمبراطورا أبدا.
ويحاول بسمارك عبثا أن يقنع الملك بأن هذا ينطوي على ادعاء بالسيادة، ويذكر بسمارك له مثال الإمبراطور الروسي الذي لا يلقب بإمبراطور روسية، ويجادل الملك في هذا الزعم قائلا: إن ذلك خطأ في الترجمة، ويطلعه بسمارك على تالير لقب فردريك فيه بالملك البروسي لا بملك بروسية، ثم يرجع بسمارك إلى نص كتابه الخاص الذي نسخه ملك بافارية ليرسله إلى ملك بروسية، ويتكلم عن الفرق بين الأباطرة والملوك والأمراء الناخبين والدوكات الأعظمين، ويذكره بسمارك بالسرادق الذي اجتمع فيه ملك بروسي بإمبراطور، ويستعد بسمارك ليثبت لولهلم - بأمثلة تاريخية مستفيضة - أن احتفال الغد لا يتضمن ارتقاء عرش، ويزداد الملك الشيخ غضبا فيصرخ قائلا: «لا أبالي بما كانت الأمور عليه في الماضي، ولي أن أقول: كيف يجب أن تكون عليه اليوم، وكان للأمراء الناخبين حق التقدم على أمراء بروسية دوما، ويكون الأمر كذلك فيما بعد!»
ولم يتمالك الملك أن صار ينحب
8
وينحط
9
وينوح «من وضعه القاطع للرجاء؛ وذلك لما عليه من توديع بروسية القديمة العزيزة غدا ... ويصرخ الملك هائجا قائلا: إن ولدي من القائلين بنظام الأمور الجديد من سواد فؤاده، مع أنني أتعلق ببروسية وحدها، فلا أريد نقل مقدار شعرة إلى ذلك الاتجاه! ثم ينهض مغاضبا ويقطع النقاش ويعلن أنه لا يرغب في سماع كلمة حول الاحتفال المقررة إقامته غدا»، وقد كانت هذه هي صرخة الإنذار لملك بروسية الأخير، وقد صدرت هذه الصرخة عن ذلك الرجل الذي أقام سرير معسكره وقت الزحف الألماني في غرفة مزخرفة من غرف قصر لأسرة روتشيلد، والذي جعل من الحمام فيه مكتبا له، والذي غضب عندما نعت بالبطل المضرس
10
في الحروب، والذي ذكر الناس له نسور آل هوهنزلرن، فقال حانقا إنه لا نسور في أشعرتهم.
وفي سنة 1848 رغب ولهلم في الاعتزال؛ إنقاذا لأخيه، وفي سنة 1862 رغب ولهلم في الاعتزال؛ إنقاذا لشرفه في النضال حول الجيش، والآن في سنة 1871 أراد الاعتزال للمرة الثالثة متنزلا عن العرش «تاركا كل شيء لفريتز»؛ وذلك لأن جميع عواطفه مع بروسية، وذلك لأنه يرى ببصيرته ما يخشى من أبهة اللقب الجديد.
وكتب ولي العهد يقول: «بلغت من انحراف المزاج ما رأيت معه أن أتناول دواء، فقد علمت أن الملك أراد عدم المجيء إلى مائدة الشاي في هذا المساء.» وماذا يحدث غدا ؟ لا أحد يعرف ذلك، غير أن إدارة ناظر البلاط أقوى من الملوك، وما تلقاه ولهلم من تدريب كضابط بروسي قديم فيجعله يخضع وأنفه راغم، ففي صباح اليوم التالي يشرف ولي العهد على الأمر، ويدخل ردهة المرايا أصحاب المقام الرفيع وستون من حملة الأعلام وستمائة من الضباط وبعض رجال الكتائب، ثم يصل أمراء ألمانية ويصل الملك ولهلم في أثرهم، وما كان أحد يعرف الرمز الذي يريد أن يكون به إمبراطورا، وعليه أن يبتده أهم أمر هنالك؛ أي عليه أن يعين انتظام الأمراء من فوره هنالك، ويفعل ذلك رسميا، ويفعل ذلك متواضعا فروسيا، وبعد يوم يصف الوضع بأسلوبه المستقيم الآتي:
لم أك لأزعج نفسي بالتدابير الحربية، ولم أك لأعرف أين الرايات، وأراد هؤلاء السادة إجلاسي على عرش فنهيت عن ذلك، وأردت أن أظل في الاحتفال واقفا بين الأمراء أمام الهيكل، ولكنني أبصرت رفع أعلامي وراياتي فذهبت إليها بحكم الطبع لما يجب من وجودي بجانبها، وكانت هذه الأعلام والرايات من الكثرة ما عسر معه على الأمراء أن يجدوا مكانا لهم فاضطروا إلى الوقوف تحتي، وهنالك جعلتهم أول الصاعدين. ومما سرني أن جعلت خلفي رايات فرقة الحرس الأولى، وهي الفرقة التي التحقت بها عند انتسابي إلى الجيش، وراية فرقتي الخاصة المؤلفة من رماة القنابل، ورايات كتيبة الردفاء التي كنت قائدها الأول لطويل زمن، وهكذا حالت الرايات دون الوقوف أمام الهيكل فأقبل هنالك عهدي الجديد الثقيل، وكل ما يؤسفني هو أن كانت رايات كتائب الحرس بأسرها غير موجودة في ذلك المكان!
وبعد أن دحر الهيكل العرش، وبعد أن دحرت الرايات الهيكل، وبعد أن دعا الإمبراطور الجديد أبناء عمه من ذوي التيجان ليقفوا على مستواه، وبعد أن فصل الإمبراطور الجديد عن أصحاب التيجان هؤلاء بالأعلام لم ير القسيس أن يتلو دعاء مختصرا كما كان قد أمر، بل أتى بوعظ حول لويس الرابع عشر وبخطبة حول اليوم الثامن عشر من يناير فأغضب بسمارك بما ينم عليه هذا اليوم من «الوثنية البروسية الأثرية» ثم تقدم المستشار بسمارك وتلا البيان الذي بدئ ب «نحن ولهلم، ملك بروسية بنعمة الله، بعد أن دعانا أمراء ألمانية ومدنها الحرة بالإجماع إلى تحديد مقام الإمبراطورية الذي غدا شاغرا منذ أكثر من ستين سنة وأن نحمل عبأه، نبلغكم أننا نعد من الواجب علينا تجاه جميع الوطن أن نلبي دعوة أمراء ألمانية الحلفاء ودعوة مدنها الحرة فنقبل اللقب الألماني الإمبراطوري.» وهذا البيان موجه «إلى الشعب الألماني»، ولم يعد الشعب فيه حد المستمع، ولم يكن شأن الشعب فيه غير سلبي، ولم يذكر الريشتاغ فيه قط، وهكذا يذاع في أواخر القرن التاسع عشر بيان رسمي على العالم قائل: إن أمراء ألمانية اختاروا إمبراطورا كما كانوا يصنعون في القرون الوسطى. «وبسمارك عندما نطق بالكلمات الأولى، كان صدره يلهث هياجا، وكان شاحب اللون، وكانت أذناه خاليتين من الدم فتبدوان شفافتين، وبسمارك قد لفظ بالجمل الأولى»، وهذه الكلمة هي من شهادة طبيب كان حاضرا ذلك الاحتفال، ومن المحتمل أن كان المستشار بسمارك كثير الهيجان بمجاوزته تلك الزاوية الخطرة، وولي العهد مع ذلك يروي خلاف ذلك فيقول إن بسمارك «بدا رجل جد فلم يظهر عليه أثر للحماسة ولا للكآبة.» ويقول فردريك معقبا الهتاف الذي عقب البيان: «كانت تلك الساعة مثيرة إلى الغاية، وقد ركعت أمام الإمبراطور وقبلت يده فأنهضني وعانقني بوجد عظيم، ولا أقدر على وصف حالي النفسية.» وولي العهد يلاحظ مع ذلك ما كان لعمله من أثر فيقول: «حتى إن حملة الرايات أبدوا وجدا صادقا.»
ويشد العاهل المحنك حيله
11
لما ليس في ذلك المظهر الروائي ما يروقه طويل زمن، ويغادر العاهل الدكة،
12
ويدل اتجاه خطواته ونظراته على أنه يقصد الرجال الذين أتوا مثل تلك الأعمال، ويكون القواد مواجهين للأمراء، ويبدو في وسط المسافة بين الفريقين رجل واقف هنالك، يبدو المستشار بسمارك منتصبا هنالك، ولا يزال بسمارك حاملا للبيان منتظرا؛ وذلك لأن التصافح الذي لا بد من وقوعه الآن هو رمز، ولن يركع بسمارك كما صنع ولي العهد، فبسمارك يوالي عاملا لا عابدا، وبسمارك يوالي متوترا لا مترهلا، ولبسمارك كل الحق في انتظاره أن يقابل بالشكر الصامت أمام مئات من الناظرين، ولكن بسمارك مع كل ما وقع لا يزال غير عارف بمولاه الشائب، وما كان ولهلم راغبا في نصبه إمبراطورا قط، وود ولهلم أن يكون لقبه إمبراطور ألمانية لا إمبراطورا ألمانيا، إذا ما حمل على حمل لقب إمبراطور، فيكون بسمارك قد نغص على ولهلم صفوه في ذلك الاحتفال إذن! وليتجاهل ولهلم هذا المسيء فيمر أمامه من غير أن يلتفت إليه إذن! وليقتصر ولهلم على مصافحة القواد وحدهم إذن!
وكانت تلك الساعة أظهر ما بدا فيه ضعف ولهلم الأول؛ لا لأنه تجاهل جهرا ذلك الرجل الذي أوجب بعقله المبدع جميع ما وقع، بل لأن عناده - وهو عناد شيخ - جاوز ما يخالج فؤاده، وولهلم الأول في ساعة ضعفه تلك أرى الأمراء وحملة الرايات والصحافيين والقواد (ومعظمهم أعداء للمستشار أو من حساده أو ممن ديدنهم
13
الثرثرة فيذيعون غدا ما حدث اليوم) من يفضل ومن لا يحتمل، والوزير إذ وقف وحده في عزلة رمزية صار يتعذر على كل واحد من الحاضرين أن يغضي عما أهين به، وما انعكس اليوم على مئات مرايا الردهة ينعكس في الغد على ألوف الأفئدة ...
ويقابل بسمارك الإهانة رابط الجأش، ويكتفي بتسجيلها لعدم تأثيرها في العلاقات السياسية، ويقول بعد أيام قليلة: «عادت الصلات بيننا إلى ما كانت عليه بالتدريج.» ونداوم قليلا على الكلام عن الملك حول ذلك اللقب الرفيع الذي ما فتئ بسمارك يستعمله فنقول إن الملك رضي باللقب الإمبراطوري الذي غرز فيه، ويجد الملك ما يعزيه بدرجة الكفاية في الإساءة التي عامل بها بسمارك حينما نودي به إمبراطورا، ومن عادة الملك إعادة الوثائق منتفعا بالغلاف الذي يأخذها فيه، وينجز الملك عمله في ذلك المساء - كما في كل يوم - ويقرأ الملك على الغلاف جملة «إلى صاحب الجلالة الإمبراطور، من مستشار الجامعة.» ويمحو الملك كلمة «الجامعة» ويضع كلمة «الإمبراطورية» في مكانها.
وهكذا تبدأ الإمبراطورية الألمانية عملها باحتراز واقتصاد وعدم فخار.
وإلى زوجه يكتب رون الذي أقصي عن الاحتفال قوله: «رجوت أن يشرح صدر بسمارك - ولو موقتا - بولادة مباركة لإمبراطور جديد، ومن المؤسف أن يكون الأمر غير ذلك.» وإلى زوجه حنة يكتب بسمارك قوله: «اغفري لي ما كان من تأخيري كتابة شيء إليك، فقد كانت ولادة الإمبراطورية أمرا عسيرا إلى الغاية، وقد أخذت الغيرة العجيبة من نفوس الملوك في تلك الأوقات كما تأخذ من نفوس النساء قبل أن يضعن ما لا يقدرن على حفظه فيهن، وقد عهد إلي في تمثيل دور القبيل
14
فوددت - غير مرة - لو كنت قنبلة فأنفجر حتى يصير البناء هباء منثورا»، وتمضي ليلتان على الاحتفال، فيجادل عند تناول العشاء حول الفرق بين «الإمبراطور الألماني» و«إمبراطور ألمانية» فيلزم بسمارك جانب الصمت في بدء الأمر، ثم يسأل: «أيعرف أحدكم كيف عبر فورست
15
عن نفسه باللغة اللاتينية؟ أمهزأة؟ أمهزأة؟ لا أدري أي المهازئ أصلح لي!»
الجزء الرابع
المسيطر
جعل بسمارك من ألمانية بلدا كبيرا، ومن الألمان شعبا صغيرا.
ج. فون بنسن
الفصل الأول
«يكون الكونت بسمارك-شونهاوزن شاكرا للنائب، إذا ما تفضل فأتى لزيارته في الساعة التاسعة مساء من كل سبت بعد اليوم الرابع والعشرين من شهر أبريل وفي جميع دورة الريشتاغ.»
ألقيت هذه الدعوة للمرة الأولى بعد افتتاح ريشتاغ شمال ألمانية، فأثارت بلبلة بين ممثلي الشعب، ومن هؤلاء من فرح بهذه البدعة، ومنهم من عارضها بشدة، ويقول سيمسون: «ومما لا ريب فيه أن علينا أن نلبس ثياب السهرة وأن نحافظ على مقتضى المقام.» ولم يرد بسمارك ثياب سهرة ولا مقاما بحكم الطبع، وكان بسمارك يهدف إلى إقامة ندوة سياسية أسبوعية حيث «يسوى في عشر دقائق، وفي زاوية من الردهة، ما يقتضي استيضاحا في الريشتاغ.»
وبسمارك من ناحيته قد انقطع عن قبول الدعوات منذ زمن، وبسمارك من ناحيته صار لا يذهب إلى البلاط إلا نادرا مفضلا لبس سترة طويلة فلا تبدو ربطة قبته
1
تقريبا، أو لبس بزة مختلطة القطع موجبة لتبسم مولتكه، وهكذا ترى في نروزة
2
هذا الرجل المدلل المتهارم وعتو هذا الرجل المطلق ورغبته في أن يكون داعيا لا مدعوا وفي ألا يشكر لإنسان حوافز إلى استقبال أعدائه عن حساب ودهاء تحت سقفه في كل أسبوع.
وفي أعوام الحروب عد بسمارك فيرشوف ودنكر أشد عداوة له من نابليون الثالث وفرنسوا جوزيف، والآن حينما أخذ بسمارك يدخل في العقد الثاني من سلطانه وهو عقد السلم؛ أبصر الريشتاغ يؤلف جبهة واحدة ضده، وما كان من وقوف بسمارك وحده أمام المئات من الأعداء فقد قوى تحرقه إلى الكفاح، وما كان بسمارك ليرضى بإغلاق دار أعدائه ووضع المفتاح في جيبه.
وقد أراد بسمارك معارضة علنية، ولم يكن بال بسمارك ليهدأ إلا إذا وجد شيئا يتذمر منه، ولو كان بسمارك عاهلا مطلقا لبحث عن أسباب للاحتكاك، وسنرى بسمارك في السنين العشرين القادمة متضجرا دوما متذمرا دوما، وسنعرف أن حس الاحتكاك في بسمارك ينطوي على سر الدوام في قوى هذا المناضل الحيوية، ومن شأن المنازعات الداخلية التي كانت تتجدد بلا انقطاع أن تجدد عزمه على الخصام في الخارج.
وفي عدم ملال بسمارك من الكفاح أعمق تفسير لزلاته، وبسمارك لنمو كرهه الناس مع السنين، وبسمارك لأنه لم يسطع أن يتنزل عن شيء لبقاء خصم أو ألمعية عدو، وبسمارك لأنه رغب عن المفاوضة بالتدريج، وبسمارك لأنه تدرج إلى الأمر والنهي، غاب عن عينيه ما طرأ على روح العصر من تحول، فكان غافلا عن أفكار الآخرين ورغائبهم وعن أفكار الطبقات الأخرى ورغائبها.
وفي الصلات الخارجية لم يقدر بسمارك الخصم بأقل مما هو عليه، فكان لا يزج إلا بقوى أعظم من قوى العدو وبمدافع أثقل من مدافعه وبمحالفات أقوى من محالفاته، وفي الداخل يبدأ بسمارك بمغامرات خطرة في الوقت العتيد، وقد تم الفوز لنظام بسمارك اللادستوري فزاد بسمارك ازدراء لقدماء خصومه وجددهم غير عالم أن هؤلاء الخصوم سيقهرونه في نهاية الأمر، وما كان من مدافع رون وبنادق مولتكه ونظام البروسيين المطيعين فحمل أوروبة على التجاوز عن وضع بسمارك القوة فوق الحق، ثم ينتقم منه قومه لوضع القوة فوق الروح.
ويقذف بسمارك أخلاقه في بلده، ويوفق بسمارك لجعل الريشتاغ عدوا له بدلا من أن يكون آلة في يده، وينجح بسمارك في جعل الأحزاب تنفر منه بالتناوب، حتى رسمه مصور معاصر هزلي مفترسا أولاده مثل كرونوس،
3
وفي الشئون الوطنية يعقد بسمارك - بواقعيته القاسية - محالفات وينقض أخرى كما كان يراه ضروريا في الحين بعد الحين في الأمور الخارجية، وكلما مر الزمن جعل بسمارك جميع طبقات المجتمع في شك منه ما انحرف في كل خمس سنين، وعند كل انتخاب، ضد طبقة من طبقات الأمة.
وعلى ما كان من إثارة عبقرية بسمارك لإعجاب جميع أوروبة ومن تحول هذا الإعجاب إلى إجلال؛ كانت سياسته الاستبدادية في البلاد تغيظ الشعب فيعجز هذا الشعب عن إدراك براعته في الأمور الخارجية، وبسمارك في الأمور الخارجية كان قادرا على الجلوس وحده ليلاعب الدول العظمى صامتا غير مسئول تجاه أحد غير الملك الشائب الذي كان يقطره بسمارك وراءه، وبسمارك كان يرفض بعض ما يطلب الريشتاغ عن ضغن على هذا الزعيم أو ذلك الزعيم، كما كان الريشتاغ يأبى الخضوع أمام إرادته عن حقد عليه، والرجل يمكنه أن يكون طاغية أو برلمانيا، والرجل لا يمكنه أن يكون طاغية وبرلمانيا معا.
وفي مساء كل سبت تزدحم بممثلي الأمة رداه منزل المستشار بسمارك ذات الرياش البعيد من حسن الذوق، وإلى هنالك يأتي بعض أعضاء المعارضة بفعل مغنطة خصمهم العظيم، وبانجذابهم إلى مائدته الفاخرة التي يجهزها بأطيب طعام وشراب، وهو يرحب بضيوفه بأدب جم وتبجيل مقصود، وهو يعرف زائريه شخصيا وإن لم يذكر أسماءهم دوما، فيحفزه هذا إلى أن يقول إن عينيه تعملان بضبط كبندقية عصرية وإن ذاكرته هي من البطء وعدم الدقة ما تشابه به بندقية زندية،
4
وإذا عدوت حسن السلام عند الوصول وجدت ارتفاع الكلفة، ولا يقدم أحد إلى آخر هنالك، ويذهب من يريد إلى دن
5
جعة ميونيخية فيفصد فوده
6
فيأخذ ما يود، ويندر أن تأتي سيدات فيقيدن حرية السهرة، فإذا ما حان منتصف الليل تكلم رب البيت أمام عدد كبير من الناس عن أمور مضت ووضع خططا للمستقبل منتحلا وضع الراصد بين رفقاء راغبين في الارتفاع إلى مستواه.
وهنالك تراه جالسا متكئا على كرسي طويل ممسكا غليونا
7
ألمانيا طويلا بيده اليمنى محاطا بجبل من الجرائد لا ينفصل عنه أبدا، ويتفرس في بضع عشرات من ضيوفه منتبها إلى خصومه منهم على الخصوص، وهو لا يحمل سلاحا ولو كان لابسا بزة عسكرية معتمدا على وجود حرس صادق قريب منه، وترى بجانبه كلبين دانيماركيين كبيرين رقيبين مستعدين للصراع شاعرين بأنهما في الخدمة في تلك السهرات البرلمانية تجاه تلك الوجوه المائة، أو الأكثر من المائة، التي لا تنم على حسن العاطفة، ويكتب صديق للأسرة قائلا: «إنه يأكل ويشرب كثيرا في تلك الأحوال، فإذا ما أحضر غليونه اتخذ وضع شيخ جليل بين تلاميذه.»
ولأولئك الذين هم مجتمعون حوله رءوس مختلفة ناشئة عن مصاير مختلفة، وهنالك رجل أهيف نحيف نشيط أحمر الوجه أسمر اللحية عالي الجبهة أصلع الجبين لامع العينين، ينم ما في ملامحه من ود وما في مظهره من جد على إنسانيته، وينم بعض أوضاعه وما في وجهه من ندبة كبيرة على أنه ضابط شريف، والواقع أنه جامع لهذه الأمور الثلاثة، واسم هذا الشخص هو رودولف فون بنيغسن، وهو من أحسن رجال دوره وأقدر رءوس عصره.
ورودولف هذا متحفظ شهم نبيل مخلص كرون، ورودولف هذا فطري متواضع وإن لم يبخس مقدرته الخاصة، ورودولف هذا قد برئ ليقود بلدا بأسره، وهو لتردده في دخول الوزارة في الأوقات الحاسمة تراه يخصص حياته لزعامة حزب يمثل فيه دور الوسيط المطبوع مروجا لهذا الحزب بما يلقيه من خطب نادرة جزيلة وبمواظبته على اللجان وبصلاته الدائمة بزملائه الذين يوفق بينهم في كل وقت. والحزب نفسه هو حزب وسط، هو حزب الأحرار الوطني، وردولف يشغل في هذا الحزب مكانا بين أقصى طرفيه.
وبسمارك يجد رودولف لينا إلى الغاية، وبسمارك ينفر من قوة عاطفة رودولف وقلة حماسته، وبسمارك على حق في عده رودولف ألمانيا خياليا أقدر على التفكير مما على العمل، ولا غرو، فقد عزم رودولف على الجلوس بين الطلاب في غوتنجن للتعلم ابنا للسبعين من عمره.
ورودولف هو ابن جنرال من سكسونية الدنيا، ورودولف هو ابن أسرة قديمة كآل بسمارك، والمستشار بسمارك يحمل له احتراما لهذا السبب، ورودولف قد غادر وطنه هانوفر من أجل ألمانية ومن غير أن يحب بروسية، وبسمارك الذي ضم هانوفر إلى بروسية يمكنه أن يدرك هذا، وبسمارك يدعو رودولف في الحين بعد الحين ب «الصديق المكرم»، ويقود رودولف أناسا لا يناضلونه بلا قيد عندما يرغبون عن اتباعه، ولا يفقه بسمارك أمرا كهذا وينعت بسمارك بنيغسن بالرجل الغبي عند حدوث ذلك.
وترى بجانب بسمارك رجلا أوعر من ذلك وأفتر، ويدل قوامه الطويل على ثبات عزمه، ويكون له بشعره الرمادي الأشعث طابع معين، وهذا الرجل العبوس الأنوف الصوال - كبسمارك - هو ولهلم فون كاردوف، وهو أصغر سنا من المستشار بسمارك، وهو إذا لم يلبس نظارته بدت عيناه العسليتان حادتين ثاقبتين كعيني بسمارك. ونحن إذا ما نظرنا إلى ملامحه البرونزية أبصرنا لون أنفه الأبيض الضارب إلى زرقة، فعلمنا أنه مصنوع؛ وذلك لفقده أنفه الأصلي في مبارزة قام بها أيام كان طالبا.
وقد وقف نظر بسمارك مزاجه واستعداده، وما فطر عليه من تصميم على أن يكون مستقلا فقد أنقذه من براثن بسمارك، وهو ببقائه مستقلا يمكنه أن يظل موائما لبسمارك مخلصا لآل صديقه حينما يولي الأشراف الآخرون وجوههم شطر الشمس الجديدة، وكان فكر كاردوف أكثر تنقلا من أبناء طبقته فأخذ مكانه بين أحزاب اليمين، ويرغب كاردوف - غالبا - في النزهة في الجو الحر مغامرا، ويتعلق كاردوف بالمبادئ الاقتصادية السائدة لشرق الإلبة، فيبدو ذا تأثير في انتحال بسمارك لسياسة الحماية الجمركية.
وتبصر يهوديا بين هؤلاء الألمان الأريستوقراطيين، فهذا اليهودي نحيف أسمر اللون مع قسمات مستدقة، واسم هذا اليهودي هو إدوارد لاسكر، وهو لدة بنيغسن، وهو كهذا الأخير قد تعلم الركوب والمسايفة حينما كان يعيش في ملك الأسرة، ولما كان لاسكر صبيا درس التلمود في مدينة صغيرة ببوزن، ونقل إلى العبرية نظما كتاب «تقسيم الأرض» لشيلر، ولذا لا عجب إذا ما غدا من فوره منافسا لبنيغسن كمحام بارع ورجل حصيف وزعيم للحزب الجذري،
8
وهو أفضل من بنيغسن ناقدا ومجادلا وخطيبا، وكان قيام دولة دستورية مثله الأعلى على حين كان بنيغسن يميل بمثله الأعلى إلى قيام دولة وطنية، وكانت له ميول اشتراكية، ولكنه لم يكن دون بنيغسن وطنية، وكان إيجابيا في أهدافه، وكان رجلا ذا مطالب قليلة، وكان ذا مزاج استبدادي، وكان مضادا لبسمارك لهذا السبب، وبسمارك هو الذي كان يفضل أن يرى حوله أناسا سمانا لينين على أن يرى حوله رجالا نحافا غيورين.
ورجل من عرق لاسكر وحزبه يستمع إليه مرتابا مصفرا، وهذا الرجل هو لودفيغ بانبرجر، وهو شيخ ضيق الصدر مدور الكتف، ومن ينظر إليه في هذه الأيام حين صار نحيفا منهوكا لا يصدق أنه كان نشيطا في سنة 1848، أو أنه كان ذا قوى بدنية، أو أنه استطاع أن يمثل دورا في الحياة العملية ولو كان صغيرا، ولا بد من أن يكون قد أبدى غيرته في حقل البيان وحده.
ولكن لودفيغ بانبرجر وإن كان مسلولا دخل صفوف الجذريين بحماسة، وهو لما قام به من أفعال فيما مضى فر من بروسية مفكرا في الذهاب إلى أمريكة، ثم بقي بلندن في نهاية الأمر عائشا عند أقرباء أغنياء، ويعين موظفا ثانويا في مصرف لهؤلاء حينما كان في السادسة والعشرين من سنيه، ويغدو غنيا وينتقل إلى باريس وتلقي روحه الجوالة مرساها في مدينة النور هذه حيث يفتنه الذكاء الفرنسي والأسلوب الفرنسي والتهكم الفرنسي وحسان فرنسة، وفي باريس تفتح له جميع الأبواب نصيرا للفنون.
وهذا الرجل لما كان من تمثيله دورا فعالا في الحياة؛ صار يعد الحياة مسرحا لا يظهر فيه إلا عندما يكون طيب المزاج، وهو إذ كان امرأ لا وطن له، وهو إذ كان ضيفا مقبولا لدى كل حضارة؛ صار عارفا باللغة الفرنسية تكلما وكتابة كما يعرف لغته الأصلية، ووجد لمواهبه المرنة في الملاحظة والاشتراك مجالا ملائما في باريس. ويعود إلى ألمانية بعد الهدنة ويصبح من الأحرار الوطنيين، ويقف موقف الحياد تقريبا ما دامت الحرب قائمة، ويكتب إلى مراسل صديق قوله : «في باريس تتفتح زهرة الروائية الكاثوليكية، وفي فرساي حيث المقر الألماني العام تتغلب جذرية طريف، وتبدو باريس حصن الباستيل الذي فتح عنوة، ويمثل فافر وغنبتا مبدأ الشرعية، ويمثل ولهلم وبسمارك مبدأ الثورة.»
ويدعى إلى المقر العام مع كل ما تقدم؛ وذلك لميل بسمارك إلى الإفادة من معرفته الكبيرة في أمر البنوك، ويخلو بانبرجر من الغرض فيصف بسمارك بقوله: «إنه مزيج من الفارس ستيوارت والملازم البروسي والشريف الألماني ودون كيشوت الإسباني.» والآن - كما في المستقبل - يعترف بانبرجر بعظمة المستشار بسمارك وإن لم يسطع بسمارك أن يطيقه.
وهنالك رجل يكرهه المستشار بسمارك أكثر من كرهه لبانبرجر، وهو رجل شاب ملتح، وهو لا يزوره إلا نادرا. ولنا أن نعتقد أن بسمارك لا ينام في هذه الليلة لأن الرجل أوجن ريشتر واقف خلف الآخرين قليلا، ولأن بسمارك يحدق إليه من خلال نظارته اللامعة متقصيا ناقدا، وريشتر يتصف بالصحة والفتاء وحب النضال فيقف نظر بسمارك الشائب ويثير غيرته.
ولريشتر وقوف صادق بالأمور، وريشتر نزيه، وريشتر يلزم مبادئه بلا هوادة، وريشتر هو ضحية بسمارك في سنوات الصدام. وريشتر يعزل من منصب عميد الناحية ويمنع من الوظيفة ومن راتب شيخ البلد؛ لأنه كتب ينتقد تصرف الشرطة الاستبدادي، ويصير ريشتر صحافيا ويعارض لاسال لمفاوضة لاسال لبسمارك رأسا، ويميل ريشتر إلى الشيوعية، ولا يريد ريشتر لنفسه شيئا ولا يطالب بسلطان، بل يبغي تقدم القضية، ويرقب ريشتر بسمارك بعد سابق رقابته لاسال، ولا يحط ريشتر من قدر الشرفاء أكثر مما يحط به قدر صاحب المقام العظيم الشريف بسمارك؛ ولذا يغادر بسمارك البهو عندما يبدأ ريشتر بالكلام.
ويقرأ بسمارك نقد ريشتر في الصباح عند تناوله طعام الإفطار، ويوجه هذا النقد مثلا إلى أمر خاص بالجيش معزز بالأرقام كاشف لبعض الأمور، ويهرع بسمارك إلى الريشتاغ ليرد الضربات فيقول: «إن من دواعي الأسف أن يعيش الهر ريشتر في البيوت وبين الجرائد فلا يعرف عن الحياة العامة إلا قليلا، ولا يعرف هذا الأوتوقراطي من الحزب الديمقراطي غير المبالغات وبث الأراجيف.» وهنالك يتخذ ريشتر وضع المهاجم الهادئ فيقول : «وهل السيد مستشار الريخ يعرف؟»
ومن المحتمل أن كان المستشار الإمبراطوري بسمارك يبصر وراء ذلك الضيف ظلي رجلين آخرين كطيفين، كشبح بانكو
9
حول المائدة، ويفضل ذانك الرجلان عدم المجيء إلى هنالك أبدا؛ وذلك لأنه وإن لم يقع معهما نقاش يشعر بحقد عميق بين عالمين لا يوفق بينهما: «أنا» أو «أنت»، وأما «نحن» فأمر متعذر، ويمكن أحد الخياليين ولهلم ليبكنخت أن يعد من الأجداد ما يعد بسمارك، وإذا ما صنع هذا أوصل سلسلة نسبه إلى رجل أشبه ببسمارك مما بأجداد بسمارك الفرسان النهابين، إلى لوثر، كما يستطيع أن يوصل نسبه إلى كثير من علماء ألمانية الذين ورث عنهم أفكارا وحبا للبحث، وقضى أورفاند شبابا شديدا، وكان يمكن هذا الطموح أن يكون سهل العمل في وقت مبكر لو اقتفى آثار الآخرين من أبناء طبقته ووقف عند تقاليدهم! ولكن عمرته
10
تنطوي على نحلة فيريد الخير لجميع البشر لا لطبقته فقط؛ ولذا نفي في العشرين من عمره كشيوعي، وإليك زوريخ، وإليك باريس، وإليك سنة 1848، وإليك فتنة بادن، ويرفع راية الجمهورية ابنا للثانية والعشرين، وهو لم ينج من الموت رميا بالرصاص مع شركائه في المؤامرة إلا مصادفة، وقد حدث بعد سبعين سنة أن قتل ابنه؛ لأنه اشترك في تأسيس الجمهورية.
وأي حياة يقضيها مثل هؤلاء الرجال! هم يرون أنفسهم أمام قضاة معادين دوما، هم يحيط بهم سجانون عاطلون من العاطفة، هم يحشرون في حجيرات ضيقة، هم لا يعرفون الحرية في غير الخارج، هم يؤدون رسالتهم في وطنهم الذي يحبونه محبة الشرعيين له مع ذلك. ولا ريب في أن على أعصاب بسمارك أن تعاني كثيرا من الهموم في أربعين عام خصام، وقد سمعنا الشيء الكثير عن حسرات هذا المهيمن الذي خلق ليسود.
وهو يغدو مع ذلك ذا رخاء في أحوال حياته المادية يوما بعد يوم وعاما بعد عام، وهو يصبح مع ذلك مالكا لقصور وغابات، وهو يستطيع مع ذلك أن يقيم مآدب فاخرة مشتملة على ما يلائم شهوة طعامه، وترى الملك والشعب يمطرانه بضروب الهدايا والإكرام ، واسمع الآن ماذا قال ليبكنخت لقضاته بأنفة: «أراني فخورا إذا ما بقيت حتى الآن فقيرا بعد نجاح لا مثيل له.» والحق أن ليبكنخت عاد إلى ألمانية معسرا بعد نفي اثنتي عشرة سنة، والحق أن حياة ليبكنخت لم تنر بغير الروح، فلا مال عنده ولا سلطان، ولا يملك سوى الإيمان.
ولو حدث أن التقى الرجلان، بسمارك وليبكنخت، على طريق غابة بعيدة من غير أن يكونا متعارفين سابقا لساد الاتفاق بينهما؛ فكلاهما محب للشجر وكلاهما عالم بالطير، وكلاهما مولع بوطنه ألمانية، ولكن المثالي لم يعتم أن وصم بأنه شغوب،
11
ولكن الساخر لم يعتم أن عرف المؤمن، ولكن الحاسب لم يعتم أن أبصر الحالم، وإذا كانت الطريق ضيقة لم يدع أحدهما الآخر يمر، ولا أحد منهما يود الرجوع إلى الوراء، ولا مناص من تضاربهما، فكل واحد منهما مستبد.
وأوغوست بيبل أقل من مستبد، ولا تجد في شجرة نسبه ثوريا ولا خيريا، وإذا نظرت إلى تراثه أبصرته طيعا، فهو قد ولد في حصن، وهو ابن لملازم ثان، والنظام هو ما يجب أن يكون فارسا له، ولا شيء غير التعطش إلى المعرفة يقود تلميذ الخراط إلى جمعية تعليم العمال، وهو إذا ما صار هنالك ذات مرة تمكن بذكائه النير من إدراك السبب في سوء وضعه هو ومن على شاكلته، والسخط يحل عقدة لسانه، ويحرض الرفقاء ويصل إلى الريشتاغ ويحاول متابعة أعماله، وبسمارك هو الذي يعد له فرصة توسيع دراساته، فلما حكم عليه بالسجن في قلعة، وقد ولد في قلعة فلم يرهبه ذلك، اجتمع بسجين آخر، اجتمع بليبكنخت الذي هو أكبر منه سنا، ومن هذا الرفيق تعلم الأسس النظرية للقضية التي جاهد في سبيلها بعاطفته فخسر حريته من أجلها، ويقضى على ليبكنخت وبيبل بالسجن سنتين، ويرى بيبل في هذه المدة ما يكفي لوقوفه على تعاليم كارل ماركس الذي تخرج عليه ليبكنخت في لندن.
ويظل ابن الشعب عمليا جبليا أكثر من سليل العلماء، ويكون ذكاؤه أعظم وأوضح، وتكون قوى النقد فيه أبسط وأقبل عند الشعب مما لدى صديقه الجديد الذي ظل شديد الارتباط فيه على الدوام، وكلا الرجلين أخ في الإيمان، وكلا الرجلين أخ في التضحية، وكلا الرجلين أخ في مجازفته بحريته وصحته، وفي الحين بعد الحين يألم بيبل الذي قضى أكثر من خمس سنوات في السجن من الأرق نتيجة لارتجاج أعصابه، ويقول بيبل: «إذا وقع ذلك فكرت في بسمارك الذي ألم أيضا من الأرق ومن الأوجاع العصبية.»
والأشباح تزول، ويستأذن الضيوف ويصافحون صاحب المنزل وينصرفون، وينهض من كرسي ذي ذراعين رجل قصير القامة بعد أن لبد به في جميع السهرة، ويسير بخطا صغيرة نحو المضيف، فيبدو قزما بجانب عملاق، ويمكن يدي العملاق أن ترضا يدي القزم، ويمكن يدي القزم أن تتغلبا على يدي العملاق بقوى سحرية، ويحيي كل من الرجلين صاحبه بوداد بدلا من ذلك، ولكن العملاق يتكلم وقت الفراق ليظفر بنبوءة من القزم، واسم القزم هو فيندهورست، ويعلو جسمه المثير للرحمة رأس كبير، ويتصف بفم عريض لا يفتحه إلا نادرا، ويرمق الخواء
12
بعينيه الشهباوين
13
الغائرتين ومن خلال نظارته الثخينة، وينظر بسمارك خافضا ناظريه إلى هذا القزم المدخل يده اليمنى إلى صدر معطفه الأسود، ويبصر بسمارك نور الذكاء على ملامحه، فلما تكلم القزم مجيبا كان ذلك بصوت ثابت غليظ إذا ما قيس بصوت بسمارك العالي الرقيق.
والقزم، لضعف بصره كان يرهف أذنيه وذاكرته مضاعفا، وفي الريشتاغ يمكن القزم أن يعرف صوت كل من يتكلم من فوق المنبر وأن يضمنه ملاحظة، والقزم إذا تكلم كان ذلك من رأسه وبلا مفكرة، فيوفق لجعل الخصم محل سخرية في آخر الأمر لا ريب، وللقزم كل الفائدة من كونه سليل سلسلة طويلة من الفقهاء، وما كان من صغر جسمه وضعف باصرته الموروث فقد حفزه إلى تدريب ذهنه ليقوم مقام النقص في بدنه.
وهكذا، درس الشاب فيندهورست مثابرا في غوتنجن حيث كان ينفق بضعة قروش ثمنا لغدائه، وحيث كان معتدلا إلى الغاية، وذلك حين كان الشاب بسمارك معتمدا في ذلك المكان على قواه البدنية وعلى شجاعته مبذرا مال أبيه المعسر، وقد نشأ عن ذلك أن صار فيندهورست قاضيا في محكمة الاستئناف العليا في الثلاثين من عمره، وذلك حين كان بسمارك يحاول أن يؤثر في كونتسات بوميرانية بلهوه وركوبه الخيل، وما إلى ذلك من الأمور المؤدية إلى الكوارث.
ويروي أصدقاء فيندهورست أنه كان متدينا مع تسامح، وأنه كان من المجون المقبول ما لا يمثل معه دور رسول، وما كان لينقطع تنكيته الذي لا يلبث في أثناء الجدال أن يشتد فيتحول إلى هزوء حتى بما هو خاص به، وما كان يكف عن السخرية من «جسمه الصغير» و«دمامته» ضاحكا من هذين العيبين.
وكان كلفا بالموسيقى الخفيفة، وكان يناكد النساء منتحلا مثل مزاح القباح من مضحكي قديم الأيام، ولكن مع عطل من مثل خبثهم التقليدي، ومظهرا لضعف أمثاله إظهارا صحيحا مع عدم ازدراء لهم كما يصنع بسمارك، ومن المحتمل أن كان ذا كرامة كالمستشار، وكان يعد مستبدا في الحزب السياسي الذي يرأسه، وكان يميل إلى عد نفسه رجل دولة، وكان مع ذلك رجل دولة أقل منه برلمانيا ومحاميا كما قال صديق له.
وكان ضمن هذه الحدود دربا لا مثيل له، وكان يبدو لا بدن له تقريبا، فلم يحتج لحماية بدنه إلى إقامة الدليل على شجاعته كبسمارك، فكان يلوح أنه ممثل للسلطان الروحي، وكان يبالغ في الحذر فلم يكد يكتب رسائل، أو كان يضرع إلى المرسل إليه أن يمزقها حالا، وهو لعدم لبسه مسحا
14
كان له الخلاص بتواضعه.
وكان يمكنه أن يكون مكافحا من غير احتياج إلى حرارة رسول، وكان عليه في دورة اجتماع الريشتاغ أن يقضي أيام الأحد في برلين، فيذهب في صباح كل أحد إلى كنيسة القديس هدفيغ ثم يزور بليشرودر، وإذا نظرت إلى الطريقة التي يقضي بها فارس الإيمان الدنيوي هذا يوم الراحة وجدتها من طراز خاص، ولكن من غير محاولته اقتناص شيء لنفسه.
وفيندهورست وحده هو الذي كان ذا أثر شخصي في بسمارك؛ ولذا لم يشف هذا البطل المقهور من غلبه، قال بسمارك: «ليس الحقد أقل دفعا من الحب في الحياة، فكل من الشخصين - زوجي وفيندهورست - ضروري لي.»
الفصل الثاني
تتراكم الغيوم المتوعدة في الأجواء نتيجة للانتصارات الثلاثة، ويعرف بسمارك الأخطار القادمة في الحين بعد الحين فيعتقد قدرته على اتقائها، وكان ملك بروسية قد قال منذ عشرين عاما إن بسمارك يصلح أن يعين رئيسا للوزارة «في وقت يكون الحكم فيه للحراب.» ومنذ عشر سنين يسلم الملك الحاضر مقاليد ذلك المنصب إليه مع الارتياب، راغبا في رجل قادر على تدبير أمور الوطن.
وبسمارك من ذلك الحين سار جبارا في الخارج فنال ثلاثة انتصارات، وهل نعجب بعد ذلك من عودة هذا الرجل إلى نقطة الابتداء فيرى في نفسه من القوة ما يمثل به دور الطاغية؟ وهل نعجب من أن الحبوط سيكون نصيب هذه المحاولة؟ وهو إذ كان فخورا بتحرره من كل مذهب لم يوفق لمعرفة ما في عدم استناده إلى أي مبدأ فلسفي من خطر، وهو إذ كان مزدريا للأحزاب الكثيرة المتصدية له لم يوفق لملاحظة عدم وجود حزب يدعمه، وهذا الباني العظيم إذ رجع غضا من ميادين القتال عاطلا من مبادئ اجتماعية أساسية، لم يبد أهلا لتنظيم داخل بيته.
وفي اعتداد بسمارك بنفسه أعمق سبب لحبوطه، وبسمارك إذا ما فكر حول الدول وجد نفسه تجاه خصوم في مثل وضعه، فكان أمره كلاعب الشطرنج الذي يرى أمامه من القوة ما يجب عليه أن يداوره ويقضي عليه، وبسمارك إذا ما كان عليه أن يعالج شئون الوطن بدا واثقا قبل بدء اللعب بأن الغلب له على خصومه معرفة ونشاطا وكيدا، وفي الخارج دول كبيرة عليه أن يقهرها، وفي الداخل أناس صغار لا يجرءون على الجواب، وفي الخارج يقف بسمارك بين أمثال يحق لهم أن يكونوا خصوما لألمانية، وفي الداخل لا يدرك أحد ما هو ألماني خيرا من بسمارك، فلا ينبغي لأحد أن يعارض خطط هذا السيد التي تؤدي إلى عظمة البلاد ولا أن يزعم وجود ما هو أصلح منها.
وبسمارك يكون متفننا حول وضع ألمانية في أوروبة، وبسمارك يكون طاغية حول المسائل الاجتماعية الأوروبية إذا ما لاحت في ألمانية، وبسمارك إذ كان متعودا توجيه ذهنه إلى عظائم الأمور لا إلى الأفكار، وبسمارك إذ كان متعودا تقدير الأمور الحربية لا المدنية؛ تجده منوعا مقيما سلطانه المطلق في الداخل على صخرة من برونز.
وأول عراك يقع بينه وبين الكنيسة.
فمما وقع ذات يوم في فرساي أن واجه المستشار أسقف مايانس، وكان هذا الأسقف من ذرية أشراف الكاثوليك، وكان لابسا حلة الكهنوت فيقابل الشريف اللوثري اللابس بزة عسكرية، ويريد الأسقف إدخال بضع مواد إلى دستور الريخ حامية للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فلما عجز عن نيل ما يود حول الحديث إلى العقيدة:
الأسقف: «تكون الضمانات للكاثوليك بعد الموت يا صاحب الفخامة أعظم مما لسواهم.» صمت وتبسم. «أو أنتم تفترضون أن الكاثوليكي لا يمكنه إنقاذ روحه.»
بسمارك البروتستاني: «لا ريب في نجاة الكاثوليكي العلماني،
1
ولدي ريب في خلاص الإكليريكي؛ فهو قد اقترف خطيئة تجاه الروح القدس، ويدينه نص الكتاب المقدس.»
ولا يجيب الأسقف عن هذه الدعابة بغير الانحناء ساخرا، ويتفرس كل من القطب السياسي اللابس بزة جنرال والأسقف اللابس حلة الكهنوت في الآخر باسما، ولكنه كان يستتر تحت ابتسامة بسمارك الرياضية مشاعر داوية مضادة للكاثوليك، وبسمارك في الوقت نفسه كان يفكر في دعوة البابا، الواقع الآن تحت وعيد «ملك اللصوص» إلى كولونية أو فولدة معتقدا «أنه لا شيء يمكنه أن يبدد أوهام الألمان وينير بصائرهم بسرعة أكثر من مشاهدتهم مطبخ الكهنوت في قبضتهم».
ومن خلال ذلك، ومن خلال غير ذلك، نبصر قلة فهم بسمارك للقوى الأدبية، أجل إن بسمارك كثير الاطلاع على التاريخ، ولكننا نجد نقصا في وقوفه على تاريخ الكنيسة.
والحق أننا لا نعنى هنا ب «محاربة الظلام»؛ أي بالكفاح بين ثقافتين مختلفتين، أي بين ثقافة الكنيسة الكاثوليكية وثقافة الدولة العلمانية، فبسمارك كان يجاهد في سبيل السلطان، لا في سبيل المبادئ التي حول أفكاره حولها في السنين العشرين الأخيرة تبعا للأحوال، وبسمارك كان متسامحا في الأمور التي لا أهمية لها مع ذلك، وبسمارك كان لا يناهض الكنيسة إلا كصاحبة سلطة، لا لأنها دليل ثقافة خاصة، وبسمارك كان يبدو عدوا لها حينما يراها تضعف دولته، وبسمارك كان يبصر حدوث ذلك الكفاح منذ عشرين عاما.
وبسمارك صرح في فرانكفورت بأن مكافحة «روح الفتح في المعسكر الكاثوليكي» أمر لا مفر منه منذ أصبح العهد النمسوي يأتي بأعداء بروسية إلى هذا المعسكر، وبسمارك بعد أن ارتقى في سلم السلطة وصف في الفاتيكان، كما يعرف بأن «الشيطان تجسد فيه»، وقد قال فيندهورست بعد زمن: «إن محاربة الظلام ترجع إلى معركة كونيغراتز»، ومن الواقع أن خوارج البروسيين المدثرين بثياب الإكليروس، ولا سيما قسيس برلين، قالوا وكتبوا: «إن على أوروبة ومنها تركية أن تدين بالبروتستانية!»
بيد أن الأزمة لم تظهر إلا بعد عقد المجمع البابوي في رومة وتركيز جميع سلطات أوروبة الكاثوليكية هنالك، فلما حل منتصف شهر يوليو سنة 1780، وكانت الحرب في مرحلتها الأولى، أعلنت عصمة البابا فكان هذا طعنا لمشاعر بسمارك وخططه؛ فما كان بسمارك ليطيق أن يدعو إنسان نفسه بالمعصوم، ولم ذلك وهو الذي لم يعتقد عصمة نفسه؟ ومن الفظاعة أن يتبع قسم من ألمانية سلطانا أجنبيا، وهو عندما انطلق إلى فرنسة أنذر أساقفة الألمان بعدم الموافقة وأنذر البابا بألا يأتي أي إكراه كان، وهو في الوقت نفسه أعرب عن قصده في حماية الدولة تجاه سلطان رومة، وإلا «عدت الحكومة الأساقفة موظفين لدى سيد أجنبي».
وهنالك - وفي إبان الحرب - جعل أصحاب فيندهورست من حزب الوسط حزبا كاثوليكيا مجاهدا، ويعجز بسمارك عن إقامة كنيسة ألمانية كاثوليكية فيتخذ خطة الهجوم من فوره، ويمنع رئيس أساقفة كولونية طلاب بون من حضور دروس علماء اللاهوت من الأحرار، ويصرح بسمارك ببطلان هذا النهي، وبسمارك لكونه باني الإمبراطورية، وبسمارك فيما كان جادا في ذلك يسم النزاع الكنسي بسمة الهجوم على الإمبراطورية فيصر على قوله إن رومة هي مركز لالتقاء جميع أعداء الريخ، وبسمارك عند رجوعه إلى الوطن يجد أن الحزب الجديد يتألف من سبعة وخمسين رجلا، وأن جميع الساخطين يلتفون حوله.
وهنالك ما يستفز من هو أهدأ من بسمارك ، وبسمارك قضى عشرين سنة مفكرا في عمله، وبسمارك قاتل ثماني سنين في سبيل عمله، وبسمارك - أخيرا وبعد أسابيع إعياء - سير السفينة إلى مرفأ متحديا الرياح المعاكسة. وبسمارك الآن يصل إلى الوطن ليجادل الشعب تعبا مضنى منهوك الأعصاب، وماذا يجد؟ يجد عصبة مؤلفة من نواب الأمة المعادين يجمعهم إيمان ديني واحد، ويرأسهم رجل بعيد من ألمانية، فلا بد من خصومته لإمبراطور ألمانية اللوثري الجديد نادبا الإمبراطور الرسولي القديم، وهل يغيب عن المستشار المرتاب الذي أبصر إمكان انهيار عمله أن يرى تلك الجماعة حاملة مطارق خفية معدة لتحطيم ذلك البناء الذي شيد بمشقة؟ ومن ذا الذي يطالب صاحب مزاج حاد أن يكون منصفا في مثل تلك الحال؟ هو يعزم على حماية عمله مشبعا من روح ميدان الحرب فيخطئ تقدير مدى قذيفته، فيرمي بها سلطة رومة العظمى فلا يؤذيها كثيرا، وذلك بدلا من أن يصيب بها تلك الزمرة من كاثوليك الألمان، وما فطر عليه ذلك الفاتح من مزاج مكافح وما يساور ذلك الباني الواقعي من هم فيوضح خطأه في تقدير أمر حلف كاثوليكي ضد إمبراطوريته الفتية وتخوفه منه.
وليس ذلك الحزب وحده هو ضده في الحقيقة؛ ففي الداخل يتألب عليه الغلفيون والبولونيون والألزاسيون، وفي الخارج يتضافر عليه النمسويون والفرنسيون، وتتفاهم الديمقراطية الاشتراكية، الفتية فتاء الإمبراطورية والضعيفة ضعف أوروبة، هي وحزب الوسط ذلك، ومن بين جميع «أعداء الريخ» ترى حزب الوسط وحده هو «أول من يبرز في الميدان» ويزيد الارتباك بما كان من اعتراض بعض علماء اللاهوت في الجامعات الألمانية (ومنهم الكاردينال هوهنلوهه) على مبدأ العصمة، وبما كان من مؤازرة ملك بافارية الكاثوليكي لاحتجاجهم، وبما كان من لوم رومة لحزب الوسط الألماني. ومن الزعماء أناس خضع لم يبالوا بالأمر مع الشغب، ومنهم سافينيي الذي عطل بسمارك طموحه منذ بضع سنين.
ولكن أفكار بسمارك المكونة سابقا ونزوات مزاجه ليست كافية لحمله على اتخاذ قرارات بعد ذهاب سورة غضبه الأولى، وبسمارك لم يفعل ذلك إلا بعد أن حسب النتائج السياسية لما يريد أن يصنع. ويقدر بسمارك أنه إذا قام بتلك الحملة قوى المناحي اللاإكليريكية في إيطالية الجديدة وفصل إيطالية عن فرنسة، وأمكنه تقوية الصلات بين ألمانية وروسية ما دامت روسية معادية لرومة على العموم ولقساوسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المثيرين للفتنة في بولونية على الخصوص. وقد تجعل هذه السياسة ولي العهد وديا في البلاد، وقد تتغلب هذه السياسة على تذمر الأحرار من الدستور؛ وذلك لاتخاذ ولي العهد والأحرار فلسفة عقلية نبراسا لهم فلا يودون أمرا أكثر من مكافحة الكنيسة.
ولم يتمالك بسمارك أن بدأ حملته بعد إمضاء معاهدة الصلح في شهر مايو، وذلك بصولة تذكرنا بما يقع في المعسكر الحربي، ومن بيان بسمارك غير الرسمي: «ستقرر الحكومة الألمانية بعد قليل قيامها بعمل عدائي ... وكان الشعور الألماني في ألمانية منذ ثلاثمائة سنة أقوى من شعور الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وشعور مثل هذا هو أشد في الوقت الحاضر مما كان عليه في ذلك الحين ... وذلك لأن رومة عادت لا تكون عاصمة للعالم، ولأن الذي يضع على رأسه التاج الإمبراطوري الألماني هو أمير ألماني لا إسباني.»
ولم يرد بسمارك في ذلك الوقت فصل الكنيسة عن الدولة فصلا غير مقيد، وإنما كان يرغب في اتخاذ «وضع دفاعي قوي تجاه اعتداء الكنيسة الكاثوليكية»، وهو لكي ينفذ هذه السياسة يدخل إلى الريخ في بدء الأمر «فقر المنبر» التي تجعل كل جدال حول أمور الدولة من فوق المنبر جرما يعاقب فاعله بالسجن.
ثم يندفع بسمارك إلى الأمام فيصدر ببروسية في عام أو عامين «قوانين مايو» التي كانت لها نتائج مهمة، فيلغي بسمارك الفرع الكاثوليكي من وزارة الديانة والتعليم ويمحو من الدستور ما فيه من نصوص ملائمة للكنيسة، ويتدخل في إدارة الأسقفيات وفي أمور التعليم الديني في المدارس، ويطرد اليسوعيين ومن إليهم من أصحاب الطرق خارج بلاد الريخ، ويجعل الزواج المدني إلزاميا، ويتوعد العند بالإبعاد والغرامة الاعتقال والحبس ومصادرة الدخل.
ويجرد أديارا كثيرة من الرعاة، ويلقي بسمارك بذور الشقاق بين الأساقفة والقساوسة، وبين العلمانيين والشمامسة، ويوقع الشر بين أبناء الأسر، ويعرض للخطر وجدانات الأقسة والنسوة والطلبة والطبقة الوسطى، وتلوح الفوضى في المشاعر والمصالح. وهكذا، يتحقق وعيده على وجه يخالف ما أبصره، وهو: أن يقيم العالم ويقعده.
وصرخ بسمارك مخاطبا خصومه: «لا تضطربوا، فلا نذهب إلى كانوسا
2
جسما وروحا!» وسيأسف على هذه الكلمات التي لم تلبث أن طارت من ألمانية إلى فوق جبال الألب، ويشبه أمير كنسي حكومة ألمانية بالرجل الذي يدخل نهرا من غير أن يعرف عمقه، فكلما تقدم هذا الرجل إلى الأمام وجد هوى غير منتظرة، ووصف آخر بسمارك بأنه «مبيد الثعابين».
ويذكر فيندهورست ما أصاب قدماء النصارى من الاضطهاد، ويعلن أساقفة بروسية معارضتهم «لمبادئ دولة وثنية»، ويمنع البابا كاثوليك الألمان من إطاعة القوانين الجديدة، ويصعد بسمارك فوق المنبر ويقول هائجا بما لا عهد له بمثله:
ليس الأمر مكافحة أسرة بروتستانية ضد الكنيسة الكاثوليكية، وليس الأمر نزاعا بين الإيمان والكفران، وإنما الأمر يقوم على الصراع حول السلطان، وإنما الأمر يقوم على قتال قديم قدم الجنس البشري، على قتال بين النظام الملكي والنظام الإكليريكي للوصول إلى السلطة، على قتال بدأ قبل ظهور منقذنا «يسوع» بزمن طويل جدا، على قتال في سبيل الحكم أثاره أغاممنون
3
في أوليس
4
ضد عرافيه فكلفه هذا حياة ابنته وعوق هذا انطلاق الأغارقة على قتال ملأ جميع تاريخ ألمانية، فختم في القرون الوسطى بقطع رأس آخر ممثل لآل أباطرة السؤاب بفأس فاتح فرنسي حليف للبابا،
5
وكاد الوضع يتطلب مخرجا للقتال مثل هذا مع ملاحظة التحول في طبائع الزمن، ولو أسفرت حرب الفتح الفرنسية التي يطابق أولها ما نشره الفاتيكان من مراسيم عن نصر لفرنسة، فمن ذا الذي يستطيع آنئذ أن ينبئنا بما يقال في حقلنا الروحي بألمانية عن أعمال الرب على يد الفرنسيين؟
وهكذا ترى بسمارك الحذر في إلقاء الكلام على العموم يقذف بكلمة القتال أمام مستمعيه كاشفا عن السبب الحقيقي والزيف التاريخي للوضع مع القياس الرائع، وليست الثقافة موضع بحث، فلم يتكلم عن «مكافحة الظلام»؟
ولعوامل مختلفة يدافع عن القضية ذاتها خصم بسمارك القديم وحليفه الجديد فيرشوف الذي انتحل كلمة «مكافحة الظلام » مستعيرا إياها من لاسال، قال فيرشوف: «تؤدي البروتستانية في روح البحث الحر إلى فتح أوسع الآفاق في كل جهة للجنس البشري، وتدفعنا البروتستانية إلى العمل المستقل. ادفعوا أساقفتكم إلى حرية أكبر مما هو واقع، وادفعوا موظفيكم إلى نشاط أعظم استقلالا مما هو حاصل؛ تروا تحول جميع ذلك، وعليكم أن تقاوموا ذلك النظام الروماني المضاد للنظام الألماني. وإذا كنتم تجدون أن من حقكم جعل الروحاني شاملا للزمني ... قضيتم علينا بالهلاك وحولتم تقدم ألمانية إلى هباء!»
آلحرية والعلم؟ ألم نسمع منذ هنيهة قولا عن الكفاح في سبيل السلطان؟ اليوم كما كان الأمر منذ عشر سنين تبصر عالمين مختلفين، تبصر فيرشوف وبسمارك متفقين في أثناء رقص مقنع على قفز سياسي بالذكاء مبرقع، والآن تشاهد أحد زعماء حزب الوسط المنافح مالينكرود ينهض ويرد ذلك الطبيب البليد: «إذن، أين تثبت قوى البروتستان العقلية العظمى نفسها؟ من المحتمل أنها تظهر نفسها في الارتباك المتأصل بينهم والصادر عن وجود رأي خاص لكل واحد منهم حول الحق! وأما نحن فتقوم قضيتنا الأساسية على كون الكنيسة ممثلة للحق. والكنيسة إذا ما انتهت إلى قرار وجب الاعتراف بأن قرارها هذا مطابق للحقيقة. وبهذا يتجلى الفرق بين مبدئنا في الرئاسة ومبدئكم في الحكم الفردي؛ ولهذا تروننا منذ دخول القرن التاسع عشر لا نزال أقوياء متحدين في العالم، على حين تبصرون - متفجعين - تفتت حجارة بنيانكم!» وماذا يمكن مستشار الريخ بسمارك أن يفكر فيه عندما يقرأ هذه الخطبة؟ أفلا يشعر بأنه أوثق عروة بهذا الخصم مما بحلفائه؟ يحمل هذا الكاثوليكي طابع بسمارك في أسلوب بيانه، وهو يرمي فيرشوف بالكلمات التي كان على هذا الطبيب أن يسمعها من بين شفتي بسمارك في أثناء الصدام.
ويقاتل الفارسان ببراعة، وتبلغ خطبهم حول «مكافحة الظلام» قمما في السياسة الألمانية، وفيندهورست هو الذي يخرج فائزا على الدوام، فلما عيره بسمارك ذات مرة بأنه غلفي
6
مغيظ، محذرا الوسط من هذا الزعيم الحزبي المعادي للريخ محدثا مع السخرية عن خشوع هذا النصراني الهانوفري وعدم إحساسه أجابه فيندهورست بقوله: «إنني كثير العيوب، ولكنني بريء من شائبة الهياج في المناقشات البرلمانية، وهنا ترون أنباضي
7
ستين في الدقيقة الواحدة كما هي خارج جدر البرلمان، ثم إن الخصم المحترم يلوم الوسط؛ لتعلق شخصي الصغير به، أفينطوي هذا على إطرائي أم على تعزيري؟»
ولما قال فيندهورست إن بسمارك يريد نقل معظم سلطان الدولة إلى البرلمان أمسك بسمارك الكأس التي أمامه على المائدة مضطربا، ولم يتمالك أن شرب ما فيه على عدة مرات بسرعة عازما على الجواب، ويواصل فيندهورست كلامه قائلا: «إذا ما طردت الكنيسة من المدارس فمن ذا الذي يقوم بالتعليم الديني بدلا منها؟ وهل الدولة أهل لهذا الأمر؟ وهل لديها من الوسائل ما تنجزه به؟ وإذا كان الأمر كذلك فدعوني أطلع على كتاب الدولة الديني الجديد، ألا إن هذه الدولة ستكون دولة وثنية أو دولة بلا رب، أو دولة إلهة في الأرض.» وهنالك لم يرد بسمارك أن يجيب أو لم يقدر على الجواب، وإنما اكتفى بقوله متأثرا: «لقد أدليت بأدلتي حول المبدأ الملكي ببروسية في سنوات كثيرة قضيتها في الخدمة، فآمل أن يأتي نائب مبن المحترم بذلك المقدار.»
وفي اليوم التالي يقوم بسمارك بهجوم مضاد فيقول شاتما بشدة: «ليس من شأن كلماتكم أن تشفي الجروح، بل من دأبها أن تزيد نار الغضب لهيبا، ومن النادر أن أبصرت نائب مبن المحترم يحاول الإقناع أو إصلاح ذات البين، أدعو الله الذي أومن به ألا يمن على هذا النائب المحترم بحق التصرف في كرمه، لما لا يكون لي غير نصيب هزيل إذ ذاك، وإنك تكون على وئام مع الدولة إذا ما عدلت عن الزعامة الغلفية، وما كانت الآمال الغلفية لتحقق إلا إذا سيطر الشقاق والاضطراب على الدولة.»
ويجيب فيندهورست من فوره: «لست شيئا، ولا أستطيع أن أصنع أمرا، ولكنكم أيها السادة تودون أن تجعلوا مني شيئا كما يظهر، ولا أريد أن أقول ما أفكر فيه حول مهاجمة الوزير لي؛ وذلك لوقوعي تحت سلطة رئيس المجلس غير الواضحة تجاه الوزراء، ولكنني لا أتقهقر أمام أي إنسان كان؛ ولذا أقول: إن الخطيب المحترم يسأل عن بقائي مرتبطا في أسرة هانوفر المالكة، فأجيب عن ذلك بأنني سأظل وفيا لها حتى الممات، ولا يوجد في الدنيا من القوى - ومنها قوة وزير ألمانية القدير - ما يستطيع أن يفصلني عن تلك الأسرة، وهذا مع اعتقادي أنني قمت بواجباتي عن وجدان كأحد الرعايا وكما تقتضيه أحكام الكتاب المقدس، وإذا ما عزي إلى الوسط خطط مثيرة للشبهات، وإذا ما قصد إلقاء الرعب في الوسط ببذر الريب حول نائب؛ فإننا نكون قد دنونا من دور الهول الذي يبطل حرية القول، وليعلم السيد المحترم أن من السهل دعم المبدأ الملكي عند اليسر وأن من الصعب دعمه في أيام العسر حين تفرض الطاعة!»
وعلى ذلك الوجه الساطع يكافح فيندهورست خصمه، ثم يحل فيندهورست عقدة ما بين القوة والروح من كفاح، حيث يقول: «يحالف النجاح جناب الوزير ما دام ذا جند ومال أكثر مما لدي ... وليست السياسة الخارجية أمرا عسيرا على من يستند إلى مليوني جندي!» وهنالك يغادر بسمارك المجلس فيقول فيندهورست باسما مستنتجا: «إن من عادات الفرسان في مثل تلك الحملات أن يتلقوا الأجوبة شخصيا، ولمخاطبة الوزير المحترم أمام ألمانية قيمة عظيمة»، فبهذه العزة وبهذه المرونة وبهذه المهارة وبهذه الصولة حمل داود على جليات بالمقلاع والحجر.
ولكنه لم يسطع إصابة الهدف، فلم يلبث بسمارك أن عرف خطأه حول تلك المسألة الدينية، وقد أفاد بسمارك من موت محب العراك بيوس التاسع ومن ارتقاء الدبلمي ليون الثالث عشر إلى عرش البابوية فتقهقر مستترا ملقيا على عواتق مرءوسيه مسئولية غارة أمر بشنها، ويقف بسمارك الكفاح بغتة في الشئون الداخلية، ويكتب أندراسي في أواخر سنة 1873 قوله: «يحتقن الدم في عيني بسمارك عندما يتكلم عن البابا، وترن كلماته كصب اللعنات، ويدعي أن الباب خطر على جميع البلدان، وينعته بالثوري والفوضوي فيدعو أوروبة إلى مقاومته إذا أراد كل أمير فيها أن يحفظ عرشه.»
ولم يمض كبير وقت حتى أيقن بسمارك بأن رومة لا تغلب، فوجه كل اللوم إلى وزير الديانة والتعليم فالك، ويهزأ بسمارك بوزير ورتنبرغ ميتناخت ؛ إذ يشبه الدولة ب «شرطي حامل سيفا طويلا خلف قساوسة خفاف»، ويصرح بسمارك بأنه كان بعيدا في فارزين عندما نشر قانون الزواج المدني، ولوزير سكسونية يقول بسمارك رسميا:
وقع الكفاح خلافا لمقاصدي؛ فالذي أردت هو مكافحة الوسط سياسيا، ولست المذنب في إغاظة جميع الكاثوليك من السكان، وقد عارضت ذلك ... ولكن كنفاوزن وفالك هددا بالاستقالة فلم أر لي مناصا من الإذعان، والآن تراني آسفا على أنني أمضيت تلك القوانين من غير أن أقرأها؛ فهي تحتوي كثيرا من الترهات ... فأطلب إليك - والحالة هذه - أن تتفضل فتقول لملكك إنه لا ينبغي له أن يعدني مسئولا عما حدث في بروسية في أثناء السنتين الأخيرتين.
ذلك ما نطق به بسمارك الذي حرض منذ سنة نصف أبناء الوطن على نصفهم الآخر، حين قال: «إن البابا المعصوم هو الذي يهدد الدولة، وينتحل البابا لنفسه ما يروقه من الحقوق الزمنية، والبابا يصرح بأن قوانيننا باطلة لاغية، وهو يجبي الضرائب. ومجمل القول أنك لا تجد في بروسية من هو قوي كهذا الأجنبي!»
ويظن بسمارك أن درسدن نسيت ذلك منذ زمن طويل، ولكنه مخطئ فيما يظن، وتذكر أوروبة ذلك، وتذكر رومة ذلك قبل الجميع، وليس مما سدل عليه ثوب النسيان قوله منذ خمس وعشرين سنة في اللندتاغ: «أرجو أن أعيش إلى الزمن الذي أرى فيه سفينة مجانين زماننا تتحطم على صخرة الكنيسة النصرانية.» ويذكره الشيخ غرلاخ بهذه الكلمة التي نطق بها في أيام بياتيته فيجيبه بسمارك غير مكترث بأنه قصد الكنيسة البروتستانية في ذلك الحين، ويتبسم عرافو الرومان لا ريب، ويلقب بيوس التاسع قبيل موته عدوه الأكبر بسمارك بفيليب البروتستاني، ويضيف إلى هذا نبوءته القائلة: «إن صخرة ستتدحرج إلى سفح الجبل في نهاية الأمر فتكسر التمثال الهائل!»
الفصل الثالث
في اليوم الثامن عشر من مارس سنة 1848 فر ولهلم من برلين بسبب الثورة، وفي اليوم السابع عشر من مارس سنة 1871؛ أي بعد ثلاث وعشرين سنة يدخل ولهلم برلين إمبراطورا ظافرا فيقابل بالهتاف، وفي اليوم التالي يعلن الكومون
1
بباريس ، فتظهر الجماهير في جميع ألمانية عطفها على ذلك بما حدث من اضطرابها الشعبي.
ويذعر بسمارك فيقول: «إن هذه هي ليلة أخرى قضيتها أرقا.» وكان بيبل الاشتراكي الوحيد في الريشتاغ الأول الذي انتخب فور النصر فقال من فوق المنبر بعد أسبوعين من إمضاء معاهدة الصلح: «ليس الكومون سوى مناوشة استكشاف، وقد لا يمضي وقت كبير حتى يصبح شعار الكومون القائل «حرب على القصور وسلم مع الأكواخ!» نداء لحرب جميع الصعاليك في أوروبة.» (قهقهة)، ثم يدعو بيبل أهل الألزاس واللورين إلى الاشتراك في كفاح ألمانية من أجل الحرية إلى أن يحل اليوم الذي تنال فيه شعوب أوروبة حق تصرفها في شئون نفسها، إلى حين إعلان النظام الجمهوري، وهنالك يقول بسمارك: «لا تخافوا، فلن أجيب الخطيب الأخير، وأراكم تشاطرون رأيي في أن خطبته في هذا المجلس لا تستحق الجواب!» وبسمارك مع ذلك يصف خطبة بيبل تلك بعد أمة
2
بالنور الساطع الذي أضاء الوضع بغتة، والدولة والمجتمع في خطر، وعليهما أن يدافعا عن نفسيهما، فيجب محو هذا العدو!
ولم يزل بسمارك ذا صلة بخليفة لاسال بعد موت لاسال، ولم ينس بسمارك تماما أفكار لاسال حول الدولة الاشتراكية. والآن بعد الكومون لا يريد بسمارك قولا عن الاشتراكية، وبسمارك يبصر أنه في غنى عن معارضة الأحرار، فيحاول حماية الملك الخاص بقوانين جديدة معاقبا بالسجن كل من يلقي خطبة اشتراكية، ويرفض الريشتاغ اقتراحاته فينذره بقوله: «إن الاشتراكية الديمقراطية تقدمت كثيرا ... وستكون الطبقة الوسطى متعطشة إلى التدابير الجزئية بعد بضع سنين.»
وفي الانتخابات القادمة ينال الحزب الديمقراطي الاشتراكي الجديد اثني عشر مقعدا في الريشتاغ، فيدعو بسمارك إلى معالجة ذلك بعصا الإصلاح التي فرضها الرب على النوع البشري، ولم يدرك بسمارك سير الفكر الحديث فيتكلم عن «فساد رأي أولئك الذين يعتقدون طيران الحمام المشوي إلى أفواههم»، ولم يجد بسمارك غير مداواة هذا «الجنون الإجرامي بالهواء والشمس»، ولم يوفق بسمارك لفرض تدابير زاجرة للاشتراكيين؛ فقد خشي الريشتاغ وضع قوانين استثنائية ضد فريق من أبناء الوطن.
واليوم يتوتر الوضع بعيار ناري .
ففي شهر مايو سنة 1878 أطلق رجل عيارا ناريا على الإمبراطور الذي كان في الثمانين من سنيه، وذلك حينما كان يتنزه في العربة، والجاني هو طالب رث الثياب فاسد السيرة كان قد طرد من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فلما انتهى الخبر إلى بسمارك خبط المائدة وصرخ قائلا: «والآن أضحوا قبضتنا!» - «أهم الاشتراكيون يا صاحب الفخامة؟» - «كلا! هم الأحرار!»
ويدبر بسمارك الأمر في أقرب من لمح البصر، واليوم لا بد من أن تؤثر محاولة قتل ولهلم في الأحرار فيوافقوا على سن قانون استثنائي، فبهذه الوسيلة يمكن الخلاص مع الوقت من الأحرار الذين غدوا غير ضروريين بعد وضع «مكافحة الظلام» على الرف، وفي ذلك اليوم يطلب بسمارك من وزير العدل كتابة مشروع القانون الجديد، وفي اليوم التالي يرسل هذا المشروع إلى الوزراء الآخرين وبعد عشرة أيام يقدم إلى الريشتاغ ذلك التدبير المرغوب فيه كثيرا والذي رقع على جناح السرعة فاشتمل على أغاليط فنية كثيرة، والذريعة لعرض ذلك المشروع على الريشتاغ هي: «إننا لا نستطيع قهر الاشتراكية الديمقراطية إلا بمجاوزة الحواجز التي أقامها الدستور في القوانين الأساسية مستندا إلى مبادئ نظرية في حماية الأفراد والأحزاب».
ويمضي عشرون يوما على محاولة قتل الإمبراطور، فيرفض الريشتاغ ذلك المشروع بالإجماع مع استثناء المحافظين من أعضائه، وينبئ بنيغسن بأن قبول ذلك المشروع يعني: إيجاد مجال للدسائس الخفية أخطر من المكايد العلنية، ويعني: تنغيصا كبيرا لعيش الطبقات التي تكون هدفا له، «فيقول من يراعي القانون: إذا التجأت ذوات الأملاك من الطبقات إلى مثل تلك الوسائل، وإذا صار مئات الألوف من أبناء الوطن خارج حماية القوانين، فلماذا نحترم هذه القوانين؟» ويقول بنيغسن مداوما: إن مثل ذلك القانون يؤدي إلى اضطراب واسع المدى، ويسير ريشتر على ذلك المنهاج فيصرح بأن ذلك القانون الاستثنائي ينعم بتاج الشهادة على أناس حقيرين.
ومن نافذة مشرفة على أنتردن لندن (تحت الزيزفون)، وبعد ثلاثة أسابيع، يطلق عيار ناري آخر على الإمبراطور الشيخ فيصاب بجرح بالغ في هذه المرة، ويسقط في العربة، وبعد ثلاث ساعات من محاولة القتل هذه ينقل المستشار الخاص فون تيدمن نبأ ذلك الحادث إلى ولي العهد حينما كان في حديقة فردريكسروه،
3 «وقد أبصرته بعد بحث، فوجدت معه كلابه الدانيماركية الكبيرة، ووجدته يمشي على هينته فوق العشب وتحت أشعة الشمس، وأذهب إليه، وأراه طيب المزاج، ويحدثني عن نزهه في أثناء النهار وعن تأثيرها في أعصابه». - «وصلت برقيات مهمة.» - «هل هي من الأهمية بحيث أطلع عليها في سواء الحقل؟» - «هي بالغة الأهمية مع الأسف، فقد أطلق الرصاص على الإمبراطور فأصيب بعيار ناري في هذه المرة فجرح جرحا بالغا.» - «علينا أن نحل الريشتاغ في هذه الحال.»
وهنالك يقطع الحديقة بسرعة متوجها إلى البيت، ويفصل تيدمن النبأ في غضون ذلك، ويدخل المنزل فيأمر بإعداد ما يلزم للعودة إلى برلين.
ولم يشاهد أوتوفون بسمارك مسرورا في يوم مثل سروره في ذلك النهار، وبسمارك مغرم بالعاهل المحنك وفق شاكلته؛ وذلك لما كان من تسليمه مقاليد السلطة إليه منذ ست عشرة سنة وتمكينه من إظهار عبقريته في مجال طليق، أجل، كان بسمارك يبدو شاكيا مضطربا تجاه حران
4
ذلك العاهل الشائب، ولكنه لم يزدر ولهلم كما كان يزدري الآخرين، ومهما يكن من أمر فإن بسمارك كان يصبر على نزوات الإمبراطور صبر الابن - الذي تسلم الأعمال منذ زمن طويل - على مشاكسات أبيه، وبسمارك يريد المنصب لمدة كبيرة، وبسمارك يود طول عمر مولاه لسنوات كثيرة، وولي العهد خصم لبسمارك، وفردريك قد يغدو مليكا في الغد، وفي هذا ختام لعهد بسمارك، والإنسان أمام ذلك يظن - أول وهلة - أن مشاعر بسمارك ومصالحه تحفزه إلى السؤال عن حال الرجل الجريح.
ولكن بسمارك مكافح حقود قبل كل شيء، ولكن بسمارك يمقت في الليل ويقدر في النهار، ولكن بسمارك لا يغفل عن عدوه أبدا، ولكن بسمارك يرقب عدوا جديدا على الدوام، ماذا؟ يتذرع الريشتاغ الذي صنعه بسمارك بحق الرفض فيقاوم خططه، أترى ريشتر وفيندهورست ولاسكر وبنيغسن ومن إليهم من القوة ما يحولون به دون مكافحته مخلي النظام ونهابي الأموال؟ أفلم يخطف أولئك «المهاذير» السلاح من يده؟ هنالك قذيفة منقذة ، ولا يهم مصدرها ، وبسمارك لا يعرف حتى الآن طبقة الجاني المجهول ولا حزبه، وبسمارك لا يعرف حتى الآن خطورة الجرح ولا إمكان شفاء الرجل الجريح البالغ من العمر ثمانين سنة، وبسمارك لا يعرف غير أمر واحد، وهو أن جرح الإمبراطور بيد أثيم له من القيامة ما لنصر ينال في ميدان القتال، وليخض غمار معركة انتخابية إذن! والآن يمكننا أن نسقط جميع أعدائنا في الداخل! وسنحل الريشتاغ!
حل الريشتاغ بعد عشرة أيام من محاولة قتل العاهل، وينال بسمارك أكثرية بفضل محاولة القتل الثانية هذه.
وليس القطب السياسي بسمارك بالذي يبالي بما كان من جنون الجاني، ومن عدم انتسابه إلى أي حزب سياسي كان، ومن انتحاره وقوله قبل الانتحار إنه لم يرد أن يفارق الدنيا قبل أن يرافقه رجل عظيم، فبسمارك يملأ الصحف باعترافات نوبيلينغ وبحديث آثام نوبيلينغ! وبسمارك يبلغ إلى جميع ألمانية برقيا وفي اليوم بعد اليوم قصة المؤامرات واكتشافها! وبسمارك يضع برلين تحت الحكم العسكري! وذلك لأن «أقوم تدبير هو تشجيع التصادم الذي لا مفر منه، ثم قمع الفتنة بالقوة، فإذا ما دب الذعر في الجمهور وافق الريشتاغ على قوانين قاسية».
بسمارك في سنة 1886.
وهكذا، يعود الوزير المستبد إلى أوائل عهده بعد نصف جيل، وعلى الدم والحديد أن يكون لهما من الفوز في الداخل مثل ما تم لهما في الخارج، ويعارض ولي العهد هذه التدابير، ويتسلم ولي العهد شئون الدولة في أثناء مرض أبيه، ولا يريد أن يبدأ عهده بطوفان من الدم، ويتمنى جميع الأحرار موت الإمبراطور وجلوس ابنه على العرش، بيد أن فردريك لم يجرؤ على الجهر بالكلام ضد القانون الاستثنائي ما اقترح هذا القانون لحماية حياة أبيه في الظاهر، وتزيد مشاعر ولي العهد إبهاما مقدارا فمقدارا.
ثم يحدث غير المنتظر، فقد شفي الشيخ، والخوذة هي الشيء الوحيد الذي أنقذه، والخوذة هي التي كان معتمرا بها في ذلك النهار على خلاف عادته، والآن وقد سبق أن نصر في ثلاث حروب على الرغم منه، يعرض نفسه للخطر مع مشيبه، وهذا أمر يمكن الشعب أن يدركه، ويصير العاهل الذي كان الشعب يمقته في الماضي محبوبا عنده إلى الغاية، وتعود إليه عافيته فينهض من فراشه ويقول مازحا إن نوبيلينغ داواه بأحسن مما اتفق للأطباء ما دام محتاجا إلى الفصد، وتبتهج ألمانية بأسرها، ويجد بسمارك مولاه أشد مرحا وأكثر حياة مما كان عليه في أي وقت مضى، ويشعر بسمارك والألمان وولي العهد وزوجه وأهل أوروبة وكل الناس بأن ولهلم سيتمتع بعمر طويل لم يتفق لأي عاهل منذ قرون، وهكذا تؤتي القذيفة ثمرها، ويفيد بسمارك من روح الوقت فيغامر بأخطر تدابيره.
وفي الانتخابات التي عقبت محاولة قتل الملك، وهي الانتخابات التي ما انفك بسمارك يعطي في أثنائها كلمة السر، ضعفت قوى اليسار كثيرا، على حين عظمت قوى اليمين إلى مدى بعيد، والآن يستطيع المعلم أن يحمل الريشتاغ على إجازة قانونه الاستثنائي وأن يغتنم الفرصة فيجعل نصوصه أشد صرامة مما كانت عليه، ويرعد الأحرار ويتوعدهم مرة أخرى كما في السابق، ويقبل العون من فيندهورست الذي أنبأ باسما بإفلاس سياسة الكنيسة.
ويغير جبهته، ويبدو قادرا على الانتفاع بالوسط وبالأحرار الوطنيين مناوبة وصولا إلى الأكثرية، وينص هذا القانون الجديد الذي سن لسنتين في بدء الأمر فجدد لأربع سنوات أخرى فيما بعد على حق السلطات في القضاء على كل نشاط يهدف إلى «تقويض النظام العام»، وأن يجازى كل من يحاول ذلك، ويمكن طرد أرباب المطابع وباعة الكتب وأصحاب الحانات أو اعتقالهم، ويمكن إبعاد كل من ينشر مذهبا اشتراكيا، ويمنع الاشتراكيون من حرية الصحافة وحرية الاجتماع، ويستطيع كل وال أن يعلن الحكم العسكري في ولايته.
وكانت أسرة
5
العصر الجديد تلوح في الحين بعد الحين من خلال النقاش حول تلك التدابير كلمعان حرارة الصيف، ويبدو بسمارك شريفا وصاحبا للحلف المقدس ومجتنبا لنابليون فيتهدد الاشتراكيين بقوله: «تعدون الناس بأجمل الوعود، وتسخرون وتضحكون من كل ما هو مقدس لدى الناس حتى الآن عادين إياه إفكا ... فإذا جردتم الناس من الاعتقاد بالله والإيمان بالعاهل ومن الوطنية وأواصر الأسرة ومن التملك والميراث والمكاسب، سهل عليكم أن تقودوا الجاهلين إلى القول مع فاوست: لعن الأمل، ولعن الإيمان، ولعن الصبر على الخصوص! وماذا يبقى للواحد من أولئك غير تصيد الملاذ الحسية التي لا يظل في الميدان سواها ما يوفق بينه وبين الحياة؟ فإذا قضي علينا باحتمال نظام استبدادي لمجتمع من اللصوص لم تبق لحياتنا قيمة!»
وإليك جواب بيبل: «إن ما نراه من اتخاذ عمل مجنون قبل ختام التحقيق فرصة لإنزال ضربة رجعية معدة منذ زمن طويل، وإن ما نراه من الرغبة في إلقاء المسئولية الأدبية، على حزب يمقت ضروب الاغتيال ويدرك التطور الاقتصادي والسياسي مستقلا عن إرادة الأفراد؛ أمور تدين نفسها بنفسها، وليس من مقاصدنا إلغاء التملك، وإنما نهدف إلى توزيع عادل للملك نفعا للجميع.» ثم يتكلم مفصلا عن صلات لاسال ببسمارك على مسمع من ألمانية الذاهلة.
والآن يبدأ دور الحقد والفساد، والآن يبدأ عهد التجسس والقسوة الهوجاء، والآن يبدأ بالتنقيب والتعقيب والاعتقال والإبعاد في البلاد، وتمضي أربعة أسابيع فلا يتقيد بسمارك بوعده الصريح الذي قطعه للأحرار الوطنيين فقال لهم فيه إنه لن يلجأ إلى الحكم العسكري وإلى الطرد إلا «عند أقصى الضرورة»، فيعلن هذا الحكم في برلين وأطرافها ويطرد منها سبعة وستين زعيما اشتراكيا، وتجري الانتخابات في مدينة همبرغ الحرة على غير ما يشتهي بسمارك فيعلن الحكم العسكري فيها أيضا، وقبل ذلك تفرض عقوبة السجن على ألف وخمسمائة شخص فيبلغ مجموع ذلك ألف سنة، وفي بضعة أسابيع، وفي أرجاء الريخ، تلغى مائتا جمعية وتمنع 250 رسالة أو نشرة دورية، وفي ستة أشهر يصير هذا العدد ستمائة على حين يقضى على وسائل عيش الألوف من الناس.
ويشبه بيبل هذه الحوادث بما كان يقع في القرون الوسطى، كما ذكر فيندهورست قدماء النصارى، فيقول: «يحرم من هم على مذهبنا في التفكير أسباب رزقهم، وتساء معاملتهم، ويفترى عليهم، ويوصفون بالشين
6
والعصيان، فيراد بذلك إخلال الأمن والنظام، ألا إن هذه الأيام التي يحاول فيها قتل النفوس والتي يخان فيها عهد الملك من أفجع ما في تاريخ ألمانية الحديث.»
ويقع ما تنبأ به بنيغسن، فتعقد اجتماعات سرية كثيرة في الغابات والمقالع،
7
ويتباحث الزعماء والأتباع، ويلتقون هم وإخوانهم في المؤتمرات الخاصة والعامة بسويسرة، ويقول بيبل في كتاب يرسله إلى إنجلس: «إن ما يساور بسمارك من قلق وما يبديه من نشاط مخرب فيؤدي إلى ما نود.» ويقول ليبكنخت من فوق المنبر قول الظافر: «إن القانون المضاد للاشتراكية هو إطار حديد يجعل حزبنا وثيق العرا ويحول دون انقسامه إلى معتدلين وجذريين،
8
وسيجني الرجل الذي غرس تلك الشجرة ثمرة مرة، وسيتم لنا النصر بأحد الوجهين، وما تصنعوا من شر فإنه يعود علينا بخير! وكلما زدتم حماقة في أعمالكم دنوتم بسرعة من خاتمتكم!»
الفصل الرابع
عندما صار بسمارك كونتا رحب برفع مستوى أسرته، ولكن مع ازدراء لرهطه من الأشراف الذين كانوا غير معتقدين إمكان ظهور عبقري منهم، ويستحوذ ذعر على بسمارك عندما أنعم الملك عليه بلقب أمير (برنس) بعد العود من فرنسة، ويعزم على نصيحة مولاه بأن ينحي عنه ذلك، غير أن الملك يباغته بمقابلته أميرا ويهنئه آل العاهل بذلك مع إجماعهم على معاداته، فلم يبق له سوى التسليم بالأمر الواقع، ويلومه الأمير فردريك شارل على ما كان من عدم شكره، فيجيب بسمارك هذا الضابط عن ذلك بالكلمة الآتية الرائعة وهي: «ما فتئت أعد نفسي حسيبا.»
ولم خاف بسمارك لقبه الجديد؟ فاسمع قوله: «يمكن الموسر أن يكون كونتا، وعلى الأمير أن يكون ذا مال كثير، ومن شأن رفع مرتبتي أن يؤدي إلى ما لا يروقني من تغيير في طراز عيشي، وهذا إلى ما كان من رغبتي مع الحسرة في تأسيس أسرة من أقدم أسر الكونتات!» وقد أبدى بسمارك هذه الملاحظة في نجوى
1
له وود الملك أن يحقق بعض رغبته فأعطاه ساشنفالد القريبة من همبرغ والبالغة مساحتها ثلاثين ألف فدان والمقدرة قيمتها بثلاثة ملايين تالير لدى التسجيل، ولكن ولهلم لم يكن ليدرك أو يسكت فخر بسمارك بمحتده
2
القديم. ويكفيه مع ذلك أن يذكر ما كان من كدره في فرساي حديثا عندما يشعر بأن ارتباطه في أجداده يوحي إليه بالخوف من رفع رتبته.
وإذا ما قاس بسمارك الخادم مجده العتيد بمجد مخدومه في ذلك الحين اعترف بما يواثب نفسه من شك عميق كما واثب الملك آنئذ، وذلك عن خوف من «رهطه» وإلى أي وقت يصبر ملوك بافارية وسكسونية هادئين على ما تم لابن عمهم الهوهنزلرني من ارتقاء لا مثيل له؟ وإلى أي وقت يصبر أشراف بوميرانية والمارش على ما تم لابن عمهم الشونهاوزني من ارتقاء لا مثيل له؟ أفلا ينمو فيهم حس التنافس؟ أفلا يرى في كلتا الحالين أن الحسد يؤدي إلى دسائس سياسية؟ إن ما يصدر من الحسد عن أعز الأقرباء الذين يعزون إلى سوء حظهم ما يجب عليهم أن يعزوه إلى عدم ألمعيتهم؛ يميط اللثام عن أصدق الأسباب في انقسام أفراد طبقة بسمارك بما يعيبهم أمام محكمة التاريخ، وذلك بدلا من أن يتمتعوا بنعمة التفكير في مجد ذلك الرجل العبقري الذي نبغ من بينهم.
ووتر الخصوم السياسيون الوضع حتى انقطع، مع أن من حسن الشعور اجتناب ذلك، ولم ينفصل هؤلاء الشرفاء البروسيون عنه إلا محافظين مع أنهم لم يظهر منهم قبل ذلك رجل يعدله ذكاء ومضاء، وهكذا ينفض آخر الأحزاب السياسية الكبرى من حول رئيس الدولة بسمارك مسيئين إلى مصالحهم الخاصة بتسهيلهم له سبيل الاتفاق مع الأحرار خلافا لطبيعته. وهكذا، يمثل الشرفاء دور الزوجة المهانة التي يكشف لها زوجها عن تصابيه فتبتعد عنه متوعدة، فتدفعه بذلك إلى الاستمتاع في مكان آخر على حين كان يمكنها أن تسايره فتحول دون إتيانه شيئا من ذلك.
وكان بسمارك في سنة 1868 قد أخبر حزبه بأن من الضروري في الحين بعد الحين أن يعتمد على عون فريق لا يروقه، وإلا «اضطرت الحكومة إلى السير والائتمار بالدستور، فتصاب إذ ذاك بوهن الوزارات الائتلافية»، وترى المحافظ المتصلب رون يشتكي منذ ذلك الحين من «غطرسة بعض المحافظين الخبيثة المشوبة بالحسد، وعلى الحزب أن يعلم - في نهاية الأمر - أن من الضروري أن تختلف أهدافه ووجهات نظره عما كانت عليه في بدء الصراع، وعلى الحزب أن يتحول إلى حزب محافظ تقدمي وأن يعدل عن بقائه عائقا».
والآن يغدو ابن العم بسمارك أميرا وطاغية فيوغر الصدور، والآن يقول بسمارك في ذلك: «تنح حتى أحل محلك.» ويذكر بسمارك في مذكراته التي كتبها بعد نهاية تلك المنازعات بزمن طويل أن أرنيم وغولتز كانا خصمين من الطبقة الثانية، وينبئ بسمارك بأن الطبقة الثالثة تشتمل على «أعضاء طائفتي الإقطاعية التي أثارها ما رأته من عدم تقيدي في أثناء مهنتي الاستثنائية بالتقاليد التي هي بولونية أكثر من أن تكون ألمانية والقائلة بمبدأ المساواة الإقطاعي، أجل إنه يغفر لي أمر ارتقائي من دائرتي الريفية إلى منصب وزير، ولكن مما حدث من الإنعام علي بالمهور وبلقب أمير على الرغم مني فمما لا يغفر، وليست مخاطبتي ب «صاحب الفخامة» بالتي تجاوز الحدود المألوفة، وتثير مخاطبتي ب «صاحب السمو» أشد انتقاد، ويسهل علي احتمال جفاء أصدقائي السابقين ورفقائي في الطلب إذا وجد في مزاجي ما يسوغ ذلك.» ولا تجد أحدا يفوق بسمارك ببيان نفسي يعلو ذلك البيان عن طبقته الخاصة. قال أحد أشراف بوميرانية في سنة 1872: «سنصغر بسمارك حتى يأكل بيد أي شريف ريفي بوميراني!»
والكدر يبدأ بمكافحة الكنيسة حين يجد البياتيون اللوثريون على البابا بحماسة، وكان بسمارك متهما بالإلحاد لاتفاقه مع الملحد فيرشوف على الكنيسة، ويكره في دفاعه الخاص على الكلام من فوق المنبر بأسماء التفضيل غير المعتادة تأييدا «للإصلاح البروتستاني الذي هو أهم سبب لذلك الكفاح، والذي يتصل بروحنا ونجاتنا اتصالا وثيقا»، وليس الشيب أشد مهاجمي بسمارك، ونسمع موسيقى القلب حين نسمع الشيخ غرلاخ يقول: «إن بسمارك يسيء معاملتي، ولكنني أحبه مع ذلك!» ويبدو حامي بسمارك التقي الآخر - سينفت بيلساخ - رجلا كريما حين يحذر هذا المستشار مجاملا متنبئا ويثيره بقوله: «يجب أن تشتد عزيمة سموكم بخشوع، ويجب أن تشتد عزيمتكم بالرب الذي أحبكم كثيرا، فمد عمركم وفتح يديه المثقوبتين لكم، فإذا ما أصررت يا صاحب السمو على الإعراض عن إنذار الرب، أثبت الرب لك أن عمله هو الصحيح، فأصابك في عملك العظيم وصرت هدفا لحسابه .»
وذلك الأسلوب يدفع الفارس إلى وضع السرج على الحصان، فلما قرأ بسمارك ذلك أجاب بعنف قائلا: «يسرني جدا إذا ما وثقت بتوجيه إنذارك إلى أناس يقفون بجانبك فيبدون أعداء لحكومة صاحب الجلالة، إلى أناس بعيدين من تواضع منقذنا الذي تذكرني به فينظرون إلى ذلك التواضع حانقين متكبرين وثنيين كما لو كان دأبهم أن ينتصبوا سادة للبلاد والكنيسة، أداوم على عملي اليومي مخلصا مستغنيا عن حث سعادتك، ولكنني فيما أخشى الله وأحبه وأخدم مليكي بصدق وبجد مضن لا أجد في السخف الفريسي حول كلام الرب، وفي خرق الخصوم من أهل بوميرانية وأتباع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ما يضعضع إيماني بيسوع، فدعني يا صاحب السعادة ألتمس منك الحذر من عجبك؛ لكيلا يسوقك إلى حساب الرب الذي تنذرني به.» ثم يدعو بسمارك مخاطبه إلى إنعام النظر في قول التوراة: «قم يا رب، خلصني يا إلهي، فإنك قد ضربت جميع أعدائي على فكوكهم وقصمت أسنان المنافقين، للرب الخلاص، على شعبك بركتك، سلاه!»
وهنالك في ذلك الهوى الخاص بالتوراة آخر وثبات لنصرانية بسمارك.
والشباب من أعدائه يتقدمون إلى هدفهم توا، وهم لا يستعملون الصليب إلا إذا قاتلوا تحت شعار جريدة «كروززايتنغ» التي كان بسمارك أحد مؤسسيها، وهذه الجريدة، كما قال المستشار بسمارك في مذكراته: «عادت تحت رمز الصليب وتحت شعار «مع الله في سبيل الملك والوطن»، لا تمثل منذ سنين فريق المحافظين ولا تمثل الدين النصراني.» وفي سنة 1872، وفي جريدة «كروززايتنغ» وفي جريدة «رايشغلوك» التي أسسها الشرفاء لمهاجمة بسمارك على الخصوص تبدأ حملة المثلبة
3
ضد شرف المستشار ونزاهته، «ومن دور دلبروك - كنبهاوزن - بليشرودر» تتألف السلسلة الأولى لمقالات مغفلة موقعة من قبل أحد موظفي الجريدة شكلا، عملا بأحكام القانون، والبارون فون لويه وهو دبلمي نحاه بسمارك هو الذي كتب ما يأتي: «أطلب أن يكون العدد التالي من جريدة رايشغلوك ذا فائدة للمستشار، ويبدو لي - من ناحية الطب النفسي - أن من المهم في هذه المقالات بيان جهة الجد أولا، ثم جهة الهزل ثانيا، ويجب قبل كل شيء أن يبدأ بتشويش هضمه لبضعة أيام، وهذا لا يكون إلا باستفزازه.» وفي الوقت نفسه يكتب أحد الأخوين من آل مانتوفل إلى الآخر (وقد كان رئيسا لبسمارك ذات حين، فصار اليوم خصما له فتكلم ضده في المجلس الأعلى) قوله: «لا تحتاج إلى الاستشفاء بالماء المعدني حتى تصبح رئيسا للوزارة.» فتلك هي لهجة أولئك السادة في الدهاليز، وهم يقولون في المقالات التي نشروها من تحت صف الأنوار الظاهر أمام موقف الممثلين في المسرح:
هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الأمير بسمارك كان قبل أن يصير وزيرا في بروسية ذا صلة بالأوساط العظيمة في عالم المال، ويرجع ما بين فون بليشرودر والأمير من صلات وثيقة على وجه غير مباشر على الأقل إلى ما قبل نصبه وزيرا؛ أي إلى الأيام التي استطاع فيها - براتبه الضئيل ومع ضعف ثروته - أن يمثل مولاه سفيرا لبروسية في سان بطرسبرغ وباريس وفرانكفورت، فكان لا بد له من الإفادة في الأمور المالية. ومما لا ريب فيه أنه يحق للأمير بسمارك - كما يحق لكل إنسان آخر - أن يطالب ببراءة ذمته إلى أن يظهر من الأدلة ما يدينه، ومما لا يمكن إنكاره مع ذلك أن هذا القطب السياسي القدير جعل من نهابي الشعب المعروفين محلا لرعايته، ولا يكاد يوجد خطأ لم تقترفه الحكومة الحاضرة، وذلك سترا لصلاتها الشائنة برجال المال في برلين.
وذكر البارون فون لويه أنه لقي بليشرودر في الوزارة في شهر يوليو سنة 1870 وقبل شهر الحرب بيوم واحد، فقال: «لا يفترض أن يكون فون بليشرودر وفون بسمارك قد حضرا معا للكلام عن المطر وحسن الجو، ولا أعرف هل باع فون بليشرودر أو اشترى في ذلك النهار؛ أي ضارب على الحرب والسلم، وإنما الذي لا أشك فيه هو أن ما بين فون بليشرودر وفون بسمارك من الصداقة كان مفيدا لهذا الأخير، أعني: مفيدا ذهنيا!»
ثم قيل إن بسمارك وضع أمور الحكومة في يد يهودي مستأجر لمصنع ورقه في فارزين اسمه بهرند، ثم كتب قائد المائة المسمى فون بوتكامر يقول: إن وضع بسمارك للقانون الخاص بإقطاعات بوميرانية هو لتتمكن زوجته من وراثة إحدى إقطاعات آل بوتكامر!
وهل تصل الخسة إلى ما هو أبعد من ذلك؟ أنداد بسمارك يرمون بالقول السيئ هذا الرجل الذي يكسفهم ظله جميعا، فيودون عرضه على أنظار الناس إنسانا مضاربا، وهم بمداخلهم ينزعون منه كل وجه للشكوى، وهم يؤذونه في دور تقدم الشركات، وهم يجعلون من اليهود في كل حال محل لعناتهم، وهم يسيئون إلى بلدهم قبل كل شيء بما تسر به أوروبة من تلك التهم بالارتشاء، وهم على ما كان من إفادتهم من المضاربات الموفقة في ذلك الدور بفضل حذق معظم المصارف اليهودية؛ تجدهم يفترون على هذه المصارف ويجعلون من بسمارك الذي أوجب ذلك الانتعاش القومي مبتكرا لتلك القبائح، «وذلك لاتساع مدى الارتشاء، ونحن نعيش تحت ظل حكومة فاسدة تسمى بسمارك»، وهذه هي الجملة الوحيدة التي أمكن رفع قضية بسببها، وقد فر كاتبها اللاسامي مجتنبا للسجن مواظبا على الكتابة في سويسرة.
ولو وجهت هذه المثالب إلى فيندهورست الذي كان يجتمع ببليشرودر في الحين بعد الحين لأثارت تبسما؛ وذلك لبقاء فيندهورست فقيرا حتى مماته، وعكس ذلك أمر بسمارك الذي عزم على جني بعض الفوائد الشخصية مستعينا بلوذعيته وقدرته، وهو الذي كان يشير - في الغالب - إلى الهدايا العظيمة التي يقدمها الشعب الإنكليزي إلى أقطابه السياسيين مقدرا أنه لا يقدر على حفظ مقامه أميرا إلا بمثل هذه الهبات، فاستطاع أن يجمع ثروة كبيرة في أثناء السنين الثلاثين التي ظل قابضا فيها على زمام الأمور.
بيد أن بسمارك كان من الذكاء العظيم ما لا يخاطر معه بمقامه الرسمي أو بصيته الشخصي ولو أتته هذه المجازفة بالملايين، وماذا فعل؟ اكتشف - بما اتفق له من دهاء سياسي - طريقا وحيدة يستطيع أن يبلغ بها غايته من غير أن يخاطر بشيء؛ وذلك أنه اختار من بين أصحاب مصارف الريخ رجلا رآه أجرأهم وأشرفهم فربط هذا الرجل به مكلما إياه عن سير المعاملات عند الاقتضاء ضامنا أقصى ما يمكن من نمو ماله بإمضاء واحد؛ أي بتوكيل صاحبه هذا وكالة عامة .
ويعم الناس عظيم استياء ضده لعمله ذلك، ولا سيما في دور نمو الشركات ذلك، حيث ترى كل رجل ناجح عينا على الآخرين، ويسري بين النبلاء الذين كانوا يجمعون مالا قول حول «الخطر على يسر الدولة العام من إعطاء قطب الإمبراطورية السياسي الأول وكالة عامة بإدارة أمواله لرأس أصحاب البنوك الذي هو مالي يهودي كبير»، ويحاول مولتكه وقواد آخرون أن يفصلوا بسمارك عن بليشرودر بوسائل غير مباشرة، وينذره خلصاؤه القدماء كتابة، ومن ذلك قول أحدهم: «لا أستطيع أن أمنع نفسي من مصارحة سموكم بذيوع نكتة بين الشعب قائلة إن بليشرودر شريك في الحكومة، وقد هتك شرف بروسية القديم بما يلاقيه أصحاب الشركات من الحظوة لدى المقامات العليا.»
وما كان لبسمارك ليسمتع لأية نصيحة كانت، فلما كتب بعضهم إلى الإمبراطور محذرا عمل بسمارك على زيارة بليشرودر لولهلم في أملاكه، وأموال الإمبراطور الخاصة - فضلا عن ذلك - كانت سائرة في طريق النجاح على يد «مالي يهودي» آخر كما تسير أموال بسمارك.
ويقول بسمارك في مشيبه: «أعرف ماذا يجب علي أن أفكر فيه حول بليشرودر وأولاده، فقد كان صرافي، ومن البهتان أن يقال إنني كنت أعطيه إشارات سياسية يتمكن بها من القيام بأمور مفيدة لي أو له، ومن الصحيح أنه أمدني في سنة 1866 بوسائل مواصلة الحرب على حين كان كل واحد غير راغب في إعطائنا قرضا، وهذا ما جعلني شاكرا له، وإنني - كرجل مسئول - كنت لا أدع إنسانا يهوديا أو غير يهودي يقول إنني استغللته ثم قصرت في مكافأته على ما قدم من خدم لا يسعني سوى تقديرها كرجل سياسي.» وهنا نرى تشابك الشكران والإذعان.
ويعنى بسمارك بالجزئيات في السنوات العشر الأولى، وهو يقص علينا أنه لم يبع سنداته الأجنبية حتى سنة 1877، «فلما علمت أن شوفالوف عين سفيرا في لندن لم أنم ليلة واحدة قائلا في نفسي: إن الروس بانفصالهم في ذلك الحين عن أنبه رجل فيهم يكونون قد أخطئوا، وهذا ما جعلني في اليوم التالي أوعز إلى بليشرودر بأن يبيع ما لدي من سندات الدولة الروسية، فأثنى بليشرودر على سعة نظري في هذا الأمر.»
وبسمارك لكي يتمكن من اللعب ضد أوروبة لم ينظر إلى مصالحه المالية الشخصية فلم يشر بعد ذلك سندات أجنبية، ولم يحدث في أي وقت كان - في ذلك الحين أو قبله أو بعده - أن صنع بسمارك كما فعل هولشتاين وغيره مؤخرا فاهتدى في شئونه المالية وأموره السياسية بسير الأسعار في المصفق،
4
بل كان يكتفي بقائمة الحساب التي يقدمها بليشرودر إليه في كل عام، ومن الصحيح أن كان مصنعه الورقي بفارزين يقوم ببعض طلبات الدولة، ولكن مستأجره كان لا يأخذ سوى أدنى الأثمان، وذلك من غير أن يكون لبسمارك أقل فائدة شخصية من وراء ذلك، وما وجهه الضابط بوتكامر من تهمة إلى بسمارك فيسقط من تلقاء نفسه أيضا.
واستطاع بسمارك أن يتوارى وراء تلك الوكالة العامة فيصوب إلى خصومه في الريشتاغ ضربات قاتلة، ومن ذلك قوله: «إذا ما بلغت جريدة كجريدة كروززايتنغ من القحة ما وجهت به أفظع إفك وأكذب بهتان إلى أناس من ذوي المقامات العالية في العالم فوضعتهما في قالب لا يمكن معه أن يرفع أمرهم إلى القضاء، وأثارت بهما - مع ذلك - ريبا حول شرف هذا أو ذلك الوزير في أعماله؛ وجب علينا تجاه هذا الزور أن نؤلف جميعا جبهة واحدة فلا يشجع كل واحد هذه الجريدة بالاشتراك فيها، وكل واحد يحفظ هذه الجريدة يكون شريكا فيما تنشره من افتراء وأكاذيب.»
ولكن الأشراف «أبناء العم» يتحدونه؛ فقد برز ستة وأربعون من حملة الألقاب، وقد انضم إليهم مئات كثيرة من الإكليروس فيما بعد، فصرحوا من فورهم في كروززايتنغ بأنهم أنصار مخلصون للراية الملكية المحافظة، وبأنهم لا ينفصلون عن صحيفتهم هذه «وبأن مستشار الإمبراطورية إذا كان يشك في صدق مشاعرنا النصرانية فإننا نترفع عن مجادلته كما نترفع عن قبول نصائحه عن الحشمة والشرف»، ومن موقعي ذلك ترى أسماء فيدل وزيتزيفتز ومارفيتز وسهرتوس وغوتبرغ وأسماء أقدم أصدقاء بسمارك مثل بلانكنبرغ وكليست ريتزوف، والشيخ تادن-تريغلاف «مع الأسف العظيم».
وهكذا تبصر أولئك الذين أيدوا بسمارك في مغامرات شبابه يعادونه مغاضبين في كمال رشده حين أصبح أقوى رجل في الإمبراطورية، وينشر بسمارك قائمة «المصرحين» هؤلاء في جريدة «رايخسانزيجر» معلنا أنهم يثبتون عداءهم للدولة بحملتهم على شخصه، وبسمارك بعد هذه الضربة الشديدة ينفصل عن طبقته لعدة سنوات.
وجرح كرامة الشريف بسمارك أشد مضا من جرح القطب السياسي بسمارك، ولا يحمل بسمارك حبا خاصا لأشخاص أولئك الموقعين، ولكن بسمارك ينظر إلى الأمر قائدا فيعد الزمرة أو الطبقة التي ينتسبون إليها درة
5
له فيجدهم قد خانوه، ويمس بسمارك في كبريائه، «ومتى قطعت بغتة صلة المرء بالذين يعدهم أكفاءه لأسباب شخصية أكثر من أن تكون مادية، ولأسباب حقيرة أكثر من أن تكون شريفة، ومتى قاطع الوزير جميع من كانوا أصدقاء له حتى ذلك الحين فعومل عدوا فغدا وحيدا، لا يمكن هذا الغزو أن يؤدي إلى غير زيادة همومه الرسمية وقلب أعصابه وربك عاداته، ومن كان في سني فأيقن أنه لن يعيش طويلا ثم رأى فقده لجميع أصدقائه القدماء ورأى قطع جميع ما يربطه بهم من قديم الصلات استحوذ عليه قنوط عميق يعدل العزلة التامة، فكيف إذا أضيف إلى ذلك ما يساورني من الغم حول صحة زوجتي؟»
ويكشف غضب بسمارك عن أحط الدوافع في كل واحد من أعدائه، فلما رجع البصر مع أحد خلصائه إلى جدول الأشراف الذين صوتوا ضد قانونه الكنسي تناول اسم كل واحد منهم بقلمه الرصاصي الضخم، وقال مخاطبا نفسه على طريقة فالنشتاين:
6 «غوتنبرغ؟ هو ساخط؛ لأنه لم يعين رئيسا حتى الآن! روزنبرغ؟ هو يصوت ضدي مع أنني أنقذته من أخطار كثيرة! غرويز؟ هو طموح مجروح! بوتكامر؟ هو يهزأ بالكنيسة، ولكنه يريد أن يرى بغلظته ومعارضته أنه عدل
7
لي! لقد غضب هؤلاء الفجار؛ لأنني صرت أميرا، ولأنني لم أدعهم إلى مائدتي! ألا إنني عارف بأبناء بلدي من أهل بوميرانية!»
ويصب بسمارك جام غضبه على موريتز بلانكنبرغ على الخصوص؛ وذلك لأنه رفض منصبا وزاريا، ولأنه كرر بإهمال قولا عن صك مصفقي
8
أسيء تفسيره فاستشهد به «مصرح» آخر أمام المحكمة فيما بعد، وهذه هي خاتمة صداقة بدئت بحماسة، وهذه هي خاتمة أغنية حب ماري فون تادن وموتها، وينتهي ذلك بثرثرة حول أسهم عقارية قيل إن بليشرودر اشتراها لمستشار الريخ مع أنه لم يشرها قط.
وإليك أيضا ثغرة قاطعة للرجاء بين بسمارك وهانس فون كليست ريتزوف الذي هو من أقرباء حنة، والذي كان رفيقا لغرفة بسمارك أيام اللندتاغ، والذي كان يمد عينيه معه إلى منصب وزاري، والذي بدا أبا عماد لابنة بسمارك، والذي كان لا يخاطبه فيما يكتب إليه من كتب إلا بكلمة «حبيبي بسمارك»، والذي احتمل بسمارك آراءه الدينية صابرا، فالآن يتواجه الرجلان في المجلس الأعلى، والآن يظهران خصمين، والآن حين يتراشقان بجارح الكلام يذكران - على ما يحتمل - ما كان منذ خمس وعشرين سنة من إسماع كل منهما للآخر ما يلقيه من خطب ضد الديمقراطيين.
ويدعو المستشار صديقه إلى زيارته طمعا في إقناعه، ويأبى كليست الإذعان، ويمسك بسمارك السكين ويبدو كمن يقطع غطاء المائدة، وينهض، ويدع صديقه السابق ينصرف، ولم يعتم بسمارك أن صار يتكلم عنه من فوق المنبر ساخرا، ومن ذلك قوله: «لقد قضى جناب الخطيب وقتا طويلا في دراسة علم اللاهوت، ولا جرم أنه سيفكر ذات يوم في هل تحفزه سلامة روحه إلى انتحال الكثلكة!»
ويحاول كليست أن يصالح بسمارك، فينظم قصيدة بسبب عيد زواجه الفضي، غير أن بسمارك يمنع زوجه حتى من الكتابة إليه، ويقول لخادمه على مسمع من الحضور: «إذا جاء فون كليست فبلغه أنني لست في المنزل.»
الفصل الخامس
يبلغ بسمارك الستين من سنيه، فيبصر - بمرارة ممزوجة بسرور - ثبات ما كان عليه من كره للناس ابنا للعشرين من عمره، ويقول للوسيوس: «إذا ما كنت فوق السرير ولم يخالط عيني نعاس ذكرت في الغالب ما اقترف نحوي من ذنوب قبل ثلاثين سنة فلم تكفر، فأتميز من الغيظ وأحلم - شبه نائم - بمقابلة المثل بالمثل، ومن ذلك ما كان من معاملتنا في معهد بلامان حيث كانوا ينبهوننا بوخز السيف.» ومن يثب وهو نصف نائم فيمسك خناق معلمه بعد خمسين سنة يتعهد عداءه الطبيعي حتى يشتد فيتعطش إلى الانتقام، وهو كما لاحظه بنسن «يكون أشد من الطغاة حقدا وحبا للانتقام، ويظهر صغيرا في الأمور الصغيرة».
والآن يكدس التهم ضد جميع من هم على خلاف رأيه فيؤذونه، ويبلغ السبعين فيتهم كل أثيم، ولديه نماذج مطبوعة لتملأ في الأحوال المستعجلة بتهم القذف، وهو يدعو هذا إرهابا، ومن النادر أن يجرؤ أحد على مقاومته، حتى إن مومسن المتهم بالقذف كان من الضعف ما أنكر معه الكلمات التي تفوه بها في خطبة انتخابية، فقال بسمارك شامتا: «أجل، قد يكون الاتهام مختلا، ولكن بما أن مومسن قد انحط إلى درجة الإنكار؛ فإننا نكون قد فزنا في اللعب.»
ومما حدث أن نشر صاحب جريدة «كلاديراداتش» الذي كان بسمارك مغرما بمداعبته حول مائدة الأسرة ذما بريئا ضده، فلم يلبث بسمارك أن اتهم هذا الصحافي وسجنه، ويحادث بسمارك قطبا سياسيا روسيا، فيأتيه بالاعتراف الآتي المثير للحير: «إن الغضب يستولي علي في بعض الأحيان، وأسوأ من ذلك أن يفقدني صوابي».
ويموت لاسكر في أمريكة، ويقرر المؤتمر
1
الأمريكي مشاطرة الأمة الألمانية أساها، ويبرق بذلك إلى مستشار الريخ فيمتنع هذا المستشار من نقل برقية تأبين خصمه الميت هذا إلى الريشتاغ معيدا البرقية إلى وشنغطن، وتساوره الريب، فلما كان يتنزه في حديقة المستشارية ذات مرة وأبصر نورا في غار وقف حالا وسأل: «ما هو سبب هذا الضياء؟ لا أحد يسكن هنالك، ألا ترونه بؤرة لصنع نقود زائفة؟»
ويرى بسمارك أن كل رأي مخالف لا يصدر عن غير سببين، لا يصدر إلا عن خبث أو رغبة في الارتقاء، ولا مراء في أن البلاطات والسفارات ووزارات الدولة صارت مراكز خطرة للدسائس، فلما كتب بسمارك مذكراته في شيبته جعل «الدسائس» أطول فصولها، ويظل أمر أرنيم أشهرها.
وكيف لا يعطف المرء على رفيق صبا بسمارك: أرنيم؟ فهذا الدبلمي الذكي كان مختالا متصنعا متخبطا متخوفا متزعزعا، وكان أسدا في رداه الاستقبال وعازفا ممتازا على البيان، وكان طموحا منذ زواجه المغني، وكان مشخصا متظاهرا بعدم الاكتراث ، وكان ولوعا بذكر مكيافيلي، وكان ثرثارا في غير لغة، وتدور الخمر في رأسه ذات ليلة فيسر إلى بسمارك بقوله: «أعد كل شخص يقف في سبيل تقدمي عدوا شخصيا لي فأعامله بهذه الروح، ولكنني لا أبدي له ذلك ما دام رئيسا لي!» وبسمارك قال عن أرنيم: «إنه ذو رأس جميل، ولكن يعوزه خز في الخلف» وكان هذا قبل تخاصمهما.
وبسمارك كان يعد مرءوسه أرنيم من ذوي القرائح، فأرسله سفيرا إلى كورية الرومانية ثم سفيرا إلى باريس، ويغدو أرنيم كونتا في غضون ذلك، ويتقدم بأسرع من تقدم غيره، ولا يخامره ريب في أنه سيكون مستشارا فينشد الحظوة لدى الإمبراطورة أوغوستا، وتعده أوغوستا هذه صديقا للكاثوليك والفرنسيين وتمتدحه متكلما بارعا، ويود أن يكون كما كان بسمارك وإن لم يرد أن يميز نفسه في حضرة أوغوستا.
ويرغب بسمارك في تأييد النظام الجمهوري في فرنسة ومنع فرنسة من أن تتقوى برجوعها إلى نظام ملكي، وفي باريس يعمل أرنيم إذن ضد تيار وغيره من الجمهوريين، ومن باريس يرسل أرنيم كتبا خاصة إلى الإمبراطور ولهلم للتأثير فيه، ويحول الإمبراطور البسيط النزيه هذه الكتب إلى المستشار كما كان يحول رسائل غولتز إلى وزيره بسمارك في غابر الأيام.
وهنالك يعزم بسمارك على إسقاط أرنيم، فلا يقابله عند مجيئه إلى برلين، ويسافر بسمارك ولا يجيبه عن كتبه، ويستدعي الإمبراطور سفيره أرنيم إليه عدة مرات قاصدا تعويضه من إهمال المستشار بسمارك له، ويبلغ أرنيم من السخف ما يرى به إمكان تعاونه هو والإمبراطور ضد بسمارك ويشكو بثه
2
وحزنه إلى مولاه ويضرع إليه أن يأذن له في الاستقالة، فيرفض الإمبراطور ذلك، ويروي أرنيم أن الإمبراطور ولهلم قال له: «لم يكن هنالك غير حقد الأمير «بسمارك» والحقد أبرز صفاته، ومن المؤسف أن أقول هذا عن ذلك الرجل الممتاز.» ويشعر أرنيم بأن وضعه تقوى بتلك المحادثة فيجازف في عرين الأسد بحديث رواه هو وبسمارك.
يذكر أرنيم أن بسمارك بدأ الكلام ب «صوت جارح مع سماح ولهجة مستعل مع ارتياح»، ويسأل أرنيم عن السبب في اضطهاد المستشار إياه فيغمره بسمارك بسيل من اللوم وهو يقول: «آذيت صحتي منذ ثمانية أشهر وسلبتني كل راحة! أنت تأتمر مع الملكة! لن يهدأ لك بال إلا إذا جلست على هذا الكرسي، وأنت حينئذ تدرك مثلي أن ذلك متاع الغرور!»
ويندر أن نسبر غور فؤاد بسمارك في زمن بأوضح من ذلك، ففي تلك الساعة انتزعت عزيمته اعترافا عظيما منه، فهو قد أقر بتفه ذلك الكرسي الذي يدبر الأمور من فوقه فيطمع أرنيم أن يقعد عليه.
وأرنيم بدلا من أن يقف مواثبا فتكون الاستقالة جوابه، يقول لبسمارك بصوت رقيق: «ألم يبق عند سموكم أي ثقة بي؟» فهنالك يلقي عليه بسمارك «نظرة حادة»، ويقول له: «كلا!»
وهنالك يمد أرنيم إليه يده وهو يقول: «ألا تتفضل بمصافحتي مودعا؟»
بسمارك :
لا أود أن أرفض ذلك في منزلي، ولكنني أرجو منك ألا تطالبني بالمصافحة في مكان آخر.
وبسمارك بعد تلك المقابلة سهل عليه أن يضع أمام الإمبراطور ولهلم تخييره المعهود: «إما هو وإما أنا»، ويكتب بسمارك ذلك مهددا قائلا إنه لا يريد أن ينازع «سفيرا سيئ النية» ثقة مولاه، وجاء في كتابه هذا: «أرى مرتابا - ولست وحيدا في هذا الارتياب - أن هذا الموظف الكبير يسير في أعماله الرسمية وراء نفعه الشخصي، أجل لا يسهل إثبات هذا الادعاء، ولكن ما يخالطني من اشتباه فيه بلغ من القوة ما يشق علي معه أن أظل مسئولا عن الوجه الذي ينفذ به ما يوجه إليه من تعليمات.»
ويزعم أن أرنيم أجل بعض المفاوضات حول تأدية فرنسة للغرامة الحربية؛ قاصدا الاستفادة من بعض المضاربات التي ارتبط فيها مع البارون هيرش، وهنالك شبه مضحك بين التهم التي يوجهها كل من بسمارك وأرنيم إلى الآخر، كل من بسمارك وأرنيم اللذين هما من أشراف بوميرانية واللذين هما من خدمة الإمبراطورية فيسيرهما في الأعمال المالية يهودي رفع إلى مرتبة الأشراف، ويتهم كل واحد منهما الآخر بالسعي وراء مصلحته الخاصة على حساب الدولة، وأرنيم - وإن لم يظهر اسمه - هو من زمرة الأشراف الذين يحملون على بسمارك، ويظل ما يتقاذفان بلا دليل، ويعجزان كلاهما عن إقامة الدليل، ويتماثلان كلاهما في القول، وأقوى الرجلين وحده هو الذي يصيب المحز.
وأقصى ما يوافق الإمبراطور ولهلم عليه هو إحالة سفيره أرنيم إلى نصف معاشه، ولا يروق هذا بسمارك الذي يخشى حوك أرنيم للدسائس طليقا ببرلين أكثر مما يخشاه سفيرا بباريس، ويبعد بسمارك خصمه أرنيم سفيرا إلى الآستانة لذلك، وهنالك يقترف أرنيم حماقة؛ فهو بدلا من أن يستقيل فيصبح حرا في الانضمام إلى الحزب في المجلس الأعلى الذي يناصب بسمارك العداء؛ ينحني أمام هذا الرئيس الخصم الذي ما انفك يوبخه في الأشهر القليلة الأخيرة ضمن أشد الرسائل إنذارا، ومن ذلك: «أرى مطالبتكم بأن تبدوا كبير عناية بتعليماتي وقليل ميل إلى اتباع آرائكم السياسية الخاصة، وذلك بأكثر مما ظهر من تقاريركم وتصرفكم الرسمي حتى الآن.»
وينشر أرنيم بعض الوثائق المطبوعة المغفلة التي تهدف إلى بيان تبصره وإعلان غفلة بسمارك، وبهذا يبدو أرنيم من ضيق الأفق ما لا يبصر معه إمكان افتضاح ذلك، والآن يصير أرنيم قبضة بسمارك، والآن لا تستطيع الملكة أن تحمي أرنيم، والآن يقدر بسمارك على عزله؛ لإخلاله بالواجب الرسمي، وكان الكفاح يقع بين خصمين حتى اليوم، ثم سهل أضعفهما بخرقه وسائل الفوز لأقواهما.
وهنالك تبدأ قسوة بسمارك التي شابهت في «أمر أرنيم» ما جاء في الأساطير، فجعلت نصف الأمة ضد الظافر، وما كان معاصرو بسمارك ولا الأعقاب من بعده ليغفروا له رغبته في القضاء على خصمه المقهور، وبيان الأمر هو أن خلف أرنيم بباريس أخبر بفقدان بعض الوثائق، فرفض أرنيم تسليمها مصرحا بأنها من أوراقه الخاصة، وتخبو نار أرنيم ولا يعدو حد الموظف المتقاعد بعد أن كان يطمع في نصبه مستشارا.
وينشد أرنيم السند بين حماته الأماجد ويعتمد على شرف محتده، ويتحدى أرنيم خصمه القدير بسمارك، فيقف بسمارك الأثيم أرنيم في الحال ضمن دائرة حقوقه، ويحاكم أرنيم بتهمة سرقة أوراق رسمية فيحكم عليه بالسجن تسعة أشهر، ويفر إلى سويسرة، والذي حفز بسمارك إلى محاكمة أرنيم مرة واحدة هو ميله وميل الملك إلى عدم دوام الاستقصاء وما يؤدي إليه من الإفشاء عدة سنوات، وبسمارك في الوقت نفسه ينصح أرنيم بطلب العفو.
ويتميز أرنيم من الغيظ، وينشر في منفاه رسائل لا كوع لها ولا بوع، ويؤدي هذا إلى اتهام الآثم بالخيانة وبسب الإمبراطور وبقذف بسمارك ويحاكم، فيحكم عليه غيابيا بالسجن مع الأشغال الشاقة خمس سنوات وبسقوط حقوقه المدنية مع التصريح بأنه سلك سلوكا شائنا، وتمضي أربعة أعوام، وينال أرنيم حق دخول ألمانية طليقا والمثول أمام محكمة الإمبراطورية ليبرئ نفسه، ولكنه يموت في نيس قبل بلوغه ألمانية «مهانا» شريدا.
وفي تلك المحاكمة يظهر للمرة الأولى والمرة الأخيرة رجل يقتضي عمله الكتمان، واسم هذا الرجل هو البارون هولشتاين الذي تعرف بسمارك به في سان بطرسبرغ والذي عينه المستشار بسمارك عينا على خصمه أرنيم في سفارة باريس؛ ليرسل إليه تقارير عنه، فبهذه الوسيلة اطلع بسمارك على طمع أرنيم في منصبه، ويرسل بسمارك هولشتاين إلى المحكمة؛ ليؤدي شهادته أمامها، ويتأذى هولشتاين كثيرا لحمله على إظهار تجسسه، فيحقد على بسمارك حقدا شديدا لا يبديه إلا بعد سنين فيكون له نتائج تاريخية مهمة واسعة المدى.
الفصل السادس
لم يكن بين أولئك الذين اتصلوا ببسمارك غير رجل واحد، غير رون، استطاع أن يمزج بين الاستقامة والانتقاد وبين الصداقة واستقلال الفكر، وكادت عواصف سنة 1870 تقضي على ما بين بسمارك ورون من صداقة، وفروسية رون وحدها هي التي أنقذت هذه الصداقة من الزوال، ورون لما هو عليه من جد ومن غاية دائمة في خدمة ملكه وبلده ومن عدم اكتراث لمنفعته الخاصة وللمقام وللعوامل الحزبية أبصر ما يقع في الداخل من أمور، فكتب في سنة 1872 يقول: «كانت انتصارات سنة 1866، وإن شئت فقل كانت الأوهام التي نشأت عن هذه الانتصارات حول التوفيق بين جميع الأحزاب السياسية، أول الأمور التي شغزبتنا
1 ... ثم وقع ما نعلم من وثبات البطولة في سنة 1870 فلم تنقذ الوضع، ومما لا ريب فيه أن ما أسفرت عنه الانتصارات في تلك السنة من نشوة أجل رجوعنا إلى دور الاتزان ، فترانا نداوم على الدنو من الهو.»
2
ومهما يكن من أمر ظل رون بجانب بسمارك في وقت قلب فيه لبسمارك ظهر المجن
3
جميع أنصاره القدماء من «أبناء العم»، ولم يوجد أحد قادر على إغواء رون بأن يكون من أولئك «المصرحين الموقعين» مع أن بلانكنبرغ ابن أخت له وموضع لسره منذ عشرات السنين، وما كان من حب رون لوطنه فأكثر من حب كل بروسي له في ذلك العصر، وما كان من اعتقاده أن بسمارك أعظم منه فكان يصونه من الحسد، وهو إذ كان أذكى من «أبناء العم» الآخرين، وكان قانعا بما بلغه من السلطان لم يستح أن يكون في المرتبة الثانية، ومن عادته أن يحدث عن نفسه بقوله إنه الترس الذي قام به بسمارك.
ومن المحتمل أن ما يحمله رون من الاحترام للمستشار بسمارك هو الذي كان يسوقه إلى الانفصال عن صاحبه هذا، ورون لما كان من إعجابه العظيم ببسمارك قرر الاستقالة عند التحاك، ويفزع الملك ولم يبق له سوى ذينك الخادمين الشائبين من عزم رون فلم يأل جهدا في إمساكه، ويوفق بسمارك إلى صنع ما هو أكثر من ذلك، ويحفظ بسمارك بعبقريته هذا المخلص بجانبه في آخر الأمر ملقيا عن كاهل نفسه بعض الأعباء، فقد قلل ملال رون من منصبه بأن رفعه إلى رئاسة وزراء بروسية ناقلا المسئولية من عاتقه إلى عاتق رون حين كان كفاح المحافظين في أشد أدواره، وقد حدث هذا كله فور أخذه رسالة رون فأغذ في الذهاب إلى برلين عشية سنة 1872 الجديدة تدبيرا للأمر، وفي اليوم ذاته، وقبل أن يسافر، كتب إلى صديقه رون يخبره بأنه مريض وبأنه لا يقدر على تسيير الأمور كما في الماضي:
يسرني أن أخدم الملك وزيرا للخارجية للمدة التي يأمر بها ... ولا أستطيع أن أنقل إلى أي شخص كان ثمرة تجربتي في عشرين سنة في سياسة أوروبة الخارجية ولا ما نلته من ثقة في القصور الأجنبية، بيد أن الأمور الخارجية لأقوى الدول العظمى تتطلب انتباها موحدا غير منقسم لدى الرجل المسئول عنها ، وإن من الشذوذ الذي لم يسبق له مثيل أن يكون وزير خارجية دولة عظيمة مسئولا في الوقت نفسه عن الأمور الداخلية، وإن من شأن عملي أن يجعل للرجل الذي يقوم به أعداء كثيرين من غير أن يكسب صديقا واحدا، ورجل مثل هذا يخسر حتى أصدقاءه القدماء إذا ما أراد القيام بعمله شريفا غير خائف، وفي الداخل خسرت المكان الذي كنت راغبا فيه بسبب ارتداد حزب المحافظين، وقد شل نشاطي بالعمل الشاق، ولا يكاد الملك الراكب على السرج يشعر بأنه نهك في حصانا قويا لكثرة ما امتطاه، والكسالى وحدهم يحتملون الضربة.
ولذا عاد بسمارك لا يرغب في غير المستشارية ووزارة الخارجية:
ولصاحب الجلالة آراء ورغائب لا أستطيع الموافقة عليها، وعدت غير قادر على احتمال مسئوليتها مع وهني الراهن، واشتدت المؤثرات التي تعارضني، وزال نشاطي في الكفاح منذ الربيع بسبب عجب المحافظين المحزن وعجزهم السياسي، ولا أجد ما أصنعه تجاه المحافظين، ولا أريد فعل ما أتحداهم به، ولهذه العوامل سأقدم استقالتي الجزئية إلى جلالته بعد غد، وإذا ما أنعم الله علينا بطول العمر ذكرنا - مسرورين - تلك الأيام العظيمة التي عملنا فيها كأصدقاء قدماء مع الود الخالص الثابت.
وبسمارك بهذا الأسلوب العالي يعرض اعتزاله السياسي الجزئي الذي قدره باعتدال على أنه عمل ودي، وبسمارك يعرف في الحقيقة أنه لا يعتم أن يعود، وبسمارك ينتظر دعوته كما قال لخلصائه، ورون هو أسير بسمارك أدبيا، ورئيس وزراء بروسية الجديد هذا سيبقى في منصبه تسعة أشهر، فإذا كان من الصعب أن يعمل بأوامر بسمارك فإن من المتعذر أن يعمل بجانبه، وقد قسم المستشار سلطانه، وعلى المستشار أن يطلب إذن رجل آخر إذا ما أراد عمل شيء رئيسا للوزارة، وبسمارك هو الريخ ورون هو بروسية، ويجتنب كل تحاك باتحاد المنصبين في شخص واحد، وتبدو عيوب دستور الريخ الأساسية وتنتقم من واضعه.
ويحل شهر فبراير سنة 1873، ويبلغ بهتان الأشراف «أبناء العم» غايته؛ فهم يدهمون نجي بسمارك الشيخ فاغنر متلبسا بجرم الرشوة، وهم يحاولون أن يثبتوا اطلاع بسمارك على ذلك، ويشتاط بسمارك غيظا، ويكشف بسمارك عن ضغنه حول الأمر أمام رون وآخرين، ويغضب الصديقان، ويشعر بسمارك بأن رون لا يفعل ما فيه الكفاية في الدفاع عنه غير كاتم انفعاله، ولا مدار لرون، ويفاجأ بسمارك بالكتاب التالي مساء:
لا أتردد في الاعتراف بأفضليتكم في أمور كثيرة كما حاولت دوما أن أظل على وئام مع سموكم، واليوم أيضا حاولت أن أجتنب قطع العلاقة مع أن أسلوب ملاحظاتكم يجعل هذا الاجتناب صعبا إلى الغاية، ومن الجلي أن «موادكم الملتهبة» حطت من قيمة ما لدي، وقد يكون من المستحب لنا نحن الاثنين - ولي على الخصوص - اجتناب مثل ذلك التحاك في المستقبل، وإني حين أذكر روابط الصداقة التي ارتبط بها كل منا في الآخر منذ سنين كثيرة، وفي عشر سنين عملنا فيها معا؛ ألتمس من سموكم أن تطمئنوا إلى إمكانكم الاعتماد علي وعلى نشاطي بما يلائم، ولكنكم إذا ما فتحتم باب الكلام احتجاجا أو لوما على تصرفي الرسمي استطعتم فعل ذلك مع مواجهتكم بجميع ما في «موادي الملتهبة» من الأخطار، ولست من الحماقة أو الأنانية ما أحاول معه الوقوف ضدكم بقواي المسنة ونفوذي القليل، فهذا صحيح! ولكن من الصحيح أيضا أنني لا أحتمل تجاهلكم مزاجي ومحاولتكم معاملتي برعاية قليلة وضغينة كبيرة كمتمرد أو مهمل خلافا لما أنا عليه في أي وقت كان، خلافا لما أنا عليه في الماضي والحال والمستقبل.
ورون في كتابه هذا يرجو من بسمارك أن يعد كتابه محاولة «لإنارة سموكم بوجهة نظري حول صلاتنا المتقابلة والشروط الضرورية التي يمكن أن تدوم بها، وسواء علينا أفترقنا أم لم نفترق لا أرى غير إقامة الدليل مرة أخرى على سروري البالغ ببقائي صديقكم القديم: رون».
وهل تجد في اللغة الألمانية ما هو أكثر روعة من هذا الكتاب الذي دبجه يراع الأقل عبقرية، فأرسله إلى الأعظم عبقرية نتيجة لصداقة مجروحة وكرامة مكلومة؟ وماذا يمكن المرسل إليه أن يصنع سوى الإسراع إلى المرسل فيجيبه عنه بلكمة صميمية وحملقة ودية؟ ولكن بسمارك الذي كتب في حياته كثيرا من الكتب الحاقدة والذي لم يأخذ مثل ذلك الكتاب قط؛ اتخذ طريقا ضعيفا وسطا فكتب يقول:
عزيزي رون، إن مما يؤسفني أن أرسلتم إلي كتابا كثير الفتور؛ وذلك لما كان علي أن أحتمل منكم مواد ملتهبة أشد مما لدي في الوقت العتيد فنسيت ذلك في الحال، والآن يخيل إلي أن سبيل الغضب إليكم أسهل مما إلي، ولا أظن أنكم تضعون نفسكم في مكاني كما يجب على صديق قديم أن يفعله وكما أراني جاعلا نفسي في محلكم لو حمل عليكم بمثل تلك السفالة، وكنت أعتقد أنني أستطيع الاعتماد على عطف زملائي الصادق إذا هوجمت في شرفي ونزاهتي علنا، ومن المحتمل أن كان عليكم صنع الشيء الكثير حتى تتصرفوا في وقتكم وأعصابكم من أجل الآخرين، والذي لا ريب فيه هو أنه لم يوجد رفيق ولا جريدة ولا صديق رفع من تلقاء نفسه صوته ليكافح الشتائم الخطيرة التي توجه إلي من غير أن أستحقها؛ ولذا أجدني مضطرا إلى اتخاذ التدابير الرسمية وصولا إلى المساعدة التي لم أنلها من صداقة ولا من حسن عاطفة ...
ومهما يكن الأمر فإن مشاعري لا تنطوي على ما تظنون من افتراض، وهي مشاعر زميل يألم كثيرا مما أهين به على غير حق فلا يجد أي التفات ممن كان ينتظر عونه، واصبروا علي واذكروا سنواتنا العشر التي قضيناها في العمل معا، واذكروا أيام اشتراك أقدم من ذلك، وليس عليكم أن تصبروا أكثر من ذلك، وسأجاهد في سبيل سمعتي إلى آخر ما تركه الله لي من عزم قوي، ولن أتيح لكم بعد ذلك أية فرصة بمثل المحادثات والرسائل الراهنة تبصرون بها صداقتنا القديمة - التي أرجو دوامها بعد ختام خدمتي العامة - تدنو من الخطر.
ويسكن رئيس مجلس الوزراء قريبا من المستشار، ومن المحتمل استطاعته أن يرى من نافذته بسمارك يذرع الحديقة ذاهبا آيبا مسكنا نفسه بعد إرساله ذلك الكتاب، وكيف يمنع رون نفسه من التبسم عندما يقرأ توكيد هذا الأناني الأكبر الذي يصرح بأنه يميل دوما إلى الدفاع عن أصدقائه ويزعم أنه سيستقيل قريبا؟ يبدو رون ألطف من بسمارك فيغفر لهذا الأخير اتهاماته المكررة، ورون مع أنه ضابط حرب ينسى أنه أهين أمام شهود لم يتأخروا عن رواية ما كان من تعنيف المستشار لرئيس الوزراء، ورون يتناول قلما وقرطاسا ويبدأ كتابه ب «عزيزي بسمارك».
ولم يحدث قبل الآن أن بدأ رون كتبه إلى بسمارك بمثل تلك الفاتحة، وأحيانا يبدأ رون كتبه إليه بكلمة: «الصديق الأكرم»، وغالبا لا يبدأ رون كتبه إليه بشيء من ذلك، وذلك لعدم تصميمه على أن يرد إلى بسمارك كلمته «عزيزي رون» لما تنطوي عليه من تمويه أو صميمية كبيرة، ورون حين يخاطب بسمارك ب «عزيزي بسمارك» على ذلك الوجه؛ وذلك للمرة الأولى والأخيرة؛ يكون محاولا محو كلمة «سموكم» من كتابه الذي أرسله إليه قبل يوم ومحاولا العودة إلى حظيرة الصداقة، ورون يحافظ على أسلوبه الودي هذا بوصفه ظاهرة أمس، حيث يقول:
وإذا كنت قد اضطررت إلى إرسال كتاب «كثير الفتور» إليكم فإن عليكم أن تعلموا أن أشد المشاعر كانت تمزقني، ولا يمكنكم أن تجهلوا درجة احترامي لكم وتقديري إياكم، وعليكم أن تذكروا أنني أرمي كل يوم برماح في سبيلكم لما يمازجني من شعور معكم وأنني لا أتردد في إبداء ما يجب من الشجاعة في أي مكان أجد فيه عداوة لكم، وما كان من افتراض أنني أميل إلى الظهور بمظهر الخلي تجاه ما يمس شرفكم وسمعتكم ومن افتراض أنني أتخلى عنكم غير مكترث فمما يجرحني في الفؤاد، وهذا إلى ما كان من اشتمال كتابكم على ما لا مبرر له من وعيد كثير الخطر، وقد أعربت في كتابي عن دهشي من استرسالكم ضدي على ذلك الوجه، فأجبتم عن ذلك ببيانكم مجددا قلة ثقتكم بحميتي وبشككم فيما أحمله من عاطفة نحوكم ...
ويكفي ما وقع من حديث عن أمس وعما هو جاثم وراءنا ومن قولكم إن علي أن أبدي صبرا نحوكم، وأنتم تعرفونني منذ طويل زمن، فأنى لكم أن تثقوا بأنني أحاول المحافظة دوما على قول الرسول: «ليحمل بعضكم أثقال بعض»، وبأنني أحاول العمل به جهد الاستطاعة؟ ولكنني إنسان ضعيف أيضا، فمما لا أطيقه أن ينكرني ويسيء معاملتي أولئك الذين أقدرهم تقديرا خاصا وأحبهم من سويداء قلبي، ولي أن أطالبكم باحترامي أيضا، وألا تنتظروا مني أن أكون هدفا أبكم يمكنكم أن توجهوا إليه سهام غضبكم بلا إنذار، ولنأت إلى قولكم عن الوقت القصير الذي أحتاج إليه لأبدي صبرا معكم، فدعوني أبين لكم أنني آمل وأرغب من فؤادي في دوامكم على قيادة مقادير وطننا إلى ما فيه الخير العام، وذلك إلى ما بعد رقود عظامي في القبر.
تلك هي اللهجة التي كتب بها شريف إلى صديقه.
ولكن الجو لم يصف؛ فما انفك التحاك يحدث، ورون إذ كان راغبا في المحافظة على صداقة بسمارك بأي ثمن كان، استقال في فصل الخريف، ورون يكتب إلى ابن أخيه يخبره بأن التضافر مع بسمارك على الأحرار أمر يمكنه صنعه، «وأما أن يقاتل بسمارك والأحرار معا فأمر فوق طاقتي»، وإلى بسمارك يكتب رون قوله الرجولي الممزوج بإنكار الذات: «دعني أستصرخك مرة أخرى بقولي: إلى الأمام أيها البطل المقدام! وسأصنع هذا حتى ختام حياتي الذي قد يكون قريبا، سواء علي أكنت على المسرح أم بين الحضور.»
وليس جواب بسمارك أقل روعة، وبسمارك قدير على معرفة ما يدور في قلوب الناس إذا ما تجرد من المأرب وتحرر من الريب، وبسمارك لم يقلل من قيمة ما أصاب به نفسه من خسار، فقد قال: «تمسكني الخدمة على ثلمة، ولم يترك لي مولاي خطا للرجعة، وكانت النتيجة أن لاحت رايات الملك، وسواء علي أكنت سقيما أم سليما لا أرغب عن حمل راية مولاي إلى الأمام ضد أبناء عمي العصاة ثابتا كما أحملها ضد البابا والترك والفرنسيين، وأراني منهوكا، وقد ضنيت في سبيل غاية، ولا يسوغ الخرج ديوان محاسبة، وسيجعلني استعفاؤكم وحيدا، وأنتم وحدكم تحملون قلبا حنونا بين الوزراء، وأما بقية الساق ففاسدة، وسيظل مكانكم في متكأ بهو الاجتماعات خاليا، فإذا ما نظرت إليه قلت في نفسي: كان لي رفيق ذات مرة.»
4
وتتوارى بروسية القديمة بختام أنشودة ذينك الرجلين الفخمة معا، ومنذ إحدى عشرة سنة هجم ذانك الرجلان ليقتلا تنين الديمقراطية، وقد لاح لأجل أن النجاح حليف الفارسين، وهما ما فتئا يرميان روح العصر بنبالهما إلى أن صاح مهللا وسقط، ولكن الحياة عادت إلى التنين فبدا ذا ثلاثة رءوس بدلا من رأس واحد مزمجرا من الغور، وهل تفترض قدرة بطل حي لا نصير له على إنقاذ العالم من هذا الغول؟
ومن النادر أن فتح بسمارك قلبه لأحد، والآن بعد ذهاب رون لم يلبث أن أقفل قلبه مرة أخرى، والآن تعين المقاصد والمصالح جميع أعماله، وتمضي ستة أشهر فيقول بسمارك الذي لم يأل جهدا في منع انزواء رون: إن غرور رون كان سبب جميع ما وقع من خطأ، وإن رون كان يروم دوام السلطان لنفسه مع أن كنبهاوزن كان أحسن منه موهبة، وإن رون فقد عادة العمل وصار لا يصنع شيئا، ولكن رون الذي بقي له ست سنوات راحة كان يعظم صورة صديقه من بعيد، فلما هدد بسمارك بالاستقالة مرة أخرى قال رون لابن أخيه: «أنزل برومثيوس
5
النار من السماء، فصار عليه أن يصبر على الوثاق
6
والعقاب، وما ناله يفوق مدى قدرته! ولا أحد يأكل من ثمرة شجرة الحياة بلا عقاب، وإذا ما انزوى الآن في كنف الريف الهادئ نزع بنفسه التاج من جبينه.»
بسمارك في سنة 1889.
ولما أحس رون دنو أجله سافر إلى برلين، وأقام بفندق مقابل للقصر مشاهدا رفع العلم في كل صباح قاعدا على كرسي ذي ذراعين، ويزور الملك البالغ اثنتين وثمانين من سنيه هذا الماريشال البالغ ستا وسبعين سنة من عمره، وهنالك يجلس هذان الشيخان الشريفان العالمان بالواجب والخالصا التقوى، ويتكلم هذا الشائبان عن المعارك السابقة، ويهم ولهلم بالانصراف وينظر إلى السماء قائلا: «سلم على رفقائي القدماء، فستلاقي كثيرا منهم هنالك!»
وهكذا يموت ألبرخت فون رون.
الفصل السابع
«إذا قيل للثور «هت» ذهب إلى اليمين، وإذا قيل له «هه» ذهب إلى اليسار، ولكن هذا الشيخ لا يسمع هت ولا هه!» هذه هي الشكوى التي يبدي بسمارك بها رأيه الخاص في الملك في أثناء العقد الأخير من حياة ولهلم، وما انفكت صلات الرجلين تزيد سوءا منذ بلوغ بسمارك الستين من عمره وبلوغ ولهلم الثمانين من سنيه، وكيف يستطيع قطب سياسي ذو ذكاء نادر رفع ذكره بما تم له من النجاح في أوروبة وأبصر من إذعان مولاه له ما يبلغ مائة مرة وسلك سبيل الاستبداد في الشئون العامة؛ أن يبقى مداريا صابرا على ضرورة السؤال والرجاء؟ وكيف يستطيع شيخ عنيد شريف متمتع بعزة الملك متمرن على القيادة أن يبقى مداريا صابرا على تمثيل بسمارك لدور المستبد؟
والحق أن بسمارك في كتبه كثير الإسراف في صيغ الاحترام، والحق أن بسمارك لا يهمل في كتبه نثر ما يقتضيه البلاط والتاريخ من أزهار البلاغة، ومما رواه شاهد أن بسمارك في اجتماعات مجلس التاج لا يقصر في «اتخاذ لهجة مجاملة مملوءة لطفا ممزوجا بالاحترام»، وإذا ما أجابه المليك كان ذلك بخفض جناح وأصدق وداد، وما يبديه ولهلم نحوه من شعور؛ فطبيعي، وما سكبه بسمارك من العبرات حينما أنعم عليه بلقب أمير؛ فحقيقي، ولم يصدر عن الملك ولهلم ما يدل على حسد، ولم يأل هذا الملك جهدا في رفع ذكر وزيره، وترى جميع كتبه مفعمة بتعابير الشكر، ومن ذلك قوله: «سيدوم شكري لكم إلى ما بعد موتي، فملككم وصديقكم معترف بالجميل لكم إلى الأبد.»
ومما وقع أن أراد رجل من الشعب أن يتزوج أميرة، فهو لكي يصل إلى ذلك لا بد له من نيل لقب الشرفاء، ويستأذن الملك بسمارك في ذلك قبل كل شيء؛ وذلك لأن طالب الزواج كان قد رفض ذات مرة شرب نخب بسمارك، «وذلك لأن إنعامي بالسعادة على عاشقين موقوف على سؤالكم عن وجود اعتراض لكم إذا ما صنعت ذلك!»
وبسمارك - من ناحيته وعن زهو عبقري هادئ - يمتدح دوما وعلى مسمع من الناس جد مولاه وشعوره بالواجب؛ أي يبجل تينك الصفتين اللتين كانتا ملازمتين ليل نهار لولهلم دون سلفه وخلفه.
وبسمارك مع ذلك يتكلم بصراحة يريدها أمام العشرات من الوزراء والنواب، حتى أمام أناس من الأجانب، حتى أمام أناس من الزوار غير الرسميين الذين لا يمتون إلى السياسة بصلة، فلا يعتم أن يكذب ما قاله إذا ما عن له ذلك في بعض الأحيان. «والأمور التي يمجد من أجلها الملك هي أمور حملته على إتيانها بعد جهد عظيم، وتغدو معاشرته صعبة مقدارا فمقدارا، ومما لا يطاق عدم قدرته على البت بسبب تقدمه في السن وزيادة وهنه»، ويقول لهوهنلوهه: «عاد الملك لا يعرف ماذا وقع، وهو يبدو قاسيا أحيانا إذا سمع أن هذا الأمر أو ذلك الأمر حدث مع ظنه أنه لم ينبأ بأمره!» ويقول لوزير ورتنبرغ، فون ميتناخت: «لقد حملت مليكي على كتفي إلى العرش الإمبراطوري، مع أنه كان في سنة 1866 يفكر في التنزل عنه، والآن يظن أنه يعرف كل شيء خيرا من وزيره، فيود أن يصنع كل شيء بنفسه.» ويقول لمدير البساتين بوت موجزا واضعا غليونه بين أسنانه: «إنه ضابط طيب محبوب لدى النساء»، ولما أثنى هذا الغريب على خطب الإمبراطور ولهلم أمام اللندتاغ أيام كان أميرا قال بسمارك: «مه! كانت تلك الخطب تهيأ له مقدما، فهو غير بليغ، إن كان في الحين بعد الحين يحسن الكلام أمام قواده! وهو فريد في إخلاصه وأمانته، ولا أكتفي بحيازته هذه الصفات؛ فالذي أريده هو أن يقف بجانبي.»
وما يكدر صفو بسمارك بعد تلك المدائح أن يجد مولاه امرأ لا يؤمن جانبه، ويعلم بسمارك كل ما يقوله الملك ضده، ويقول العاهل الشائب لهوهنلوهه «يهدد بسمارك بالاستقالة دوما وصولا إلى أهدافه، وهذا مما لا يمكن دوامه على هذا الوجه، ولا أحد يعرف إلى أين يريد أن يسوقني.» ويذكر بسمارك - مسرورا - أن الشيخ ولهلم كان قد غضن
1
إحدى عرائض استقالته وجعل منها كرة، ثم كتب على هامشها مغاضبا كلمة «لا!» فلما التقى الرجلان للمرة الأولى بعد ذلك لام الملك خادمه قائلا: «أتريد أن تفضحني في آخر عمري؟ إن من عدم الإخلاص تركك لي!» وفي مرة أخرى يدع بسمارك عريضة استقالته معلقة بالميزان مهددا طالبا ألا يبت فيها إلى أن يعود من إجازته، وهذا يعني أن ينتظر الملك ساكتا خمسة أشهر، ويكاد لب الملك يطير من الغضب، ويقول الملك: «لا أدري بماذا أصف لك ما لكتابك من سوء أثر في نفسي، ولكن بما أنك طلبت مني كتابة أن أكتم مضامين كتابك فإن لي أن أرجو منك أن تحلف ناقله على الكتمان أيضا ... صديقك المغتم كثيرا: ولهلم.»
ويقرأ الملك جريدة رايشغلوك في كل أسبوع من ذلك، ويألم بسمارك في مذكراته من ذلك لما يعلمه من تأسيس تلك الجريدة للافتراء عليه، ويعين ثلاثة أشخاص لوظائف عالية، ويحتج بسمارك ضد جهر الملك بلطفه تجاه أعدائه، ويكتب عن أحد هؤلاء الثلاثة المفضلين قوله: «إن الشيء الوحيد الذي لفت نظر الجمهور إلى شخصه هو ما كان من عداوته لي عدة سنين، وهو لم يمتز بحسن قريحة ولا بجمال خدمة، وهو أيام شغله منصبا في الخارج كان مصدر زعج لعدم أهليته ولزيادة حماقته في الأوقات المهمة، وهو لم يصنع في السنوات الخمس عشرة التي أتت بعد ذلك غير الكتابة ضدي والكلام عني بشكاسة من يؤدي عجبه إلى ظنه أنه منكور.»
ولكن بسمارك يعرف جيدا أن ينقم دوما، ومع احترام خليق بجليس الملوك، إذلال مولاه إياه، فلما تذمر الملك سنة 1874 من شدة عبارة في خطبة العرش كتب بسمارك من فارزين يصرح بأنه إذا ما وقع أقل تبديل في النص لم يجئ إلى برلين لافتتاح الريشتاغ، وعلى هوهنلوهه أن يقول للملك إن بسمارك بلغ من الزهو ككاتب ما لا يوافق معه على ذلك التصحيح، ويبلغ هوهنلوهه ذلك ويقول الملك الشيخ هائجا: «يستنبط من تلك العبارة أننا نريد محاربة فرنسة مرة أخرى! ولا أرغب في سماع كلمة من هذا الطراز، وتقدمت في السن كثيرا، وأخاف أن يجرني بسمارك إلى حرب جديدة شيئا فشيئا!»
ويخالف هوهنلوهه قول الملك بأدب، ويلاعب ولهلم لحيته ولم ينطق بغير قوله: «لا أوافق الأمير بسمارك على ذلك، ويسرني أن تنقلوا إليه وجهة نظري .» وهكذا يقول كل من الخادم والمخدوم للآخر ما يراه صحيحا بواسطة شخص ثالث خشية التحاك، ومن الطبيعي ألا يقع ما أراده الملك من تصحيح!
ويقول ولي العهد: «ما بيدنا حيلة، فإذا ما اقترح بسمارك على والدي عقد اتفاق مع غاريبالدي، أو مع مازيني، ذرع والدي القاعة ذاهبا آيبا قائلا مع قنوط: ماذا تحاول أن تفعل بي يا بسمارك؟ ثم يقف والدي في سواء القاعة وهو يقول: لا أعارض ذلك الأمر عند تقديرك أنه ضروري لمصالح الدولة.» ومن ثم ندرك السبب في أن بعض أكابر الموظفين يتكلمون في كتبهم الخاصة عن بسمارك ساخرين داعين إياه كاراكالا،
2
ومن ثم ندرك السبب في كتابة الملك الشائب بعد خصام كتابا مؤثرا إلى بسمارك في سنة 1873 الجديدة تلبية لطلبه، وبسمارك لم يعتم بعد ذلك أن قال لأحد الأحرار وعن رغبة في إذاعة الخبر إن مسودة ذلك الكتاب عرضت عليه في بدء الأمر، وإنه لم يصنع فيها غير تصحيح أغلوطتين أو ثلاث أغاليط في التهجية، وينتحل بسمارك روح ميفيستوفل فيقول: «إن من المؤسف أن قمت بذلك التصحيح لما يوجب ذلك عد الوثيقة أقل صحة!»
ومن النادر أن يقول أحد الصدق حول تلك الأمور، وقد جازف أونروه ذات مرة، فقال لبسمارك: إن التاريخ سيحاسب الإمبراطور على أنه «احتفظ بوزير معنت
3
واتبع نصائحه اتباعا غير مقيد خلافا لما سار عليه أي ملك من ملوك بروسية»، ويستمع بسمارك لأونروه، ثم يجيب على هذا بقوله الكلاسي: «بالحق نطقت، فللملوك بصر ثاقب غريب في معرفة ما يفيدهم!»
وكان بسمارك لا يتقيد أمام أي رجل كان إذا تكلم عن مولاه الشائب، وروى لوسيوس أن بسمارك قال في جمع مختلط في سنة 1875: «نأخذ في بعض الأحيان رسائل بخط الإمبراطور يتطلب الجواب عنها عمل عدة أسابيع، ولا يدخن الإمبراطور، ولا يقرأ جرائد، ولا يطلع على غير الوثائق والرسائل؛ فالأجمل به أن يتأنى، وإذا حدث أن وجد مني جوابا صارما امتقع ولان، وقال: «أعرف أنني وهنت بتقدمي في السن، ولكن طول عمري ليس ذنبي!» ومن الطبيعي أن ملاحظة من هذا الطراز مما يحزنني.» ويحدث بسمارك عن اللهجة التي يجب اتخاذها في البلاط، فيقول: «لا أقدر أن أقول مثلا إن جلالتكم تهذر، أو إن جلالتكم لا تعرف من السياسة أكثر من معرفة صبي من تلاميذ الصف الثالث، وإنما يجب علي صوغ ذلك كله في عبارات مهذبة، ولا يعرف الناس ماذا كان يجب أن أصنع للتفاهم مع ذلك العظيم في ثماني عشرة سنة، وإنما كنت أصل إلى ذلك بأن أهدد بالاستقالة كمسدس أحمله بيدي على الدوام.»
ويمتدح نجي بسمارك - لوسيوس - الملك ولهلم فيجيبه بسمارك عن ذلك قائلا بقسوة: «يسير جميع الملوك على خطة واحدة في استغلال أقدر مستشاريهم وأخلصهم، ولا بد من أن يكون مليكنا قد ورث هذه الخطة عن فردريك الكبير، فهو فاتر، وهو قاس كالحجر، وهو لا يعرف معنى للشكر نحوي، وهو يحتفظ بي عاملا له؛ لما يراه من وجود نفع له في.»
ويبلغ خصام أوغوستا غايته في سنة 1870؛ فهذه الإمبراطورة ومستشارها ناظر القصر شلينتز يرعيان كل من يكتبون ضد بسمارك ويحوكان الدسائس حوله، سواء أكان هؤلاء من الكاثوليك الرومان أم من الشرفاء، ولم تنشب أوغوستا أن صارت ضد الأحرار بعد أن اتفق بسمارك معهم، وتضع الحرب أوزارها، وتشترك أوغوستا في عرض النصر العظيم الذي أقيم ببرلين بعد الوقت المقرر له بعدة أسابيع، وأوغوستا هي التي أجلت هذا العرض بعد جهد لتلك المدة بسبب استشفائها في ينبوع معدني؛ أي لسبب لم يعرفه الشعب، ولا يكاد يعرفه حتى الآن، مؤخرة بذلك تسريح الجنود ستة أسابيع، ومكلفة البلاد بذلك ملايين كثيرة من التاليرات، ومبدية بذلك نوبة من جنون العظمة!
وما كان من وضعها تجاه النواب والوزراء في الداخل وتجاه الأمراء في الخارج فيضر سياسة الريخ في الداخل والخارج، ويجعل المستشار مضطرا إلى الكفاح المضني، ويقول بسمارك لاثنين من خلصائه متألما: «هي تكاتب ملوك الأجانب بخط يدها وبتحريض زوجها - كما هو ظاهر - وهي تعارض سياستي وتواد سفير فرنسة وتعمل برأيه ورأي فيندهورست، وهي تدنو بمكايدها من باب الخيانة ، وهي تجعل الناس يكتبون إليها رسائل فتضعها أمام الإمبراطور عند تناول الفطور، فيرسل الإمبراطور إلي ما لا يروقني من المذكرات، فإذا لم تنته هذه الأمور قدمت استقالتي وغدوت قادرا على الجهر بما أفكر فيه.»
وتؤيد الإمبراطورة سفير فرنسة - وهو من الأشراف - فيما يصبو إليه من إعادة الألزاس واللورين إلى فرنسة، ويكون لديها بذلك مكار خبيث في صورة قارئ فرنسي يمثل دور جاسوس، وتعنى عناية خاصة بالغرباء وقسيسي الكاثوليك، ويزودها ناظر القصر شلينتز بكل ما يدور في خلد أرنيم وفيندهورست وجميع الساخطين من الأشراف ضد بسمارك، ويؤدي ذلك إلى تقوية آمال الأوساط المعادية لبسمارك في سقوط المستشار الذي طال عهده، ويكتشف بسمارك أن صحيفة رايشغلوك تهيأ في نظارة القصر، «فالوسيط هو مستخدم عادي يبري أقلام زوجة شلينتز وينظم منضدة الكتابة، وتجعلني الإمبراطورة أشعر بدوام جفائها لي، ويبدي أكابر موظفي القصر من القحة نحوي ما أرفع معه شكواي إلى صاحب الجلالة نفسه.»
ويذهب بسمارك ذات صباح ليسأل الإمبراطور عن التفات خاص إلى حزب الوسط، فيجده مريضا ويجد أوغوستا قريبة من سريره «بزي استنبطت منه أنها لم تصل إلى هنالك إلا بعد أن أخبرت بحضوري، فلما أبديت رغبتي في محادثة جلالته وحده انصرفت، ولكنها ذهبت لتجلس على كرسي خلف باب لم تغلقه تماما عاملة بحركاتها على إشعاري بأنها تسمع كل كلمة»، وتقام حفلة راقصة في القصر مساء، فيرجو بسمارك من أوغوستا ألا تؤذي صحة زوجها برأي معارض، «وما أبديته من حركة غير منتظرة فكان ذا أثر جالب للنظر لعدم ملاءمته تقاليد القصر، ولم يحدث في السنوات العشر الأخيرة أن أبصرت الإمبراطورة أوغوستا جميلة جمالها في تلك الساعة، وتعدل قامتها وتلمع عيناها لمعا لم أرهما به من قبل ومن بعد، وتتركني بغتة، ويروي لي أحد الندماء أنها قالت: إن مستشارنا اللطيف كان اليوم غير لطيف».
وفي ذينك المنظرين اللذين قص بسمارك خبرهما بلباقة تبدو أوغوستا كما هي، فهي تظهر في الصباح متحدية غيري وتسلك سلوكا غير لائق طمعا في أن تكون ذات إصبع في الحكومة بأي ثمن كان، ولو من وراء الباب، وهي تظهر في المساء مشبعة من مقامها الملكي فتجدد نشاط شبابها وتسترد جمالها الذي اشتهرت به ثلاثة أجيال، وهل نعجب من تمني بسمارك موت أوغوستا؟ قال بسمارك غاضبا منكتا: «لا بد من نهاية أحد النظامين: الزواج والملكية، فمن العبث جمعهما معا، وبما أننا نحتاج إلى الملكية وجب علينا أن نضع حدا للزواج!» ويقول للوسيوس بجد أكثر من ذلك: «إذا ما اتفق على أمر مساء قلب على مائدة الفطور في الصباح كل شيء رأسا على عقب، فيا ليت الإمبراطور كان من الأرامل!»
وتفتر ملكية بسمارك بعد أن بلغ ذروة سلطانه، ويفقد بسمارك تقريبا ما يجب أن يقوم عليه النظام الملكي من إيمان، ويروي لنا اثنان من خلصائه، وهما بوشر وبوش، خبر مقالة كتب مسودتها الرئيس «بسمارك» فتشتمل على تهديد بالاستقالة، وهو قد عمل على نشرها في إنكلترة حتى تتناقلها صحف ألمانية، وتكون مؤثرة في الملك فيذعن لرغائبه، وقد أشير في تلك المقالة إلى ما يمازج المستشار من «شعور ملكي وإخلاص للملك» فحدث بوش «أن كلا من ذينك العرافين أخذ ينظر إلى الآخر متبسما»، ويشكو الأمر إلى ميتناخت مع كبرياء ذاتي، فيقول: «يبلغ الملوك من جعل الحياة قاسية على الوزراء ما يدنو به الإنسان من النظام الجمهوري بعد تجربة، ويتكلم الملوك في كتبهم الخاصة عن وزرائهم كما لو كان هؤلاء الوزراء من الخول!»
4
ويكتب متهكما عن سكرتير الدولة قائلا إن هذا السيد يحدث عن أبطال أوميرس بعبارات خسيسة خليقة بحياة البلاط؛ ك «صاحب السمو الملكي، والمبارك الذكر هيكتور»، وفي سنة 1880 يلخص بسمارك الأمر سرا كما يأتي: «لست نصيرا للحكم المطلق، وكيف يمكن أن يكون نصيرا لذلك الحكم من ظل وزيرا للدولة سنوات كثيرة؟ وليس على الوزير أن يعمل للملك وحده، بل عليه أن يعمل لزوجة الملك، ولخليلته - على ما يحتمل - ولجميع من في البلاط من الأنذال، وترى رءوس أشراف القصر مملوءة بالترهات، وترى الطبقة الأريستوقراطية القديمة مفعمة بالعجب الممزوج بالشر، فلا يزينون أنفسهم بسوى شجر أنسابهم.»
ويقول بسمارك للوزير شولز: «كنت ملكيا مخلصا لملكيتي ومقدسا لمليكي عندما قبضت على زمام السلطة، فيؤسفني أن أصرح بأن هذا الشعور يقل مقدارا فمقدارا!» ويضيف بسمارك إلى ذلك قوله: «لقد رأيت ثلاثة ملوك عراة، ولم يكن منظرهم جاذبا دوما!»
الفصل الثامن
يجوب الطاغية إمبراطوريته بخطا داوية، ويسميه الشعب بالمستشار الحديدي، فيهزأ عن غير قصد، فبسمارك كان بالحقيقة حديديا في الشئون الداخلية على حين كان أمرن الدبلميين في الصلات الخارجية، ومهما يكن الأمر فإنك ترى على رأس الأمور في الوقت الحاضر رجلا قادرا على القيادة، والآن لا يتطلب الألمان أكثر من هذا. وبسمارك لعدم ثقته بأحد وعدم افتراضه اتصاف أحد غيره بالذكاء والإخلاص؛ كان لديه من الأسباب الوجيهة ما يؤمن معه بدهائه الخاص وما يرتاب معه في كل رجل قدير يقترب منه منافسا، ويسفر اجتماع هذه العوامل فيه عن جعله متشددا مستبدا ممسكا بجميع الأعنة. وإذا ما نظرت إلى ما اتحد فيه من أثرة و«كره للقرطاس والقلم» وبغض للبشر وحب للشجر وعدم ميل إلى أي مشير خاص أبصرت ما يثير فيه شوقا إلى الراحة وحياة الريف والإجازات الطويلة، ويود بسمارك أن يكون بهذه الإجازات الطويلة التي بلغت إحداها خمسة أشهر ذات مرة؛ أن يعمل موظفوه في برلين كل شيء بأنفسهم، والويل لهم إذا فعلوا أمرا عن مبادرة منهم مع ذلك، ولم يدرك أحد هذه الظاهرة بأحسن مما أدركها رون الذي كتب يقول قبل أن يصير رئيسا لوزارة بروسية: «ويريد ناسك فارزين «بسمارك» أن يصنع كل شيء بنفسه، ويصدر أوثق الأوامر مع ذلك؛ لكيلا يزعجه أحد، ولو لم يزود الريخ بمجلس عال وبما يحتاج إليه من الوزراء لكان حكم التاريخ ضده، ولا تستطيعون العيش من اليد إلى الفم
1
على الدوام، وإن كانت اليد مستقيمة قوية وكان الفم مقنعا مجهزا بأقوى أسنان، وأصدقاؤه المخلصون قليلون جدا، وهو يستمع إلى أعدائه كثيرا، وأشد أعدائه خطرا أظهرهم عبادة له، وإني لما أحمله له من كبير تقدير أريد تعديله في عدة أمور»، ولم ينشب ذلك أن يبدو لكل ذي عينين، ويشتكي لاسكر من عدم احتمال بسمارك لأي وزير ومن عدم رغبته في غير رؤساء للدواوين، ومما قيل: «تود ألمانية أن يحكم بسمارك في أمرها، وما فتئت ألمانية تريد هذا حتى عند ذهاب بسمارك إلى فارزين وزعمه أنه مريض، وتفضل ألمانية إذن أن تنال أدنى حكم من بسمارك على أتم حكم من سواه.»
وأول تجلي استبداد بسمارك كان تجاه الوزراء، ثم تجاه الريشتاغ، ثم بلغ غايته تجاه الموظفين، حتى إنه لا يقابل الدوكات الحاكمين بلا تعيين موعد، حتى إنه يصد الملوك، وينتظر أحد الدوكات الأعاظم في الساعة التاسعة مساء، ويحضر بسمارك بزته الرسمية في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين حين كان غارقا في العمل، ويعيد مبذله القديم الذي كان يلبسه في منزله وقت الشغل - كما هي عادته - ثم يقول لتيدمان الذي كان يملي عليه ما يود كتابته: «لا ينبغي لأي صاحب سمو ملكي أن يظن أن علي أن أنتظره أكثر من ربع ساعة»، وفيما هو يقول ذلك إذ ينبأ بوصول الدوك الأكبر، وتفتح الأبواب ويجلس بسمارك الذي كان يذرع الغرفة ممليا ذاهبا آيبا خلف منضدته في الحال، ويزعم غرقه بين الوثائق - كما روى تيدمان - ويقول مع كبير توقير: «ظننت أنكم يا صاحب السمو الملكي لا تشرفونني بالزيارة، فنحن في الساعة التاسعة والدقيقة العشرين.» ولا يكتفي بسمارك بمجازاة الأمير على هذا النمط من الإهانة التي وجهها إليه أمام أحد خلصائه قاصدا إذاعتها، بل كان يهدف إلى الإفادة من ثرثرة جميع دوائر الخارجية، ويجيء ملك سكسونية ذات يوم بغير سابق ميعاد فيسأل البواب الذي هو بروسي خالص: «أهو مدعو؟ كلا؟ لا أدعه يدخل إذن.» وينصرف الملك، ويقبل المعاذير التي تقدم إليه فيما بعد.
ويجعل بسمارك من يبلغ وزراءه وسفراءه مدة أسابيع أنه ليس في منزله؛ وذلك لعدم حبه إياهم أو لإراحة نفسه منهم، ويروي لنا لوسيوس وتيدمان نبأ كثير من الحيل التي يتذرعون بها؛ ليحملوه على تلقي خبر أو اتخاذ قرار عندما يكون منوعا، ويخيل إلينا أننا نقرأ مذكرات البلاط عن طاغية جميع الروس، ولا يريد من هم من أصحاب الذكاء النادر أن يكونوا من أركان وزارة شكلية كتلك، ويزيد ارتباك بسمارك في إيجاد وزراء، وهو إذا وجدهم لم يلبث أن يميل إلى الخلاص منهم؛ ولذا شبهه كونت نكات بدون جوان قائلا إن المستشار يتملق الحسان حتى يظفر بهن، فإذا فاز بهن سرحهن بسرعة، ولا تجده يحترم أي وزير لمدة تزيد على عامين، ولا يكاد يمسك بوزير أكثر من سنتين، ولا يرى بسمارك في هذا ما هو غير طبيعي، وبسمارك يصف هذا الوضع بقوله: «إذا أردت تناول ملعقة حساء وجب علي أن أنال إذن ثمانية أغبياء قبل كل شيء!» ولكن زملاءه الذين يؤذيهم إذا ما انحازوا إلى أعدائه تذمر بمرارة من إنكارهم الجميل قائلا إنه انتشلهم من عالم الخمول.
وكل زائر يورثه زعجا ما لم يكن هو المتكلم، «ومن يود أن يحدثني عن أمر يجب عليه أن يتم حديثه في عشرين دقيقة، ويمكث معظم السفراء مدة أطول من تلك طمعا في انتزاعهم خبرا يدخلونه إلى تقاريرهم»، حتى إن أعلى الموظفين، حتى إن الأصدقاء المقربين، لا ينبغي لهم أن يأتوا لزيارة بلا دعوة ولا ميعاد ولو كان في ملكه بالأرياف، حتى إن الإمبراطور ولهلم نفسه لا يحق له أن يرسل إليه أحدا في فارزين لإمكان عدم ترحيبه به.
ومما حدث أن قابل الإمبراطور سفيره بباريس الأمير هوهنلوهه، وأن أشار على سفيره هذا بالذهاب إلى فارزين عادا ذهابه هذا مساويا لأمر، وأن أجاب الأمير هوهنلوهه عن هذا بأنه لا يستطيع أن يذهب إليها من غير أن يدعوه بسمارك، وهنالك يسكت الإمبراطور والأمير هنيهة ثم يذعن الإمبراطور الصبور، ولكن بسمارك إذا ما رأى تبليغ الإمبراطور شيئا من فارزين أرسل إليه هوهنلوهه هذا مثلا لإيصال ذلك إليه.
وصحته من وسائل استبداده، فإذا لم يسطع بلوغ أمر وقع مريضا، وبعض مرضه هذا يكون حقيقيا وبعضه الآخر يكون سياسيا، وهنالك يصرح بأن صحته تقضي عليه بالانصراف، وتعلق صحيفة كلاديراداتش على ذلك منتحلة سخرية هين:
2 «أجعل الضرائب الصغيرة من آلامي الكبيرة.»
وفي كل مرة يقدم بسمارك استقالته، وقد قدمها ست مرات، لا يستند إلى صحته وحدها فقط، بل يستند أيضا إلى الخدمة، وإلى الإمبراطور نفسه في أكثر الأحيان، ويجده هوهنلوهه في فارزين ذات يوم «حسن الحال طيب المزاج»، ويعهد إليه بسمارك في أخبار الإمبراطور بأنه دائم المرض تعب الأعصاب، «وذلك لأن الإمبراطور لا يعنى بي، وهو يزعجني».
بيد أن المستشار ينتظر من الريشتاغ عناية ضن المستشار بها عليه، فلما حمل بسمارك على لاسكر حملة شخصية في سنة 1879 دق الرئيس الجرس بلطف، فيقف بسمارك حملته ويقول: «ما هو السبب في دق الجرس؟ كل شيء هادئ في القاعة!» ثم يقول للوسيوس: «إنني أعلى موظفي الإمبراطورية هنا، ولست خاضعا لنير الرئيس، ولا يحق للرئيس أن يقاطعني أو أن ينذرني بالجرس، فإذا فعل شيئا من هذا دنونا من حل المجلس خطوة!» وهكذا يحول جميع أسهمه إلى نفسه، وهكذا يتعطش إلى القراع مع ازدراء الآخرين، ويهاجم ريكرت الحكومة ذات مرة، فيصب بسمارك جام غضبه قائلا: «أجل، أيها السادة، إنكم تحملون على اشتراعنا وأعمالنا وعلى سياسة الحكومة، ومن تقصدون بهذه الحملات؟ ومن ذا الذي تهاجمونه غيري؟ ولست أدعكم توجهون إلي مثل هذه الشتائم زاعمين أنكم تحملون على الدولة من غير أن أنتحل حق دفع الأذى!»
وفي ذلك الاجتماع يغير بسمارك السبب فينتقل من الشرف إلى الرياضة، ويقول لريشتر: «وإنني كرجل رياضي، وعند جواز هذا التشبيه، لا أستطيع أن أردع نفسي هنا من الدفاع ضد مثل تلك الحملات!» وفي يوم آخر يترجح مزاجه بين الكرامة والتواضع، فلما قال لاسكر بعدم وجود رجل قادر على فعل كل شيء عد بسمارك هذا الكلام تحديا لسلطاته الخاصة، وقال مسيئا الاقتباس من شيلر عن قصد: «يلوح لي أن ما يستطيع ألفا أن يصنعه يستطيع شارل أن يصنع مثله، لا أكثر!» وقال ما هو في غير مصلحته في الظاهر: «ويمكن شارل أن يصنع أكثر!» ومن النادر جدا أن يشير بسمارك إلى تاريخه الخاص، ولكنه قال في الريشتاغ ذات مرة: «لقد باريت أوروبة مجتمعة، ولستم أول من عاملته!» وفي ساعات كتلك لا يسع سامعيه حتى أشد أعدائه سوى الارتعاش عالمين أنه يقول الحق.
وفي تلك الأيام يتدرج بسمارك إلى الشعور بأنه إمام السياسة، وهو يعلم النظريين في الريشتاغ «أن السياسة ليست علما - خلافا لما يخيل إلى كثير من الأساتذة - بل هي فن، وهي بعيدة من العلم بعد النحت والتصوير منه، وقد يكون المرء ناقدا حاذقا من غير أن يكون متفننا، حتى إن أستاذ النقاد ليسنغ لا يستطيع أن يصنع مثل تمثال لاكون».
وبسمارك بعد مثل تلك المعارك في الريشتاغ إذا ما أتى المائدة سيئ المزاج بدا تجهمه بعد الأطباق الثلاثة أو الأربعة الأولى، وهنالك يبدي رغبة في إلقاء خطبة كالتي كان قد ألقاها في إحدى الولائم، «وهنا يجمعنا صمت طويل ووجوه حائرة».
ولتلك الأهواء التي يسير معها طاغية ارتباط في سلامة مقامه الخاص، وفي الحقيقة يشابه بسمارك في ذلك أسدا يلوح في الحين بعد الحين أنه يطلق الحيوان الذي أمسكه ليقبض عليه ببراثنه العظيمة في آخر دقيقة.
وفي شهر أبريل سنة 1880 يساوره الغضب لما كان من الفوز على بروسية في البندشرات وظهورها أقلية في هذا المجلس للمرة الأولى، فلما كانت الساعة العاشرة مساء أحضر تيدمان - على خلاف عادته - وطلب منه وضع مذكرة في تلك الليلة عن استعفائه لتعلن في «النور دوتش» ويهيئ هذه المذكرة على الرغم من النصائح التي تعرض عليه، وينزل إلى الحديقة للنزهة، وكان كلما دنا من النافذة التي يعمل بجانبها أمين سره أصدر إليه من الإرشادات ما هو أشد مضاضة مما تقدم، فعلى كثير من أمراء الاتحاد وممثليهم أن يبرروا موقفهم، ويحثه تيدمان قبيل إرسال الجريدة إلى الطبع على الانتظار إلى الصباح، فيقول: «كلا!» ويتم نقل كتاب استقالته في أربع صفحات من القطع الكامل بخط جميل، ويحمل أربعة كتاب من ديوان الشفرة
3
على تسجيله، وإلا تعذر وصوله إلى الإمبراطور قبل منتصف الساعة الخامسة، وينطلق به فارس إلى القصر في منتصف الساعة الخامسة تماما ، ويجلس بسمارك في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين حول المائدة ليتناول طعام الفطور، ولم يكد بسمارك يبدأ بالأكل حتى أرسل من يخبر بضرورة عدم إرسال كتاب الاستقالة، ويهرع تيدمان إلى الطبقة العليا لينبئ بسمارك بأن الوثيقة أرسلت منذ نصف ساعة، ومن البديهي أن يحاول استردادها من المرافق، ولكن إعلان الاستقالة كان قد أرسل إلى الجريدة مع الأسف، وسيقرؤه الإمبراطور، ويقول بسمارك: «إذن، لتأخذ الأمور مجراها، وما أكثر ما أزعجني! والآن أتى دور إقلاقه!»
تلك هي المهازئ التي يمثلها بسمارك عندما يشعر بأن منصبه كمستشار في خطر ما، وليس بسمارك بالذي يسير في السياسة الخارجية عن هوى لا عن نهى ولو في أتفه الأمور، وبسمارك لا يلبث أن يحتدم إذا ما سار أحد مرءوسيه مع الهوى في مثل هذه الأمور، ولكن بسمارك يتحامق في الشئون الخاصة بمركزه لما يعرفه من تعذر استبدال غيره به، وبسمارك جعل أحد النائبين لوسيوس وتيدمان وزير دولة وجعل الآخر رئيسا لديوان مستشارية الريخ، ولوسيوس وتيدمان وحدهما هما اللذان استطاعا بفضل لباقتهما ونشاطهما أن يعملا تحت إمرة بسمارك عدة سنوات، ووزير المالية شولز وفق لمثل ما وفقا له فيما بعد.
وبوش وبوشر رجلان جالبان للنظر، وكلاهما أصغر من بسمارك سنا بقليل زمن، وكلاهما كان ثوريا، وكلاهما كان صحافيا عندما أخذا للخدمة العامة، وكان بوش ماهرا مستهترا مرنا رحرحا،
4
ويغدو بوش رئيسا لتحرير «غرينزبوتن» بعد قيامه بسياحة طويلة فيلفت نظر بسمارك إليه، وينال حظوة لدى بسمارك قبل الحرب الفرنسية الألمانية، ثم يطرده، ثم يسلك بوش سبيل المكر القريب من الاحتيال فيجعل نفسه رجلا ضروريا مرة أخرى فيرجعه بسمارك إلى الخدمة لما كان من خوف بسمارك منه أكثر من خوفه من بسمارك، ويظهر أستاذا في التقاط الأنباء، وهو يرى ويسمع ويقيد كل ما يقع، وتشتمل يوميته على ما لا يقدر بثمن من الملاحظات الصحيحة فيطلع عليها رئيسه بسمارك.
وبجانب ذلك الرجل الرحاب
5
الممراح
6
الحوالي
7
الطوباوي
8
تبصر لوتار بوشر الملغز، وكان بوشر محاميا في بدء الأمر، وكان أحد النواب الجذريين
9
في اللندتاغ سنة 1849، ويحكم عليه بالسجن فيفر إلى لندن، ويقضي في هذه المدينة عشر سنين وحيدا فقيرا جارا لماركس في المنفى، ويعود إلى ألمانية بعد العفو العام فيقدمه لاسال إلى بسمارك، ويكاد يبلغ الخمسين من عمره مع عطل من وسائل عيش مضمونة، ويبدو تعبا من حياة ثوري حائرة، وتظهر الطوالع ملائمة، فيسهل على بسمارك أن يبتاع قلمه القوي، وفي أيام الصدام وفيما كان صديق بوشر بلندن ليبكنخت يبدأ عمله العسير الهزيل تفتح أبواب وزارة الخارجية لبوشر فيسير منها مرتقيا ارتقاء مستمرا، ولبوشر أن يتطلع إلى الأمام متقدما في منصبه ما فعل كل ما يقال له وما كف عن إبداء آرائه الخاصة.
وكان بوشر أهيف نحيفا، وبوشر هذا إذا خرج من الوزارة مؤقتا كان خروجه هذا فرارا من الناس ومن الصحف وجوبا للغابات وملأ لدرجه
10
بنماذج العشب والأشنة
11
ورصدا للطيور مع حنان، ويعنى الأعزب الشائب بوشر بأخته على الدوام، ويأكل بوشر قليلا، ولا يشرب راحا، وهو إذا عاد إلى عدة بسمارك خلص له ليل نهار، وهو إذا ذهب إلى دار التمثيل أعطى سيده هذا رقم مقعده ليسهل إحضاره عند الضرورة، وهو ثاقب الفكر سلس القلم، وهو قد كتب مقالات إنكليزية كثيرة ومذكرات فرنسية غير قليلة وعدة مشاريع قانونية ألمانية، وقد كان يصنع أي شيء وكل شيء يأمره به سيده بسمارك لبيعه منه روحه مع عدم حبه له، وبوشر لما كان من كفه عن إبداء أية إرادة له كان قادرا على تلقين أي تحسين حتى لبسمارك، فيعرف من هذا الأخير قبول انتقاده أو عدم قبوله، ويغالي بسمارك في تقديره، ولم يحدث أن قال بسمارك عن غيره: «إنه لؤلؤ حقيقي، وقد كان صديقي المخلص، وكان رقيبي في الغالب.» ومن ناحية أخرى وذات مرة يقول بسمارك عن الوجيه المخلص أبيكن إنه أجيره.
ويطالب بسمارك جميع مستشاريه بالإيجاز إذا ما تكلموا وبالبساطة إذا ما كتبوا، ولم يكن بسمارك ملولا عند رجل مثل تيدمان أو بوشر قادر على الكلام بصرامة وعلى العمل من أول الليل إلى آخره، وليبتعد عن الحنو في الحديث وعن الحشو في الكتابة، ويضع بسمارك قاعدة لذلك في قوله الذهبي: «كلما كانت العبارة بسيطة عظم تأثيرها.» ويقول بسمارك أيضا: «مهما كان الأمر معقدا أمكن حل عقده بكلمات قليلة»، وعلى من يعمل تحت إمرته أن يكون قادرا في عشر دقائق على إعطاء تقرير عن مشروع قانون شامل لأكثر من مائة فقرة «اقتضى إعدادها عدة ساعات»، وإذا أراد الإلمام بمسألة اقتصادية وجد بيانها في خمس صفحات أمرا مطولا.
وهو يحتمل المناقضة هادئا، وهو يعرف قيمتها بعد الصدمة الأولى، وعلينا أن ندرك طبيعة هذا الرجل المؤلف من أعصاب والذي قد من «حديد»، والذي إذا ما هيج برم حاجبيه الكثيفين كما يبرم الرجل شاربيه الطويلين، وفي مثل تلك الأيام تجد بين وثائق محفظة تيدمان واحدة خاصة بأمر بسيط معد، «فإذا ما دخلت الغرفة فوجدته ينظر من النافذة متألما زاويا ما بين عينيه تكلمت في الحال عن أمر غير مهم فقال لي على العموم: يمكنك أن تسوي الأمر كما تراه مناسبا، وهل لديك أمر آخر؟» وينصرف تيدمان، ويكون الرئيس بسمارك طيب المزاج في الغد، ويستمع للتقارير ساعات كثيرة صابرا.
وكان بسمارك ينام إلى ساعة متأخرة من الصباح، فلا يبدأ العمل في مكتبه حتى الظهر، ثم يجد عاملا من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة السادسة، ثم من الساعة التاسعة إلى ما بعد منتصف الليل. وبسمارك من هذه الناحية من ذوي الطبائع المسائية، وبسمارك يود لذلك تأخر جلسات البرلمان كما هو الأمر في إنكلترة، «ففي المساء يكون الإنسان أطيب حالا وأحسن كلاما وأكثر تساهلا، وفي الصباح يكون مزاج الإنسان من نوع آخر، فهو ينتظر من الآخرين قولا عن أمر لكي يهاجم».
ولكنه إذا كان نشيطا مسرورا طالب مرءوسيه بالمستحيل، شأن ذوي الأمزجة العصبية؛ وذلك كأن يرسموا مشروعا عظيما في ساعة واحدة، وذلك على أن يزعج الكاتب عشر مرات في أثناء تلك الساعة، «ويجب على خدم المستشارية أن يركضوا دوما، ويجب أن ينجز كل عمل بسرعة مضاعفة، ولا تقاوم أقوى الأعصاب ذلك»، ويقول تيدمان في الوقت نفسه: «لم يبد عنيفا نحوي في أي وقت كان، ولا أذكر أنه كلمني مرة بلهجة غير التي تكون بين النبلاء، وهو في ذلك أكثر مجاملة وأعظم لطفا من الوزراء الآخرين، ومن الحق أن على الناس ألا يستنفدوا صبره وألا يستفزوه، وكان المرءوسون وكبار الموظفين يخشون الرئيس كثيرا، فقد كان يؤنبهم بشدة لأتفه خطأ، وكانوا يرتجفون أمام جوبيتر
12
الراجس».
13
ويصغي بسمارك إلى التقارير التي تقدم إليه نصف مضطجع على متكأ في غرفة عمله الكبرى المنارة بمصباح فضي طويل، فيصدر قراره في الأمر من فوره، ولم يذكر تيدمان أن بسمارك تردد في هذا الشأن ولو مرة واحدة في ست سنوات، وكان بسمارك إذا ما أملى يذرع الغرفة صاعدا نازلا فيتدفق كلامه كما لو كان يخطب الناس من فوق المنبر، وهو وإن كان يقف طويلا أحيانا لا يلبث القول أن ينبثق منه، وهو وإن كان يملل في الغالب تعبيرين مترادفين يفعل هذا لاختيار أحدهما فيما بعد، «وبما أنه كان لا يطيق مقاطعته لما تؤدي إليه من قطع سلسلة كلامه فقد كانت متابعته صعبة إلى الغاية، ومما حدث حوالي نهاية سنة 1877 أن أملى علي تقريرا ليعرض على الإمبراطور مصورا فيه نشوء أحزابنا السياسي منذ إعلان الدستور، وقد دام الإملاء خمس ساعات بلا توقف، وقد كان يتكلم بما هو أسرع من عادته فكنت أجد أعظم مشقة في قيد جميع ما ينطق به، وقد اشتدت حرارة الغرفة فخشيت الشنج
14
فأعملت ذهني بسرعة وخلعت سترتي وداومت على الكتابة مشمرا عن ساعد الجد، وينظر الأمير بسمارك إلي حائرا في بدء الأمر، ثم يومئ إيماء المدرك للسبب من غير أن يقطع ما يملي، ويتم الإملاء فأنقل ذلك بخط جميل فيقع ذلك في مائة وخمسين صفحة من القطع الكامل، فأقضي العجب من عدم وجود أي عيب فيما قيدت، وهو تحليل دقيق عاطل من التكرار خال من الاستطراد».
15
وهكذا يري بسمارك نفسه في عمله الرسمي مستبدا رصينا، وبسمارك في الأمور الأخرى يبدو جامعا بين المحافظة على المواعيد والمجاملة الشخصية ، وبسمارك لما ليس لديه صبر ولا وقت لتقاس عليه ثيابه كان يجب على خياطه أن يصنع ذلك بعينيه، فإذا لم تكلل هذه الطريقة بالنجاح أخذ الخياط المسكين مثل الكتاب الآتي: «سبق أن خطت ثيابا ملائمة لي، ولكنك فقدت هذه العادة مع الأسف مفترضا أنني صرت، مع تقدمي في السن، أنحف مما كنت عليه وأقصر غافلا عن أن هذا لا يقع إلا نادرا، وما أرسلت إلي منذ سنة 1870 من ثياب فلا يناسبني لبسه، وما كنت أنتظر من محل حسن الإدارة كمحلك أن يكون قليل الانتباه إلى التاريخ الطبيعي للبدن الإنساني.» وأسلوب مؤنب كهذا هو الذي كان يستعمله تجاه من هم دونه إذا ما اضطر إلى التعزير.
وتبلغ عزته ذروتها إزاء نظرائه، ولا مراء في عدم احتماله زملاءه، فيعاملهم بأسوأ مما يعامل به مستشاريه الصميمين الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم أمامه، ويصف كثير من الوزراء ما فيه من «ترفع ممتنع»، ويقولون إنه يعدهم مساعدين عاديين، ومما كتبه وزير البحرية فون ستوش: «إنه يأذن لي في الجلوس، ويدقق في عملي كما يدقق أحد معلمي المدرسة في فرض تلميذ بليد عنيد، وهو ينتهرني كلما حاولت إبداء أقل اعتراض فلا يسعني سوى السكوت والتسليم.» وهكذا يخسر الرجل في نصف ساعة احترام بسمارك إلى الأبد، ويسيء بسمارك معاملة أولنبرغ على غير حق، فيحتج هذا الوزير على ذلك بشدة فيحمل بسمارك العنيف على كتابة الكلمة الآتية، وهي: «استنبطت من كتابكم أنه أسيء إليكم بخطأ أرى طلب الصفح عنه، وإن كنت سببه غير المباشر.» فيتناقل آل المرسل إليه هذا الكتاب جيلا بعد جيل، وهنالك وزراء آخرون ارتقوا إلى مناصبهم بفضل صلاتهم الودية ببسمارك، فلا يعتمون أن يفقدوا هذه الصداقة فيفقدوا مناصبهم تلك، وهم بعد قصير وقت من تعيينهم يأخذون منه كتبا خاصة جارحة وكتبا رسمية مبكتة، فلا يتمالكون أن يغدوا أعداء أشداء لصديقهم القديم بسمارك، فبسمارك ينتظر شكر الناس له، وهو لا يحمد أحدا.
ومن النادر أن يبدي بسمارك لإنسان شكرانا، وهو إذا ما فعل ذلك على قلة لم يشق له غبار، ومن ذلك ما وقع بعد حرب سنة 1870؛ أي بعدما تم النصر على فرنسة، فقد كان بسمارك ممتطيا صهوة جواده بين مولتكه ورون، ووراء الإمبراطور، في أثناء عرض عسكري تحت باب براندبرغ، فأبصر موظفي وزارته فوق منصة خاصة، فأمسك أحد الأكاليل الثلاثة المعلقة بقربوس
16
سرجه، ورمى به إلى مساعديه أولئك.
الفصل التاسع
في مساء من شتاء سنة 1860 كان الرئيس وشلوزر وكروا والشاب هولشتاين ومعلم الأولاد جالسين حول الموقد بسفارة بطرسبرغ، وكان الحديث يدور حول خلود الروح، ويحاول هولشتاين أن يثبت أن الخلود المضمون الوحيد هو ما يترك من صيت، وهنالك يتناول بسمارك كأسه الموضوعة على الموقد، ويقول: «دعني أذكر لك شيئا يا فون هولشتاين، دعني أذكر لك أن هذا القدح من رحيق مدوك هو أفضل عندي من ثلاثين صفحة من التاريخ العام لبيكر!»
وازدراء بسمارك بالصيت الذي سخر منه في أيام طلبه وفي أيام مشيبه هو من أبرز صفاته، وهو على ما يحتمل أظهر فارق يمتاز به من نابليون الذي كان يبقى غير ذي خطر لو لم يعجب بأبطال بلوتارك
1
ولو لم يتق إلى المجد، وفي الحقيقة أن بسمارك لم يكن ليبالي بثلاثين صفحة حينما انتهى بيكر إلى سنة 1870 في تاريخه العام، وبسمارك كان يعرف من هو، وبسمارك فيما لديه من مؤلفات كارليل رسم خطوطا تحت ما جاء فيها من عبارات عن العبقرية السياسية، وبسمارك في احتفال كارليل ببلوغه الثمانين من سنيه أرسل إليه من التحيات الطيبات ما لم يفعل مثله تجاه أي ألماني لوذعي كان، وما يجدر ذكره هنا هو أن كارليل كان قد أخذ منذ خمسين عاما مثل ذلك الكتاب من ألماني أعظم من ذلك.
ويسفر تقدير معاصري بسمارك له عن فتوره التام، ويؤدي ازدراء بسمارك للرجال إلى نفوره من إعجابهم به، ويعيره ريشتر في الريشتاغ بجهله الاقتصاد السياسي فيجيبه بسمارك بأنه يستطيع انتظار حكم معاصريه هادئا، ولكنه يضيف إلى هذا قوله: «لا أود قول شيء عن الأعقاب؛ لعدي هذا أمرا عاطفيا إلى الغاية .» وإذا تجمع جمهور أمام الريشتاغ ليراه حين وصوله راكبا عربته، انزعج، وقال إنه يعرف أي وجه يجب عليه أن يري فينفر منه كوزير بغيض يود الناس أن يتفلوا عليه؛ فالآن أصبح لزاما عليه أن يبدي وجها آخر.
ويدعوه ولهلم لحفلة شد الرايات التي سيحمل إحداها اسم بسمارك وشعاره فيرفض الدعوة معتذرا بخوفه من الرد، ويرسل ولهلم إليه صليبا من الألماس مع كلمته المؤثرة: «إن هذا هو آخر وسام يمكنني أن أقدمه إليك، وهو قد أوجد من أجلك.» فيقول في بيته: «أفضل على ذلك دنا من خمر الرين أو حصانا أصيلا.»
ويجد بسمارك في دماه
2
ما يسليه، فلما أبصر نفسه ذات يوم مصورا على شكل ملك السلم لابسا حلة قصيرة مع تاج من آذان الفأر
3
وإكليل من الغار على رأسه الأصلع؛ عجب من «ممكناته المتصاعدة»، ولم ترقه التماثيل الأولى التي أقيمت له، وقد صرح للبلاد بقوله: «لا يسرني مثل هذا الاعتراف بالجميل، ولا أعرف أي وجه أتخذه عند مروري أمام تمثالي بكولونية، وإذا ما تنزهت في كيسينغن أزعجتني رؤية نفسي من المتحجرات.»
وبسمارك واقعي، وهو لواقعيته لا يحركه الذكر، ولا حيلة في ذلك، بيد أن بسمارك يرى في الرأي العام ما يحتاج إليه فلا يألو جهدا في استغلاله، وفي هذا تجد سر عنايته بتكييف نفسه مع قحة عظيمة عظم الأثر المبصر البادي على معاصريه فيظل فاترا تجاهه. وعلى ما كان من عدم احتمال بسمارك لرؤية تمثال له يود أن يتحدث الناس عن أعماله وحركاته وشذوذه ما كانت له بهذا دعاية مفيدة.
ويدعى سيبل إلى وضع كتاب عن تأسيس الإمبراطورية الألمانية من قبل ولهلم الأول، وتفتح الوثائق المحفوظة؛ تسهيلا لعمل ذلك المؤرخ، بيد أن على بوشر أن ينخل هذه الوثائق فيترك له «غير الخطر» منها؛ ولذا غدت المجلدات السبعة التي هي نتيجة تلك الغربلة خالية من القيمة. ويعرض هيزيكيل وبوش وآخرون كتبهم على بسمارك قبل طبعها، ويحذف بسمارك من هذه الكتب ما لا يرغب فيه من مطالب وإفادات، ويشير بأن يدخل إليها بعض الإضافات، وينتقد فصولا لم يعالج فيها بدرجة الكفاية ما قام به من تصرفات، حتى إنه يسلم إلى هيزيكيل مختارات من الرسائل الشخصية التي كتبت في سنة 1870، فأمكن نشرها في سنة 1877.
ويعنى بسمارك بكل طور من أطوار سيره ناظرا إلى ما يكون لذلك من نتائج سياسية، وبسمارك الذي اشتكى بمرارة من ناظر أموال الإمبراطورة لأن هذا الموظف لم يحيه كما يجب أنزل ستائر حجيرته في القطار في أثناء سياحة قام بها في النمسة لإمكان ما يسفر هتاف الجمهور له عن إيلام لمزاج زملائه بفينة في زمن أزمة.
ولا تجد أحدا يستطيع أن يباري بسمارك في الانتفاع بالصحافة، وعلى مرءوسيه أن يشتغلوا ليل نهار بأمر الصحافة معدين موعزين ملخصين مكذبين، ويثبت بسمارك أنه بارع في تعيين مقادير الرسوم، ويأتي بسمارك بالأنباء إلى برلين من إحدى نواحي ألمانية أو من إحدى العواصم الأجنبية فيذيعها ليؤثر في الرأي العام تأثيرا خاليا من الغرض في الظاهر، ويملي بسمارك في مكتبه الخاص أغرب الأمور عن نفسه فيذيعها في العالم كما لو كانت مرسلة من ستوكهلم إلى بوتسدام، ويبلغ حوك هذه الأمور من الحذق ما لخص خلصه
4
تيدمان معه ظاهرتها بقوله إن بسمارك هو «ميفيستوفل أكثر من فاوست»، وفيما كانت أوغوستا تشد عضد أرنيم في سنة 1872، وفيما كان بسمارك في فارزين يملي بسمارك على بوش مقالة عن «رغائب سيدة معظمة في تغيير المستشار»، ولما أراد بسمارك نقاشا حول النمسة جعل مراسل كلونيش زايتنغ العرضي بوشر ينشر خبرا اتفاقيا من ستولب ببوميرانية.
ويبلغ الكفاح ضد الكنيسة أقصى حدوده في سنة 1874، فيحاول قتله مرة أخرى بإطلاق النار عليه في وقت يلائمه، وبسمارك منذ بضعة أشهر كان قد قال للريشتاغ مزدريا متكبرا: «لي الشرف بأن يكون لي أعداء كثيرون في أثناء حياتي السياسية، فسافروا من الغارون إلى الفيستولا ومن البلت إلى التيبر، وابحثوا في مياه الأودر والرين تجدوني في كل مكان أكبر مبغض في البلاد ولا فخر!» ولكن بسمارك في ذلك الحين كان يجهل أن نحاسا بجليكيا عرض على رئيس أساقفة باريس أن يرسل إليه رأس بسمارك لحملة هذا الأخير على رومة، ومما قاله هذا المتعصب: «إنني مستعد لذبح الجبار إذا كنتم تعتقدون أن الرب يعفو عني وإذا كنتم تدفعون إلي مبلغ ستين ألف فرنك عند انقطاع عمل هذا الجبار اللعين قبل نهاية السنة.»
وتمضي بضعة أشهر فيطلق شاب في كيسينغن نارا على بسمارك وهو في عربته فتجرح إصبع بسمارك جرحا خفيفا، ويصرح الجاني بأنه من أعضاء حزب الوسط، ويسر بسمارك ويوقف أساقفة لما رئي من مساعدتهم الجاني بوقفهم العربة، ثم يبدأ بحملة صحافية فتدوم ستة أشهر، ويبلغ الأمر ذروته في الريشتاغ، وينهض عضو مغرور من حزب الوسط فيقول: «يطلق النار على الأمير بسمارك نصف مجنون، فيصير فريق كبير من مفكري الأمة الألمانية هاذيا.» وبهذا يتاح لبسمارك أن ينطق عن كبير حقد بواحدة من أعنف خطبه، قال بسمارك: «إن الرجل الذي تكلمت عنه هو مالك لملكاته العقلية تماما كما يدل عليه ما لدينا من الشهادات الطبية، وإنني أدرك أن النائب المحترم لا يود أن نعتقد وجود أي اشتراك له في الجرم مع مثل ذلك الشخص، ومما لا مراء فيه أن العضو المحترم لم يفكر قط أن هذا المستشار يكون هدفا لمثل هذا العارض ذات يوم، ومن المحقق أن مثل ذلك الفكر لم يدر في خلده، ولكن ألا تزالون تنكرون كما يشاء هواكم أن ذلك الجاني يتمسك بأذيالكم قائلا إنه من حزبكم السياسي؟ (هياج شديد)، ولا أقول لكم غير وقائع تاريخية، وكولمن هذا قد أجاب عن سؤالي بقوله: «أردت أن أقتلك بسبب ما سن من القوانين ضد الكنيسة، وقد آذيت حزبي السياسي.» (قهقهة)، وكولمن هذا قد أجاب عن سؤالي الآخر أمام شهود: «إن ذلك الحزب هو حزب الوسط في الريشتاغ.»» وهنالك يصرخ الكونت بلرسترم قائلا: «عار!» ومن يعرف مزاج بسمارك يعتقد أنه يأتي الكونت توا ويهينه لطما، غير أن بسمارك يكتفي بزوي ما بين عينيه، ويفوز على بلرسترم بقوله هادئا: «إن كلمة «عار» هي تعبير نفور وازدراء ، وأنت لا ترى بعد هذه المشاعر مني، ولكنني بلغت من الأدب ما لا أعبر بها.»
ومحاولة قتله تلك تشغل ذهنه زمنا طويلا، ولنا أن نفترض أنها الفرصة الوحيدة التي يتاح له بها أن يعتزل، وبسمارك قال لبنيغسن في حال هياج شديد إنه سيستقيل، وبسمارك أطلقت النار عليه مرتين، وما فتئت الشرطة تحذره، وبسمارك يقول: «سأترك الأمر لمستشار آخر حتى يكون هدفا للكاثوليك، وسأبلغ الستين من عمري في اليوم الأول من أبريل، وهنالك أنزوي وأعود إلى حياة الريف!» وما انفكت زوجه وأولاده يحرضون على ذلك منذ زمن كبير، والآن يسير على غرارهم في التفكير.
وكان تأثير حنة فيه قد زال في تلك المدة الطويلة، وزادت حنة حقده بدلا من تلطيفه، وغاية ما نعلمه هو أنها لم تحاول في ثلاثين سنة أن تشفيه ولو مرة واحدة، وهي قد أحبته، وهي لحبها إياه قد أبغضت كل رجل سواه لما تعرفه من عدائه لجميع العالم، وهي لذلك قد أضحت حادة الطبع مع العمر، وهي في مشيبها قد كسرت كأسا دفاعا عن بعلها ذات يوم كما روى أولنبرغ، وهي لم تذهب إلى البرلمان غير مرة واحدة، وهي لم تطق قصده مرة أخرى، وهي قد قالت عن ذلك: «وددت لو أرميهم بساق كرسي!» وهي قد قالت لكريسبي في أثناء حديث: «والحق أن زوجي طيب كما تقول»، ولكن كريسبي تبسم هازئا قائلا: «ليس هذا رأي كل واحد!»
ولم ينفك بسمارك ينذرها بلطف في الحين بعد الحين، فلما ذهبت إلى السوق ذات مرة قال لها: «لا تبقي هنالك بعد انصراف الملك؛ فلا أريد أن تكوني بين الجمهور طويل زمن.» وتبلغ من البساطة في إبداء حبها لها ما تقوم معه ربطة عنقه حول المائدة على مرأى من ضيوف وجهاء، ولم ينقص كلفه بها وإن كان يقضي أسابيع من الصيف بعيدا منها، وهو لم يكف بعد مرور ثلاثين سنة أو أربعين سنة على حياته الزوجية عن الكتابة إليها بمثل قوله: «حبيبتي ... أحييك تحية الحب.» أو بمثل قوله في برقيته التي أرسلها إليها من فردريكسروه: «لا أقدر على البقاء طويلا بغير حصني وغير زوجي، فسنعود غدا.» والآن تروقها الحياة في برلين أكثر مما في الماضي، فلما أبصر البقاء كثيرا في فارزين قالت صديقة لها: «إن العزلة الكبيرة تؤثر في أعصاب الأميرة.»
ومن دواعي الحيرة أن يرى عدم نفوذ الروح في ذلك المنزل، ولم يعيش بعيدا من الروح رب ذلك المنزل الذي هو أقوى وأشهر ألماني في عصره والذي كان رجل دنيا في فتائه، والذي أطري بأنه متكلم محدث حتى في هذه الأيام ومن قبل جميع من يجتمعون به في أثناء حياته الخاصة؟ إذا لم نعرف من أموره غير تلك الناحية بدا لنا أكثر رجال زمنه بعدا من الروح.
ولا يبالي بسمارك بكيفية رياش الغرف التي يعيش فيها ما دامت مجهزة بمقاعد مريحة، ولا ينظر بسمارك إلى ناحية الجمال الفني فيها، فلما أخبره بعضهم بأن أثاث رون الجديد جميل قال: «إن الذين يعنون بحسن الأثاث لا يأكلون جيدا.» وبين الرياش الشنيع وبين الجدر المستورة بالورق البشيع المعلقة عليه شهادات الترفيع، وبين الكراسي المصنوعة من خشب المغني المغطى بالنسيج الكتاني القنبي المختلط الألوان، وبين ذلك العطل من الانسجام يجلس أو يضطجع على متكأ، ذلك الرجل العظيم متوسطا ضيوفه بعد العشاء، ويلبس ذلك الرجل العظيم سترة مصنوعة من الجوخ الأسود مزررة إلى عنقه، ويستبدل بالقبة
5
ربطة رقبة لنفوره من قيد القبة، وتبصر كلبا دانيماركيا كبيرا جاثما عند قدميه، وتبصر غليونا طويلا في فمه، وتبصر أرض الغرفة مفروشة بالصحف التي ترمى بعد قراءتها، ويقول صديق المنزل أولنبرغ منذ سنين: «لا ترى الصلات الأممية في ذلك الوسط؛ فأشراف الأرياف لا يغادرون ردهة بسمارك.» ولا يكاد الضيوف ينقطعون؛ فهنالك تجد بعض المساعدين وبعض شبان الضباط الذين يقدمهم الأولاد وبعض الأقرباء والشرفاء يتعاطون الخمر والجعة والكونياك بلا كلفة، «فتلك هي صورة بارزة لردهة استقبال الدبلمي الأول في العصر، ويوحي جو تلك الردهة بوجود برلمان للتبغ، وتلقي السيدات الأنيقات الملبس روعة على ذلك المنظر في الغالب.»
ويدور الحديث ملائما لتلك البيئة، حتى إن الأمير بسمارك إذا قص قصة أو أوضح أمرا سياسيا لم يكتسب كلامه شكلا ذهنيا، وإذا ما أتى ضربا من المناجاة قوطع بمظاهر التكريم، وهو يحدث دوما عن حوادثه التاريخية كبرقية إمس ومحاولة قتله وأيام فرساي، ويمر هذا عقدا بعد عقد، ويجمع وصافو تلك الأحوال على توجعهم من قطع الممتع من أقوال بسمارك على الدوام بتدخل ولد له أو بعرض رسالة عليه أو بتقديم طبق إليه، ويروي بسمارك نفسه أنه دعي إلى حضور زفاف ابنته أناس كثيرون، فأخذ أصحاب الدعوى «يؤزون كذبابتين في مصباح مقفل حين يتدخلون طوعا ويوجبون ارتباكا في كل شيء.»
ومما لا يجدي نفعا أن يسأل عن ذوي القرائح الذين كانوا يلازمون منزل بسمارك فيما بين سنة 1870 وسنة 1890، لما لا تجد أحدا منهم، وذلك مع استثناء الأخوين لندو اللذين كانا نافعين لبسمارك، واستثناء كورسيوس وفلدنبروخ، وغير ذلك عدد من كانوا يقصدون المجتمعات البرلينية في ذلك التاريخ من غير أن يمروا بساحة بسمارك كهيزه وستورم وفيلبراند وبراند وإيبسن وبورنسن ومنزل وكلينجر وبراهمز وهلمولتز ودوبوا ريمون ولانجبنبك وروبرت كوخ وهرمن غريم وإريك شميت وشيرير ورودنبرغ ورانكه، ولا ترى بين هذه الأسماء من هو عدو لبسمارك كفيرشوف وفريتاغ ومومسن، ولما أحضر لنغبهن إلى الأميرة حنة رواية هيبريون لهلدرلن قالت بعد قراءتها: «لقد ضحكنا كثيرا.»
ولا يعارض ذلك الشذوذ ما كان من صحة فهم بسمارك لكتب شكسبير وغوتة وشيلر وبايرون كما تشهد بذلك رسائله التي كتبها في شبابه، وكل ما نعلمه من مثل تلك الأحوال ومن مئات الأحاديث المروية التي لا يمت سوى القليل منها إلى المسائل الذهنية بصلة هو أن بسمارك المملوء دماغه بالخطط والمرتبط عزمه في ضروب الكفاح والعاني بأسباب الصحة والمفطور على الاستبداد يجتنب كل اختلاط بالأشخاص الذين لا يساعدونه على بلوغ أهدافه والذين لا عمل له معهم والذين لا يمثلون حزبا ولا يظهرون عداء.
ولذلك نتائج هائلة، فرجل كبسمارك ظل ثلاثين سنة لا يقرأ شيئا خلا ما كان من نظره الخاطف إلى أشعار هين وبايرون وأوهلند وروكرت ، ورجل كبسمارك يبعد نفسه من جميع الحركات اللاسياسية في بلده، لا بد بعد طويل سير من أن ينتهي إلى الحكم في البلاد بأساليب غير ذهنية، لا بد من أن يفصل الذهن في ألمانية من الدولة، لا بد من أن يخطئ في تقدير الأمور الأوروبية الثلاثة وهي: عالم الاقتصاد والكنيسة والاشتراكية، لا بد من أن يحاول - بتدابير أميرية وعلى غير جدوى - استغلال تلك الأمور على حسب ما تقتضيه مصلحة الحاكمين، وعلى ما كان من ضيق أفق المليك الطاعن في السن كان هذا المليك يبصر ويسمع عن الأمور اليومية خيرا مما كان يبصر ويسمع عنها بسمارك مع ما لهذا الأخير من قدرة على الإحاطة بأهم المسائل ومعالجتها في أثناء الحديث حول المائدة، وبسمارك ورث عن آله ميلا إلى الكسل مضافا إلى ما فيه من حب للراحة، وبسمارك كانت أعصابه متوترة مضطرة إلى بذل أقصى جهد على الدوام، فلما أراد الارتخاء كان ذلك على حساب حياة بلده الذهنية، ومهما يكن الأمر فإن لبسمارك ما يترفع به من تلقاء نفسه، وما زال مثقفو الألمان في ذلك الدور يحملون عظيم احترام تجاه ضباط الجيش وأكابر الموظفين، وإليك مع ذلك رأي ذوي القدر من العارفين بالتاريخ حول بسمارك:
بسمارك في سنة 1890.
براند: «بسمارك بركة لألمانية إن لم يكن محسنا للإنسانية، وبسمارك للألمان كالنظارات القوية الرائعة لقصير البصر، فيا لسعادة المريض الذي يحوزها ويا لمصيبة المحتاج الذي لا يستطيع اقتناءها!»
بركهارد (1877): «يوحي اعتزاله ورجوعه بأنه كان لا يعرف كيف يخرج، ويدل سيره في جميع المسائل السياسية الداخلية على أنه كان سيئ التقدير تقريبا، أجل، يمكنه أن يبرز عند نشوب حرب أوروبية عامة كالتي تنذر بها الحرب التركية الأخيرة، ولكنه عاد غير قادر على شفاء البلاد من الفوضى.»
فونتان (1881): «يتمخض الشعب عن عاصفة صماء ضد بسمارك بالتدريج، وتتوعد الزوبعة بين الأوساط العليا منذ زمن طويل، وريبه لا تدابيره هي التي تقوض دعائمه، وهو رجل عبقري عظيم لا رجل كبير.» وفي 1893: «يجب أن نذكر دوما ما حققه من أمر جلل إذا أردنا ألا نيأس بتلك المتناقضات، وأراه أكثر الناس لفتا إلى النظر، ولا أعرف شخصا أدعى إلى الاهتمام منه، ولكنه يشق علي أن أجده يحاول خداع الآخرين دوما، وما فيه من رغبة في إخضاع الآخرين فجالب للنوائب.» وفي 1895: «هو رجل كامل ورجل مراوغ معا، وهو في آن واحد بطل وساذج لا يود إيذاء ذبابة، وهذا هو الذي يثير في مختلف المشاعر ويحول دون إعجابي الخالص القلبي به، وأراه عاطلا من أمر، وأراه محتاجا إلى شيء فيه سر العظمة.»
ويبصر نيتشه مبذلة فيقول: «بلغ الألماني ذات يوم سبب الذوق السليم مع مباذله، وماذا حدث مع الأسف؟ شد ضمن ثيابه الضيقة تاركا نهيته لخياطه بسمارك!»
ولبسمارك مع ذلك ملاحظات عميقة حول المؤرخين؛ «فالمؤرخون صنفان؛ فالصنف الأول يصفي مياه الماضي تصفية نبصر بها القعر، وإلى هذا الصنف ينتسب تاين، والصنف الثاني يعكر تلك المياه، وإلى هذا الصنف ينتسب سيبل.» وبسمارك قال هذا مع مدح سيبل إياه وحملة تاين عليه، وما كان يتصف به بسمارك من نظر ناقد فيؤدي إلى تمييزه أعاظم رجال العصر، وبسمارك هو القائل: «إن المؤرخين لا يبصرون إلا من خلال نظاراتهم، والذي يجعلني كثير التقدير لكارليل هو معرفته كيف ينفذ روح الآخرين.»
الفصل العاشر
كان قصر فردريكسروه فندقا قديما، وكان أصحاب الثراء من أهل همبرغ الذاهبين يوم الأحد إلى ساشنفالد يأكلون وينامون في ذلك المكان الذي قضى بسمارك فيه كثيرا من أيام مستشاريته ومعظم السنوات العشر الأخيرة من عمره، وبسمارك إذ ينتقل من شونهاوزن إلى فارزين ومن فارزين إلى فردريكسروه، تغدو محال إقامته غير شبيهة بقصر أو برج وإن تدرج مرتبة من شريف إلى بارون فإلى أمير، ولم لم يرد أن يقيم لنفسه منزلا فخما في غابته الجديدة؟ ولم لم يصلح الفندق القديم الذي ظل عدد غرفه أكثر من عدد أبوابه، ولم لم يمل إلى إنفاق نقود وبذل مجهود في تجميل منزل آله وهو الفخور بآبائه؟ أجل، قد بيعت كنيبهوف التي ما فتئ يذكرها والتي ما انفكت تكون المكان الوحيد الذي أحبه، غير أنه يستطيع أن يطلبها إلى آله، ولم يزل مالكا لمسقط رأسه شونهاوزن، ولم يكن ليعرف همبرغ عندما جاء ليستقر بجوارها، وكانت فارزين قفرا روائية مثل فردريكسروه، وكان المسكن هنالك داكنا من غير أن يكون سيئا، وبين هذين الملكين كان يوزع أضيافه.
وكان بسمارك يقصر حبه الوطني على بوميرانية، وقد امتد شعوره بالطبيعة إلى ما بعد هذه الولاية الشمالية، والغابة أينما كانت هي وطنه، والغابة عزيزة عليه سواء أكانت في هنغارية أم في روسية أم في دانيماركة، ولم يعتم بسمارك أن صار ولوعا بساشنفالد ولعه بالغابة المعروفة المحيطة بفارزين، وفي الغابة وحدها كان بسمارك يتحرر من سلطان غايات حياته، وبسمارك في شيبته كما في شبابه كان يجد في الغابة ما يرضي خياله ومناحيه الشعرية.
ومن قول بسمارك: «أحب الأشجار؛ فالأشجار أجداد، ولولا حبي الجم للأشجار ما عرفت كيف أعيش، وما بهجة الطبيعة إلا هبة من الآلهة لا يمكن المرء أن يظفر بها ما لم يدركها، وأميل إلى عدم الثقة بمن لم يحب الطبيعة، وإذا ما هيئ لي أن أنام جيدا حلمت بشجر الشوح
1
المغروس حديثا والذي يبدو في الربيع أخضر غضا مبللا بالندى، ثم أفيق منتعشا نشيطا، ويمكن الإنسان هنا في الغابة أن يطوف عدة ساعات راكبا عربة وأن ينتقل بين مقعد ومقعد وأن يسرح طرفه في النباتات الوارفة
2
بلا غم ولا سأم.» وهذا لا يمنع من إعمال الفكر هنالك مع ذلك، فقد قال في وقت آخر: «إنني أتخذ أهم قراراتي حينما أكون في الغابة وحدي.»
وفي الغابات وحدها لا تجد اللاإنسانية إلى نفس بسمارك سبيلا، وفي الغابات قد يحتدم بسمارك عندما يرى اقتلاع شجرة أو عندما يبصر في حد غابة حراثا يلعن حصنه ويضربهم غير راحم، فهنالك يترجل ويجلده بسوطه، وهو يناقش حارس الغابة الأول سائلا إياه عن كل شجرة بمثل قوله: «ماذا تقول؟ ألا ترى رأس هذه الشجرة يابسا؟ وأنا أيضا لي جمجمة يابسة!» وهو حينئذ يريه صلع رأسه، ومن المحتمل أن كان أروع مناظر حياته أن يرى مع أولاده في غابة فردريكسروه يسقط رءوس الشجر اليابسة بضربات البنادق تضليلا للحارس، وهكذا تراه بهذه الوسيلة الملتوية يحمي أشجاره المفضلة من خدمه مع أن الجميع يرتعش تجاه أوامره، وبسمارك يجيب عن سؤال ضيف جالس حول مائدته بأنه لا يأكل من لحم طرائده وإن كان يسمح لضيوفه بالصيد في غابه.
وبذلك لا تكاد تبصر روائية في مظهره، والتأمل في الجزئيات هو تأمل محبب لا غبار عليه، وهو يقول إنه يضع نظارات في فردريكسروه لوقف كل شيء نظره، مع أنه لا يجد في برلين أمرا جالبا لبصره، وفي الحقيقة أن النظارات هنالك أقل قوة وأن النفس هنالك أكثر تساهلا، ويبلغ بسمارك السبعين من سنيه فيكتب إلى زوجه القطعة الرعائية الواقعية الآتية:
هنا جمال الحال، وإن كان نمو الليلك هنا يتأخر ثلاثة أيام عما في برلين، وإن كان نمو البلوط هنا يتأخر ستة أيام عما في برلين، وهنا الزعرور ينمو نمو ما في برلين، ولا ترى هنا عنادل،
3
وإنما يرى ما لا يحصيه عد من الصيقان
4
والزرازير وما إليها من العصافير، ويسمع هنا ما لا نسمعه في برلين من الوقوق، وقد سألت: إلى متى؟ فأرادوا مجاملتي فنطقوا بكلمة: اثني عشر يوما، ولكن الغناء في اليومين الأخيرين كان ضعيفا! ومجرى الرحى منتظم الانحدار رائع المنظر، ويفاد من الغدير الطبيعي، أي من مزيج الطين والماء، فيدحر بشيء من التكلفة فيكون هنا ماء صاف كثير، والطاحون يسير، والمطر غزير، والجاودار في سيلك نحيف، والشعير فيها يحتاج إلى ماء من السماء أكثر مما نزل، والزارع يتذمر، وأحواض السمك الجديدة جيدة، ولا يزال الغرس الحديث عميقا كما في الماضي! وليمن الله عليك بالشفاء السريع!
والحق أن بسمارك يغدو في الغاب عادلا، ويروى في فارزين وجود صيادين فيما ليس لهم من أراض فيهرع إلى هنالك هو وضيوفه عن شبهة ليرى المشتبه فيه، ويلعن الطحان بغلظة، ويعود إلى المنزل فيستدعي رئيس حارسي الغاب، فيقول له رئيس الحراس هذا إنه ليس عند ذلك الطحان الشائب بندقية وإن ابنه قتل في الحرب، ويهز ذلك بسمارك ويصمت بسمارك هنيهة، ثم يقول: «يمكن الغداء أن ينتظر، وتفضلوا بمرافقتي أيها السادة.» ويصل بسمارك إلى الرحى فلا يخرج الطحان الشائب لاستقباله، وينزل بسمارك من العربة ويدخل عليه هو وضيوفه ويطلب منه أن يغفر له ما كان من اتهامه، أجل، إن بسمارك يجور على مرءوسيه في أثناء الخدمة، ولكن ذلك الحادث فريد في بابه.
وبسمارك بدا ذا شعور رقيق تجاه شرف ذلك الشخص المسكين العاجز عن الدفاع عن نفسه، وما طلبه بسمارك هنالك من العفو فقد أثر في أولئك الشهود تأثيرا عميقا، وقد أراح ضميره في مثل تلك الحال، ولا ريب في أن بسمارك يميل بعد اندفاعاته إلى تقليب الأمور مع تأنيب الضمير كبروتستاني، ومن الراجح أن كان بسمارك في لياليه يفكر فيما اجترحه من جور تجاه وزراء الدولة وخدم المستشارية وحارسي الغاب والأمراء بأكثر مما يعتقده أي واحد من ضحاياه هؤلاء وبأكثر مما يعترف به.
وهنالك عادة حافظ عليها في مشيبه بفردريكسروه؛ وهي استقباله ضيوفه استقبالا رسميا لائقا، ويصف وزراء الدولة وأشراف الناحية وزوج القسيس وأميرة فيمار استقباله لهم عند باب المنزل بأنه ممتاز نبيل، وبسمارك إذا ما صافح أحدا خلع قفازه، والضيوف إذا ما صاروا في غرف المنزل ذات السقوف العالية والنوافذ العريضة المنخفضة قاسموا الأسرة حياتها البعيدة من الكلفة، وهنالك - بين القعاب
5
الغريبة الشكل ومنافض السغاير والنقوش البارزة والموائد القريب بعضها من بعض والمغطاة بالسمط
6
ذوات المربعات - يمكنك أن ترتشف ما يطيب لك من ضروب المشروب، وإذا كان كل شيء في البيت هادئا كتب بسمارك إلى زوجه مثل قوله: «تقرأ أديلائيد ما تيسر من الإيطالية، ويكتب هربرت بجانبها، وتقضم تيراس عظمة عظيمة ويئز إبريق الشاي.» ويعمل تيدمان أسابيع بأجمعها عند الأمير بسمارك هنالك، فلا يجد عند نزوله وقت الظهر على العموم غير الأميرة التي «تنهض في تلك الساعة قريبا»، ويظهر بسمارك حوالي الساعة الواحدة ويستمع إلى تقرير تيدمان في أثناء غدائه، وبعد الغداء عادة يغادر بسمارك المنزل هو وابنه أو ابنته راكبا لساعتين أو ثلاث ساعات سائرا بخطو أو عدو، ويكون تيدمان حاملا مفكرة مستعدا، وهكذا يتم أهم الأمور في أثناء تلك النزه ولا سيما في نصف الساعة الأخيرة منها، وتبث العيون في الجوار منذ محاولة قتل المستشار بسمارك الأخيرة، ولا ينقطع هؤلاء من تتبع خطاه، ويضطر بسمارك إلى احتمال ذلك مؤديا بذلك إتاوة السلطة حتى في العزلة، ويكون العشاء في الساعة السادسة، «وتقدم أربعة أطباق مع راح الشنبانية والخمر العادية ورحيق بورتو، ومما يسر بسمارك أن يرى أمام طبق من قلوب الإوز وقوانصه وأكباده، ومن قول بسمارك ذات يوم إن من خصائص السراطين
7
الغريبة أن تبدو صغيرة كلما أدير الطبق.» وإذا تم تناول العشاء ذهب الجميع إلى ردهة الاستقبال الكبرى وتجمعوا حول الموقد حيث يدير بسمارك النار بنفسه، «وهنالك يقضى أمتع ساعات اليوم، وهنالك يفضي بأفكاره السرية، وهنالك يتكلم عن ماضيه بلا انقطاع، ويذهب إلى غرفة عمله في الساعة التاسعة، وفي هذا الحين يبدأ عملي اليومي، ويجب انتهاء كل شيء قبل منتصف الليل، وتقدم الأميرة شايا في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثلاثين، ويجلس مع الأميرة ساعة واحدة بعد ذلك.»
وليس حديثه عن مقتضيات المنصب وحده هو الذي يكدر صفو حياته في الغاب، بل يكدر ذلك الصفو بما هو واقع من زيادة نفقاته ونقص دخله، ويتناول ببرلين ثمانية عشر ألف تالير راتبا، ويقول إنه يحتاج في برلين إلى نفقة خمسين ألف تالير، ويألم من زيادة النفقات التي اقتضتها ألقابه ومهوره، «وكان وضعي حسنا قبل أول مهر أخذته، ثم التهمت فارزين كل شيء، وإذا عدوت راتبي ودخلي من شونهاوزن لم تجد لي مورد رزق، ويبقى كل إيجار هنا من غير أن يكفي، وسيسوي المستقبل جميع ذلك لا ريب، ولا أدري أيكون الدخل جميلا، نعم إن المهر الجديد (فردريكسروه) ذو قيمة كبيرة، ولكن مجموع ما دخل علي منه حتى الآن هو خمسة وثمانون ألف تالير، وقد اشتريت بهذا المبلغ أرضا واقعة ضمن تلك الأرض حيث يستطيع الإنسان أن يستقر ما لم يرد العيش في خص
8
صيد بوسط الغاب».
ويتذمر بسمارك لأخيه غير مرة من تفه الحصاد في فارزين تقريبا، ومن أن الخشب في ساشنفالد لا يأتي بشيء ومن وجوب سفره الآن في ردهة مقطورة ومما عليه أن ينفقه في رحلته هذه من مال يزيد على ما ينفقه في أية سياحة مضت، «وعلي أن أؤدي بدل كل شيء، وأن أعين لهذا الغرض شخصا أنفق عليه عن سعة ما دمت قد شقيت بكوني أميرا، وكان يسرني أن أفكر في صير أولادي من أشراف الريف الموسرين، ولكنني لا أحب أن أبصرهم من الأمراء المعوزين.»
ويؤجر مصنع الورق في فارزين من مستصنع بثمانين ألف تالير مسانهة، ويؤجر مصنع بارود على ضفاف نهر الإلبة باثني عشر ألف تالير مسانهة، ويدخل عليه من فردريكسروه أربعة وثلاثون ألف تالير سنويا، ويقول: «ذلك دخل جميل لو لم أكن أميرا، ولن أتعود هذه الدعابة.» وتدخل حنة وتشكو إلى زوجها المتبسم - وبحضرة زائر - بحثها منذ ساعة عن خطأ أحد عشر ماركا وخمسين فنيغا
9
في دفتر حساب المنزل!
ويبلغ بسمارك السبعين من عمره، وتجمع نقود في أنحاء ألمانية لتكون هدية شكر له باطنا، و«لينفقها في الشئون الوطنية» ظاهرا، ويدفع مئات المئات من أبناء المدن قروشهم، ويدفع ألوف الألوف من العمال فنيغاتهم بتحريض وهنائهم
10
فيصل المجموع إلى 2500000 مارك، ويبلغ إلى بسمارك قرار رسمي حث بسمارك على اتخاذه وقال الملك فيه: «إنه وضع من اليوم مبلغ 1200000 مارك تحت تصرفكم لينفق في الشئون العامة، ويسرني أن أفوض إليكم أن تتسلموا ذلك المبلغ مع ما يجمع من المبالغ بعد الآن، تاركا لكم أمر إنبائي في الوقت المناسب عن نياتكم في استعمال هذه الهبات: ولهلم.»
ويقع حديث بين اللجنة والمستحق «بسمارك» فتشتري اللجنة بعض أملاك حول مركز شونهاوزن، ويسلم الدوك راتيبور إليه في عيد ميلاده صك تملك تلك الأملاك «التي كانت خاصة بآل بسمارك فأضاعوها في غضون القرون».
ويثير ذلك دهشا عاما، وإن كان بسمارك قد أنشأ في شونهاوزن وقفا على طلبة الوظائف العالية الجامعيين بمبلغ ال 1200000 مارك الذي فوض إليه تسلمه كما هو مذكور آنفا، ويزعم أن الأمة تعيد إلى رئيسها ملك أجداده، غير أن النظر إلى الأمر على هذا الوجه لا يلاقي سوى أنصار قليلين؛ فالمركز موجود هنالك دوما، وإذا كان أجداده قد باعوا بعض الأراضي منذ زمن طويل فإنه يمكن الأمير بسمارك أن يبتاعها لو أراد ما دام قد قبض مهرين.
قال لوسيوس: «لم يرتح الجمهور لذلك التفسير؛ فهنالك أناس كثيرون يرون أنه كان عليه أن ينشئ وقفا خيريا.» بيد أن بسمارك يجد ما يسوغ به وضعه بمثال الإنكليز الذين يكافئون أبطالهم القوميين بسخاء، وبسمارك ينسى أو لا يدري ما يساور الجمهور الفقير من قنوط، والجمهور قد أسهم في جمع هدية الشكر تلك معتقدا أنها تخصص للقيام بعمل صالح يستطيع صنعه. أجل إن ما وجهه «أبناء العم» من لوم إليه بعد سنة 1870 لم يعد حد الافتراء، غير أن سيره في الحال الأخيرة أساء إلى سمعته لا ريب.
الا إن تلك الساعة هي ساعة ضعف في حياة بسمارك.
وبسمارك في عزلته الريفية يحاول دوما أن يهدئ أعصابه، ولكنه لا يوفق لهذا، ولكن حالته تتفاقم لإفراطه في الأكل والشرب، ومما حدث أن أوصاه طبيبه بالحمية، فروى لوسيوس أنه اكتفى بعد تناول الحساء بأكل سمكة نهرية مكتنزة وشرحة من عجل حنيذ
11
وثلاث من بيض زمج
12
الماء مع شرب مقدار كبير من أنواع الخمر البورغوني، ويزعم بسمارك أنه لا يستطيع النوم إلا بعد أن يشرب كثيرا من الجعة، ويأكل بسمارك ما يمكنه من الخبياري
13
وما إليه من الأطعمة المعللة بالتوابل جلبا للظمأ، وقد اشتكى بسمارك ذات مرة من عسر هضمه وفقدان شهوة طعامه وألم أعصابه فذكر هوهنلوهه الذي كان ضيفا عنده أنه اشترك في الأكل كثير من الأطباق الآتية بالتعاقب، وهي الحساء والجري
14
واللحم البارد والجمبري
15
والسرطان البحري واللحم المدخن وفخذ الخنزير المقددة واللحم المشوي والمخللات، وإذا ما قيل له إن هيئته تدل على حسن صحته أجاب عن هذا بقوله: «أود أن أكون سيئ المنظر مع العافية، ومن سوء حظي ألا يعطف أحد علي! ويبلغ هذا من ضغط دماغي ما يخيل إلي معه أنه مجموعة هلام
16 ... والدم سائل عجيب، وأعجب منه أعصابنا التي هي خيوط حيوية تلبط المخلوقات المسكينة عند طرفها.»
واستبداده أساس اضطرابه، واسمع قوله: «لقد حاولت تسيير أطبائي حتى الآن، وأخيرا وجدت واحدا منهم يسيرني.» ويغدو في ذلك الحين؛ أي عند بلوغه الثامنة والستين من عمره، حاد الطبع محركا للعواطف، فقد صار يشكو من الصداع والشقيقة
17
والأرق والمغص وورم الساق وتمدد الأوردة، ويبلغ وزنه 247 رطلا، ويذهب أطباؤه إلى أنه مصاب بسرطان في المعدة والكبد لا يرجى له شفاء، ويفحصه في فارزين صديق بيل وطبيبه إرنست شويننجر فيسأله أفراد الأسرة عن رأيه فيقول: «إذا لم يدار الأمير نفسه هلك قبل ستة أشهر.» ويستفسر المريض منه بنفسه فيجيبه قائلا: «لا أستطيع النطق بالألفاظ الطنانة، ولا أستطيع معالجة مثل هذه الأمراض المزعومة.» ويؤثر هذا في بسمارك، ولم يكلمه أحد بمثل ذلك قبل الآن، فهذا هو الإنسان!
ثم يبدو الطبيب في برلين قويا فيحمل المريض على اتباع نظام خاص، وهو يجعل المستشار في الساعة الثامنة من كل صباح ينهض للتمرين الرياضي بمقابض من حديد، وهو لا يدعه يأكل في كل يوم من غير الرنكة،
18
ولما صاح بسمارك قائلا: «يظهر أنك مجنون!» أجابه شويننجر بقوله: «حسنا يا صاحب السمو، والأحسن أن تستدعي بيطارا!» وهنالك ينصرف شويننجر، ويقص شويننجر هذه البداءة في الغالب، ويضحي ذلك الرجل القوي قبضته بعد اليوم، ويذعن بسمارك، ولا يغادر ذلك الطبيب منزل بسمارك مدة خمسة عشر يوما، ويعنى ببسمارك ويرقب أكله وشربه ورقاده ونهوضه وعمله ونومه، وتتحسن صحة المريض بعد أسبوعين تحسنا ملحوظا، ويترك شويننجر المنزل للمرة الأولى، ولم يتمالك المريض أن أمر بإحضار «ثلاث قطع من القشدة»
19
فشعر بمغص شديد ثم باليرقان،
20
ويذهب إلى فردريكسروه وهنالك يرقبه الطبيب رقابة وثيقة، حتى إنه لم يكله في كيسينغن ولا في غاستن إلى نفسه يوما واحدا، وينقه المريض بعد بضعة أشهر، ويرى أنه يعود إلى صباه إذا عاد إلى عمله العادي.
وينقذ شويننجر حياة بسمارك بهيمنته عليه لا بتركه يهيمن عليه، ولو سار الألمان الآخرون في الحقول الأخرى على ذلك الدرب ما وجدوا قياد المستشار أمرا مستحيلا على الدوام.
الفصل الحادي عشر
وكيف تمتع ذلك الرجل الدائم السخط بالحياة في أثناء مشيبه؟
هو تمتع بها بفضل أولاده الذين كان يغفر لهم كل شيء وكان يدعهم يصنعون كل شيء خلا تصرفهم بأنفسهم، وبفضل أصدقاء صباه القليلين، وبفضل خمره، وهو يفضل الخمر الجيدة على جميع الأوسمة، وهو يثبت هذا بصنعه من جميع أوسمته الروسية قدحا عظيما من الفضة مع استهجان الإمبراطور لهذا، وهو يقول إن لكل رجل مقدارا من الخمر والتبغ: «وأحتاج إلى 100000 سيغار و500 زجاجة من الشنبانية.» ويضحك أحد الحضور فيحسب له ذلك.
ومن بين أصدقاء بسمارك القدماء يندر مجيء كيزرلنغ في الوقت الحاضر، «وكيزرلنغ هو الرجل الوحيد الذي خشيت ذكاءه أحيانا في أثناء حياتي.» وبسمارك بهذا المديح العجيب ينبئ بترفعه، وكيزرلنغ عارف بذلك، فلم يذهب ليزوره في الريف مدة عشر سنين؛ وذلك لأن «بسمارك أصبح مسيطرا، وإذا ما لقيته اتفاقا وجدته أخلص الأصدقاء وأكثرهم أنسا، وأما البحث عنه في الريف للهو فأمر لا يتسع له وقته الثمين».
ولكن موتلي إذا ما حضر كانت لبسمارك أيام سعادة، ويصل هذا الأمريكي في صيف سنة 1872 بعد غيبة ثماني سنوات، ويكتب بسمارك إليه قوله: «كانت مفأجاة سارة بمشاهدة خطك الذي أبصرت منه وعدك إياي بزيارة، وذلك قبل فض غلاف كتابك فأرحب بك ألف ترحيب، وأول يوم تستطيع أن تتصرف فيه هو اليوم الأغر الذي تأتي فيه لترانا.» ثم يخبره بسمارك بساعات القطار إلى برلين ثم إلى فارزين، ويبقى موتلي أسبوعا، ويقضي بسمارك معه أربع عشرة ساعة في كل يوم؛ أي يأتي بسمارك أمرا لم يطق صنعه مع أي رجل آخر في أثناء حياته.
ويسجل موتلي في منزله قوله: «وجدته أسمن مما كان عليه سابقا، ووجدته مضعضع الصحة، ووجدت الزمان قد عمل في وجهه مع بقاء معناه وقوته، ووجدته لا يستطيع النوم قبل الساعة الرابعة أو الساعة الخامسة صباحا، وبعد الغداء كنت أقوم مع بسمارك بنزهة طويلة في الغابات، وكان بسمارك يتكلم بأبسط أسلوب وأمرحه وأمتعه، ومن غير تكلف، حول مختلف الأمور التي حدثت في غضون تلك السنين الهائلة، وذلك كما يتكلم حول صغريات حادثات الحياة الدارجة، والحق أنه كان من البساطة والتساهل ما يقول المرء معه: هذا هو بسمارك العظيم، هذا هو أعظم رجل في العصر الحاضر، وهو أقل وضاع متصنع بين من عرفتهم من الأكابر والأصاغر، ولا تبصر مخلوقا قليل التكلف كثير اللطف مثله.» ومن خلال هذه الزيارة التي قام بها موتلي، وموتلي لم يعش بعدها غير عام أو عامين، نرى مرة أخرى مقدار النفوذ الذي أثر به في بسمارك هذا الرجل الذكي الحر المرح البعيد من الطمع.
ونرى مرة أخرى سبب قدرة هذا الرجل على إلقائه من السكينة والبهجة في قلب ذلك المضطرب ما لا يستطيعه أي واحد من أبناء طبقة بسمارك ولا زوجه ولا أولاده ولا أخوه ولا رون ولا أحد من مساعديه، والعون يأتي من ابن لجمهورية بعيدة، من ممثل للعالم الجديد.
ومن البكم أصدقاء لبسمارك في الوقت الحاضر، وكلما زاد بسمارك كرها للناس أولع بكلابه، فعدها رفيقة في الحياة أكثر صدقا وأشد وفاء حتى من زوجه، وتلوح كلابه هذه في جميع المحادثات واليوميات وبين الخطط والقرارات والأوامر، وتظهر كلابه هذه في ولهلمستراس وفي الغاب أيام الضراء
1
وأيام السراء،
2
ونبصر في كل وقت رأسي ذينك الدرواسين
3
الرماديين أو الأسودين اللذين يشابهان سيدهما ضخامة وعضلا وجرأة وخطرا، وتجد سلسلة من كلابه مدفونة في حديقة فارزين، وتجد ثمانية منها مدفونة في ناحية بارزة من تلك الحديقة بجانب حصنه المفضلة، وتجد قلب بسمارك الشيخ منجذبا إلى تلك الكلاب انجذابه إلى الأولاد؛ لما يبدو من عدم مطالبتها بشيء ومن عدم مقاومتها له ومن سكوتها مع ظهورها مدركة لكل أمر، قال بسمارك: «أحب الكلاب، فهي لا تشعر المرء بأنه أصابها بأذى.» وهذه الكلمات التي نطق بها بسمارك بعد أن بلغ من الكبر عتيا
4
تنم على طبيعته الخاصة أكثر من أن تنم عليه أهداف عطفه.
وإذا ما أبدت ربيكا الصغيرة تمردا عاملها كما يعامل ابنة مدللة، وأخذ يضحك من حيلها وغناجها، وإذا ما أخذت فلورا «تركض في الردهة كالمجنونة»، وإذا ما أخذ سلطان يكدر صفو الحديث، لم يتعرض لهما أحد، وإذا ما تذمر من محادثة رسمية سكن أعصابه بمداعبة عنق الكلب الحريري الرابض بين ركبتيه، وفي فردريكسروه تنتظره الكلاب صابرة تحت مائدته، وهنالك تبصر رءوسها الكبيرة مستندة إلى مخالبها الأمامية، وهنالك تبصرها ناظرة إلى سيدها، وبسمارك حينما ينهض فيمسك عصاه السنديانية تجتمع كلابه حوله مبصبصة
5
عارفة أنه ذاهب إلى الغاب مرافقة إياه، وحنة حينما تشكو المنجد إليه لصنعه الستائر طويلة جدا يقول الأمير بسمارك له إنه عمل صالحا؛ فالآن تجد الكلاب شيئا ناعما تنبطح عليه، ويتردد بسمارك ذات مرة بين قضائه الصيف في غاستن وبقائه في المنزل فيقرر سلطان الأمر، فسلطان كان مريضا ولم يكن من حسن الصحة ما يقدر به على السياحة، ومما يقع أن يكون ضيوفه كونتات من ذوي الذوق الرفيع فيكرهون وهم حول المائدة ما يكون من إحضاره قطعا كبيرة من اللحم ليرميها إلى الكلاب في وسط حجرة الطعام.
وينتفع بسمارك بهؤلاء الخلصاء في حياته الرسمية انتفاعه بأي شيء آخر، فهذه الكلاب تريد ما يأتيه من السحر، والسحر من مواهبه الطبيعية التي يتعهدها، ويعرف القطب السياسي الخطير بسمارك مقدار ما يتفق له من تأثير عندما ينهض ليرحب بزائر، فيثب كلباه الدانيماركيان الكبيران ليكونا بجانبه أينما وقف، ويعتمد بسمارك على غرائز كلابه قائلا إنها أذكى من الخيل، ويصاحب سلطان خوليا
6
جديدا بعد أن يشتم هذا الرجل ويضع رأسه على ركبتيه فيرضى بسمارك به قائلا: «أقدر معرفة كلبي للخلق البشري؛ فكلبي أشد مني حيوية وأبعد مني غورا في هذه الناحية ... فأهنئك!»
وما كان بسمارك ليغفر لمليكه وضعه تجاه كلابه، وبيان الأمير أن قيصر روسية كان مغرما بالكلاب فامتدح، في أثناء محادثته خاله ولهلم، تيراس بعد أن تعرف به منذ هنيهة، فأبدى الإمبراطور بأدب رغبته في مشاهدة هذا الكلب، «فيؤتى بتيراس، ويحسن هذا الكلب تصرفه، وهنالك يقول الإمبراطور، إن الكلب جميل، ولكن من الخسر أن يكون أصلم
7
كالجراء!»
8
وهنا الكارثة.
وسلطان كلب أهداه أمير مراكشي إلى بسمارك، وهو أجمل كلاب بسمارك، ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بغير «سلطل» خشية ارتباك الأمور مع تركية كما قال الأمير بسمارك، وليس سلطان شرقيا مع ذلك، فقد صفد
9
بالأغلال في فارزين ذات مساء، «ولم يحتمل سلطان ذلك فقضم قيوده وقضم خشب المربط الصلب الذي يبلغ ثخنه قيراطين
10
فظهرت شظاياه ملطخة بدم فمه، وهكذا يطلق سلطان نفسه ويفر إلى الغاب، وتغدو الغاب المجاورة خطرة بعد ذلك، وأطمع في رؤيته ثانية، فيذهب بيل وفيليب للبحث عنه راكبين خيلا ويعودان مبللين بالماء، وهكذا يتحول سلطل إلى ذئب فيفترس الخشفة
11
فصارت الضرورة تقضي بإصمائه
12
لخطره.»
بيد أن سلطان يعود، ويظل صديق سيده خمس سنوات أخرى، ويبدو وحشيا أحيانا فيعاقب في الغالب، ويدلل عادة، ومهما يكن الأمر فقد كانت خاتمته فاجعة، وإليك كيف يرويها تيدمان:
بدا الأمير بسمارك في أيام ذلك الخريف ذا مزاج جديد، فيظهر مسرورا من الصباح إلى المساء، مستعدا لكل مداعبة، وبالأمس بينما كنا نتناول القهوة رئي غياب سلطان بغتة، وسلطان لما كان من علوقه بمعشوقة في قرية قريبة افترض بسمارك أنه ذهب ليزور معشوقته تلك مرة أخرى فأزعجه ذلك وقرر أن يجلده جلدا شافيا، ونذهب إلى غرفتنا لنقوم فيها بأعمالنا حتى ساعة إقفال البريد، فلما دنت الساعة الحادية عشرة سمعنا ضوضاء في الطبقة الأولى من المنزل، فجاء من يخبرنا بأن سلطان حضر وهو يحتضر.
وفي الطبقة الأولى نبصر منظرا مؤثرا، نبصر بسمارك جالسا على الأرض وواضعا رأس سلطان المحتضر في حجره
13
وهو يسر إليه بكلمات عاطفية وهو يحاول كتم عبراته عنا، وعلى ما كان من إصرار هربرت ظل بسمارك بجانب الكلب، فإذا ما نهض مرة؛ فلكي يعود إليه في الحال، ويموت الكلب فيقول الأمير: «كان لدى قدماء الألمان دين كريم، فكانوا يعتقدون به ملاقاتهم بعد الموت، وفي مرابع الصيد السماوية، جميع الكلاب الطيبة التي كانت صاحبة لهم في هذه الدنيا، وأود القدرة على اعتقاد ذلك.» وينزوي الأمير في غرفته، ولم يعد في ذلك المساء إلا ليتمنى لنا ليلة سعيدة.
وفي الصباح نشعر بأننا في منزل مأتمي، وما كان لأحد أن يتكلم بغير صوت خافت، ولم ينم الأمير؛ فقد آلمه ما كان من تأديبه الكلب قبيل موته، وعلى ما كان من إثبات تشريح الجثة وقوع الموت بالسدادة الدموية لم ينفك بسمارك يؤنب نفسه، ونذهب بعد تناول طعام الفطور راكبين خيلا، ولا يكاد الأمير يتكلم، ويبحث الأمير عن الطرق التي سلكها في المرة الأخيرة مع كلبه الوفي المحبوب، ونبقى زمنا طويلا تحت ساحية،
14
وأكون بجانبه حينا، ويقول لي إن من الحنث
15
أن يولع الإنسان بحيوان على هذا الوجه، ولكن ما فقده هو أعز شيء عليه في هذا العالم؛ ولذلك فهو يوافق هنري الخامس على قوله: «كان يسهل علي أن أستغني عما هو أحسن منه!» ثم يهمز جواده فيصل الفرسان والحصن إلى القصر عوما.
ويمضي على ذلك أربعة أيام، فلم يشف من ألمه بسبب موت كلبه، ما ظل معذب الضمير نتيجة لضربه إياه قبل زمن قصير، وهو لم ينقطع من التألم مفكرا في أنه عجل حدوث المأساة، ويتهم نفسه بسرعة الغضب وبالقسوة، وبأنه يؤذي كل من يدنو منه، ثم يلوم نفسه على شدة اكتئابه من موت حيوان له.
ولا تجد حادثا مماثلا لذلك في حياة بسمارك، وذلك الحادث هو من طراز الأقاصيص، ويطابق ذلك الحادث مع ذلك خلق بسمارك اللغزي.
ويلوح أن ذلك الكلب الذي أرسله أمير شرقي إلى بسمارك قاصدا التزلف إلى مستشار الإمبراطورية الألمانية هذا هو أمير مسخ درواسا، وما كان ذلك الكلب في صباه ليصبر على القيود فحرر نفسه بقضم الخشب الذي ربط به وعاش طليقا في الغاب متغذيا بالصيد، ومن الحق أن يقال إنه حفيد سيده متصفا بحماقات هذا السيد أمام فتائه باديا موضعا لإعجابه، وما بين الكلب وسيده من رابطة فيشابه ما بين الحفيد الجموح والجد الشديد، ولا تزول هذه الرابطة إلى أن يهلك ذلك الحفيد في مغامرة.
ويبقى السيد وحيدا، ويبقى السيد نادما على إساءته معاملة ذلك الحيوان الذي كان يحبه كثيرا، ومن المحتمل أن كان مسئولا عن موته، ومن المحتمل أن كان من الإثم ذلك الحب الجم لحيوان أبكم، أو تبيح النصرانية التي يدين بها مثل ذلك؟ وهل كان قدماء الألمان خيرا من المعاصرين؟ أفلم يحدث بسمارك حين اهتدائه عن ذلك الأمير الوثني الذي أبى العماد مفضلا الانضمام إلى أجداده الكفرة؟ أفلم يكن هذا إنذارا من إله النصارى يطلعه به على ذنوبه الأخرى ويريه به غضباته وأثرته العميقة؟
وهو حين يفكر في أمر السنين الماضية وأمر الأمم الأخرى وأمر المعارك والتدابير والانتصارات والإخضاع لا يسعه في أيام الحزن هذه إلا أن ينعم النظر في أمر الرجال الذين أذلهم وآذاهم وقادهم إلى الموت كما صنع بهذا الكلب الذي قد لا ينسى ما أنزله عليه من الضربات، والآن تمر أمام هذا القلب الكسير وجوه أعدائه الشاحبة ووجوه من قهرهم فتتوارى إدارته بغتة ويسأل في نفسه: لم كل هذا؟ ومتى زال عنه هذا الكابوس وعاد إلى أعماله وكفاحه لم يبق له من ذلك سوى حقيقة واحدة، وهي: أن كلبه الوفي دفن في الأكمة بجانب الكلاب الأخرى، فأصبح عدد هذه الكلاب الميتة تسعة.
الفصل الثاني عشر
«حقا إنني خيالي عاطفي بطبيعتي؛ فالذين يصفونني يقترفون خطأ بتصويري رجل عنف»، ولا ريب في أن بسمارك يصف وجها من طبيعته في هذه الكلمات، ومن عادة بسمارك في شبابه أن كان يبدي - في الحين بعد الحين - شعور النافر من الحياة على طراز بايرون، وبسمارك وإن ملئ بحب الكفاح في كهولته، كان أميل إلى السوداء في شيبته، وما أبصره بسمارك في صباه فقد حقق بأكثر مما كان ينتظر، وما كان من دوام اضطراب فاوست واستمرار قحة ميفيستوفل فقد أثبت له بطل ما فعل، ولو حدث أن معلما غبيا أراد إقناع تلاميذه بأنه لا فائدة من كل جهد نفسيا ما وجد خيرا من بسمارك مثالا كلاسيا،
1
ولكنك لا تجد بين من هم حوله من يدرك هذه الأحوال النفسية فيرحب بها، وتقول حنة للوسيوس: «فقد أوتو صوابه عندما انتحر خادمه هنري بإطلاق النار على نفسه، فصار لا ينام وصار يقضي جميع وقته في التفكير في المآسي، وفي مثل هذه الأحوال نبدي ضروب الغباوة مع الكلاب وغير الكلاب ترويحا له.» وهكذا لا يدرك أمر بسمارك فلا يسار معه كما يجب، وعلى ذلك الوجه يعيش بسمارك بين من يحبونه، غير أن تلك الأفكار القاتمة تأتي في الوقت المناسب، ومن ذلك أنه لما بلغ الثانية والستين من سنيه وفي أحد الأيام وحينما كان في أوج سلطانه وبعد أن التزم جانب الصمت حينا من الزمن مفكرا متأملا نطق بالكلمات المؤثرة الآتية: «ما أقل ما اتفق لي من فرح وارتياح بفعل ما قمت به من عمل! فلم يحبني أحد من أجل ذلك ولم أجعل أحدا سعيدا بذلك، ولا أستثني من ذلك نفسي ولا من هم أعزاء علي.»
ويحتج عليه، ويقول مستمرا غير ملتفت: «أجل، إنني جعلت من البائسين أناسا كثيرين، ولو لم أك هناك ما اشتعلت الحروب الثلاث، وما قتل ثمانون ألف جندي، وما لبس آباء ولا أقرباء ثياب الحداد، وإلى الله قدمت حسابي عن ذلك، ولم أجد من جميع ذلك غير سرور قليل، أو إنني لم أجد مما صنعت سرورا قليلا ولا كثيرا، بل وجدت بدلا من ذلك كدرا وهما ونصبا.» وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يتكلم فيها على ذلك الوجه، فقد روى هولشتاين وبوشر عنه أمورا مثل تلك كثيرة، وهنا نبصر مرة أخرى مظاهر للروح اللوثرية التي تنشد المسئولية، لا الهرب منها، وهنا نبصر أيضا ادعاء الوصولي الذي لا يدرك البروسيون الخلص أمره كالملك أو رون.
وفي أوقات الملل تلك يتوجه إلى ميدان السياسة في بعض الأحيان، وهنالك يتجلى العجب، وفي سنة 1877، وفي إحدى أمسياته البرلمانية، قال على مسمع عشرين شخصا أو أكثر: «إذا ما ذهب رجل إلى الصيد باكرا فصار يطلق النار على أية طريدة يبصرها، وإذا ما قطع بضعة فراسخ فأصمى طيرا بريا، وإذا ما قضى نهاره في القنص فملأ كيسه بالطرائد، وإذا ما دنا من منزله فبدا جائعا ظامئا تعبا، فلم يفكر في غير الراحة، فلا يمشي خطوة واحدة صيدا لزوجين من الحجل، بيد أنه إذا ما جاء هذا المنهوك رجل وقال له إن في الغابة هلوفا
2
تحرك دم الصياد في عروقه فنسي نصبه وجاب الغاب طلبا للقنيص، وإذا سألتم عن أمري قلت لكم إنني ما فتئت أصطاد منذ الفجر، ولم أعد إلا متأخرا ولم أعد إلا تعبا تاركا للآخرين اصطياد الأرانب والحجلان، ولكنكم إذا ما أنبأتموني بأنكم رأيتم خنزيرا بريا كان لي شأن آخر.»
وبسمارك بعد مثل ذلك التعب يصير مرحا إذا ما ساوره سابق مجونه، وهنالك يبدو ميفيستوفل الحقيقي مسرا بقوله الآتي إلى أقرب صديق له في الغاب: «كنت أظنني أريبا عندما كنت شابا، ولكنني أعتقد الآن أنه لا سلطان لأحد على الحوادث، وأنه لا أحد عظيم أو قوي، ومما يضحكني أن أمدح بأنني حكيم بصير مؤثر في العالم تأثيرا كبيرا، وفيما يتساءل الدخلاء عن المطر أو الصحو في الغد يلزم من كان في مثل وضعي بأن يقرر وجود مطر أو صحو في الغد؛ ليسير وفق قراره، فإذا ما أصاب المحز قال جميع الناس: يا له من صاحب بصر حديد! يا له من رجل موهوب! وإذا ما أخطأ ضربه جميع العجائز بعصي المكانس، ولو لم أتعلم من ذلك غير التواضع لكفى!»
هذه الكلمة تشابه ما كان قد قاله لعدوه أرنيم مغاضبا، هذه الكلمة قالها لصديقه موتلي، هذه الكلمة تنطوي على عدمية عميقة، هذه الكلمة تشتمل على اعتراف رجل ذي شعور عال بنفسه، وقائل هذه الكلمة التي نطق مسارا بها ينكر كل ادعاء بوجود مزية شخصية له، وقائل هذه الكلمة يقر - وهو في ذروة المناصب - بأنه جبري كما كان في مقتبل شبابه، وقائل هذه الكلمة يصل الآن وبعد سلوك سبل ملتوية وطرق ذات مكاره إلى حظيرة الاتضاع التي يستتر تحتها هزوء من يزدري الرجال.
وفي تلك الأحايين تشرق أسرة وجهه، وتعود إلى المغامر روحه فيغتبط بذلك، ويشتركون ذات مرة في وليمة يقيمها مكتري فارزين، ويسمع من الباب نوري يغني، ويرسل إليه قدح من رحيق الشنبانية، ويدخل مع قيثارته وينحني أمام بسمارك كما ينحني بسمارك أمام مليكه، وينشد أغنية عن الشباب والحب ويشرب نخب الأمير وينصرف مغردا، وتسأل حنة عن الوجه الذي يساعد به على قضاء حياة منتظمة، فيقول بسمارك: «لا يؤدي هذا إلى خدمة رجل مثله، فحبه للحرية أعظم من رغبته في العيش المنظم، أعظم من رغبتنا نحن الناس فيما نسميه سعادة.» ويسكت بسمارك وينعم النظر في وجهة ذات النوري كما لو كان آية على سابق فتائه، ثم يقول: «حقا إن هذه حال محسودة! حقا إن هذه حياة محسودة!»
ولتجدنه أحرص الناس على الحياة مع ذلك، و«لتجدنه ككل شخص عادي في ذلك»، ويكون على واحدة من تلك النصب فيحدث أخاه عن شعوره حول مسألة الحياة بقوله: «تزيد سنواتنا الأخيرة سرعة كما تزيد سرعة الحجر عند سقوطه، ولا أقول إن هذه الحركة المتزايدة أمر يسرني، وإني - وإن كنت أذهب إلى أن كل يوم راهن هو آخر أيامي - أراني عاجزا عن عد هذا الذهاب أمرا سارا، والحياة شيء محبب إلي، لا لأن ضروب الفوز الخارجي هي التي ترضيني وتسحرني؛ بل لأنه يشق علي كثيرا أن أفصل عن زوجي وأولادي، وكان الحظ حليفي في منصبي الرسمي، وأقل من ذلك أمري في شئوني الخاصة، غير أن أكثر ما بارك لي به الرب فأضرع إليه أن يديمه هو السعادة المنزلية والرفاهة البيتية وصحة أولادي البدنية وعافيتهم الأدبية، وليس عندي من الأسباب ما أشكو منه إذا سلمت هذه الأشياء كلها.»
وما يسعى إليه بسمارك من جعل حياة أولاده رغيدة فينم على أثرته، ويصف صديق لأسرته ابنته «بالغرابة أكثر مما بالجاذبية»، فتصبح مع السنين غليظة ظاهرا وغبية باطنا، وتراها شاردة الفكر ساخرة المزاج، وتراها غافلة رفلاء،
3
وتراها من عدم الترتيب ما وجد معه أولنبرغ في السفارة، التي غادرتها هي وزوجها رانتز ومنذ قصير وقت، وحول سريرهما اثنا عشر كرسيا خيزرانيا وثلاثة أقراص من المعجونات أنصافها مأكولات، وما وجد معه في جميع الرقع هنالك نثار عصافير وخنازير وعلب ورق لوضع القبع، ويقول بسمارك لصديقته سبيتزنبرغ: «أراني في الغالب على خلاف مع ماري، فإذا عدوتنا وعدوت زوجها وأولادها وجدتها غير مكترثة لأحد، فهي مكسال، وفي كسلها سر عدم اكتراثها.» ويذكر له أن ابنته لا تشاطره مشاعره فيجيب عن هذا بقوله: «وقل مثل هذا عن زوجي؛ ولهذا ناحيته الحسنة، وأجدني في منزلي عائشا في جو آخر.»
وإذا نظرت إلى ابنيه وجدتهما مساعدين لأبيهما حينا من الزمن ووجدت هربرت وحده مساعدا له، وهربرت وإن كان أقل الأخوين موهبة، أكثرهما نشاطا، وأذكى الأخوين بيل كسول، ويتزوج بيل ابنة عمه، ولا يؤذن لهربرت في الزواج بمن يهوى فؤاده، وكلا الأخوين شريب خمر، وكلا الأخوين يموت كهلا؛ أي في الخمسين من عمره، ولم يظهر في آل بسمارك عبقري قبل أوتو، وجد أوتو لأمه هو الرجل الممتاز بين آل منكن، ويسفر تزاوج العنصرين عن ظهور عبقري فريد، عن ظهور أوتوفون بسمارك، ثم يبدو الانحطاط في أولاد هذه الداهية الذين يلوح أنهم ورثوا عن أبيهم عدم الاعتدال وعن أمهم قلة التضحية.
ولا يكادون يدخلون إلى بيت أبيهم ما هو جميل أو مليح، أجل حاول أكبرهما ذلك ذات مرة، ولكن ما وقع من محاولته معارضة والده في بعض تصرفاته؛ أدى إلى كفاح خرج الابن منه مغلوبا.
وتم قطع العلاقات السياسية بالمحافظين منذ زمن طويل، ولم يبق من ذلك سوى ذكريات الحقد القديم حينما أولع هربرت بالأميرة كارولات وغدا خدنا لهذه السيدة التي انفصلت عن زوجها بعض الانفصال، وتطلب الطلاق؛ لتصبح زوجا لهربرت، أو كنة لبسمارك - على الأصح - ويبلغ الأمر من هذه السيدة ما تميل معه إلى انتحال البروتستانية وصولا إلى هذا الغرض، وهي لما عليه من جمال باهر، ولأنها من أسرة ممتازة، (وإليزابت هذه هي ابنة الأمير هاتزفيلد تراشنبرغ)، ينظر إلى طلاقها بعين الإغضاء، وأبو هربرت بسمارك لما كان من تربيته ولده هذا البالغ ثلاثين سنة من عمره ليسير على غراره مرتبة ووظيفة يكون لديه من الدوافع ما يوافق به على ذلك الزواج.
بيد أن لإليزابت أختين، إحداهما متزوجة بالجنرال فون لوئه، والأخرى متزوجة بناظر القصر فون شلينتز، أي بعيابي بسمارك الأكبرين، وكان شلينتز نجي أوغوستا منذ سنوات كثيرة، وكان لوئه أخا للشريف الذي هو أحد المفترين على بسمارك، وهل ينبغي لهذين الرجلين أن يكونا عديلين لهربرت؟ أفلا يجب في هذه الحال أن يدعيا إلى وليمة العرس أو إلى حفلة التعميد في المستقبل على ما يحتمل؟ وهل يكون بيت المستشار حليفا لتلك الأسر البغيضة التي تكلم في منازلها جميع الساخطين بالعيب ضده والتي يرى هؤلاء سهامهم فيها ليوجهوها إليه، والتي ازدهر فيها كل افتراء عليه والتي تحول فيها كل حسد إلى مكايد مهلكة؟ أفلا تستتر مؤامرة تحت أمر الغرام ذلك؟ فالانتقام والشك والحقد والاحتراس أمور حملته على منع ذلك الزواج.
واتخذت تلك الحسناء بعض الخطا نحو الطلاق من أجل هربرت، وثرثرت بعض الصحف كلاما حول الموضوع، وتشاجرت تقريبا هي وآلها في سبيل ذلك، وبدت خيالية عاشقة بأكثر مما يقره أقرباؤها في البلاط فاستأجرت مسكنا في بلازومودينا بالبندقية، وإذا قابلنا الرسائل التي كتبتها من هنالك إلى هربرت بالرسائل التي كتبها هربرت إليها؛ بدا لنا أنها كانت حاسبة وأنه كان إحساسيا، أجل، إنه شديد العاطفة على ما يحتمل، غير أن خوفه من أبيه القوي واحترامه لوالده القدير أعظم من عاطفته تلك.
وبعد إعلان الطلاق يكتب هربرت إلى فيليب أولنبرغ قائلا: «سأذهب في أول شهر مايو إلى البندقية لأرى إمكان تنظيم الأمور بيننا على وجه تكون به الحياة أمرا مقبولا، فإذا عدت قمت بآخر محاولة تجاه والدي، والذي يبدو لي أن تلك المسألة هي مسألة حياة وموت، والله يعلم ماذا يحدث! ويلوح لي أنه يستحيل علي تخصيص ما بقي لي من الحياة للأميرة.»
وبعد يومين «قال لي والدي مؤكدا دامع العينين: إنه عازم على عدم الحياة إذا تم ذلك الزواج، ومن قوله إنه يكتفي بما اتفق له من عيش حتى الآن، ومن قوله إنه يجد له سلوانا في جميع كفاحه بما وضعه من آمال في، فإذا زالت هذه الآمال كان ذلك خاتمة أمره، ومما علمته أنه أبدى كثيرا من غمه وهمه لثلاثة أشخاص أو أربعة في أثناء حديثه، وأخبرني اثنان من الأطباء أن حالة والدتي الصحية خطرة، وأن كل إزعاج قوي لها يقضي عليها، وفي الناحية الأخرى تبصر الأميرة المسكينة الوحيدة التي لم تكد تدخل دور النقه والتي تنتظر زواجي بها والتي قد تقع مريضة إذا قيل لها إن هذا الزواج متعذر في الوقت الحاضر، وإذا فارقت هذه الحياة جعلت وضع الأميرة صعبا وأورثت أحبائي كربا».
وبعد يومين آخرين «قال لي والدي إن مما لا يلائم شرفه أن يرتبط اسمه بالزواج في هاتزفيلد وكارولات ولوئه ... إلخ، وإن مثل هذا الأمر إذا قيل حول امرأة لم تسطع هذه المرأة بسببه أن تكون كنة له، ومن قوله إن علي أن أفكر في أنني لا أحمل الاسم من أجل نفسي فقط وفي أن كل شيء يمس اسمي يؤثر فيه وفي أخي كما يؤثر في؛ ولذا فسيقاوم ما أهدف إليه بما أوتي من قوة! وتقول الأميرة في كتاب ترسله إلي إن كل حل آخر غير الزواج أمر مستحيل تجاه كلام الصحف الفاضح، ولولا مقالات الجرائد تلك ما رغبت في الزواج! ولأبي وجهة نظر أخرى ...
وأضف إلى ذلك منعي مغادرة دائرتي، وضرورة انتظاري مرور عشرة أشهر حتى يمكن زواجي قانونا إذا لم يأذن لي أبي، وعدم استطاعتي تقديم شيء إلى الأميرة، وتعديل قانون البكورة بموافقة الملك تعديلا ينص على منع الابن الذي يتزوج امرأة مطلقة من الإرث، وعدم تصرف والدي في غير ملكين كبيرين وإمكان عدم بقاء ميراث لي، ولا أرى كبير أهمية لهذا الأمر ما دمت أشعر بأنني لا أعيش طويلا بعد الزواج وما دمت أبصر أن قطع صلاتي بأبوي يقودني إلى القبر، وإذا مت بعد الزواج بقصير وقت خسرت الأميرة نصف الدخل الذي يجب على الأمير كارولات أن يؤديه إليها وفق ما نص عليه في العقد فلا يكون لديها آنئذ ما يكفي لعيشها، ويظهر أنه لا مخرج من المأزق، وما يساور والدي من مرارة حاضرة إزاء الأميرة فلا يجعلني أفترض إمداده إياي بأي مال، ووالدي يقول إن الأميرة إذا حملت اسمه ساقه هذا إلى الانتحار، ولا أجد من الكلمات ما أعبر لكم به عن مقدار تحطيم والدي إياي بحديثه ذلك، ولا يمكنني أن أنسى قلب والدي لحسابي رأسا على عقب».
وبعد أسبوع من ذلك «تذكرني الأميرة في كتاب ترسله إلي بقول التوراة: «لأجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته ...» ومن المتعذر أن يبقى سفري إلى البندقية مكتوما؛ فآل الأميرة - وبعضهم مستهتر مع الأسف - يعملون على نشر أحاديث عن رحلتي في الجرائد، وهم كآل كارولات لا يودون غير وقوع الزواج لأسباب مالية وخلاصا لهم من التزاماتهم، وللأمير كارولات - على الخصوص - توفير مالي كبير إذا تم الزواج، ومحامي أسرته هو الذي كتب المقالات الصحافية الأولى حول الموضوع، ويقول لي أبي إنني إذا ذهبت إلى البندقية ذهب معي، وإنه أميل إلي وإلى منع هذا الزواج من ميله إلى الريخ، وإلى أعماله وإلى ما بقي من حياته، فهو لن يدعني أسافر وحدي بأي ثمن كان، وهو سيكلم الأميرة في الموضوع، وقد بلغت محادثات والدي إياي في الأمر من ربكي ما صرت معه عاجزا عن عمل أي شيء كان، ولن أكون سعيدا بعد اليوم ولو ليوم واحد، وهنالك ثرثرة حول صلاتي بالأميرة منذ سنين، وقد حامت الظنون في الصحف حول صلاتي بالأميرة منذ سنين فصار من الشرف أن أتزوجها ولو زال ولوعي بها، ويختلف والدي عني، ولكن لا أستطيع أن أتخذ وجهة نظر أخرى، وعلي أن أضحي بشرفي في سبيل أبوي! وكيف أستطيع العيش مع هذا الكدر؟»
ولم يظهر شيء تحل به العقدة، وتقطع إليزابت صلتها بهربرت مبلغة إليه احتقارها له جاعلة من يخبره سير كل شيء على ما تروم، ويسقط في يد هربرت، ويقول: «يؤلمني ظهوري غير أهل لما وضع في من ثقة أوحيت بها، وألوم نفسي على ما حدث، ولا أجد ما أحترم به نفسي، وكل ما بقي لي من الحياة يبدو لي مثل سكة لا نهاية لها بين صفين من الصفصاف، فأراني مع تعبي مداوما على السير في الرمل مبصرا استمرار الأمر على هذا النمط.»
وهكذا تجد هربرت وحده هو المعذب، وهكذا تجد هربرت وحده هو الذي يثير عاطفة من يقرأ تلك الرسائل الروائية، وكان يعرض على أبيه في سالف أيامه ما يطيب له من نساء كثيرات ليتزوج إحداهن، ولكنه كان يتملص في كل مرة حين حلول ما تتبدد به أحلامه من أيام، ولم يحاول بجد ربطه في عهده لما كان من مغامراته حوالي العشرين من عمره عاطلا من المال والمنصب، والآن يورط ابنه في وضع مماثل، والآن يجب على الابن أن يكفر عن الأب.
والحق أنه يسهل لوم هربرت على تركه الأمور تسير من ذلك الدرب وأنه يصعب بيان مخرج آخر من ذلك المأزق، وهربرت قد أذعن عند وعيد أبيه الجبار.
وسلوك السيدة مثالي؛ فهي قد سارت قدما نحو الطلاق حملا لصاحبها الحسيب على تزوجها، وهي لم تأل جهدا في إلزامه بالانضمام إليها في البندقية معتقدة أن هذا يسفر عن فضيحة لا يبقى له معها غير اختيار النجد الذي يصير به اقترانهما أمرا شرعيا، وهي تتخذ نصوص التوراة حجة لها، وهي لا تريد العيش في كوخ عن زواج حبي، ولا الإقامة بمغنى في الريفييرا عن حب غير زواجي، وهي لا ترغب في هربرت وحده، بل هي ترغب في اسمه وفي ملكه أيضا، والآن حينما وجدت أنها مخطئة في حسابها نبذت سابق حبها وراءها ظهريا مستأنفة عيشها الغرامي مع أخدان آخرين.
ويقف خلفها أولئك الذين يصطادون في الماء العكر، ولا يقصر أولئك في زيادة الارتباك شدة، ومنهم زوج يود الإفلات من الدفع، ومنهم أختان توقدان نار الخصام بنشر مقالات فاضحة بذيئة في الصحف، وصولا إلى مصاهرة بيت تكرهانه، ويبرز الجميع طمعا في الربح وطمعا في المال من هذا الزواج ؛ وذلك لأن الزواج إذا تم لم يكن هنالك ما يحفز الأختين إلى الاكتراث لأختهما القليلة الجد؛ وذلك لأن الزواج إذا تم وضع الطاغية يده في أيديهما ووجد لأبنائهما وظائف، وقد يحقق أقصى الآمال فلا يذلل هذا الجبار تلك العقبات فيتابع وعيده ويستعفي، وهنالك تكون إليزابت قد عملت ما لم تعمله رايشغلوك في حياتها كلها، ويكون أمرها كأمر تلك الأمير الحسناء التي جاء في إحدى الأساطير أنها رأت قتل التنين القديم ووضع رجلها الصغيرة على رأسه المخيف بعد فوزها.
بسمارك في سنة 1890.
غير أن التنين مؤلف،
4
فهو يعرف جميع حيل أعدائه، وهو يعرف جميع سمومهم وما يجب اتخاذه من ترياق،
5
وكيف ذلك؟ إنه عبد وذلل دول أوروبة، فكيف يخضع لتدابير امرأة مغناج غير غنية؟ دخل الدبلمي الأكبر ميدان الكفاح وجال فخرج منصورا.
وماذا نقول عن هربرت؟ كان هربرت وديعا وجلا من أبيه مجلا له محترما لسنه راغبا في التراث عاجزا عن كل عمل مستقل غير ميال إلى حرية السير، ويمثل أبوه دور الأب الشديد، فهو يصرح مع القسم بأنه يستقيل ويعدل عن تسيير دفة الدولة ويقتل نفسه ما لم يذعن ابنه، وهو يعلن أن هذه البلايا تودي بحياة الأم - كما قال الأطباء - وهو يبدو رئيسا رسميا لهربرت فلا يستطيع هذا المرءوس الخادم أن يتزوج بغير موافقة رئيسه المخدوم، وهو يبرز صاحبا للميراث فيهرع إلى الإمبراطور الذي أنعم عليه بتلك الأراضي حتى يحق له تعديل صكوكها بما يبقى به هربرت عند دوام جماحه فقيرا مدى حياته مقتصرا في عيشه على النفقة المشروط على زوج تلك الحسناء الأول أن يؤديها إليها.
وليس ذلك كل ما في الأمر، فقد مضت سنوات كثيرة بعد شباب بسمارك، وبسمارك في شبابه كان ذا تجريب كبير في تلك الأمور، وهو يعرف كيف يربط الرجل نفسه بعهود في ليلة يقضيها في قصر قوطي بين ذراعي خليلته؛ ولذا لا ينبغي لهربرت أن يذهب إلى البندقية؛ ولذا لا مناص من ذهاب الأب أوتو مع الابن هربرت إلى البندقية إذا توجه هذا الأخير إليها، والابن هربرت دبلمي، والابن هربرت تلميذ للرأي العام، أفلا يحسب هربرت ما في الوضع المضحك من خزي؟ هو يغدو إلى الأبد محل سخرية أوروبة إذا أبدى المراسلون والمصورون والمغنون بسمارك الشائب، وهو ينزل من زورق بندقي بسرعة إنقاذا لابنه العاشق.
ولكن هنالك ما يعود إليه المضطهد غير مرة، وهو ذلك العهد الأدبي الذي ارتبط فيه نحوها، فلولا هذا الارتباط الأدبي ما ورطت الأميرة نفسها في شين الطلاق لتلهو كما تهوى، وللمصارع الدرب بسمارك ما يصد به عن كل طعنة، وبسمارك يقول إن تلك المطلقة هينة الفضيلة، واسمها اليوم مقرون باسم هربرت، ومن الممكن أن كانت في المس مقترنة بشخص آخر، ومن الممكن أن تقترن بشخص آخر في الغد، وفي الواقع أن الاسم لا يستحق الدفاع، ولا يريد من ناحيته أن يقرن اسم بسمارك باسم لوئه واسم شلينتز، وإذا كان الشرف هو المقياس وجب أن يكون شرف بسمارك هو الراجح.
وكيف؟ آلهوى؟ أوخز الضمير؟ أكرامة الابن البكر؟ يذلل الشباب هذه الغوائل! فإلى الأمام!
الفصل الثالث عشر
أملى بسمارك على ابنه الأسطر الآتية في أثناء استشفائه بكيسنغن في خريف سنة 1877، وهي: «قالت إحدى الصحف الفرنسية حديثا إنني كنت كابوس المحالفات، وهنالك من الأسباب الوجيهة ما يجعل وزراء الدولة الألمانية يعانون أمر هذا الكابوس لطويل زمن وإلى الأبد على ما يحتمل، ويسهل على الدول الغربية أن تؤلف محالفات ضدنا بتدخل النمسة، وأخطر من هذا أن تقع محالفة بين روسية والنمسة وفرنسة، ومن شأن كل صداقة وثيقة بين اثنتين من هذه الدول الثلاث أن تجهز الدولة الثالثة منها بما تضغطنا به ضغطا محسوسا على الدوام.» ويحفز بسمارك خوفه من هذه الممكنات إلى التفكير في وضع سياسي عام، «تحتاج به إلينا جميع الدول ما عدا فرنسة، ولا يساورها به أي ميل إلى التحالف ضدنا نتيجة لصلاتها المتقابلة».
ذلك هو مبدؤه السياسي الأساسي مستشارا للإمبراطورية الألمانية، وذلك المبدأ هو نتيجة للعوامل الثلاثية الآتية وهي: وضع ألمانية وحسد أوروبة وتصادم مصالح الدولة، وهنا يبرز لاعب الشطرنج الواقعي الأكبر بسمارك، ويعرف بسمارك أن يميز الضروري من المشتهى، ولا يريد بسمارك أن يضم قرية واحدة عن كرامة، ولا يرى بسمارك أن يعرض سلامة وطنه للخطر رغبة في السيادة العالمية، ولا ينفك بسمارك يفكر في إمكان تألب الدول العظمى على ألمانية، فلا يألو جهدا في منع ائتلاف الروس وإنكلترة الطموح، وفي منع ائتلاف فلاحي النمسة وفرنسة الطموح.
ولا يثق به أحد في العالم الخارجي، وتجد إجماعا في رسائل ملكة إنكلترة وتقارير سياسيي روسية وخطب زعماء فرنسة على الحذر من رغبة بسمارك في السلم، وقد تجمعت تعابير الخوف والحقد ضد «الفاتح» والعالم ينظر إليه بهذه العين، أفلم يكن ذلك الرجل الذي قضى على السلم الأوروبي ثلاث مرات في سبع سنين بحروبه التي انتهت بالضم؟ أفلم يقم تمثالا عظيما في قلب أوروبة حيث كان تصدع الألمان في ثلاثة قرون يزود جميع الجيران بفرص ممارسة مهن الفساد؟ لقد تم النصر له في الداخل ثم في الخارج بالدم والحديد، فكيف يمكنه أن يحفظ سلامة ذلك الكيان الذي أوجده بقوة السلاح على طريقة نابليون إذا لم يقم بفتوح جديدة؟ ويدعوه قومه بالمستشار الحديدي!
وإدراك شعبه لطبيعته قليل جدا، وقد أدى هذا إلى ذلك الخطأ الذي صار مؤذيا لاسم ألمانية مع الزمن، فارجع البصر إلى خلقه وأحواله النفسية المعقدة تجد ما يكفي لإظهار ذلك الإجحاف، ومن يبحث في برقياته ورسائله وأحاديثه يكن لديه من الأدلة ما يؤدي إلى حكم صحيح، ومن يلق نظرة عامة على عهد مستشاريته الذي دام عشرين سنة يبصر صدق هذا الرأي، ويكتب في مشيبه مذكراته فيسأل عن إمكان قيام الوحدة الألمانية بغير تلك الحروب الثلاث، فلما دون فيها حوادث سنة 1849 لم يجادل في ذلك الإمكان، والذي لا مراء فيه هو أنه لم يقم بتلك الحروب وصولا إلى فتوح، وأن هذه الفتوح لم تكن غير نتائج لما تم فيها من انتصارات، وما أشبهه بالذي دلله الحظ فوجد في طريق طموحه نساء فضمهن إليه لملاءمتهن ذوقه!
ولم يقم بسمارك بحرب فتح قط ، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الأولى ضما لشليسويغ، بل ذهب إليها تحويلا للريح القومية إلى بروسية، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب في المرة الثانية ضما لهانوفر وهس، بل ذهب إليها إخراجا للنمسة منهما، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الثالثة ضما للألزاس، بل درءا لإنذار فرنسة، ولكن بسمارك بعد ثلاثة انتصارات جاوزت حدود آماله سرعة واتساعا وقف أمام الخريطة وأخذ ما عرضه الطالع عليه.
وكان بسمارك معلما عظيما، فلا يرى أن يشد الوتر كثيرا، نعم إنه لا يرمي بالسهم إلى مسافة قصيرة جدا، ولكنه لا يرمي به إلى مسافة طويلة جدا، فلم يخطئ بسمارك في المسافة حول الأمور الخارجية قط، وقد حاولنا أن نوضح سبب عطله من حسن تقدير المسافة في الأمور الداخلية، وهذا ما فكر فيه، فقد قال في سنة 1866: «أرى المسائل الخارجية غاية بنفسها، وهي لهذا السبب أهم من كل شيء في العالم.» ومن حسن حظ بسمارك أن كان يجد الحروب حاضرة عند احتياجه إليها، غير أنه لم يسئ استعمال تفوقه في أية مرة بلوغا لفتوح، وبسمارك قد صان السلم في أوروبة مدة عشرين سنة، وإذا ما وجد الأعقاب انتقاص بعض مزاياه لم يسعهم سوى الإقرار بأنه حفظ السلم في أوروبة مدة عشرين سنة.
وإذا كان بسمارك قد حفظ السلم في أوروبة مدة عشرين سنة فإنه لم يفعل هذا لأسباب إنسانية، أو لأنه خاف أن يخسر سمعته، وإنما صنع هذا معتقدا أن أوروبة عادت لا تقنع بتمثيلها دور المحايد المشاهد، متوقعا قيام محالفات ضد ألمانية، مبصرا وقوع محالفات دفعه خطرها إلى رغبته في العدول نظريا عن ضم الألزاس سنة 1869، وما كان من الطريق التي سلكها بسمارك، توا أو التواء، تجاه فرنسة بعد سنة 1871 فيدفع إلى التفكير في وضعه السياسي بنقولسبرغ بعد ما كان من غموضه بفرساي، قال بسمارك: «إننا نحتاج إلى ترك فرنسة إيانا هادئين، فإذا لم تود فرنسة مسالمة لنا وجب علينا أن نحول دون وجود حلفاء لها، ولا تكون فرنسة خطرة علينا ما خلت من حلفاء، ولا خطر على ممالك أوروبة العظمى من بلد جمهوري عند تضافرها، ومن الصعب على كل جمهورية فرنسية أن تجد لها حلفاء ملكيين ضدنا.»
وهنا يحدثنا بسمارك عن السبب في وجوب منعه قيام محالفات ضد ألمانية، وعن السبب في وجوب سعيه إلى قيام محالفات تكون ألمانية عضوا فيها، وبسمارك أراد فيما بين سنة 1850 وسنة 1870 أن تظل بروسية على حدتها، وبسمارك أراد ذلك حتى يشترى عونها بثمن عال في الأزمات الكبيرة، وبسمارك ينشد الآن عقد محالفات لألمانية القوية، وبسمارك كان ضعيفا في الماضي فود البقاء منفردا، واليوم غدا بسمارك قويا فصار يبحث عن أصدقاء، وتبقى فكرته الأساسية هذه صحيحة حتى بعد انقضاء عهده.
قال بسمارك: «إن من مصلحتنا حفظ السلم، مع أن لجيراننا في القارة من الرغائب الخفية أو الرسمية ما لا يقدرون على تحقيقه إلا حربا، وقد أثار تحولنا إلى دولة عظيمة من المخاوف ما يجب علينا أن نبدده بما نبديه من نفوذ سلمي شريف، ومن السهل على الإمبراطورية الألمانية أن تحترم حقوق الدول الأخرى؛ وذلك لما فطر عليه الخلق الألماني من واقعية من ناحية، ولما لا نحتاج إليه من توسيع رقعة البلاد، ولما نراه من عدم استطاعتنا الوصول إلى مثل هذا التوسيع بغير تقوية عناصر بلادنا المنحرفة عن المركز، من ناحية أخرى.
وقد قام مثلي الأعلى في كل حين على ضرورة اكتساب ثقة الدول العظمى بعد أن تمت الوحدة ضمن الحدود التي بلغناها، وعلى وجوب جعل السياسة الألمانية سلمية عادلة بعد إزالة جور الزمن ورأب صدع أمتنا، وإني حين أنعم النظر في المنازعات الدولية التي لا تسوى بغير الحرب لا أعد هذه المنازعات مسائل شرف كالمبارزات التي تقع بين الطلاب.»
ويروي تيدمان أن بسمارك بعد سنة 1870 صرح غير مرة بأنه أوروبي قبل كل شيء، ومن ينظر إلى الخطوط العريضة في سياسته الخارجية يبصر أنه أوروبي فعلا؛ فهو لم يبرز قوميا قط، وهو لم يعتقد قط، وهو لم يزعم قط أن شعبه هو الشعب المختار، وهو «كان مجردا من الوطنية المبتذلة العامية»، وهو قال لأحد الوفود: «لقد عددت أهل الألزاس دوما خيار الأمة الفرنسية؛ فهم أصلح الجنود، وهم جامعون لمزايا كلتا الأمتين، ولو كنت قادرا على تزويج الفرنسيات بأحسن الألمان لأخرجت عرقا رائعا من الآدميين.»
وود بسمارك أن يبدي لتيار أطيب تمنياته في عيد ميلاده، فسأل هذا القطب الفرنسي بواسطة السفير قبل فعل ذلك عن إمكان تقليل حظوته الشعبية بسبب رسالة كتلك يرسلها إليه بسمارك، ويموت تيار فيطلب بسمارك من أصدقائه أن يشربوا نخب ذكراه، وكان يمكن بسمارك أن يضرب فرنسة مرة أخرى في سنة 1875؛ وذلك لما كان من استعداد فرنسة الحربي في ذلك الحين ولما كان من الهتاف لحرب الانتقام عبر الحدود.
ولكن بسمارك داس الشرر الذي ينذر بنار الحرب قائلا: «إن من المكروه أن تهاجم فرنسة منعا لها من أن تتنفس مرة أخرى، وهجوم كهذا يكون ذريعة صالحة تتمسك بها إنكلترة لرفع عقيرتها انتصارا للإنسانية، وهجوم كهذا يؤدي إلى انتقال روسية من سياسة صداقة بين العاهلين إلى سياسة مصالح الدولة، ودليل ذلك هو ما أبدي من ريب على ضفاف نهر النيفا في ترك الأمور تسير إلى أبعد مما وقع بلا تدخل».
وفي ربيع سنة 1875 كان يلوح حصار ألمانية بحلف كالذي حدث سنة 1915 أمرا منتظرا، وكانت الذريعة في مكافحة الكنيسة، وقد تبنى فرنسوا جوزيف وفيكتور إمانويل وليو بولد الثاني قضية الكاثوليك الرومان، ومد غورشاكوف عينيه إلى البلقان فمال إلى التفاهم مع فرنسة، حتى إن إنكلترة استعدت لمصادقة روسية عن سوء مزاج تجاه ألمانية، وهكذا كان الخطر يحف بنظام بسمارك، وهكذا يواجه بسمارك هزيمة دبلمية للمرة الأولى، وماذا يصنع؟ إن أول عمل أتاه هو جعله جميع المطاحن تدور بمقالة عنوانها: «هل الحرب قريبة الوقوع؟»
ويتوجه الدبلميون في رومة ولندن وفي كل مكان إلى مستشار روسية غورشاكوف عن حقد على بسمارك، ويتخلى هذا المستشار لإنكلترة عن بقعة صغيرة في البلقان، ويذهب هذا المستشار مع القيصر إلى برلين حلا للأزمة أو تعقيدا لها، ويستقبل بسمارك غورشاكوف استقبالا سلميا ويطلعه على آخر استقالة قدمها لمرضه، ولأنه أصبح غير ضروري ما دام كل أمر هادئا، ويتخذ بسمارك هذا الأسلوب تجاه القيصر فيبدي له أنه سعيد لعدم الضرورة إلى امتشاق الحسام.
وهكذا يخدع المستشار الروسي المغرور المكار الشائب تلميذه بسمارك، وهكذا يتبخر آخر حظ للمستشار الروسي في عالم الشهرة، وقد أراد المستشار الروسي أن ينقذ ما بقي له من السمعة فأرسل إلى ممثليه في جميع العواصم برقية غير رقمية قال فيها: «والآن أنقذت السلم» وقد صيغت هذه البرقية على هذا الوجه لإعلان فوز غورشاكوف على بسمارك وأن روسية الأم تغلبت على الجنون التوتوني،
1
ولحمل أوروبة على الاعتقاد بأن روسية وغورشاكوف أنقذا محبة السلم فرنسة من جشع بسمارك الذي هو آفة أوروبة!
ويروي بسمارك مغاضبا أنه ذكر لذلك الروسي بعض الحقائق الهائلة الخاصة بالوطن، ومن كتب بسمارك إليه: «لا ينبغي لكم أن تثبوا على كتفي صديق من الخلف ولا أن تراهنوا على حسابه بتذكرة سباق! وإذا أردتم اكتساب صيت في باريس فلا يجوز لكم أن تنتهوا إلى ذلك بتعكير صفو علاقاتنا بروسية! وإذا أردتم صنعت قطع خمسة فرنكات مشتملة على شعار «غورشاكوف يحمي فرنسة!» وإذا أردتم أقمنا في السفارة الألمانية بباريس دار تمثيل تعرضون فيها على الجمهور الفرنسي بذلك الشعار مع إظهاركم على شكل ملك مجنح حارس لابس ثيابا بيضا باد بنور الأسهم النارية!» ولنا أن نبصر عدم أخذ غورشاكوف بمثل ذلك التهكم، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن هذا اللحاء ترك أعمق أثر في ذهن بسمارك فلم يعتم أن صار له من النتائج ما هو مهم في تاريخ العالم.
ولم يتمالك القيصر أن ذهب إلى زيارة بسمارك على غير ميعاد في الحقيقة، فبدأ الكلام بقوله: «دعوني أبدأ قولي بأن أؤكد لكم أنه لم يساورني اعتقاد بأن ألمانية تميل إلى إيقاد نار الحرب!» ويروي بسمارك أن القيصر قال له عن مستشار في حال أخرى: «دعوه يتمتع بعجب المشيب!» وفي الظاهر يبدو بسمارك مغلوبا دبلميا على يد غورشاكوف، وترى بسمارك مع ذلك في وضع استثنائي يظهر فيه ذا شعور سياسي نقي، وما كان بسمارك لينسى تلك الساعة، والآن يمتنع بسمارك عن تكذيب خصمه الذي يعلن في كل مكان أنه محل لاستحسان القيصر، ولكن بسمارك يدخر الأمر في ذاكرته، فبسمارك الذي لم يسطع السكوت في مشيبه عن «جور لم يكفر» منذ خمسين سنة لا بد من أن يرى الانتقام من أجل إهانة وجهت إليه في أوج سلطانه.
ولم تكد سنة واحدة تمر حتى طلب منه الروس أن يختار بين روسية أو النمسة؛ ففي صيف سنة 1875، وبعد انقضاء الأزمة الأخيرة بوقت قصير جدا أسفرت الثورات الجديدة التي قام بها سكان البلقان ضد الترك عن زيادة تحاسد تينك الإمبراطوريتين، وغدا كل ما يعد منوطا بالقرار الذي يتخذه بسمارك، وبسمارك بعد السلم لم يلبث أن حاول عرقلة المتنافسين في البلقان بتأليف حلف الأباطرة الثلاثة، وبسمارك يقول لخلصائه: «لا أقصد التدخل لما ينشأ عن ذلك من حرب أوروبية، وإذا ما أيدت أحد الفريقين لم تنشب فرنسة أن تنحاز إلى الفريق الآخر، وترونني ممسكا بالحيوانين القويين من طوقيهما فاصلا بينهما لسببين: لكيلا يمزق كل منهما الآخر، ولكيلا يتحدا على حسابنا.» وفي الريشتاغ يجعل بسمارك ذلك الرأي الرائع مقبولا بالكلمات الآتية: «أعارض كل تدخل فعلي من قبل ألمانية في تلك المسائل ما دمت لا أرى وجها يجعلني أفترض مسها للمصالح الألمانية، وما دمت لا أرى مس المصالح الألمانية بما يعدل المجازفة بما في الجندي البوميراني الواحد من عظام سليمة مع الرجاء بالصفح عن غلظة التعبير.»
ولا أحد كبسمارك يعرف ما في تحالف الأباطرة الثلاثة من عدم ثبات، وبسمارك كثير الشك في قدرته على المسك بطوقي الحيوانين فصلا لأحدهما عن الآخر إلى الأبد، وكل ما في ذلك التحالف من وزن أدبي هو تعاهد الأباطرة الثلاثة ضد الجمهوريات والديمقراطيات وتفضيلهم اصطبار بعضهم على بعض على أن يقهرهم من يكرهونه.
وفي هذا سر ما كان من تأييد بسمارك في سنة 1870 لفكرة الاتحاد الثلاثي الشرقي الذي سبق أن قضي عليه في سنة 1850، وتجد ما في قيصر روسية وإمبراطور النمسة من الأماني الأسرية حفظا لسلامتهما أقوى من تنافسهما وصولا إلى الفتح، ولكنك لا تبصر في تلك الأيام من طيف لعدو مخيف يوجب تحويل تحالفهما إلى اتحاد مقدس كالذي قام في عهد آبائهما.
وفي ذلك التزاوج الثلاثي تبدو ألمانية أحدث الأزواج الثلاثة فتتجاذبه زوجتان أكبر منه سنا، وكلا الزوجتين محراب، فيصعب على الزوج أن يتصرف منصفا تجاههما، ويقول بسمارك لهوهنلوهه في ذلك الحين: «إذا ما بقينا محايدين في حرب تقع بين روسية والنمسة؛ لم يعف المغلوب منهما عنا قط، وإذا ما أصيبت النمسة بهزيمة تامة لم يكن لنا من ذلك مغنم، نعم نستطيع إذا ذاك أن نضم النمسة لألمانية، ولكن ماذا نصنع بالصقالبة والمجر، ولا يسمح الرأي العام لنا بمحاربة النمسة، وتكون روسية شديدة الخطر علينا إذا زالت النمسة، ولا نقدر على إحباط عمل روسية إلا بمساعدة النمسة.» وبسمارك وجد نفسه أمام تجربة خطرة بعد هذا التصريح بقليل زمن.
أنبأ سفير بسمارك في ربيع سنة 1876 غورشاكوف بأن ضربته الروائية ببرلين في السنة الماضية أسفرت عن «حذر وحير» في ألمانية تجاه روسية، وأجاب غورشاكوف عن هذا بحماسة قائلا إن عد بسمارك تلميذا له كعد رفائيل تلميذا لبيروجينو، وفيما هو ينطق بمعسول الكلام على هذا الوجه تبصره مستمرا على حوك الدسائس في ميدان السياسة ضد بسمارك.
وهو إذ كان عارفا بورطة خصمه لم يلبث أن نصب له شركا؛ ففي خريف سنة 1876 أرسل من ليفادية إلى برلين السؤال الآتي بواسطة الملحق العسكري الألماني، وهو: هل تظل ألمانية محايدة عند وقوع حرب بين روسية والنمسة؟ وكان غورشاكوف من الحذق السياسي ما لا يضع معه مثل هذا السؤال القاسي من غير أن يكون قد حسب نتائجه الممكنة، ويأخذ بسمارك هذه البرقية حينما كان في فارزين، ويسير في المرحلة الأولى عن مبادرة منه، فيأمر ديوان الخارجية مؤكدا على خلاف عادته ب «عدم الجواب عن مسألة سرية قائلا إننا لا نعرف مقاصد غورشاكوف بوضع هذا السؤال ولا وجه فائدته منه، والسؤال وقح ، والسؤال في غير وقته ، والسؤال دسيسة حيكت بخيوط بيض.» ثم يقول غاضبا: «إن الأمر يدور حول توقيعنا سفتجة على بياض لتملأها روسية وتقبض بدلها ولتستعمل ما تقبض ضد النمسة وإنكلترة.»
وهنالك أيضا يدقق بسمارك في حساباته وفق جدول الأنساب العددية، وهو يعرف جيدا غرض غورشاكوف من السؤال، وهو يعرف أن غورشاكوف يريد أن يعلم: هل تقسم النمسة؟ فإذا قال: «كلا» كان ذلك لما يبصره من تدفق سلافي يغمر شرق أوروبة فيجعل ألمانية في وضع التابع فما بعد، ويرى بسمارك أن الخير كل الخير في دعوة القيصر إلى الانتباه ما دامت سياسة بسمارك قائمة منذ زمن طويل على جعل كل من الدول الثلاث المتنافسة، روسية والنمسة وإنكلترة، في حال توتر وفي طور ينشد معه التأييد من ألمانية، والآن يريد منع نشوب حرب عالمية بأن يوجه جيش الروس المستعد للقتال إلى البلقان.
ويضغط بسمارك مرة أخرى؛ حملا له على الجواب القاطع، فيقول إنه، وإن كان لا يميز أحد الفريقين الصديقين المتقاتلين من الآخر يأسف كثيرا إذا بلغ جرح أحدهما من الخطر ما يغدو به دولة غير عظيمة.
والآن يستطيع غورشاكوف أن يقيم لمولاه دليلا قاطعا على أن بسمارك هو العقبة الكأداء دون تحقيق الروس لآمالهم في نصب الصليب فوق قبة أياصوفية، ويقنع القيصر بذلك فيقلع عن فكرة مهاجمة فرنسوا جوزيف، وهو بدلا من هذه المهاجمة يجتمع بأخيه الإمبراطور في رايشتاد، ويصل معه إلى اتفاق مؤقت حول البلقان فيعده بإعطائه البوسنة إذا ظل محايدا، وهكذا تتوجه الزوبعة المتوعدة إلى الجنوب الشرقي، فيزحف الروس إلى الآستانة؛ ليواجهوا الأسطول البريطاني في الدردنيل في ربيع سنة 1877 وليلاقوا مصاعب إضافية، وهنالك يشعر الروس بأن الدول لا تدعهم يصلون إلى القرن الذهبي، فيكتفون بمعاهدة أياستفانوس موجبين «اختلال التوازن الدولي».
وقال غورشاكوف في جوابه إلى بسمارك: «ليست المسألة التي يرى حلها ألمانية ولا روسية وإنما هي أوروبية.» ويكتب بسمارك على الهامش: «من يقل أوروبة يخطئ؛ فما هي أوروبة؟» ومنذ عشر سنوات مضت، وحين بدا سفير إنكلترة متوعدا، كان بسمارك قد استعمل تلك الكلمات الثلاث موكدا مع مزح، وبسمارك يقول: «يلوك رجال السياسة كلمة أوروبة عندما يطلبون من الدول شيئا لا يجرءون على سؤاله باسمهم الخاص.» وبهذه الكلمة الصائبة في تلك الأيام يجيب بسمارك عن عبارة غورشاكوف.
وفي سان بطرسبرغ كان يوجد رجل ذو آراء أوروبية وصاحب قلب يلبي ما لا يعرفه الشيخ غورشاكوف من مشاعر الإنسانية، وذلك أيام عقد معاهدة أياستفانوس التي تقضي بطرد الترك من أوروبة وبتوسيع رقعة دولة بلغارية التابعة، وأيام شعور النمسة بأن روسية تحيط بها إحاطة جزئية، وأيام تظهر إنكلترة قلقها، وأيام كان شبح حرب طاحنة أشد من الأولى يلوح في الأفق، والرجل هو الكونت بطرس شوالوف، ويهرع شوالوف هذا إلى صديقه بسمارك ويرجو منه أن يتوسط، وكان بسمارك في فردريكسروه وكان مصابا بالهرص
2
ووجع الأعصاب وشقيقة الوجه فلا يستطيع حتى حلق ذقنه، ويقابل بسمارك شوالوف مع ذلك، ولكنه يرد طلبه.
وفي هذه المرة - كما هو الأمر قبل ضم الألزاس واللورين - لم تضل غريزة بسمارك السياسية، وبسمارك منذ بضعة أشهر حينما عرضت عليه اقتراحات شبه رسمية وصولا إلى توسط ألمانية؛ رفض ذلك رفضا باتا قائلا: «لا نكاد نعتقد أن التوسط لدى دولة أخرى يتم بغير ضغط روسية، ولكن ضغطا كهذا لا يؤدي إلى إذعان روسية إلا بصعوبة عظيمة، ونحن لما نبصر من اتساع الحدود بيننا وبين روسية؛ نرى صلاتنا بهذه الإمبراطورية أهم من جميع تركية بمراحل؛ ولذا لا نرى من الرأي إحداث كدر غير مجد بقبول ذلك التوسط.» وليس عندنا دليل مؤيد للزعم القائل إن بسمارك في مشيبه وجد هذا التدخل أعظم خطأ وقع في غضون منصبه، وليس هذا الزعم صحيحا - كما يظهر - وإنما الذي لا مراء فيه هو أن بسمارك رفض التدخل في بدء الأمر.
وما كان شوالوف لينثني؛ ففي اليوم التالي أتت برقية من القيصر - كما طلب شوالوف لا ريب - التمس فيها القيصر إسكندر من بسمارك أن يتوسط قائلا فيها إنه يعد ذلك آية على إخلاصه، وماذا على بسمارك أن يصنع؟ وبسمارك منذ زمن قليل كان قد كتب إلى سفيره ببطرسبرغ يقول له: «إن عاهلا قريبا منا كالقيصر إسكندر يجب أن يعد من قبلكم ومن قبلي صاحب حق على الدوام، وذلك كما يعترف لإحدى السيدات.»
وقد جعلت محاولة قتل الإمبراطور ولهلم أمر القانون اللاشتراكي ممكنا، ويشعر بسمارك بأن وضعه الداخلي اشتد، ومن المحتمل أن يكون قد أثر في بسمارك حقده على غورشاكوف فأبصر وجوب جلوسه تحت رئاسته إذا ما عقد مؤتمر، وبسمارك كما في فرساي قال «نعم» حيث كان قد قال «لا» مخالفا بذلك إحدى صفاته البارزة، ويعمل بسمارك ذهنه، فيملي على ابنه في خمس وعشرين دقيقة برنامج مؤتمر برلين.
ويخاطب بسمارك الرأي العام بقوله: «سنمثل دور السمسار الشريف»، ويقرأ بليشرودر هذا فيهز رأسه مرتابا ويقول عن حنكة: «لا وجود لسمسار شريف».
الفصل الرابع عشر
في 13 من يوليو سنة 1870 تناول بسمارك برقية إمس، وفي 13 من يوليو سنة 1874 جرح بعيار ناري أطلقه عليه كولمان، وفي 13 من يونيو سنة 1878 يفتتح مؤتمر برلين، وفي 13 من يوليو سنة 1878 يوقع بسمارك معاهدة برلين التي هي وليدة ذلك المؤتمر، ويجلب الرقم 13 - وهو الرقم الذي يتطير به تطيره من يوم الجمعة - حسن الحظ إليه مرتين من خلال الشر، والمسألة هي أن يعرف هل تكون نتيجة ذلك المؤتمر الذي بدئ وختم بتاريخين مشئومين شؤما عليه مع أنه توج بنجاح ساطع، وإذا نظر إلى المظهر لم ير بسمارك في أي دور من أدوار منصبه أبهر فلاحا مما في ذلك الدور حين كان ينهض في قاعة قصره الرسمي المقببة ومن مركز المائدة العظيمة المصنوعة على شكل نعل الفرس ليحيي - وهو رئيس لأوروبة - سياسيي الدول العظمى، وأمر مثل هذا مما لم يحدث منذ عشرات السنين، وكان بسمارك يكتسب بلحيته البيضاء الكبيرة منظرا أبويا، غير أن أحوالا كثيرة كمرضه واضطراره إلى القيام بشئون الرئاسة بلغة أجنبية وحمله عبء جميع العمل كانت تزعجه بعض الإزعاج، وإن كان قد افتتح المؤتمر مع قليل ضيق و«عدم عطل من نروزة».
1
ويجلس حول تلك المائدة المصنوعة على شكل نعل الفرس عشرون سياسيا مشهورا من سبع أمم مختلفة، والملكية عن يمين بسمارك، أفلا تبصر هنالك ثوريا يمثل دور قائد الهونفد؟
2
ترى ملامحه النحيفة الضيقة على شيء من التخالف، وتراه ذا أنف كبير وأذنين عظيمتين وفم حساس ولحية صغيرة، وينم منظره على النفور وعدم التقيد بالرسميات، فهذا هو الكونت أندراسي السريع الفهم والبطيء العزم، وبجانب الكونت أندراسي يجلس الكونت كاروليه؛ أي سفير النمسة الدائم ببرلين، والذي لم تقصه محاربة النمسة عنها سوى بضعة أسابيع، والبارون هايمرل هو العضو الثالث في الوفد النمسوي المجري، وهو الذي تشاهد فيه كل شيء حادا من أنفه إلى رأس قلمه الرصاصي الذي يقيد به ملاحظاته.
والرجل الجالس عن شمال بسمارك هو ودينغتن الذي ينم بسيماه على إنكلترة القديمة المرحة، والذي هو سهل مقبول، والذي هو رئيس للوفد الفرنسي وإن كان إنكليزيا بالاسم والأصل، والذي هو عالم أثري أكثر من أن يكون وزيرا للخارجية، وأما الجالس بجانبه فهو الكونت سان فاليه الدائم الحركة والكثير التبرم والسفير لفرنسة ببرلين، والذي هو أكثر تمثيلا لأمته، وأما العضو الفرنسي الثالث فهو ديسبرز الذي يدل مظهره الذهني على أنه بلاطي إكليريكي.
وماذا يصنع الشرق الأقصى هنالك؟ أحقا أن ذلك الرجل الصغير الذي يدل منظره على المكر هو ياباني؟ كلا، وإنما هو الكونت كورتي الذي يمثل إيطالية بذكاء أكثر مما يبديه جاره الكونت لوني، وبالقرب منه يجلس عسكري ألماني مرتزق أزرق العينين لابس طربوشا، ويلوح كل شيء حول تلك المائدة مقلوبا رأسا على عقب، ويدلنا كل شيء حول المائدة على سخافة أي حديث عن الشعوب والعروق، وذلك التوتوني المليح هو الفريق الأول علي باشا وإن كان يحمل في صباه بمغدبرغ اسما آخر، وإن كان في مغدبرغ نوتيا فأبق
3
فغدا غلاما لدى الصدر الأعظم علي - كما أشيع - فصار ذلك الصدر الأعظم حاميا له، وقد قتل الأفاق الألماني علي باشا بخنجر ألباني بعد المؤتمر بشهرين، والممثل التركي الآخر هو قره تيودوري باشا، وهو لطيف الأنف محكم الفم شاحب الوجه متحفظ مولود في الشرق الأدنى ، وهو يوناني حسيب.
ومن هو ذلك الجالس هنالك عن اليمين قريبا من البارون الفيني؟ أهو عضو آخر من الوفد الألماني؟ كلا، وإنما هو السفير البريطاني ببرلين اللورد أودو رسل، وهو يبدو أريبا لطيفا نشيطا بسيطا، ويجلس بجانبه رجل ذو لحية شقراء عريضة وجبين عال، وهو اللورد سالسبري الخبير في المسألة الشرقية، وما كان طرفنا ليرتد عن ملامح هذا الرجل الإنسانية إلا ليبصر الممثل البريطاني الثالث الذي هو أكثر رجال المؤتمر وقفا للنظر على ما يحتمل، ولا يكاد منظره ينم على جنسيته، ولا يدل مظهره على أنه إنكليزي، وديسرائيلي هذا، قبل أن يصبح اللورد بيكونسفيلد بزمن؛ أي حين اشتهر بأنه كاتب روائي، كان شابا يهوديا ذا ظرف مثالي، والآن يبدو ديسرائيلي ميفيستوفليا موسيقيا، وهو يشابه كاتبا صوره رنبرانت بأنفه الكبير وارتخاء شفته السفلى وخشنة شاربيه وجبينه العالي المزين بخصل من الشعر، واليوم يظهر شائبا منهوكا متوكئا على عصاه عند ذهابه إلى مقعده، ولا أحد ممن ينظرون إليه يظن أنه هو الرجل الذي فتن قلب الملكة فيكتورية.
وأين غورشاكوف الذي له ما لديسرائيلي من الشهرة؟ وهل هذا هو الرجل القصير المتكرش هنالك؟ هو في الثمانين من سنيه، وهو على خلاف الإمبراطور ولهلم الذي لا يزال منتصب القامة كضابط شاب، وهو يألم من النقرس
4
فيحمل إلى مقعده، وإذا رجعنا البصر إليه عن كثب لم نجد وجهه متكرشا بمقدار تكرش جسمه، ولا يزال فمه باديا حساسا، ويظهر ناعم الخدين حاد الأنف، وهو إذا تلفت ذات اليمين وذات الشمال ألقى في روعنا أنه نصف ألماني، وذكرنا بصورة ألماني غريب الأطوال لسبيتزفيغ، ويدل محياه على أنه رجل لهو لا رجل كيد وإن كان جامعا للأمرين في الحقيقة، وهو قد أقنع مولاه بأن يأذن له في الجلوس حول تلك المائدة على أن يكون حق التصويت لسفيره ببرلين بول دوربيل وأن يقوم بالنقاش في الأمور جارهما الأهيف الكونت بطرس شوالوف الذي هو صاحب فكرة عقد المؤتمر والذي يشابه ماريشالا فرنسيا مظهرا، والذي يبدو نبيها نبيلا مفاوضا منقطع النظير .
وفي البداءة تصل سيوف الخصوم حينا من الزمن، ومع أن الرئيس ألقى خطبة الافتتاح باللغة الفرنسية في أرض ألمانية ألقى ديسرائيلي جوابه باللغة الإنكليزية وقورا متخذا لهجة أوكسفورد الخالصة، ولكن على وجه لم يفهمه غير القليل من الحضور، وبعد ذلك نطق غورشاكوف باللغة الفرنسية - خلافا لما كان يتوقعه بسمارك - لا باللغة الروسية بطائفة من الأمور التي لا تعد جوابا فأدى هذا إلى جعل الرئيس الملول يكتب على ورقة الألفاظ «بونبوس، بونبو، بونب، بو»، ثم انتقل الجميع إلى غرفة مجاورة حيث مدت مائدة مشتملة على مرطبات، وحيث أتم برشارد «أعظم نجاح في كل واحدة من اجتماعات المؤتمر العشرين».
ويساور الغضب بسمارك حتى قبل افتتاح المؤتمر؛ وذلك لأن جميع الممثلين حينما ردوا إليه زيارته «أبدوا من الروح الريفية ما أتعبوه به»، وبسمارك بعد ذلك أخذ يهزأ بضيوفه منكتا، وصار يحاول في الجلسات القادمة أن يدير كل شيء وفق منهاجه، ومن ذلك أن قدم إليه سالسبري مشروعا جديدا فقال له: «وشيء آخر أيضا!» ومما جاء في التقرير اليوناني «أنه لا يلتفت إلى الاعتراضات، ولكنه يمعن في الإسراع فيضغط الجميع بتبرمه العصبي، مشعرا كل واحد بهيمنته شيئا فشيئا»، وهو مع إتقانه التكلم باللغة الفرنسية كان لا ينطق بها إلا بهزات سريعة أو بطيئة على حسب حال أعصابه - شأنه عندما يتكلم بالألمانية - ومن قوله: «إن من النادر أن أنام قبل الساعة السادسة صباحا، وأنام في الساعة الثامنة غالبا؛ وذلك لساعة أو ساعتين، ولا يقابلني أحد قبل الظهر، ويمكنكم أن تتصوروا الحال النفسية التي أكون عليها عند افتتاح الجلسات، وأشرب قبل كل جلسة ثلاثة - أو أربعة - قعبة
5
جعة مملوءة برحيق بورتو القوي، فلولا فعلي ذلك لم يجر الدم في عروقي وصرت غير صالح لعمل شيء.» وقد أجمعت التقارير - مع ذلك - على أن بسمارك أعان إلى أبعد حد على التوفيق بين الجميع؛ بفضل صلابته وبصيرته وسعة حيلته.
ومن بين أعضاء المؤتمر كان يثق بالدرجة الأولى بأندراسي ورسل، وقد حاول - على غير جدوى - أن يكتشف «عيبا في رسل الذي لم يجد إنكليزيا مثله كمالا، وهو رجل يتقن ست لغات»، وهو يتمنى أن يقود اللورد سالسبري بين يدي عريف ألماني معلم للرياضة نصف ساعة في كل يوم حتى يتعلم تقويم هيئته، وهو ينظر إلى أحمد علي كمرتد فيعامله ببرودة وغلظة تقريبا، وهو يبدي لعدوه غورشاكوف إخلاصا ساخرا، ويزوره الشيخ غورشاكوف ذات مرة، ويود بسمارك أن يساعده على النهوض على كرسيه، ويظن الدرواس
6
الدانيماركي أن هذه الحركة علامة للهجوم، وينتهر بسمارك الكلب، ويخيل إلى غورشاكوف الذي لم يلاحظ هذا الحيوان سابقا أن بسمارك فاجأه بذلك انتقاما منه فينصرف مغاضبا، ويقص بسمارك الخبر مساء، ويضيف إلى ذلك تعليقه الآتي الذي ينم على سياسي محب للكلاب أيضا، قال بسمارك: «لما يتم تدريب تيراس كما يجب؛ فهو لا يعرف من يجب عليه أن يعض، ولو عرف ذلك لعض التركي.»
ويؤثر على أوجه مختلفة كل من مغامري المؤتمر الثلاثة، الغلام والروائي وبسمارك، في الآخر، وبسمارك قال في المساء الأول: «أود لو أعرف هل يريد بيكونسفيلد الحرب، لا أحد يعرف ذلك! والشعور السائد هو أن الميزان بيده، وهو حذر مرتاب، ولا يعرف مصوره فرنر الإنكليزية، ولكن ديسرائيلي لم يقنع بذلك حتى أكده له غير مرة، وما فطر عليه هذا الشيخ من روح الملح فقد مكنه من التمتع ببعض النكات البرلينية على حساب شخصيته واسمه وأصله اليهودي، ومن تلك الطرائف أن ضابطا كان يسير حوله فسأل الحارس الواقف أمام باب ديزي عن الذي يحافظ عليه فأجاب هذا الرجل عن ذلك بقوله: «كما تأمر يا سيدي، هو ب. أ. كوهنفيلد».»
7
ولو كان بسمارك لا ساميا لكان كل شيء في ديسرائيلي ولا سيما ميوله الخطابية غير ملائم لبسمارك، ولكن بسمارك بعد أحاديث قليلة كان على تفاهم معه أكثر من تفاهمه مع كل واحد من الآخرين، وبسمارك يقول بعد زمن: «إنه قضى ليالي كثيرة هنا، وهو - لانحراف مزاجه - كان يشترط خلو المكان من كل ضيف، وهكذا غدونا متحابين، وهو مع وضعه روايات خيالية كانت تسهل مناقشته، وكان يعرف في ربع ساعة ما يوده ، ويعلم الحد الذي لا يريد مجاوزته، فنسوي كثيرا من المسائل معا.»
وما فتئ ديسرائيلي - حتى موته - يكون صديقا لبسمارك وإن شبه بسمارك في الإنديميون بكونت فيرول بعد رواية موتلي عن بسمارك بأربعين سنة.
ويلوح أن بسمارك اتخذ لهجة المساوم مع بليشرودر، وقد قال له في أول مساء: «إن فائدة السلم هي 66 : 34، وقد تكون 70 : 30.» ويقيم بليشرودر «حفلة عشاء كبيرة بلا مملحة، ولكن مع كثير غناء»، ويدعو ولي العهد إلى نزهة في سفينة فوق الفانسي، وكاد أعضاء المؤتمر يغرقون بعاصفة هبت فورا حين عودتهم إلى قصر سانسوسي حيث «وجد أعضاء المؤتمر قبل العشاء - كما روى هوهنلوهه - طسوتا
8
كثيرة لغسل الأيدي، ولكن مع إناء خزفي لغير الغسل تجمعت حوله جميع أوروبة».
والمسائل التي يجب النقاش حولها في المؤتمر نسيت منذ زمن طويل، وعادت التفصيلات غير مجدية، وعادت المسألة المهمة الوحيدة لا تبدو في سوى ما بين الدول الثلاث الطامعة في الشرق الأدنى من منافسة، ويبلغ ما بين روسية وإنكلترة من مزاحمة غايته حول مسألة بلغارية، وتتشدد روسية، وكان بيكونسفيلد قد أوصى بقطار خاص له، وكان بسمارك قد اطلع على ضعف روسية من شوالوف، فأقنع الإنكليز بأن يكونوا أقل تصلبا وأقنع الروس بأن يكونوا أقل انتفاخا، وهكذا وفق بسمارك لحفظ السلم على حساب صداقة روسية، فصار الناس يتحدثون في الحقيقة «عما أصاب به بسمارك روسية من خزي».
وإذا عدوت ما قيل من البهتان العام حول حماية النصارى من الكافرين وجدت المساومة تتجلى في تحديد مناطق المصالح المزعومة على خرائط لا يفقه أمرها أقطاب لندن وسان بطرسبرغ أكثر مما يفقهه واسطتهما الألمان، ومن الأمثلة على ذلك ما كان من تخصيص بلغارية الحديثة بالسنجق ثم اكتشاف وقوع السنجق وراء سلسلة جبال البلقان بمسافة غير قصيرة وظهور تنزل إنكلترة عن الشيء الكثير ورغبتها في اقتضاب ذلك، ومن الأمثلة على ذلك ما رواه هوهنلوهه من «اكتشافنا مساحة صغيرة يمكن اقتطاعها من الروس، وهي صرد
9
مع أن أحدا منا لم يعرف كونه حدا معقولا، وكانت الخرائط متناقضة غير دقيقة ».
وتمضى المعاهدة بعد أربعة أسابيع فلا تسفر عن سكون مزار في البلقان، فقد «بنيت» بلغارية و«استقلت» صربية ورومانية والجبل الأسود، ووسعت بلاد اليونان، وجعل نهر الدانوب محايدا تديره لجنة دولية، وأغلقت المضايق، وتحتل النمسة ولايتي البوسنة والهرسك وتديرهما مع بقائهما تركيتين، ويكون هذا الأمر الأخير مصدر توتر في عشرات السنين الآتية وإن اتفق عليه قيصر روسية وإمبراطور النمسة سرا منذ عام. ولم يسو شيء وفق العوامل العرقية ولا وفق رغائب السكان؛ فقد ظل الصرب مقسمين بين أربعة بلاد، وبقي البلغار موزعين بين ثلاثة بلاد، ودحر الإسلام مع بقاء الترك في أوروبة، وهكذا اشتمل رق دقيق على مسائل كثيرة لم تحل.
ولم يكن لألمانية أية مصلحة مباشرة في الأمر، وخسرت ألمانية الشيء الكثير على وجه غير مباشر مع ذلك، فزعزع ما بينها وبين روسية من الصداقة، ولم تنل صداقة إنكلترة بدلا من ذلك، ويعزو بسمارك ذلك إلى علل شخصية، فقد قال: «كنا قبل المؤتمر على تفاهم مع القيصر إلى أبعد حد، وكان من المتفق عليه أن أستصوب جميع رغائب روسية، وأن يرسل شوالوف بدلا من غورشاكوف كما وعد القيصر، ويظهر أن غورشاكوف نشي
10
ريح ذلك كما يدل عليه قيام سياسته على تناقض طلبات روسية فاضطررت إلى القول لشوالوف إنني لا أستطيع أن أكون روسيا أكثر من روسية نفسها، ويقدم غورشاكوف تقريره إلى القيصر بعد ذلك، ويقول له: علينا أن نشكر لبسمارك هزال النتائج التي انتهينا إليها، ومما روي لنا أن القيصر قال له عندئذ: حسنا إذن! ستظل مستشارا إذن!» والذي لا ريب فيه هو أن القيصر شعر بأن ذلك «السمسار الشريف» تخلى عنه في أثناء الكفاح الدبلمي، وعن المؤتمر قال القيصر: «إنه حلف أوروبي بإمرة بسمارك ضد روسية.» وإن شوالوف كان ضحية خداع بسمارك.
وقد مهد مؤتمر برلين السبيل لاضطراب البلقان وشقاق بين الدول العظمى لم ينشب أن بدا أثره.
الفصل الخامس عشر
خالي العزيز، أجد في صداقتكم الدائمة ما يشجعني على التعبير بصراحة عن أمر دقيق أزعجني كثيرا؛ وذلك أن سلوك وكلاء ألمانية الدبلميين في وقت مضى كان ينم على خصام لروسية مناقض لتقاليد الصداقة التي سارت عليها سياسة حكومتينا منذ قرن فكانت منسجمة مع مصالحهما المشتركة، وقد ظلت هذه الصداقة ثابتة غير متغيرة عندي، فأرجو أن يكون الأمر لديكم كذلك، بيد أن العالم يحكم في الأمور بالأعمال، ويظاهر الإنكليز والنمسويون الترك فيضع هؤلاء العراقيل في طريق البلغار، والآن يجب على أكثرية ممثلي أوروبة أن يقرروا، وتؤيدنا فرنسة وإيطالية على حين يسير الألمان - كما يظهر - مؤازرين لوجهة نظر النمسة مؤازرة مطلقة ومعاكسين لنا معاكسة منظمة ...
ولي منكم الصفح، ولكنني أجد من الواجب أن ألفت نظركم إلى النتائج السيئة التي قد يؤدي إليها ذلك في صلاتنا الودية، وما اتخذته صحافة كلا البلدين من الوضع فأخذ يزعجنا، ولا يغيب عني ما يجب أن تكونوا عليه من حسن العلاقات بالنمسة، ولكن الذي لا أدركه هو أن يكون لألمانية مغنم من التضحية بالمصالح الروسية، وهل يجدر بقطب سياسي كبير أن يتأثر بما يواثبه من كمد شخصي عندما تمس المسألة مصالح دولتين كبيرتين أسدت إحداهما إلى الأخرى في سنة 1870 ما لا يمكن نسيانه من الخدم كما أقررتم؟ وما كان ينبغي لي أن أذكركم بذلك لولا بلوغ الأحوال من الخطورة ما لا يجوز لي معه أن أكتم عنكم مخاوفي حول النتائج الشديدة لكل من بلدينا، أنار الله لكم السبيل ودفع ذلك البلاء عنا.
ويقرأ ولهلم ما اشتملت عليه رسالة القيصر المطولة تلك من العبارات الخطيرة في شهر أغسطس سنة 1879، ولا يزيد ما يراه من جد في محتوياتها على ما يراه كاتبها، وغير قليل ما حدث من تحاك الحليفين في غضون المائة سنة الأخيرة وتصادم مصالحهما، ولكن الأمور كانت تسوى بينهما على الدوام، ومن مبادئ بسمارك أن ألمانية وروسية صديقتان طبيعيتان، وبلغ بسمارك من اعتقاده ذلك ما رأى معه أن ما بدا من حملة صحافية بعد مؤتمر برلين لا ينتظر تأثيره في مشاعر قيصر روسية وإمبراطور ألمانية حول شرعية العروش، ولا في حركة القطع على رقعة شطرنجه.
وما بين البلدين من حدود مشتركة طويلة وما ليس لدى البلدين من وجود سبب لاحترابها، فكان يجعل بسمارك منذ خمس وعشرين سنة حتى في الأدوار الخطرة صديقا ثابتا لروسية، وما توانت فرنسة منذ سنة 1871 في طلب محالفة روسية وصولا إلى مهاجمة ألمانية من جبهتين؛ ولذا قامت سياسة بسمارك في الأعوام الثمانية الأخيرة على الوقوف وسيطا بين الإمبراطوريتين الروسية والنمسوية مانعا «الحيوانين المجهزين» من أن يمزق كل منهما الآخر مجتنبا الانحياز إلى أي واحد منهما، وحديثا قال بسمارك لميتناخت: «إذا ما تدخلنا لمصلحة النمسة جعلنا روسية عدوة لنا لا يشفى لها غليل، فغدت حليفة لفرنسة.»
وجاء في آخر تقرير من سفير ألمانية بسان بطرسبرغ أن القيصر فيما كان يبدي ألمه من سوء التفاهم بين البلدين في الكتاب المذكور آنفا كان يذكر الجيش الألماني بالجميل في حفلة عشاء فشرب نخبه، وبسمارك منذ بضعة أشهر أخذ يرى آراء جديدة حول روسية مع ذلك، فصار يدنو من صديقه المجري أندارسي ويدعوه إليه في غاستن، ومن المحتمل أن كان حبه للانتقام من غورشاكوف هو الذي حفز إلى ذلك مع أنه لم يبق لهذا الأخير من السلطة سوى الشكل، وقد بدأ شعور بسمارك بالعداء نحوه منذ إيلامه إياه كما بينا ذلك سابقا، ثم اشتد ارتيابه من روسية بجحود هذا البلد بعد مؤتمر برلين، ثم زاد ارتيابه بسبب حملة الصحف وصعوبة رقابة الجيش الروسي وعظم نفوذ وزير الحربية الكاره لألمانية، ثم يأتي كتاب القيصر ذلك فيثير غضب بسمارك، ويهرع بسمارك إلى لقاء أندارسي.
وما كتبه بسمارك إلى مولاه من غاستن حول القيصر فيشتمل على أشد العبارات التي استعملها حول أي بلد أجنبي منذ أيام إمس، ومن ذلك «أنه لا معنى للألفاظ التي أعرب بها القيصر عن صداقته لجلالتكم بجانب وعيده المكشوف حول الحال التي لا تجعلون بها سياستكم تابعة لسياسة الروس، ولهجة بين الملوك مثل تلك هي نذير قطع للعلاقة عند عدم وجود معاهدات تحول دون ذلك، وما كانت المجاملة بين الملوك لتوجب اتخاذ لهجة أقسى من تلك حتى عند شهر الحرب، وإذا كان جواب جلالتكم بمثل تلك اللهجة وجدنا أنفسنا في حرب ضد روسية على الأرجح.»
ويصف بسمارك وزير حربية روسية بالعدمي الذي يمهد السبيل للنظام الجمهوري بزج روسية في حرب - على ما يرجح - ويعزى تحفظ روسية في سنة 1870 إلى ضغط النمسة، ويعدد ما قدمته بروسية إلى روسية من خدم، ثم يستخرج بسمارك نتائجه فيقول إنه كان، دوما، نصير الاقتراب من روسية لما بدا له من كون هذه السبيل أسلم من سواها، وهو يقول مع ذلك: «لنا من عوامل الصلة بالنمسة أكثر مما لنا بروسية، وما يربطنا بالنمسة من وشائج الدم والذكريات التاريخية واللغة الألمانية وتعلق هنغارية بنا؛ فيجعل محالفة النمسة أعظم حظوة في ألمانية - وأكثر دواما على ما يحتمل - من محالفة روسية، وما هنالك من علاقات أسرية وصداقة شخصية نحو القيصر إسكندر، فكان يميل الميزان إلى روسية حتى الآن، ونحن لما نراه من خطر يحيق بمزية محالفة روسية؛ نرى من الجوهري أن نعنى - بعض العناية - بصلاتنا بالنمسة.»
ويقرأ الإمبراطور تلك الكلمات فيذعر ويزيد الإمبراطور ذعرا عندما يجد بسمارك راغبا في الذهاب إلى فينة، ويبدي ولهلم من الصلابة غير المعتادة ما يقول معه: «لا أوافق على مثل هذه الخطوة مهما كان الأمر، فروسية إذا ما أبصرتني أصنع ذلك عدت عملي معادلا لقطع العلاقات!»
وتمضي بضعة أيام على ذلك، فيأخذ الإمبراطور من بسمارك برقية يقص فيها خبر محادثته أندارسي الذي يقترح عقد حلف دفاعي بين ألمانيا والنمسة تجاه هجوم تقوم به روسية، ويرتعب الإمبراطور، ويتفق من تلقاء نفسه هو والقيصر على الاجتماع في قرية واقعة على الحدود الروسية للحديث حول رسالة القيصر، ويثور غضب بسمارك تجاه فكرة هذا الاجتماع، ويكتب تقريرا مطولا في عشر صفحات من القطع الكامل يشرح فيه لمولاه سياسته الجديدة، ويذكر فيه حسد غورشاكوف وكتاب إسكندر التهديدي وخطر تحالف كالذي كان في حرب السنوات السبع، ويذكر فيه وجود صلات بالنمسة منذ ألف سنة كان قد أشار إليها في نقولسبرغ ، ويذكر فيه أنه يمكن كلا من ألمانية والنمسة أن تقوم بدفاع متقابل من غير أن تضطلع بالتزامات الأخرى، ثم يختم بسمارك تقريره بوعيد استقالته المعتاد قائلا إنه لا يستطيع أن يقوم بسياسة أخرى.
وهنالك يرسل الإمبراطور إليه كتابا بخط يده عن حديثه مع القيصر، فيذكر له أنه كان هنالك سوء تفاهم، وأنه لم يكن هنالك تهديد بل خطأ، وأنه يرجى عد الرسالة غير موجودة، وأنه ألمع إلى الآباء، وأنه أعرب عن كل ثقة قلبية، وأنه وعد بالصداقة التامة؛ ولذا لا مناص من رفض محالفة النمسة، وكان بسمارك في تلك الأثناء يضع خططه وصولا إلى ذلك الحلف فصار يرسل من غاستن إلى مولاه في كل يوم - أو في كل يوم تقريبا - تقريرا عن السياسة الأوروبية، وأخيرا يكتب إليه في شهر سبتمبر ما يأتي:
ليس من الرأي أن تناط سلامتنا بروسية، وأجمل من ذلك أن يعتمد على النمسة، ومن ينظر إلى وضع النمسة وطبيعة الأجزاء التي تؤلف منها؛ يجدها محتاجة إلى سند في أوروبة كاحتياج ألمانية إلى مثله، وعكس هذا أمر روسية التي لا تحتاج إلى دعامة ما لم تكن إمبراطوريتها معرضة لخطر التقسيم، ومن ينظر إلى النمسة وهنغارية يجد لشعوبها كلمة في الموضوع ويجد رغبة هذه الشعوب في السلم، وعكس هذا أمر روسية التي لا تنطوي سياسة معاداتها لألمانية وسياسة محاربتها لألمانية على تهديد لوضع إمبراطوريتها الداخلي فيمكنها انتحال هاتين السياستين في كل حين، والنمسة - لا روسية - هي المحتاجة إلينا، ومن ينظر إلى النمسة يجد داخلها - على ما يحتمل - سليما أكثر من داخل جميع الدول، ويجد بيتها الإمبراطوري ثابت الأساس بين جميع شعوبها، وعكس ذلك أمر روسية التي لا يستطيع أحد أن يبصر ما تخفي من اندفاعات ثورية يمكن أن تعم إمبراطوريتها الكبيرة.
والعكس هو الذي كان بسمارك يعتقده، أو كان يتمسك به، حتى ذلك الحين، فكان يعد روسية صخرة النحاس ضد الثورة على حين يرى ثبات النمسة ملغوما بتحاسد مختلف الشعوب التي تتألف منها، والآن يقول لنا بسمارك إن النمسة إمبراطورية نموذجية على حين يجد روسية بؤرة ثورة! فبمثل هذه البراهين أخذ بسمارك يحاول أن يقنع نفسه ويقنع مولاه، ولكن السبب الحقيقي يمكن أن يبصر من خلال السطور، ومن ذلك أن النمسة ضعيفة محتاجة إلى ألمانية، وأن روسية قوية غير محتاجة إلى ألمانية؛ ولذلك يعدها بسمارك خطرا، والحكم من عادة بسمارك، وبسمارك وزيرا، وهذا يعني أن على الوزير أن يعمل متحدا مع الوزراء الآخرين. كان يفضل ألا يكون في وزارته سوى أناس يستطيع أن يسيطر عليهم، فهل يحتمل الآن ظهور القيصر بجانبه صديقا متوعدا؟ والذي يصد بسمارك عن روسية قبل كل شيء هو جرأتها على المطالبة بحقها في المساواة، ومثل هذا الطلب مما لا يطيقه بسمارك في عالم السياسة ولا في الحياة المنزلية ولا في المجالس الوزارية. والهنغاريون أناس مسالمون دوما، وهم يسعون في إرضاء ألمانية القوية، وهم يرون أنفسهم من السعداء إذا ما كانوا تحت حماية من هو أقوى منهم.
ويركب الإمبراطور متن العناد، ويبلغ ولهلم الثانية والثمانين من سنيه، وهو قد ترك بسمارك يقوده في الأعوام السبعة عشر الأخيرة، ولم يبدو الآن جامحا؟ ثار حس الشرف فيه، وأخذ يفكر في تراث أبيه، ويظهر أثر الشعور الأسري، وتمثل العادة والرغبة دوريهما، ويتمثل ما كان من اعتذار ابن أخته القيصر إليه قلبا وقالبا، وتزول عوامل الخلاف بينهما: «وتمازجني هذه العقيدة فيتعذر علي أن أوافق على اقتراح مستشار الإمبراطورية، وأجدني قد وقعت في ورطة هائلة، وأفضل أن أنزوي من الميدان فأسلم إلى ابني مقاليد الحكم على أن أسير ضد عقيدتي فأقترف خيانة ضد روسية، ويمكن الأمير «بسمارك» أن يخاطب الكونت أندراسي حول بعض الاحتمالات في المستقبل، ولكن على ألا يكون هنالك تحالف لا أريده، وكان الأمير قد قال لا ينبغي لنا أن نقيد أيدينا بمحالفات، وكان الأمير يقول - في الحين بعد الحين - إن النمسة دولة لا يعتمد عليها.»
وتكون ذاكرة العاهل الشائب جيدة عندما يكون مضطربا، وتظهر أجوبة بسمارك طويلة مقدارا فمقدارا، ومن الواضح أن كان ذهنه مصروفا إلى عمل إنشائي ، ولا نكاد نشك في أنه كان يفكر فيما هو أهم من إقناع الملك، والآن يشكو تهدم صحته ويصرح بأنه لا يستطيع احتمال مثل ذلك التحاك وبأنه يستقيل إذا لم يعقد الحلف، «وقد يمكنني أن أستمر على خدمة الإمبراطور إذا كنت من السعادة ما أقدر معه على مشاطرة صاحب الجلالة عقائده في المسائل السياسية الحاسمة، ولا تزال صحتي تقاسي تأثير مثل ذلك التحاك الذي احتملته في نقولسبرغ وفرساي، واليوم بلغت صحتي من الوهن والانحطاط ما لا أقدر أن أحلم معه بإنجاز عمل في مثل تلك الأحوال، وفي التاسع عشر من الشهر الجاري يكون قد مضى سبع عشرة سنة من بدء احتمالي هذا الكفاح الذي دام بلا انقطاع، وأعتقد أنني في أثناء هذا الدور قمت بالواجب الرسمي، وإذا لم يغير الوضع في ثمانية أيام أو عشرة أيام من الآن استقلت وظائفي وبينت الأسباب وفق قوانين الإمبراطورية».
ولم يؤد تعيين بسمارك وقتا لاستقالته التهديدية إلى غير إثارة غضب الإمبراطور الذي صرح غير مرة بأنه يتنزل عن العرش إذا اعتزل بسمارك منصبه.
وهكذا تبصر كلا من ذينك الزوجين يهدد الآخر، من برلين إلى غاستن ومن غاستن إلى برلين، بالطلاق إذا لم يصنع ما يرضيه، وفي كل يوم يحمل المستشار سكرتير الدولة على الإبراق مخبرا إياه بمزاج الإمبراطور كما يحمل الإمبراطور على سؤال هوهنلوهه: «أأفترض أن المستشار متبرم مني؟» ولا يعرف الإمبراطور كيف يعامل بسمارك، وبسمارك هو الذي يهيئ أهم وثائق الدولة عن مبادرة منه! ويكتب الإمبراطور إلى بسمارك ما يأتي:
يشق علي أن نبدي صداقة لروسية في الظاهر، وأن نحالف النمسة ضدها، وقد بلغتم من العزم على ذلك ما لم تقتصروا معه على إيضاح خطتكم للكونت أندراسي، بل أذنتم له في عرض الأمر على إمبراطوره الذي لم يعتم أن وافق على الفكرة، فضعوا أنفسكم في مكاني لقصير وقت وفكروا في أنني ذهبت للاجتماع بصديقي وقريبي وحليفي في السراء والضراء فأسفر ذلك عن زوال ما حام حول بعض عبارات وردت في كتابه من سوء تفاهم وعن الوصول إلى نتائج سارة، ثم فكروا في أنني في الوقت نفسه أعقد حلفا معاديا لهذا العاهل؛ أي أصنع خلف ظهره ما يناقض أقوالي، ومهما يكن الأمر فلا أريد - ولا ينبغي لي - أن أتنصل من الخطوات التي اتخذتموها لدى أندراسي ومولاه، فيمكنكم إذن أن تبحثوا في فينة عن عواقب اختلاف مع روسية قد يؤدي إلى قطع الصلات بها، ولكنني لا أستطيع - عن وجدان - أن آذن لكم في عقد أي اتفاق ولا ائتلاف ولا حلف ...
المخلص لكم: ولهلم
عالمان مختلفان يتحادثان هنا، وهما بروسية القديمة والإمبراطورية الجديدة، أو الفارس والدبلمي، أو الوجدان والذكاء، بيد أن ميفيستوفل يتصرف في وسائل قوية، فعلى هوهنلوهه بباريس وروس بفينة ومولتكه ببرلين وجميع الوزراء أن يؤيدوا سياسته، وتهدد الوزارة بالاستقالة، ويجد الإمبراطور نفسه محصورا، وليست سياسة بسمارك ولا حيله هي التي تثير إعجابنا في هذه المرة، بل نعجب بالإمبراطور الفارس.
ويذهب بسمارك إلى فينة ويتم المفاوضات، ويضع عقد التحالف حتى التوقيع، ويجتنب بإصرار برلين وستيتن وبادن حيث يذهب الإمبراطور مناوبة؛ وذلك خشية التنافر المباشر، ويحاول الإمبراطور أن يدافع - مع ذلك - عن شرفه خطوة بعد خطوة، والإمبراطور؛ لعجزه عن حفظ سياسته لا يريد أن يزج باسم روسية في معاهدة تعقد ضدها، والإمبراطور يرى أنه خسر اللعب، فيتألف من ذلك أسطورة ألمانية.
ويكتب العاهل المغلوب بعد ذلك قوله: «ما فتئت منذ أربعة أسابيع أجاهد ضد عبارة وردت في معاهدة فينة ظهر لي أنها مخالفة لكرامتي وواجبي، وقد أذعنت أمس مساء بعد أن أدليت بكل دليل، وذلك على أن يبلغ إلى روسية ما أوجب اتخاذ تلك الخطوة من الأسباب، وأرى أن قوتي الأدبية كسرت بأسرها، ولا أدري ماذا يصيبني! وسيعدني القيصر إسكندر ناكثا للعهد ما دمت قد كتبت إليه وقلت له غير مرة ما أملاه علي الأمير بسمارك من عزمي على صيانة وصية الآباء المئوية.» وهنا نتثمل هذا الإمبراطور الشيخ الذي ولد في القرن الثامن عشر ذاكرا ما كان منذ خمس وستين سنة من دخوله باريس مع القيصر إسكندر الذي هو جد للقيصر الحالي، وذلك قبيل إرسال نابليون إلى جزيرة إلبة.
والآن سياسته هي الصحيحة وإن كان لا يستطيع فرضها، وليس ذلك لأنه أنفذ بصيرة من المستشار، بل لأنه وهو المستمسك بعروة التقاليد وهو المعتمد على قرابته الأسرية بروسية لا يمكنه أن يتخلص منها بلا إيلام نفسه، ولأن البلاد لا تنفصل عنها بلا خطر، وهو لبلوغه من الكبر عتيا ولتصلب روحه أكثر من تصلب أعضائه؛ يبصر نتائج ذلك في الوقت العتيد أحسن مما يبصره غيره، ولم يسطع أحد في عشرات السنين القادمة أن يعيب بسمارك عيبا قاطعا لتقريره محالفة النمسة، ولا يستطيع أحد في الوقت الحاضر أن يعيب بسمارك بأقطع مما فعله ولهلم بالملاحظة الآتية التي كتبها على هامش إحدى رسائل المستشار بسمارك، فقد جاء فيها:
ولم يجب علينا أن نؤيد النمسة ضد روسية بكل ما لدينا من قوة على حين نكتفي بحياد النمسة إذا ما هاجمتنا فرنسة؟ فما علينا أن نصنعه للنمسة ضد روسية يجب على النمسة أن تصنعه لنا ضد فرنسة ... وتلك إذن قسمة ضيزى!
1
ولا جرم أن المعاهدة المقترحة ستلقي روسية بين ذراعي فرنسة، وستغذي شوق فرنسة إلى الانتقام! وأي وضع يمكن فرنسة أن ترجو وقوعه أكثر من جعل ألمانية والنمسة بين نارين؟ ولذا يجب صون تحالف الأباطرة الثلاثة بدلا من القضاء عليه في سبيل تحالف إمبراطورين، وإذا ما علم أمر المعاهدة المقترحة أو ظن وجودها اتحدت فرنسة وروسية من فورهما لا محالة!
وقد نظر بسمارك في كل واحد من هذه البراهين فرفضه، والذي يظهر أن الأحاسيس هي التي حفزته إلى تغيير سياسته أكثر من أن يحمله الحساب عليه، وليس ما قاله كارل ماركس عن غورشاكوف في كتاب أرسله إلى إنجلس غير صدى لما قاله بسمارك عنه، وإليك كلمة ماركس: «إن أبرز أمر في بسمارك هو الوجه الذي ظهر به عداؤه لروسية، وبسمارك أراد إسقاط غورشاكوف ونصب شوالوف في مكانه، وبسمارك إذ لم يوفق لذلك قال ها هو ذا العدو! وبسمارك وهو ينتظر، أبصر في سحب الشرق ما يؤيده، فبدا رجل الساعة مرة أخرى، وستجدد ميزانية الحديد العسكرية في الريشتاغ القادم، ومن المحتمل أن يصوت لهذه الميزانية إلى الأبد.»
وهنالك سبب آخر، وهو عاطفي أيضا، وهو أن بسمارك قبل ذلك ما كان ليطلب موافقة الشعب ليسوغ حلفا، ولا لينظر إلى رفض الشعب لينقض حلفا؛ فالآن يشير بسمارك إلى الرأي العام كثيرا، ويبتهج جنوب ألمانية بذلك في الحقيقة، وتوافق جميع الأحزاب في الريشتاغ على سياسته، وهذا ما أبصره وأراده ما دامت أكثريته متذبذبة.
وهنالك سبب ثالث لتغيير السياسة تجده في مزاج بسمارك، وبسمارك قال للوسيوس: «إن من الخطر محالفة عاهل مستبد يحكم في أمة مضطهدة شبه متبربرة، على حين ترى فوائد كثيرة في محالفة دولة ضعيفة نسبيا كالنمسة.» وقال له أيضا: «إذا خيرت اخترت النمسة التي هي ذات نظام دستوري والتي هي دولة مسالمة واقعة تحت بنادق ألمانية، مع أنه لا سلطان لنا على روسية.» ومتى كان بسمارك ينفر من محالفة مستبد قبل ذلك؟ ومتى فضل بسمارك قبل ذلك أن يشد أواصر صداقة مع دولة دستورية؟ ومنذ كم كانت النمسة سلمية أكثر من روسية؟ ألا إن ذلك هو استهواء ذاتي لكتم أعمق الأسباب عن نفسه وعن الآخرين، وما فطر عليه من ميول استبدادية فيفسر رغبته في حليف «ضعيف نسبيا»، و«واقع تحت بنادق ألمانية» ولا سيما عند ظهور وزير هذا الحليف مستعدا للطاعة.
وإن تلك المشاعر المختلفة أو تلك الأخيلة التي تساور ذلك القطب السياسي القائمة عظمته على الحساب الدقيق، هي الناظمة لتغيير سياسته واستحسانه ذلك ثم تصميمه على ذلك، ولأن يرى بسمارك وجوب اختياره مطلقا مناقض لمبادئه القديمة، ولأن يرى وجوب اختياره النمسة أمر جالب للنوائب، وما أتمه فلا يعدو حد الوقاية ضد دولة استطاع حتى الآن أن يكسب صداقتها فأقصاها، وما ناله في هذه المرة فأقل مما كان ينتظره تقريبا.
وما هدف إليه بسمارك فأكثر من طمأنة لا تمنع من زوال اتفاق الأباطرة الثلاثة من غير أن يقوم مقامه اتفاق آخر، فبسمارك أراد في هذه المرة وضع معاهدة مع النمسة، وإن شئت فقل أراد قيام محالفة حقيقية مع النمسة، يوافق عليها برلمانا البلدين وتدمج في دستوريهما. وليس الأمر غير عاطفي هنا؛ فقد ود بسمارك إعادة بناء ما هدمه الزمن، وقد خيل إليه إتمام الناقص فعن له إقامة دولة ألمانية أوسع نطاقا، وهل عاد الحاسب المتروي في السنوات 1860 وما بعدها غير موجود قبل انقضاء خمس عشرة سنة؟ وهل نسي إذن ما حفزه من سبب إلى إخراج ثمانية ملايين ألماني من الريخ تخلصا من شعوب أجنبية كثيرة ومن مزاحمة آل هابسبرغ؟ وقد انتهت تلك المزاحمة وسوي أمرها، ولكن تلك الشعوب الأجنبية لا تزال قائمة، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن بسمارك الذي كان قد قوض شوكة النمسة جاء اليوم ينشد محالفة النمسة؛ لأنها ضعيفة!
وهكذا تبصر القدر يعيد العدو إلى ضحيته ويدفعه إلى الاتحاد بمن سبق أن كسر قواه وإلى الزواج بامرأة مسنة كان قد تركها حينما كانت فتاة، وهل وجد في شوق الفريق الآخر إلى المساومة ما يدعوه إلى التوقف؟ لقد أتى فرنسوا جوزيف الذي نزعت منه معركة كونيغراتز نصف سلطانه، ليزور بنفسه قاهره في منزله بفينة بعد تلك المعركة بثلاث عشرة سنة، غير أن الإمبراطور الزائر وأندراسي أصرا على رفض الحلف وفق الوجه الذي اقترحه بسمارك، وبسمارك كان قد قضى على الجامعة الألمانية، والآن لا يريد المغلوبون أن يثيروا ذكرى تلك الجامعة، ويريد بسمارك أن يخل بالتوازن الأوروبي في سبيل أوروبة الوسطى، وتفضل النمسة أن تولي وجهها شطر الشرق، وشطر الغرب عند الضرورة، ويرفض أندراسي الحرب بجانب ألمانية في سبيل الألزاس رفضا باتا، ويمكن الشيخ ولهلم أن يقول دهشا: «تلك إذن قسمة ضيزى!» وهذه هي أول مساومة في حياة بسمارك يعطي فيها أكثر مما ينال.
ويشتد شعور البغضاء في سان بطرسبرغ ضد ألمانية، ولما دفع حب الانتقام فرنسة إلى انتظار العون من روسية تطلعت فرنسة إلى المرضاخ
2
الغربي الشرقي الذي يسهل به كسر المحارة
3
إذا كان أحد فكيه مجوفا، وقد احتاج بسمارك إلى جهاد ثماني سنين لدرء هذا الخطر الذي أوجده، ولكن خلفاءه بعثوه مجددا.
وبسمارك - قبل أن يختار - أتى بعدة براهين مكتوبة جديدة عن روسية، ذاكرا ما لها وما عليها، قائلا إنها أقوى حليف من الناحية مشيرا إلى الولاء الملكي وغريزة المحافظة على النفس وفقدان الخلاف. ثم تكلم عن ضعف النمسة فبحث عما فيها من «تذبذب الرأي العام بين الشعوب الهنغارية والسلافية والكاثوليكية، وتأثير المرشدين في الأسرة الإمبراطورية واحتمال تأسيس صلات ودية بين النمسة وفرنسة على أساس روماني كاثوليكي»، ويذكر بسمارك المسألة البولونية، وقد عاد إليها في مذكراته، فيقول إن مسألة مستقبل بولونية ستكون على جانب كبير من التعقيد عند عقد حلف عسكري بين ألمانية والنمسة، وهو يلخص الأمر كما يأتي: «لا يمكن أن يدوم أي واحد من الحلفين: الحلف الأسري مع روسية والحلف القائم على العاطفة الشعبية بين الألمان والمجر، والذي يبقى هو كابوس الخوف من المحالفات الألمانية.»
وفي سنة 1880 يكتب قوله: «نرجو، ونريد، أن نظل في حال سلم مع روسية، فإذا تعذر ذلك لمهاجمة روسية إيانا أو مهاجمتها النمسة كانت محاربتنا لروسية وحدها أو محاربتنا لروسية وفرنسة وإيطالية معا ذات نتائج خطيرة، ولا نكون قد نلنا ما يعدل متاعبنا، ولو تم لنا النصر.»
وهكذا ينتصب شبح الحرب العظمى أمام بسمارك عند توقيع المعاهدة مع النمسة، ولن يقدر أحد على دفعه.
الفصل السادس عشر
واختيار بسمارك للنمسة كان أمرا حاسما، وهذا الاختيار نظم سير السياسة الأوروبية فيما بعد، ومنها التحالف الثلاثي، واليوم بعد الكارثة الكبرى عدنا لا نبالي بالتمورات
1
والأزمات إلا قليلا، وتمكن مجاوزة سنة 1880 وما يليها بسرعة بعد عرض الأدلة الملائمة وغير الملائمة للحلف النمسوي مفصلا وفق الوثائق والأسباب والمشاعر والأمزجة، وقد أعاد بسمارك بناء أوروبة الوسطى، وعدل عن حرية الاختيار، وأقصى روسية، وصار يحاول الدنو من إنكلترة على غير جدوى.
وحبوطه جلب إليه الحظ في البداءة، فلما رفضت إنكلترة أن تكون فريقا في عصبة ضد فرنسة ولى عدو إنكلترة القيصر وجهه شطر الدول الألمانية، وقد قام اتفاق الأباطرة الثلاثة الجديد على اقتسام المصالح في البلقان قبل كل شيء، وأطلقت يد القيصر في الشرق الأدنى ضد إنكلترة، وبسمارك بتأييده رغائب إسكندر على هذا الوجه، يكون قد حال دون اتفاقه مع فرنسة، وفي سنة 1884 جدد اتفاق سنة 1881، وفي أثناء ذلك ألف بسمارك التحالف الثلاثي مع النمسة وإيطالية، وغاية بسمارك من هذا هو منع اتحاد إيطالية وفرنسة وإن لم ينتظر بسمارك عونا جديا من إيطالية، مكتفيا بأمله «أن يظهر الطبل الإيطالي مع علمه المثلث الألوان على جبال الألب»، وهدف التحالف الثلاثي الآخر هو إزالة العداوة المميتة بين ركنين من أركانه.
ولم يعد بسمارك أي واحد من هذه الأمور أساسيا؛ فهي لم تهدف إلى غير غرض واحد، إلى غير صون السلم، وما كان بسمارك في سنة 1880 وما بعدها ليريد الحرب أبدا كما أنه لم يردها في السنوات العشر الماضية، وبذل بسمارك جميع نفوذه مرتين أو ثلاث مرات في حفظ السلم، ورجع بسمارك بصره إلى إمبراطورية آل هابسبرغ فعدد ثانية المؤثرات التي تضعفها فذكر مسائل اختلاف العروق ونفوذ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والوحدة السلافية والبوسنة وصربية وبولونية والتشيك وترنتينو، وأبصر إمكان تحول هذه المسائل جملة وتفصيلا إلى «نقاط تبلر للأزمات النمسوية والأوروبية التي لا تتأثر بها المصالح الألمانية إلا عند متانة التحالف مع النمسة، وليس من الحكمة أن يعد التحالف الثلاثي ضمانا في الأيام السود»، ورفض بسمارك منذ بداءة التحالف وفي السنوات المقبلة وفي مرات كثيرة أن يؤيد النمسة في البلقان، وكان بسمارك يجتنب مباينة روسية، ولم يكن أمر التحالف الثلاثي ممكنا إلا بهذه الشروط وببقاء بسمارك موجها له، وكان الوثاق المرخى خطرا في عهده تقريبا، ثم استبدل خلفه ولاء قاتلا بهذا التحالف الخطر.
ويمكن الاطلاع على كيفية سير بسمارك في الأزمات التي حدثت قبل الحرب العالمية من تصرفه في سنة 1880 وما بعدها؛ ففي سنة 1885 أوشك اتفاق الأباطرة الثلاثة أن يزول بسبب بلغارية، وبيان الأمر هو أن بسمارك فيما كان حليفا للنمسة وإيطالية ورومانية طردت روسية باتنبرغ وأراد البلغار الحكم المستقل فطلبت فينة العون من ألمانية في شئون البلقان فرفض بسمارك ذلك رفضا باتا، وهو لم يصنع أكثر من حفظ الحالة الراهنة، فإذا أراد النمسويون التوسع فهم وشأنهم وعليهم أن يقوموا بذلك على مسئوليتهم، «وإذا ما اعتدت روسية، أو أتت عملا استفزازيا متحدية تعهداتها، أيدنا النمسة بجميع قوانا، ولكن النمسة إذا ما استولت على صربية من غير سابق تفاهم معنا حول المسألة فأسفر ذلك عن محاربة روسية لم نتخذ ذلك ذريعة لشهر الحرب على روسية»، فهذا وحي حول يوليو سنة 1914.
وتجدد تلك الأزمات غمومه، ويقول لوزير الحربية كلمة المحارب هذه: «إذا لم ننل ما تقتضيه الاستعدادات الحربية الجديدة من المال سرقته، وهنالك أنام في السجن بأهدأ مما أنا عليه الآن!»
وفي أوائل سنة 1881 يقتل القيصر إسكندر الثاني، ويبدو ابنه إسكندر الثالث أصعب منه مراسا وإن لم يكن مبغضا للألمان، ولم يرغب القيصر الجديد بعد حوادث سنة 1885 أن يجدد حلف الأباطرة الثلاثة فغير بسمارك الجبهة مرة أخرى وحاول في أوائل سنة 1887 أن يحالف روسية، وهكذا يظهر بسمارك بعد تفاهمه مع النمسة بثمانية أعوام مستعدا للعود إلى موضع حبه الأول روسية، ويبقى الحلف النمسوي قائما مع ذلك، ولم يقل شيء من حظوته.
وكانت الرغبة في الاتحاد بألمان النمسة من قوة الصولة وملاءمة الطبيعة ما لا تترك معه مجالا للتفكير في أن أقلية صغيرة من سكان الإمبراطورية الجنوبية ألمان بدمهم، وأن معظم الأهالي ومعظم الجنود الذين يعيشون ويقاتلون تحت الرايات النمسوية من عروق أخرى ومن المتكلمين بلغات أخرى ومن الذين لا فرق بينهم وبين الفرنسيين في الميل إلى مصادقة ألمانية.
وفي غضون ذلك يغدو الكونت بولس شوالوف (الأخ الأصغر للكونت بطرس) مديرا لسياسة روسية الشرقية، وينبئ بسمارك بأن القيصر إذا أمكنه أخذ المضايق أمكن ألمانية أن ترسل حاكما بروسيا إلى باريس، ورغبة بسمارك الآن في محالفة روسية كرغبة أندراسي في محالفة ألمانية منذ ثمانية أعوام، ويقوم كلا الأمرين على الطمأنة المؤكدة، ولكن لمقاصد مختلفة، فغاية التحالف الروسي الجديد هو حماية ألمانية ضد فرنسة.
ولم يعد غرضه حد الدفاع، وهو لم يهدف قط إلى إضعاف وضع فرنسة كإحدى الدول العظمى، وهو بعيد من ذلك، وكل ما ينعم النظر فيه هو إمكان عقد غلادستن تحالفا إنكليزيا روسيا مؤديا إلى ارتماء ألمانية بين ذراعي فرنسة. وهو يود لذلك مساعدة إحدى الدولتين فرنسة وروسية على كل حال، قال بسمارك: «إذا حدث أن هاجمتنا فرنسة ما جاز لنا أن نفكر في القضاء على أمة كفرنسة مؤلفة من أربعين مليون أوروبي موهوب شاعر بوجوده، وارجعوا البصر إلى مائة السنة الأخيرة؛ تجدوا أن إمبراطوريات شرق أوروبة الثلاث حاولت على غير جدوى أن تبيد الأمة البولونية في أثنائها، مع أن هذه الأمة دون فرنسة حيوية، ولكن فرنسة إذا بقيت قوية، أو صارت قوية ثانية بعد نقه قصير فصرنا نحسب لها حسابا دوما كجارة هائلة فتم لنا النصر عليها في الحرب القادمة، وجب علينا أن نعاملها بعقل كما عاملنا النمسة بعد حرب سنة 1866، وإذا كنت في بعض الأحيان قد اتخذت لهجة أخرى في الريشتاغ فإنني لم أفعل ذلك إلا لحفظ السلم وإبعاد شبح الحرب بتخويف من يعادينا، وإذا تعذر اجتناب الحرب ونصرنا في المعركة الأولى عرضنا على فرنسة صلحا بشروط سهلة، وإذا هزمنا لم أكد أفترض أن تسر روسية بوجود جمهورية فرنسية منتصرة قريبة من تخومها الخاصة.»
وفي شهر مايو سنة 1887 يبدو وقوع حرب بين فرنسة وألمانية أمرا لا مفر منه، ويرى بسمارك حل الوقت الذي يضغط فيه شوالوف ليبت في الأمر، والآن يبدي الساحر القديم إحدى مباغتاته فيطلع الروسي على اتفاقه السري مع النمسة ضد روسية والمؤرخ في سنة 1879، ويرى المفاوض الروسي بالأسود على الأبيض أن زميله يتأهب دوما لحماية نفسه من حليف بمساومة حليف آخر، وما كان من إفشائه ذلك فيناسب خططه الراهنة بدلا من أن يفسد عليه لعبته بإساءته إلى معنوية الروسي، والقيصر إسكندر الثالث أحدث من ولهلم الأول سنا وأبرد منه دما، وكلمته هي عهده، ويشري شوالوف إذن بسمارك له في التقدم إلى البوسفور وفي حرية التصرف في بلغارية في مقابل حياد روسية عند هجوم فرنسة على ألمانية .
والآن يسر بسمارك بأن يضع في جيبه معاهدة من الطراز القديم ينال بها مثل ما يعطي، وللروسي ما يدعوه إلى السرور بها أيضا، والروسي قد أخذ وعدا من الألماني بالمحافظة على الوضع الراهن في البلقان؛ أي أن يكون معه على النمسة، والروسي لم يبق له الآن ما يخشاه من تعاون ألمانية والنمسة، فإذا ما هاجمت النمسة روسية التزمت ألمانية خطة المحايد الداعي إلى الخير، وتنسى ليفادية
2
ويمكن روسية أن تميل على النمسة، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أي المحاربين هو المعتدي إذا وقعت الواقعة في الأوقات الحرجة؟
ومن ينعم النظر في الأسباب المضحكة لجميع معاهدات التحالف الأوروبية المزينة بأزهار البلاغة؛ أي بالألفاظ: «هجمات غير ناشئة عن استفزاز، حروب فتح، معارك دفاعية»، يجدها خالية من المعاني العملية كما يجد عطلها من القوة الأدبية لكتمانها، وبسمارك حين يقي ألمانية من مكايد فينة بالتزامات سان بطرسبرغ ومن دسائس روسية بتخويفها من النمسة لا تعد معاهداته شرا من معاهدات أوروبة السرية الأخرى، ولكن بسمارك يبصر إمكان وجود ذلك العيب فيدافع عن نفسه بما يأتي:
أرى العكس، فأعتقد أن إمبراطور النمسة يرحب بمثل ذلك التدبير، حتى عند غلطي في هذا الافتراض، وإن سوء ظن النمسة أقل خطرا من قلة ثقة القيصر إسكندر، ما دامت صلتنا بالنمسة أعرض أساسا، فلا يقضى عليها بريب عاهل ظنان، ولا يضرنا أن تفشي روسية الأمر، ولا أجد في هذا ما يؤسفني حقا، ولا أظن أن هذا يقلق إمبراطور النمسة، وسيعلم أن هدفنا الوحيد هو تأخير الحلف الفرنسي الروسي ثلاث سنين.
وأسطر كتلك لا تصدر عن غير خريج مدرسة مكيافيلي، وهو يهدف إلى كبح جماح ذينك الجارين المتبرمين المتنافسين بتخويفهما بدولة ثالثة، وهو يود أن يفصل كلا من الحيوانين عن الآخر بإمساكهما من طوقيهما، ولم يكد يتم اختيار الأمير فرديناند الذي هو من آل سكس - كوبرغ - غوتا، أميرا لبلغارية من قبل السوبرانية،
3
حتى رأى أن يقنع حليفه الروسي بأن هذا لا ينطوي على عداء ولا يدل على «هجوم» ضمن معنى المعاهدة، وماذا يصنع إذا خرج الهر من الكيس؟ خيرا! وهنالك يرى أن ريب بسمارك حوله هي لثلاث سنين فقط، وبسمارك من ناحية أخرى يقول للقيصر في آخر خطاب أعده بعناية: «لا يكون تقديرنا لجيوش روسية الهائلة غير ناقص إذا لم نصن أنفسنا مستعدين تجاه خطر الاتحاد السلافي!»
وهكذا استطاع بسمارك في صفحتين من المعاهدة الروسية أن يعالج أربعة أخطار معا، وهو إذا لم يزلها أبعدها لبضع سنين على الأقل، فتولي روسية وجهها شطر بيزنطة فلا تهدد حدودنا الشرقية، وتحذر النمسة المغامرات في البلقان، وتفصل فرنسة عن روسية وتضطرب إنكلترة حول روسية فتضطر إلى طلب صداقة ألمانية، وهذه لعبة شطرنج موفقة في ختام الدور الذي لعب فيه بعض الأمم مع بعض لعبة الشطرنج على أنها قطع للشطرنج.
والفوز بإنكلترة هو آخر رغبة لبسمارك، وبسمارك قال ذات يوم إن ذلك كان سعيه الرئيس في السنوات العشر الأخيرة من منصبه، وبسمارك ب «التحالف الثلاثي الشرقي» الذي أوجده، أو الذي لم يأل جهدا في سبيل نجاحه، حاول أن يقرب بينه وبين إنكلترة؛ وذلك لما يؤدي إليه من ضمان بريطانية وإيطالية والنمسة للأمر الواقع في البحر المتوسط، وبسمارك في سنة 1882 حقق وجود صعوبة عظيمة في محالفة إنكلترة، «فمن المتعذر أن يقع حديث سري مع الإنكليزي؛ لما يمكن وزراء بريطانية في أي حين أن يبوحوا بذلك إلى البرلمان، ثم إننا لا نرى ما يضمن ثبات مثل ذلك التحالف ما دام العرش في إنكلترة غير مسئول عن مثل تلك الأمور وما دامت الوزارة التي تتغير دوما هي المسئولة عنها، ويصعب كثيرا أن يوصل إلى تفاهم صادق مع إنكلترة وأن يقوم هذا التفاهم على أساس متين ما لم يذع في جميع أوروبة».
وقد كتبت هذه الأسطر إلى الأمير فردريك الذي أراد بسمارك أن يقنعه بعدم نفع الحكومة الديمقراطية، ومن الواضح أن العلانية تلائم سياسة بسمارك، وإذا كان بسمارك قد وجد في سياسته الخارجية أن يطلع البرلمان - في الحين بعد الحين - على بعض «الأمور السرية » فإنه لم يجاوز بعض الحدود.
وبسمارك في تقربه إلى إنكلترة في سنة 1880 وما بعدها ينتحل طرازا من الشعور ما هو مشترك بين رجال السياسة والشعراء ويتخذ نغمة ظرفية رزينة ملائمة لأساليب الإنكليز كما تلائم أساليب الفاتيكان، ولم يبد بسمارك حذرا أكثر مما أبداه في هذه المسألة، وبسمارك كتب يقول منذ ثلاثين سنة إنه يشعر بضعفه تجاه إنكلترة «غير أن هؤلاء القوم لا يريدون أن نحبهم».
وبسمارك في خريف سنة 1879 حين مكافحته الإمبراطور حول التحالف النمسوي الذي لم يتم أمره حتى ذلك التاريخ؛ توجه - بعض التوجه - إلى لندن ثم سدل الستار على الأمر؛ لما لم يجد من فائدة في بحثه، ومهما يكن الأمر فإن غلادستن هو الذي كان قابضا على زمام الحكم، فكانت الأحوال في إنكلترة غير ملائمة لبسمارك.
ويعود اللورد سالسبري إلى السلطة في سنة 1885، ويغتنم بسمارك فرصة الاستيلاء على موطئ أو موطئين في إفريقية، ويستطيع تسوية الأمر بلا أسطول ولا إطلاق قذيفة واحدة، وكانت هذه واحدة من «لعباته بالكرات الخمس» ومن غير الضروري أن يفصل هذا الأمر ما دامت ألمانية غير ذات سياسة استعمارية عالمية بعد.
وبسمارك - قطبا سياسيا - برع في هذا الكفاح؛ لرده اندفاع إمبراطوريته الفتاة نحو التوسع ناظرا إلى وضعها، ولم يدر في خلد بسمارك أن يدع ألمانية تحاول مزاحمة إنكلترة كدولة عالمية مبصرا أن الإنكليزي أمهر من الألماني في ميدان الاستعمار، وأن موقع إنكلترة الجغرافي أكثر ملاءمة لقيام دولة استعمارية، والمبدأ الذي سار عليه في السنين العشرين بعد قيام الإمبراطورية هو: «لا بلد كبير، بل أمن كثير!»
وما انفك قلقه الدائم في سبيل صيانة الإمبراطورية الجديدة العظمى مع عدم ملاءمة وضعها يضفو على زهوه، وفيما كان يشجع فرنسة على تأسيس دولة استعمارية كبيرة صرفا لنظرها عن استرداد الألزاس؛ كان يرى من الضروري ألا يساعد رواد الريخ أو أن يساعدهم بتحفظ وعلى قلة، ونراه لم يمل إلى ضم عروق بيض من غير الأرومة الألمانية، ونراه يمتنع أيضا عن ضم عروق غير بيض مقدرا أن ضر هذا أكبر من نفعه، وعند بسمارك أن مستقبل ألمانية ليس على الماء.
ويناقش بسمارك حول مسألة أمين باشا مع إفريقي، فيقول: «أرى المجازفة عظيمة، أجل إن خريطتكم الإفريقية رائعة، ولكن خريطتي الإفريقية في أوروبة؛ فروسية هنالك، وفرنسة في الجهة الأخرى، ونحن في الوسط. فهذه هي خريطتي الإفريقية.» ومع ذلك وفي سنة 1880 وما بعدها بلغ بسمارك من النفوذ الشخصي في أوروبة ما وجه معه إلى زميله الإنكليزي الكلمات الأبية الآتية عندما رفعت بريطانية أول اعتراض لها حول إحراز الألمان لإفريقية الجنوبية الغربية:
إذا كنا ننوي في الحقيقة أن نؤسس مستعمرات فكيف يكون اللورد غرنفيل أن يجادل حول حقنا في صنع ذلك في وقت نرى الحكومة البريطانية تنتحل فيه مثل هذا الحق في مستعمرة الكاب؟ تنطوي هذه الأثرة الساذجة على إهانة لشعورنا القومي الذي آمل من فخامتكم أن توجهوا نظر اللورد غرنفيل إليه، وإن مما يسرني أن أعرف السبب الذي تنكرون به حقنا في استعمار تمارسه إنكلترة إلى أبعد مدى، وإن ثقتنا لتزعزع بفعل الأسلوب الكبريائي الناشئ عن النظريات والمزاعم التي تناقض مبدأ المساواة بين الدول المستقلة.
ولكن فيما كان الوضع الأوروبي بأسره - ولا سيما الوضع الألماني - يبدو قاتما في أواخر سنة 1887، حين بلوغ الإمبراطور ولهلم التسعين من عمره وحين مرض ولي العهد مرضا مميتا، لخص بسمارك ما اشتملت عليه من أفكار الأحاديث الطويلة التي قام بها سفيره وولده مع الإنكليز، فكتب إلى اللورد سالسبري باللغة الفرنسية عارضا عرضا مجملا سياسة ألمانية في المحالفات داعيا إنكلترة إلى التضافر معها، قال بسمارك:
أصبح يتعذر قيام حروب كحروب الماضي، صادرة عن المحبات والمكرهات وحرص الأسر المالكة، بجيش كجيشنا يجمع بلا تمييز من جميع طبقات السكان، ومن هنا يبدو أن قوتنا الحربية هي - في الدرجة الأولى - جهاز دفاعي معد للسير عندما تعتقد الأمة أن عليها أن تدرأ اعتداء، ولا يجوز للإمبراطورية الألمانية أن تغفل عما يمكن حوكه ضدها من المحالفات، وإذا افترضنا أن النمسة غلبت أو وهنت أو صارت معادية؛ غدونا منعزلين في القارة الأوروبية تجاه روسية وفرنسة وتجاه تحالف هاتين الدولتين، واليوم تعد النمسة وألمانية وإنكلترة من الدول الراضية المشبعة المسالمة المحافظة، وقد قبلت النمسة وإنكلترة - بإخلاص - ما عليه الإمبراطورية الألمانية من أمر واقع، وبالعكس تظهر فرنسة وروسية مهددتين لنا ...
ولكننا إذا ظللنا في ريب من أن تتخلى عنا الدول ذوات المصالح المماثلة لمصالحنا لم يكن هنالك أي إمبراطور لألمانية يسير على غير سياسة الدفاع عن استقلال الدول الصديقة الراضية مثلنا بوضع أوروبة الحاضر، وسنتجنب إذن محاربة روسية ما لاءم هذا الاجتناب شرفنا وسلامتنا وما لم يوضع استقلال النمسة وهنغارية موضع بحث، لما توجبه مصالحنا الرئيسة من بقائهما، ويقوم ما نرغب فيه على أن الدول الصديقة - التي لها من المصالح في الشرق ما ليس لنا شركة فيه وما يجب عليها أن تحميه - ألا تدع الروس يمتشقون الحسام،
4
أو تقاوم روسية مقاومة فعلية إذا قضت الأحوال بالإخلال بالسلم، وسنقف موقفا حياديا ما أبصرنا مصالح ألمانية في غير خطر، ولكن ليس هنالك أي ضمان يقضي على أي إمبراطور ألماني بأن يؤيد روسية تأييدا مسلحا ترهب به، أو تضعف به دولا نعتمد على تأييدها.
وبسمارك في تلك السنين وفي غير مرة يعرض على سالسبري حلفا بمثل هذه الشروط، ورئيس الوزارة الإنكليزية هذا لم يرد أن يقيد يديه مع ذلك، وأهداف ألمانية هي التي كانت تحول دون صدوعه،
5
فهو وإن كان مستعدا لعقد تحالف ضد روسية؛ كان راغبا عن عقد تحالف ضد فرنسة، وهكذا يؤجل تسوية الأمر ويوجه إلى هربرت بسمارك الجواب الحلو المر الآتي:
إن من المؤسف أن صرنا لا نعيش في عهد بيت حين كان السلطان للأريستوقراطية، وأن صرنا بعد مؤتمر فينة قادرين على اتباع سياسة تستطيع إنكلترة أن تصبح بها أغنى دول أوروبة وأكثرها محلا للاحترام، والحكم للديمقراطية الآن، ولدينا اليوم نظام حزبي تجري به كل حكومة إنكليزية مع ريح الشعب، والحوادث وحدها هي التي تربي الجيل الحاضر.
الفصل السابع عشر
«سأكافح ما بقيت عندي قوة!» هذا ما قاله المستشار البالغ من العمر اثنتين وسبعين سنة مهددا الريشتاغ الذي انتصب مقاوما لإرادته.
استقرت السلم بينه وبين اثنين من أعدائه، وهو لم يسترض حزب الوسط إلا مقدارا فمقدارا، مستردا معظم تدابيره ضد أعضاء هذا الحزب، خاتما النضال، منذرا الريشتاغ بلطف حيث يقول: «إننا نضع أسلحتنا في مستودع الأسلحة، ولكن على ألا تكون بعيدة منا.» وفي شتاء سنة 1879، وللمرة الثانية يبدو فيندهورست في ردهة بسمارك البرلمانية فيرحب به أجمل ترحيب، ويكتب البابا الجديد إلى الإمبراطور وإلى بسمارك أيضا، وبعد بضع سنين يجعل البابا لوثر العصري من فرسان يسوع؛ أي ينعم عليه بالوسام الأكبر مع الصليب والشعار المالطي محتويا ذلك كله كتابات لاتينية، ويتجهم بسمارك، وتقول صحيفة كلاديراداتش: «ذهب بوتكامر إلى رومة ليرجو من الحبر الأعظم أن يؤثر في بسمارك وصولا إلى قبول التهجية الجديدة.»
وما كان من مسالمة المحافظين فتدبير انتهازي على حد سوي، وهو أمر مرتبط في مسالمة حزب الوسط، وكانت انتخابات سنة 1877 قد أسفرت عن فوز المحافظين وخسران الأحرار الوطنيين، فساعد بسمارك على انفصال كل من هذين الحزبين عن الآخر، وأراد بسمارك أن يكتسب السياسي المطواع نسبيا بنيغسن فيجعله وزيرا، قاصدا إفراد لاسكر العنيد، بيد أن بنيغسن أبصر أنه لا يكون غير آلة مسخرة لمقاصد بسمارك، فرأى ألا يجازف بمقامه فاشترط أن يشترك اثنان من أعضاء حزبه في الوزارة معه، ويلغى البرنامج لهذا الشرط، ويعرض بسمارك عن بنيغسن ولا يريد أن يسمع عنه قولا مع أنه ود أن يكون زميلا له في الوزارة، ويقول بسمارك: «لا أستطيع أن أصنع شيئا مع بنيغسن وميكويل اللذين ينساقان مع الرأي العام انسياقا تاما، وهما ليسا أفضل من أحد تلاميذ الصف الرابع!»
ونشأ عود بسمارك إلى سياسته الحزبية في شبابه عن نظام الحماية الذي أدخله سنة 1879 بعد أن طبق مبدأ حرية المبادلة أربع عشرة سنة، فنظام الحماية عنده وسيلة لزيادة سلطان الدولة، وهو يعد أن ساعد الإمبراطورية يشتد بوضع يدها على الخطوط الحديدية وبفرض ضرائب غير مقررة على الأموال، وهو يحرص على سن ضرائب جديدة، وقد أسف عندما علم وجود زيادة تسعة وثلاثين مليونا بسبب دفع الغرامة الحربية، فقال: «خير للحكومة أن تحتاج إلى نقود حتى تتمكن من فرض ضرائب جديدة.» ولم يمنعه الأمر القائل بأن معظم عبء تلك الضرائب يقع على الطبقة الرابعة من أن يخضع للضرائب «مواد الجمهور الكمالية»؛ كالتبغ والجعة والسكر والقهوة والبترول، و«حماية الصناعة والزراعة» وحدها هي التي صارت تسمع في أنحاء الإمبراطورية الألمانية للمرة الأولى، وما أدلى به بسمارك من علل حول التعريفة الجديدة فأمر بارز، قال بسمارك:
إن حرية المبادلة مثال عال جدير بهيام الألمان الوهمي، وقد تبلغ هذه الحرية في المستقبل، وأهتدي بالعلم إلى حد كما في أمور الحياة الأخرى، ولم يحل علم الطب هذه الألغاز، وتطبق مثل هذه الملاحظة على شئون الدولة، وتجعلني مبادئ العلم المجردة فاترا، وأحكم في الأمور بتجربة الحياة اليومية، والآن أشعر بأننا جعلنا تعريفتنا منخفضة، فصرنا في حال نزيف، فيجب أن نطعم الجسم الألماني بدم جديد.
ولا يزال بسمارك يستعمل كلمة «أشعر» كما كان يفعل منذ خمس وعشرين سنة، وهو يعارض العلم بالتجربة، ويعد كل ما هو ذهني أوهاما، ويريد بسمارك في الحقيقة أن ينزع من الريشتاغ حق مراقبة الميزانية، واليوم يود بسمارك - كما في الماضي - أن يجمع للدولة ما يمكن من المال بضريبة الدخل، فذلك كله برنامج محافظ!
وتقع الانتخابات بعد سنتين، ويعطي الناخبون جوابهم، وينتخب ما يزيد على مائة من الأحرار، وينال حزب الوسط مائة كرسي، ويتعاهد الحزبان على معارضة كل تغيير في السياسة الاقتصادية، وتكون الأكثرية ضد المستشار! ويقول غوستاف فريتاغ في كتاب خاص دبجه يراعه في ذلك الدور: «إن الانتخابات التي تمت هي عند بسمارك نفسه وعند الشعب وعند العالم الخارجي دليل على أن جبروته ليس مطلقا على الرغم من سمته التي وسم بها الأمة والتي تسوق إلى نهاية، وقد خسر كثير من حيله تأثيره، والآن يدرك الشعب ماذا تنطوي عليه روحه الروائية من أسد وذئب وثعلب، وأخيرا ومع الزمن أخذ الألمان يعرفون أن هذا الرجل الذي عزوا إليه كل عظمة وصلاح على أسلوبهم لا يتصف بجميع صفات رجل القلب، لقد حل وقت اعتزاله، ولكنه عظيم، جسيم، فهيم!»
تلك هي الحال التي كانت عليها النفوس حينما بدأ بسمارك يكافح معظم الأمة بعد تأسيس الريخ بعشر سنين وبعد أول الصدام بعشرين عاما، وصار على بسمارك في كل مشروع جديد أن يكون صاحبا لأكثرية جديدة، وصار بسمارك مضطرا إلى تحويل أسلوب المحالفات في المجلس كما يصنع في سياسته الخارجية، وصار بسمارك يصب اللعنات على كل معارضة مهما كان نوعها، وصار بسمارك يعد حزب الوسط والألزاسيين والبولونيين والاشتراكيين أعداء للإمبراطورية!
والآن عندما يصعد هذا المكافح في المنبر يبدو مجدد الشباب، فيقول في سنة 1880: «عشت وأحببت وجاهدت، فعدت لا أشعر بنفور من الحياة الهادئة، والأمر الوحيد الذي يمسكني في منصبي هو إرادة الإمبراطور الذي لا أقدر على تركه بعد أن طعن في السن كثيرا»، ويمضي عام فتكون نتيجة الانتخابات معاكسة له فيقول: «سأموت مناضلا إذا أراد الله، وقد أموت في هذا المكان إذا جاء أجلي، ويعدو الحصان الأصيل إلى أن يهلك، وكنت أفكر في الانزواء ذات حين، ومن المفيد أن أنبئكم بأنني عدلت عن كل فكر من هذا النوع، فأنا حيث أنا، وسأظل حيث أنا! وإرادة الإمبراطور وحدها هي التي تستطيع أن تنزلني من فوق السرج، والذي يقنعني بالبقاء حيث أنا حتى النهاية هو أن أتبين أولئك الذين يسرون من اعتزالي، من أجل ذلك عزمت على خدمة بلادي إلى آخر رمق من حياتي.»
وفي العام القادم يقول: «وما الذي يجعلني أتمسك بمنصبي إن لم يكن إخلاصي له؟ ولا يحف بالمنصب كبير لذة، وفي الأيام الأولى كنت أقوم بالواجب طائعا مولعا آملا، ولما يحقق معظم أماني، وقد كنت حسن الصحة، والآن أراني مريضا، وقد كنت شابا، والآن أراني شائبا، وما الذي يمسكني هنا؟ وهل تظنون أنني أحب الوقوف هنا كالبوم بين الغربان التي تأتي دوما لتلطم هذا الطير المسكين وتطعنه بمناقيرها من غير أن يتمكن من الدفاع عن نفسه تجاه الشتائم والإهانات التي توجه إليه؟ وإذا ما تفضل العاهل فأذن لي في الانصراف سررت بتوديعكم إلى الأبد أيها السادة!»
وهكذا يبدي بسمارك حنقه وحقده بكلامه المتدفق كالشلال، وبسمارك هو الذي يدع سامعيه في بعض الأحيان ينتحبون بفعل نظرته الساخطة وانتحاله وضع المعتدى عليه، وذلك من غير أن يبحث مقدما عما تنطوي عليه جمله الطويلة من تأثير ونجيع،
1
فإذا ما أتم كلامه أمسك محفظته وذهب فلا يرى المجلس غير ظهر هذا العملاق والقبة الصفراء لبزته الزرقاء، ويجاوز العتبة ويتوارى، ويزيد احترام سامعيه له مع حقدهم عليه، ويزيد ازدراؤه في الوقت نفسه لأعدائه.
ويغير لهجته أحيانا على طريقته، وهنالك ترن كلماته كإنذار نبي أو تعبر عن زهد تهكمي، ومن ذلك قوله للريشتاغ: «لا أنكر أن مما كان يؤلمني إيلاما دائما في السنين العشرين الأخيرة هو القياس بين التاريخ الألماني والقصص التوتوني،
2
فربيع الأمم لا يدوم غير أعوام قليلة بعد الانتصار العظيم، ثم يأتي ما أدعوه لوكي، أي عدو ألمانية التقليدي ونزاع الأحزاب الذي يغذيه الاختلاف القبلي ونضال العصبيات حول العرش الشرعي والعامل الدستوري، فيتسرب ذلك في حياتنا العامة، ويضل لوكي - وهو الروح الحزبي - هودور فينزل ضربة قاتلة على وطنه، ولوكي هو الذي أتهمه أمام الله والتاريخ إذا ما قضي على عمل أمتنا العظيم الذي تم فيما بين سنة 1866 وسنة 1870، وفي أيام شبابنا كنت ترى صولة قومية تختلف عن ذلك إلى الغاية وكنت تبصر إدراكا للحياة السياسية أروع مما لدى معاصرينا الذين جاوزوا سنة 1847 وسنة 1848 موسومين بالطابع الحزبي فلم يقدروا على محوه من جلودهم، فإذا متنا جميعا رأيتم ماذا يقع في ألمانية!»
وفي انتخابات سنة 1881 ينال الاشتراكيون الديمقراطيون مقاعد على الرغم من القانون اللااشتراكي، وفي زمن الوزير بوتكامر جعلت كبريات المدن خاضعة للأحكام العسكرية، وفي ليبسيغ يحكم على زعماء الاشتراكيين بالسجن مع الأشغال الشاقة لنشرهم صحفا ممنوعة، وينجز الوعد بوضع اشتراع عن العمل مع ذلك، ويعقب قانون تعويض العمال الذي كان فاتحة لسلسة من القوانين الحامية للعمل، فوصفه أحد أنصار الحكومة بانبرجر بالوهمي، قانون التأمين ضد المرض، ثم قانون التقاعد عن عجز أو شيبة لسنة 1888. وتعد هذه خطا نحو الاشتراكية الحكومية التي رسم بسمارك خطوطها قبل محادثته لاسال بزمن طويل.
وليست فكرة وضع قوانين لحماية العمال بروح نظام اشتراكي حكومي من مبتكرات بسمارك؛ فقد سبقه إليها نابليون الثالث وغيره، وإنما كان بسمارك أول من نادى بها في الإمبراطورية الألمانية، وبسمارك هو القائل: «حل الوقت الذي نحقق فيه ما في رغائب الاشتراكيين من أقسام معقولة مقبولة في نظام الدولة الحالي.» وبسمارك نطق بهذه الكلمة سنة 1871 في حديث مع وزير التجارة، وتمضي عشر سنين على ذلك فيقول المستشار لبوش متنبئا: «يجب على الدولة أن تتبنى الأمر لسهولة جمعها المال الضروري، ولا ينبغي للدولة أن تمد العمال بهذا المال كصدقة، بل تأدية لحق العمال في عون الدولة عندما لا يقدرون - عن حسن نية - على العمل. ولم يحصر أمر منح الرواتب فيمن يصبح عاجزا عن العمل من الموظفين وجنود الجيش دون جنود العمل؟ سيعمل بهذه الفكرة في غضون الزمن، ومن المحتمل أن تنهار سياستنا ذات مرة، ولكن الاشتراكية ستشق طريقها مع ذلك، وسيكون الحكم قبضة من يعتنقون هذه الأفكار.»
وهكذا يبصر بسمارك المستقبل عند هدوئه الفلسفي، ولكن بسمارك إذا ما كشف عن حوافزه ظهر أنها لم تعد حد قديم خططه وحساباته التي تبدو قاسية حينما يبرزها كأسس «لنصرانيته العملية»، «ومن يعلم أنه ينال راتبا في مشيبه يكن راضيا سهل الطاعة، فانظروا إلى الفرق بين خادم عادي وخادم في المستشارية أو البلاط تجدوا هذا أكثر لطفا وإطاعة من ذلك لما يعتمد عليه من راتب تقاعد، وليس من الغلاء في شيء أن ينال المحرومون طيب العيش راتب تقاعد مهما كثر فيصبحوا راضين، وهذا توظيف رابح حتى لنا، ما دمنا نجتنب به نشوب ثورة تبتلع مالا أكثر من ذلك بدرجات»، وبسمارك بعد تلك القحة قال من فوق المنبر مجددا «حتى إن أفقر الناس له كرامة الإنسان ...»
وبسمارك لسوء فهمه معنى الحركة الاشتراكية تماما؛ لم يكسب شيئا بتدابيره الاشتراكية الحكومية، وتزيد الأصوات الحمر حتى تعد بالملايين، وفضلا عن ذلك فإن القانون الاستثنائي المضاد للاشتراكية كان يجدد فيما بين الانتخابات من فترات، وذلك على حين كانت النماذج النصرانية العملية المذكورة آنفا تحتل مكانها في مجموعة القوانين، وفي سنة 1887 تريد الحكومة وضع نص قانوني قائل بأن من يحكم عليه وفق ذلك القانون يحرم حقوقه المدنية، فيرفض الريشتاغ هذا الحرمان.
وفي أثناء تلك المنازعات الداخلية والمصادمات الخارجية يبلغ الإمبراطور ولهلم التسعين من سنيه، وتبدو خاتمته قريبة الوقوع، ويحتفل في شهر مارس سنة 1887 بعيد ميلاده، فيسأل كل إنسان: «وإلى متى؟ وماذا يحدث بعد ذلك؟» ويبدأ الملأ بالقول همسا إن ولي العهد مريض وإن لم يسطع الكلام في احتفال عيد الميلاد ذلك إلا بصوت أبح، ويمضي شهران فيقول العالم إن الذي يخلف الإمبراطور الشيخ عاهل شاب.
وتزيد دقات قلب بسمارك، ويشعر بسمارك بأن حكم القدر واقع لا ريب فيه، وبأنه سيقع تبدل لم يحدث مثله منذ ربيع سنة 1861 حين مات فردريك ولهلم، والآن تسأل أوروبة عن حوادث صحة الإمبراطور كلما خرج للنزهة، ولا أحد يجازف بتجديد حلف، ويحف بعمل المستشار الماهر طائفة من الحذر والخوف والوهم فيهزه ذلك، ويسأل اللورد سالسبري عن كون محاباة الأمير ولهلم لروسية ستجعل منه كارها لإنكلترة، ويسر القيصر بإلقائه السمع إلى ابن خاله ولهلم على حين يسر ولهلم هذا إليه بالعداوة لإنكلترة، ويبدو الوضع مضطربا حينما زار القيصر إسكندر برلين في أواخر سنة 1887، فيظهر إمكان اشتعال الحرب في الحين بعد الحين.
ويشير بسمارك إلى العاهل الشائب بما يجب أن يدور عليه حديثه مع القيصر، فعلى ولهلم أن يوضح بأن الحرب القادمة تفرق بين الثورة والملكية، فإذا تم النصر فيها لفرنسة دنت ألمانية من الثورة، فهل يريد القيصر وبلاد الروس هذا؟ وهل يهدف القيصر إلى تهديد ملوك أوروبة الشرقية بمحالفته فرنسة؟ إذا ما كسرت النمسة قامت على أنقاضها عدة جمهوريات، وظهرت في البلقان عدة جمهوريات أيضا، فأسفرت هذه التغييرات عن خسران روسية، وعلى العاهل أن يجتنب شهر الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ وذلك لأن الشعوب في أيامنا تعد ملوكها مسئولين عما تصاب به من هزيمة كما حدث في فرنسة بعد حرب سنة 1870، حتى في ألمانية يزيد احتمال قيام نظام جمهوري فيها عند الهزيمة، وهنالك يتفق فوضويو فرنسة واشتراكيو ألمانية وثوريو روسية، واليوم ليست الحروب حروب وزارات، وإنما الأمر هو رفع العلم الأحمر ضد قوى القانون والنظام.
ويكرر العاهل الشيخ تلك العبارات عدة أيام ليحفظها على ظهر القلب، وقد صاغها بسمارك في قالب ملائم لنفسية الإمبراطور ولهلم والقيصر إسكندر، ويذعر ولهلم بحلم رآه في منامه؛ فقد أبصر القيصر واقفا وحده في المحطة من غير أن يخف أحد إلى استقباله، ولم يفتأ ولهلم يروي حلمه هذا لمن يريد أن يسمع، ومهما يكن الأمر فقد اجتمع العاهلان اجتماع وداد وتبادلا عبارات صداقة، وسار على غرارهما وزراؤهما الذين أمضوا معاهدة.
ولكن الظلال تمتد، فيجب على من يكون ذا مال أن يتسلح، والآن يقترب أجل ولهلم الأول من نهايته، فيعود تابعه إلى عهده الأول، وهو إمساك ترس مليكه وتقويته، وسيكون هذا آخر عمل مماثل له، وهو كما في سنة 1862 يكافح في سبيل حال الجيش، فيحل البرلمان مرة أخرى، ويعمل على جعل الانتخابات تأتي بنتائج أكثر ملاءمة، فيوافق الريشتاغ الجديد على جمع الجنود وإعداد المدافع لسبع سنين، ويرتقي بسمارك في المنبر قبل موت مولاه بأربعة أسابيع ويلقي آخر خطبه في الريشتاغ، وخطبته هذه طويلة جدا فاضطر إلى الجلوس في أثنائها؛ طلبا للراحة، فكان هذا شاقا على هذا الرجل الذي بلغ من العمر ثلاثا وسبعين سنة، وهذه الخطبة خالية من الخيال والمجاز، وهي عملية إيجابية إلى الغاية، وفيها يلقي بسمارك نظرة على الوضع العالمي كما كان يصنع في الغالب، وتنطوي كلماتها الهادئة على إنذار خفي، ومنها نبصر شدة توتر الحال في أوروبة، ونبصر ما ينذر به من شؤم مرض ولي العهد، ونبصر قرب دور جديد. وكل هذا يرى من خلال خطبته تلك، فتسفر عن إسكات أعدائه، قال بسمارك:
يجب علينا أن نكون في هذه الأيام أقوياء جهد الطاقة، ولدينا من الوسائل ما نستطيع أن نكون به أقوى من كل أمة يعدل عدد سكانها عدد سكاننا، ونقيم بوسط أوروبة، وتمكن مهاجمتنا من ثلاث جبهات، ونحن معرضون لخطر المحالفات أكثر من أية أمة أخرى ... والأسياف
3
في حوض الشبابيط
4
الأوروبي، وهي تحول دون تحولنا إلى شبابيط لما تشعرنا به من أثر حرابها في أطرافنا، وهي تكرهنا على الوحدة التي تخالف طبيعتنا، ولولاها لانفصل كل واحد منا عن الآخر ...
ولا تتوارى دولة كالنمسة، ولكننا إذا تركناها وشأنها غدت غريبة عنا ومدت يدها إلى عدو صديق عادت لا تعتمد على صداقته، وغاية القول هي أننا إذا أردنا ألا نبقى منعزلين وجب علينا أن نجعل لأنفسنا صديقا صادقا ... وإذا نظرت إلى عدد الجنود وجدت الآخرين قادرين على مباراتنا كمية، ولكنهم لا يستطيعون منافستنا كيفية، وإذا بحثت عن البسالة لم تر فرقا فيها بين الأمم المتمدنة؛ فالروس والفرنسيون يحاربون بشجاعة كما يحارب الألمان ...
ولا أحد يفكر في استعمال جهازنا القوي الذي ينمو به الجيش الألماني لمقصد هجومي، وإذا ظهرت اليوم أمامكم فقلت لكم بعد النظر إلى تغير الأحوال: إننا مهددون تهديدا جديا من قبل فرنسة وروسية؛ كان ذلك على أساس كوننا سنهاجم، وإنني أعتقد كدبلمي - وأستند في رأيي إلى التقارير العسكرية - أن الخير لنا في الهجوم كتدبير دفاعي، وأن علينا أن ننزل الضربة حالا؛ ولذا أطلب منكم اعتماد مليار ونصف مليار، وإذا كنت قد خاطبتكم بمثل ذلك أيها السادة فإنني لا أدري هل تحملون لي من الثقة الكافية ما توافقون به على رغائبي، ذلك ما لا آمله! ولكنكم إذا فعلتم ذلك لم أكتف بذلك.
وإذا أردنا في ألمانية أن نقوم بحرب بما لدينا من قوى قومية وجب أن تكون هذه الحرب حرب شعب ... وقد يمكن القيام بحرب ليست وليدة مبادرة شعبية، وقد يمكن القيام بحرب يراها أولياء الأمور ضرورية فيوضحوا وجه لزومها، ولكن حربا كهذه تعوزها الحماسة والصولة منذ البداءة، ولا جرم أن كل جندي يعتقد أنه أفضل من العدو، وهو لا يكون جنديا نافعا ما لم يرد الحرب ويؤمن بالنصر، ونعتقد اعتقادا جازما أن النصر سيكون حليف قضيتنا العادلة، وذلك كاعتقاد كل ضابط يكون في معسكره بعد تناول قدحه الثالث من رحيق الشنبانية، إن لم يفق وثوقنا هذا ...
وما يصدر عن الصحافة الأجنبية من تهديد فحماقة لا تصدق، ويعد كل بلد مسئولا ذات يوم عن النوافذ التي تحطمها صحفه، وستقدم يوما ما قائمة الحساب من قبل البلد المتبرم، ويسهل استهواؤنا بالمحبة وحسن الشعور، ولا يؤثر فينا بالوعيد، ونحن الألمان نخاف الله، ولا نخشى في العالم أحدا سوى الله، وتقوى الله هي التي تدفعنا إلى نشدان السلم وصيانه.
فلما أتم خطبته هتف له جميع المجلس للمرة الأولى منذ سنوات كثيرة، وصار كل واحد يشير إلى تلك الخطبة كحادث أوروبي، وكان الإمبراطور من حسن الصحة ما قرأ معه التقرير عما قاله بسمارك، ومما حدث قبل ذلك بوقت قصير؛ أي عندما لاح قرب وقوع الحرب، أن صرح العاهل الصنديد
5
بأنه بلغ من الكبر ما لا يقدر معه على قياد جيوشه، ولكن مع رغبته في اتخاذ مكان له في المعسكرات، ويحتفل ولهلم في تلك الأحيان بمرور ثمانين عاما على انتسابه إلى الجندية، ويطلع ولهلم على لوح مشتمل على «سفر المتطوعين من برسلو في سنة 1813»، فيرى بلوخر راكبا حصانه في الطليعة ويقول: «إن المصور اقترف خطأ؛ فالذي أذكره تماما هو أنني رجعت إلى برسلو راكبا حصانا مع والدي والقيصر وأن بلوخر لم يكن هنالك، فيجب على المصور أن يستبدل القيصر إسكندر ببلوخر في الصورة، والقيصر إسكندر هو الذي أرانا مدينين له كثيرا!» وهكذا ينطق التاريخ الحي.
وهو أقل اكتراثا لقرب موت ابنه مما لمصير بلده، وهو مضطرب حول تعليم حفيده، وكيف تتخذ الخطا الضرورية في سبيل ذلك التعليم من غير أن تقضي على العليل؟ ويكتب العاهل الشيخ في عيد ميلاد سنة 1887 آخر كتاب إلى بسمارك، وإلى هذا الكتاب يضيف وثيقة يرفع فيها هربرت بسمارك إلى مرتبة سفير، «قاصدا أن تنقلوا إلى ابنكم هذه المسرة التي لا أضن بها عليكم، والذي أرى أن هذه البهجة مشتركة بينكم وبين ابنكم وبيني ... الشاكر لكم: ولهلم .»
ويشعر الإمبراطور بدنو أجله، ويستدعي المستشار إلى جانب سريره، ويطلب منه أن يعد بمساعدة حفيده، فلما أجيب طلبه، كانت المصافحة الخفيفة رد جوابه، ثم أخذ يهذي؛ فقد خيل إليه أن الأمير ولهلم جالس قريبا منه بدلا مني، وهو لم ينشب أن أخذ يكلمني بضمير المفرد المخاطب، فصار يقول: «يجب عليك أن تكون دائم الاتصال بقيصر روسية، ولا ضرورة إلى القتال في ذلك الميدان، ثم يسكت برهة،
6
ويعود إليه وعيه ويأمرني بالانصراف وهو يقول: سأراك مرة أخرى.» وفي الصباح التالي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
ووقت الظهر ينعى بسمارك الإمبراطور إلى الريشتاغ رسميا، وتخنقه العبرات غير مرة في أثناء بيانه القصير، ومن قوله: «التمست من صاحب الجلالة أن يكتفي بالحروف الأولى من اسمه حين التوقيع، ولكنه أفاد أنه لا يزال من القوة ما يستطيع معه أن يمضي باسمه الكامل؛ ولذا تحمل هذه الوثيقة التاريخية التي هي أمامي آخر إمضاء له، ولا ينبغي لي في هذا المكان الرسمي أن أسترسل في بيان مشاعري الشخصية، ولا يفيد هذا ما دام مثل الأحاسيس التي تواثبني حيا في قلب كل ألماني، وليس من النافع أن يعرب عنها إذن، ولا يخامرني ريب في أن ما فيه من شجاعة بطل وحس شرف وإخلاص عمل وصدق جهاد في سبيل الوطن سيظل تراث أمتنا الذي لا يندرس.» وما كاد الخطيب يتم كلمته حتى غطى بيديه وجهه.
ومن ثم ترى كيف أنجز بسمارك عمله الرسمي، وكيف ظل وفيا لنفسه حتى في تلك الساعة، وكيف أنه لم يسلك سبيل عرض عواطفه مع عدم وجله من إظهارها، وكيف أنه كان حريصا على اجتناب كل انطلاق مع الحسرات رحمة بنفسه ونفس سامعيه، وكيف أنه عرض آخر توقيع لولهلم كرمز بدلا من الكلام حول الإمبراطورية، وكيف أنه تفادى من النطق بلفظ زائد فلم ينعت العاهل الراحل بالعظيم ولا بالمنصور ولا بالحذر ولا بالحكيم، بل وصفه بالشجاعة والإقدام والنشاط فقط؛ أي بما يصدر عن رجل ناضج يرى إظهار ما يلائم قلبه المضطرب الأبي في تلك الساعات.
وتشترك العاصمة والأمة الألمانية وأوروبة وجميع البلدان الأجنبية في تشييع العاهل، فلما مر الموكب من شارع أنتردن لندن (تحت الزيزفون)، وفي وسط الصمت، دوى صوت ملخص في كلمتين ساخرتين لسير هذا الأمير المحير، فقد صرخ رجل من بين الشجر بقوله: «يأتي لهمن إلى هنا!» وباسم لهمن المستعار كان الأمير ولهلم قد فر إلى لندن منذ أربعين عاما حين كان العصاة في مثل ذلك اليوم من شهر مارس، وحين كانت الرياح تخفق فوق شجر الزيزفون ذلك، ينادون بسقوط الأمير الرامي بالرصاص! وفي تلك الأيام كان ولي العهد ولهلم مختبئا في جزيرة الأطواس، ولم ترد زوجه أن تدل على مكان استتاره حتى الشريف الشونهاوزني «بسمارك»، وفي ذلك الحين يعرف خبر هروب ولهلم، وتعرف قصة جواز سفره الزائف، فتنظم القصائد الساخرة حول لهمن ويسير بها أهل برلين مغردين، وقد قرأ بسمارك هذه القصائد آنئذ - لا ريب.
ولا عجب إذا ما سمع بسمارك ذلك الصوت الصادر من بين الزيزفون، وفيم فكر حينما كان وراء النعش؟ وكان جالسا في العربة بجانبه غريبا عنه متلففا في فروته مولتكه الذي كان شيخا في التسعين من عمره، وكان رون ميتا، ومن كان هنالك أداة وصل بغابر الأزمان؟ لا أحد، فلا ترى من أولئك ضابطا ولا وزيرا، ولا نديما يستحق الذكر، وكانت أوغوستا على قيد الحياة، ولكنها لزمت بيتها لشيبتها، وما كنت تبصر من لابسي البزات الرسمية سوى أناس من حديثي السن، ولا سيما ذلك الحفيد الذي يبدو وحده خلف الجثمان رأسا، وكان الإمبراطور الجديد مضطجعا على سرير موته في القصر، وقد أصبح شهود بروسية القديمة من الهالكين.
وبسمارك آخرهم.
الجزء الخامس
المبعد
ولم أكون منسجما؟
الفصل الأول
«معدل النبض عندي في الساعة الراهنة يزيد على ما كان عليه في العهد الماضي خمس عشرة مرة ... ومن ذا الذي يخبرنا بما يكون عليه وقتما أدبر؟» فبهذا الاعتراف الذي أوجبه الخوف والحمى مع النغم المسرع يبدأ الفصل الأخير من اللحن الأخير، وبه ترى الحال الروحية التي قضى بسمارك بها مائة اليوم الأخيرة بجانب الإمبراطور.
وبسمارك مر عليه عام وهو يعمل على جعل الوسائل الجديدة ملائمة للأحوال الحديثة، وبسمارك لما رآه من دنو أجل فردريك غدا الأمير ولهلم موضع حسابه، وبسمارك يعرض على العاهل المحتضر نصحه الرسمي بعد أربعين عاما من عرضه مثل ذلك على ملك بروسية، وبسمارك في شهر مارس سنة 1848 - كما في شهر مارس سنة 1888 - كان يرقب الملك في قصر بوتسدام، أوتخطر بباله تلك الأيام التي مرت فيها عربته من باب الحديقة الملكية؟
ولم تكن عربة البلاط هي التي جاوز بها بسمارك المجاز في تلك الأيام، وكانت أوغوستا قد قابلته سرا في غرفة الخدم، ولم ترد أوغوستا أن ترى حينئذ في أثناء حديث شخصي مع هذا الشريف البوميراني؛ لما كان من الاستمرار على إطلاق النار في الشوارع، ولو وافق هذا الشريف على برنامجها لكان من المحتمل أن ينادى بابنها فردريك البالغ من العمر ثماني عشرة سنة ملكا بتنزل عمه وأبيه عن العرش، ولكن الواقع هو أن بسمارك أكره أوغوستا على أن تصير ملكة ثم إمبراطورة بعد زمن مع ظهورها شديدة العداوة له بما كان لها من السلطان على مولاه. ويقضي ولهلم نحبه بعد عمر طويل، ويبدو ابنه فردريك، الذي منع من الجلوس على العرش مبكرا بسبب رفض الشريف بسمارك فاضطر إلى الانتظار أربعين سنة مضنية؛ إنسانا مثيرا للرحمة ناحطا
1
ضاجعا على كرسي، وبالأمس يبرز فردريك الثالث في عربته للشعب كالسيد والمهدي الميتين المربوطين فوق حصان.
وفيما كان بسمارك يصعد في السلم وجد فيكتورية تنتظره، وقد كانت مسيطرة على زوجها حتى في أيام صحته، وهي تقبض الآن على جميع أمور زوجها العليل وإن لم تتصرف في السلطة التي كانت تحلم بها، وهي في الأحوال الحاضرة تبدي استعدادا للتفاهم مع الخادم العدو القوي الذي ما فتئت تكافحه، والحق أنها ستصبح أيما عما قليل فتضطر إلى مساعدته ضد عدوها الثاني، ضد ابنها الذي سيكون إمبراطورا، ولم يدخر ميفيستوفل وسعا، ويبذل كل حيلة إغواء للفيكتوريتين.
وقد أتت ملكة إنكلترة فيكتورية إلى بوتسدام ففتنت بالشيخ الصنديد المرهوب، ويسحر ذلك القصر اللعين الذي يسير فيه كل واحد مختنق الخطا؛ خوفا من إزعاج المريض، وكتما لما يحدث عن ولي العهد ذي العيون المبثوثة في القصر الذي ينتظر الموت فيه فريسته والذي يريد النساء أن يحكمن فيه حتى يأتي ذلك العملاق المخيف والشيخ المقبب الرأس والعسلي العينين والكثيف الحاجبين من برلين فيطرح - بجليل القول وخفض الجناح - اقتراحاته على أرجلهن.
ولكن هنالك فيكتورية ثالثة، وفي ذلك القصر الإمبراطوري تتصادم الأهواء بلا انقطاع، وفي ذلك القصر الإمبراطوري يتنازع حب السلطان والحرص على الحياة والحقد الأسري والغطرسة، وتطمع زوج فردريك «فيكتورية الوسطى» في تزويج المطالب بعرش بلغارية الجديد الأمير باتنبرغ بابنتها فيكتورية الثالثة، غير أن الساحر الأشيب يصرخ قائلا: «ابتعدي عني!» وذلك لما يراه في هذه القصص النسوية من إفساد لخططه.
ويقول بسمارك في حديث له مع بوش: «قد يكون باتنبرغ أبغض الناس إلى القيصر ... وظلت الإمبراطورة الجديدة إنكليزية في تصوراتها على الدوام، وتزيد على ما كانت عليه في هذه الأيام وصولا إلى مآربها، فتريد أن تكون آلة بيد باتنبرغ الذي هو ابن لسيدة بولونية من آل هوكه الذين ليسوا أهلا للاحترام!» ويسر إلى صديقه فون سبيتزنبرغ بقوله: «إن فيكتورية الوسطى هي الأشر، وهي مشهورة، فإذا نظرت إلى صورتها ارتعشت مما تنم عليه عيناها من معاني الشهوة الجامحة، وهي عاشقة لباتنبرغ وتريده لنفسها كما تريد أمها أن تحتفظ بأخيه لباسا لها، والله يعلم مقدار ما ينطوي عليه ذلك من الدعارة!»
ويجعل المستشار من ذلك مسألة وزارة، ومع ذلك - وفي تلك الساعة - يبدو المريض الذي لا يعترض على الزواج قانعا بأن يعلم إمكان حدوث تغيير بخطابات تصدر عن بيئة بسمارك، وينطفئ مع قوى المريض ما فيه من طموح وكفاح، ولا تنشد روحه غير الراحة، بيد أن قلب بسمارك ما انفك يدق على وزن النضال، وبسمارك منذ عام كان قد قال عن فردريك وفيكتورية: «إنهما يحوكان خيانة، فهما خاليان من كل شعور ألماني، وهما قد خسرا ما لهما من مكان في نفوس الشعب، وهما يلقيان بذور الشقاق بين أبناء الأسرة.» واليوم يقول بسمارك: «كان مولاي الشائب السابق يعرف أنه خاضع لزوجه، فيقول: أعني، فأنت تعلم أنني لست اللابس للسروال، غير أن هذا الرجل هو من الغرور ما لا يرضى معه بمثل ذلك، مع أنه من بعض الوجوه عبد شديد الخضوع كالكلب، ولا تكاد تعتقد مقدار ذلك.»
ويشتد بغض بسمارك للناس مع السنين، وتتبلر هذه البغضاء، فيبدأ بسمارك بفقد كياسته النفسية وترتبك دقته الروحية ويزيد فتوره وسوء ظنه، ويظهر الأسد الشيخ رابضا أمام عرينه، ويخرج الشرر من عينيه اللامعتين، ويبدو مستعدا لهرس كل من يدنو منه ببراثنه، ويحرس الكنز الداخلي؛ أي الريخ، على الدوام، ويسأل صديق شباب بسمارك «كيزرلنغ» في إحدى زياراته النادرة له: «وماذا يدور في أعماق قلبه؟ لا الشعور الزاهي بأنه أتم أمورا، ولا ارتياحه لأنه أنجز أعمالا عظيمة ولا تمتعه بالراحة والسلام بعد جهاد ...»
أفلا يشعر الزملاء والنواب بهذه البغضاء المتراكمة الهائلة للناس؟ أفلا تعرف الأمة ما يكنه زعيمها لها من ازدراء فاتر؟ ويقول هوهنلوهه ملاحظا: «يوحي إلي بأنه غير سليم العقل.» وفي الريشتاغ - حيث كانت منذ سنة 1887 أكثرية كثيفة مؤلفة من المحافظين والأحرار الوطنيين يقدر بها بسمارك على سن قوانينه حول العمل ونظام الحماية، كانت الكراهية الشخصية لهذا الشيخ تزيد مقدارا فمقدارا، وبسمارك قال ذات مرة عند عودته من المجلس إلى منزله: «إنني أشعر بوجع في شعري كالذي لببه
2
الأوباش وأخذوا برأسه في حانة شائنة.» ويعلق «أبناء العم» من الأشراف آمالهم على الشاب الذي سيصبح إمبراطورا عما قليل، وكان هولشتاين قد تفاهم هو وفيندهورست في زاوية من بهو استقبال حول ما يعملان في مستقبل خطر.
وبسمارك بعد الآن يرجع البصر إلى الدور الزائر فيصفه ب «الأيام القديمة الملاح» والآن يمدح بسمارك مولاه الراحل كما كان ينتقده في حياته، ومن قوله: «حقا كان الإمبراطور الشائب رفيقا صادقا، وكان يمكن الاعتماد على إخلاصه ... وهو وإن كان يخطئ في سيره في بدء الأمر لم يعتم أن يعود إلى الصراط السوي .»
والمستشار إذا ما أنعم النظر في فيكتورية مجد حتى أوغوستا قائلا عنها: «أجل، إنها كانت تضع العراقيل في سبيلي، ولكنها لم تنفك تكون امرأة ممتازة، ولكنها كانت ذات شعور حي بالواجب، ولكنها كانت تتصف من هذه الناحية بما يعوز الإمبراطورة الحاضرة، وهي كانت تود أن تضحي بشيء في سبيل أصدقائها التقدميين لعطل بعلها من العزم، وفي مثل تلك الأحوال حين يكون كل أمر ملتويا؛ لا نستطيع أن نسلي أنفسنا بقولنا إن الأمر يسير على ما يرام، وسأتمسك بمنصبي ولو سرحت فلن أبرحه! ولن يولد عاهل، غير أن لي رجاء في مولانا الشاب، فلعل فتاءه الشديد كان مفيدا له.»
ولم يشعر الأمير ولهلم بأنه عومل بالحسنى في أسرته، وقد أبصر بسمارك ذلك في السنوات الأخيرة. وفي سنة 1886 كتب فردريك إلى المستشار بسمارك يقول له عن الأمير ولهلم متوجعا: «يقرب من الطيش ما اتصف به من شدة التسرع، ويعوزه النضج، ويميل إلى الزهو والصلف.» وأمور مثل هذه مما يجعل الأمير الذي انتقد على هذا الوجه موضعا لعطف المستشار المرسل إليه فيحاول هذا المستشار أن يشفي الأمير من «احتباسه البوتسدامي»، وفردريك كان قد مرض قبل ذلك أيضا فصار يساور بسمارك شعور بقصر عهد هذا العاهل الجديد، وما كان من كره بسمارك وولهلم لوالدي هذا الأمير فقرب بينهما في بدء الأمر.
ومهما يكن الأمر فقد أسفر عناد ولهلم عن تحاكهما من السنة القادمة، ويقنع ستوكر وفالدرسي ولهلم بأن أقوم طريق لمكافحة الاشتراكية هو سلوك سبيل الكياسة والإحسان، ويقترح ولهلم إقامة مهرجانات فروسية جمعا للأموال من أجل فقراء برلين، ويغضب بسمارك، ولا يغضب هذا المستشار ما أبدي من نشاط كبير من هذا الطراز، وإنما الذي أثاره هو ما أبداه العاهل المقبل من ولع بأن يحل وديا تلك المسألة الاجتماعية التي ما انفك ذلك المناضل القديم يناهضها بقوة القانون والسيف، ويقول الأمير ولهلم جوابا عن اعتراض المستشار: «أفضل أن أقطع إربا إربا على نصب المصاعب لك.» ويرد احتجاج بسمارك بهذه التأمينات الطائشة.
ومما زاد بسمارك زعجا ما كان بعد زمن قريب؛ أي في الشهر الأخير من حياة الإمبراطور، من إرسال الأمير ولهلم إليه مسودة اقتراح يصير تبليغه إلى جميع أمراء الريخ على أن يحفظ من الآن في مستشاريات الاتحاد في غلف مختومة «لما يتوقع من وفاة الإمبراطورة ووفاة والده عاجلا»، وفي ذلك الاقتراح «ينبئ أعمامه الشيوخ بأنه لا ينبغي لهم أن يرموا عصا بين ساقي ابن أخيهم الشاب العزيز».
ويعظم قلق بسمارك، وما أشد الحمى التي تشتعل في عروق هذا الشاب الذي يضع مسودات بيانات ويستعد لإرسالها إلى اثني عشر ديوانا عاما، على حين لا يزال سلفاه من الأحياء! أويجهل هذا الأمير أحكام الدستور الإمبراطوري، فينظر إلى أمراء الاتحاد على ذلك الوجه كما لو كان مسيطرا عليهم؟ ويكتب بسمارك بخط يده كتابا يبلغ ثماني صفحات عند الطبع، مجاوزا بذلك حدود طاقته كما قال، وفي هذا الكتاب يشرح بسمارك للأمير الوارث ولهلم ما قامت عليه الإمبراطورية من المبادئ ويطلب إليه أن يحرق مسودة الاقتراح تلك، ويصيب هذا الطلب المحز من الأمير، ولا غرو؛ فالكلمات الأولى للإمبراطور السابق لأوانه هي غير صالحة للتبليغ إذن! وعليه أن يحتمل هذا من مستشار قاسى بسببه الشيء الكثير! والأمير - وإن ثار ضد والديه عن أثرة - يمكنه اليوم أن يلقن نفسه بأن ذلك كان عن تضحية! وسيزعم الأمير - بعد زمن - أنه يحق له أن يكون محلا لشكر الشائب بسمارك!
ويبدو جواب الأمير باردا، وهو ينطوي على الوعيد الآتي، وهو: «ويل لهم عندما أغدو قادرا على الأمر!» أجل، إن هذه الكلمة كتبت ضد أناس آخرين، غير أن لهجتها القاطعة لا بد من أن تقرع أذني قارئها المرهفتين، فتتيح له فرصة التفكير في الأمر جديا، ولبسمارك من الحافز الصالح ما يقول معه لوارث العرش في رسالته المطولة: «أرى أن أقوى دعامة للنظام الملكي هو أن يعزم الملك عزما صادقا على ألا يكتفى بالاشتراك في إدارة أمور حكومة البلاد في الأيام الهادئة، بل يجب عليه في الأوقات العصيبة أن يستعد مستلا سيفه للسقوط صريعا على درج العرش مجاهدا في سبيل حقوقه غير جبان، فعاهل كهذا لن يتخلى عنه جندي ألماني.» وهل المصادفة، أو المعرفة العميقة بالخلق البشري، أو الرؤيا النبوية؛ هي التي دفعت بسمارك إلى كتابة ذلك الإنذار إلى ولهلم قبل ثلاثين عاما من اليوم الذي جعل القدر فيه ولهلم على محك التجربة فوهن بسبب ما في أخلاقه من ضعف جوهري؟
ويصير ولهلم ولي العهد، فيبدأ بالسير على غرار فردريك في نثر التعاليق بالقلم الرصاصي، وببعض هذه التعاليق نطلع على محاورات بين ولهلم الشاب وبسمارك وعلى نقض بسمارك لتفاسير الأمير بتفاسير مضادة في حقل السياسة العليا، وتصبح رسائل بسمارك لسفرائه في الخارج واسعة عامة شيئا فشيئا، ويصبح الأمير ذا حق في مطالعة نسخ عن أصل الأوامر الرسمية التي تنطق بالأمثال وتشتمل على دروس في سياسة الدولة، ويمكننا أن ننظر إلى رسائل بسمارك تلك في السياسة الخارجية كما ننظر إلى حكمة كاتب خيالي ناضجة أو كما ننظر إلى صورة مصور كبير رسمها بنفسه، ولما زاد في ألمانية كره روسية وصار الحزب العسكري يحرض على الحرب كتب إلى سفيره بفينة ما يأتي:
تظل الإمبراطورية الروسية التي لا تمحي والتي هي مدينة بمناعتها لمناخها وسهوبها
3
وقلة احتياجاتها عدوتنا الشديدة المتعطشة بعد الهزيمة إلى الانتقام كما هو أمر فرنسة في الغرب، وهكذا يكون الوضع متوترا دوما لا محالة، ولا أرى أن أحتمل مسئولية العمل على إحداث هذا الوضع، وقد تعذرت على أقوى الدول العظمى «إبادة» قومية في قرن كامل كما ثبت ذلك من حال بولونية البالغة الضعف، والرأي هو أن نعد روسية عامل خطر دائم فنقيم ضدها أسدادا للوقاية.
ويقرأ ولهلم ذلك، فيعلق على مسألة قيام عدو جديد محب للانتقام بقوله: «لا يكون أكثر مما عليه الآن.» فيجيب بسمارك عن هذا بكلمته: «أؤكد لكم بأنه يكون أكثر مما هو عليه!» ويعلق ولهلم على مسألة التعطش إلى الانتقام بقوله: «قد يتعطش إلى الانتقام، ولكنه لا يقدر عليه.» فيجيب بسمارك على هذا بكلمته: «إنه يغدو قادرا عليه بسرعة، كما اتفق لفرنسة بعد اثنتي عشرة سنة.» ويعلق ولهلم على مسألة إبادة إحدى القوميات بقوله: «نعم، ولكن قواهم المقاتلة زالت.» فيجيب بسمارك عن هذا بكلمته: «يمكنهم أن يعيدوا تكوينها في خمس سنين، فانظروا إلى مثال فرنسة.»
وبتلك المحاورة الصغيرة الخطية تبصر اصطراع الحنكة وقلة الصبر، وتبصر معارضة الرأي النضيج بالرأي الفطير، بيد أن بسمارك الشيخ يطمع أن يعلم ولهلم الشاب فيكتب إليه كتابا مطولا عن السياسة الألمانية الروسية ويحذره من التعليقات البعيدة المعنى قائلا له: «إن الموظفين الذين يطلعون على تعليقات سموكم - وأنا منهم - يصعب عليهم أن يحافظوا على أساس سياسة ألمانية السلمية عند تبدل العهد، وأفهم من تعليقات سموكم أنه يراد حملي على القول بما يناقض عقيدتي، وفي هذا من قلة الإخلاص لسياسة إمبراطور ألمانية ما هو أشد خطرا من العزم على الحرب.»
تلك هي الكلمات الرفيعة التي اختارها بسمارك إنذارا للأمير الشاب، وفي الغد يدهش بسمارك عند سماعه قول هذا الأمير إنه «بولغ في المعنى» الذي استخرج من تعليقاته موكدا أن ميوله الخاصة سلمية تماما، أفينطق الأمير الشاب عن هوى إذن؟ أولا يدرك ما يكون لما يقول من تأثير نفسي؟ ويضيف الأمير إلى ذلك قوله إنه سيمتنع بعد الآن عن إتيان مثل تلك التعاليق «تسليما جزئيا بالأسباب التي أبداها المستشار.» بيد أنه ما فتئ يرغب في اطلاع الجمهور على وجهات نظره بإحدى الطرق. ولم يحدث أن كتب ولهلم الشيخ بمثل تلك الوقاحة، «فالتسليم الجزئي» أمر جديد على بسمارك.
ومن الطبيعي - لا ريب - أن يتكلم الوارثون الشبان عن الحروب التي قد تكون ضرورية، وهؤلاء الشبان لا يعرفون ماذا تنطوي عليه هذه الحروب من الأخطار، وليس في القلق الذي يساورهم ما يقض مضاجعهم، وإن الأمير الذي يحيط به قواد محبون للحرب ليذعر إذا ما قرأ نبوءة بسمارك القاتمة الآتية التي خاطب بها وزير الحربية، قال بسمارك: «إذا قضت إرادة الله بهزيمتنا في الحرب القادمة لم يدخر أعداؤنا المنصورون وسعا في اتخاذ جميع الوسائل الممكنة لمنعنا من الشفاء مدة جيل كامل، ولا أعتقد أن أعداءنا يكتفون بالألزاس، فسيطالبون بأراض على طول نهر الرين، وليس لنا أن ننتظر العون من روسية والنمسة وإنكلترة كما تم لنا سنة 1812؛ فقد أبصرت هذه الدول ما اتفق لألمانية الموحدة من القوة.»
وأنبأ بسمارك في الوقت نفسه أن روسية أكثر جذرية
4
بمراحل مما يرى الناس؛ «فالثورة والجمهورية أمران قد يلمان بروسية في أقرب وقت، وفي روسية أناس كثير يعلقون آمالهم على كارثة حربية تصاب بها تخلصا من النظام القيصري»، ويسطع معظم عنايته من خلال عبارة قصيرة كتبت على هامش تقرير، وهي: «لا معدل لنا عن إنكلترة إذا أردنا صون السلم مدة أخرى.»
وهكذا كان جو أوروبة مكفهرا حين موت فردريك، وكان هذا الإمبراطور شاعرا بذلك، وآية ذلك أنه استدعى بسمارك في اليوم الذي سبق وفاته، فمد إليه يديه مع اشتداد الحمى عليه، ثم تناول يد الإمبراطورة ووضعها في يد بسمارك اليمنى وضغطهما معا، ويصمت الإمبراطور صموتا مؤثرا، ولهما في صمته تحذير، فكأنه وهو يحتضر يبارك أعمال بسمارك التي ما انفك يناهضها في حياته.
وفي الغد يقضي فردريك نحبه، ويغدو ولهلم سيدا.
الفصل الثاني
«يا صاحب الجلالة! ما كان فردريك ليكون فردريك الأكبر - على الأرجح - لو كان يقوم بإدارة الأمور في بدء عهده رجل له ما لبسمارك من القوة والشأن، ولو كان قد أبقى مثل هذا الرجل في منصبه»، فهذه هي الكلمة التي نطق بها فالدرسي مؤثرا بها في فؤاد الإمبراطور، والإمبراطور كان في الثامنة والعشرين من سنيه، وكان منذ بدء عهده شديد الشوق إلى دعوته بولهلم الأكبر، وكان فالدرسي يطمع أن يكون مستشاره، بيد أن الإمبراطور كان يخشى العملاق في أول الأمر فيحفه بهالة من الإجلال، وكان هربرت بسمارك في الأربعين من عمره فيظهر أن من الممكن نصبه خلفا لأبيه.
وكان هربرت بسمارك عسير الأخلاق سيئ الطالع، ولم يقتصر أمر هربرت على أنه ابن لعبقري، بل كان أبوه يعرقل سيره بعزمه على جعله مستشارا خلفا له. ومن شأن رجل مثله يسير على خطا آبائه الأقوياء أن يدنو من العاهل الشاب فيجدد ما كان بين أبيه وبين جد ولهلم من عهد ولاء وثقة، ولكن بينما كان يسهل على كل من ولهلم الأول وبسمارك الأول أن يتصل بالآخر اتصال المخدوم بخادمه لزيادة عمر المخدوم على عمر الخادم عشرين سنة تقريبا؛ كانت صلة السن بين ولهلم الثاني وبسمارك الثاني معكوسة؛ فالخادم هنا أسن من المخدوم بسنوات كثيرة، ويتعذر عليه أن يكون تجاه المخدوم كالابن الذي لا يحقد على والده زمنا طويلا عند غضب هذا الوالد، على حسب تعبير بسمارك.
والمواهب والعيوب أسوأ توزيعا بين الزوجين الجديدين مما بين الزوجين القديمين، وعلى ما لم يتصف به ولهلم الأول من ألمعية وذكاء كولهلم الثاني كان أكثر من هذا لباقة وأحسن أوضاعا وأعظم تحفظا، فغدا بالتدريج راغبا رغبة كافية في الاقتداء بوزيره الذي كان رجلا عبقريا، ويحفز ولهلم الثاني مزاجه العصبي إلى أعمال تفوق مقدرته فيواجه ببسمارك الثاني الذي يدفعه إعجابه بأبيه وتربيته وشعوره الخفي بعجزه عن الإبداع إلى خدمة والده أكثر مما إلى خدمة وطنه، وفيما كنت ترى ولهلم الثاني كثير الاعتداد قليل التبجيل لآبائه ترى هربرت عاطلا من الاعتماد على النفس مثقلا بتعظيم عظيم لأبيه، فصار يتعذر عليه عند الاقتضاء أن يكون لنفسه آراء خاصة ويعمل بها، وأضف إلى ذلك كون ولهلم الثاني لم يجد عطفا مع أن هربرت كان مغمورا بضروب الحب، أجل قدم هربرت تضحية كبيرة بهواه وبشرفه تقريبا، ولكن أباه ما فتئ يريه أكبر حنو وأقوى كلف، وما انفك شعور بسمارك الشيخ الأسري يحثه مع السنين على العمل في سبيل ابنه ليكون خلفا له في منصبه.
وصار هربرت نجي أبيه الوحيد، وتخرج في السياسة على والده الذي هو أعظم سياسيي العصر، وكان عليه ألا يقل ثورة عن أبيه؛ ليستطيع نقد أبيه هذا، وورث عن أبيه كراهية الناس فضلا عن مبادئه وحيله التي تصدر عنها، ويشتد بغض هربرت للناس إلى درجة الإمحال، قال أبوه: «إنه يكره ما أزدريه، وهذا شعور حسن، غير أنه لا يحفظ أواره
1
طويلا.» وهو لعطله من علة النجاح الذي اتفق لأبيه فجعله مرهوبا ، عزا الناس وضعه الفاتر النافر إلى الكبرياء، وقد قيل سرا: إن جميع الوزراء يكرهونه، وإنهم لا يصبرون عليه إلا من أجل أبيه، وكان هربرت على وئام مع ولهلم أيام كان هذا أميرا، ولكن أصواتا كثيرة ارتفعت بعد ذلك لانتقاصه والافتراء عليه، فأشبع ذهن ولهلم المذبذب ضده، وتزيد البطانة ما كان من أثر فتدخل إلى الروع زعمها أنه يطمع أن يكون رئيسا للبلاط؛ أي أن يجعل سلطان آل الملك ومجدهم في خطر، ولا مكان في تلك البيئة لغير الرئاء، ولا يعيش أولئك الذين يبدون مثل تلك الملاحظة لولهلم الذي هو أذن
2
بغير الرئاء البعيد منه قلب بسمارك وقلب ابنه، وما كان نشاط هربرت سكرتيرا للدولة ليسفر عن غير ابتعاد الإمبراطور عن الابن والأب.
ولكن ولهلم كان مكارا، فلم يبد مقاصده في بدء الأمر، حتى إن سفير النمسة كتب يقول: «إن ذلك شهر عسل ينقضي بين الحب والتبجيل»، حتى إن بسمارك غر في البداءة فقال: «إن الإمبراطور بلغ من الشجاعة والاستقلال ما لا يتأثر معه بعوامل البلاط.» خلافا لآبائه، ولما ظل بسمارك في فردريكسروه ساهرا إلى الساعة الحادية عشرة ليلا، وليس في هذا ما يخالف عادته، ليرحب بولهلم ضيفا؛ شكر هذا العاهل الشاب للمستشار عنايته فلم ينهض إلى الساعة التاسعة صباحا مراعاة له، ولما زار ولهلم الشرق لم يستصحب بسمارك مكتفيا بالإبراق إليه مجاملة، ثم أخذ ولهلم يشكو إلى دوك بادن الأكبر إعطاء بسمارك الشيخ له دروسا محدثا إياه عن تجاريبه في الغالب، ولا بد من أن يكون ولهلم قد قال لدوك بادن الأكبر ما هو أشد من ذلك لما كان من تصريح هذا الدوك بأن الإمبراطور يمسك بسمارك وابنه في خدمته «في الوقت الحاضر».
وكانت سنة 1889 عصيبة، فقد قسم بسمارك فيها عنايته بين روسية والنمسة متبعا سياسته القديمة في حفظ التوازن، ويريد الإمبراطور سياسة أكثر ثباتا، ويود الإمبراطور أن يستبدل بهذا الأسلوب المعقد أسلوبا «أبسط» منه. وكان ولهلم - على العموم - كارها لروسية محبا للحرب، وكان بسمارك موائما لروسية ولو لسبب انتهاء أجل المعاهدة مع روسية في العام القادم، فيجب أن يعمل كل ما يؤدي إلى تجديد التأمين الذي تتوقف عليه سلامة الإمبراطورية.
ويأتي القيصر إلى برلين ضيفا فيعرب للمستشار عن ثقته به، بيد أنه يبدي فتورا نحو ابن خاله الإمبراطور، ويدعو ولهلم نفسه إلى الصيد في روسية فلا يستطيع إسكندر أن يرفض ذلك، ويودع ولهلم القيصر، ويرجو من بسمارك أن يركب معه في عربته قاصدا الحديث عن الأمور في وزارة الخارجية، وفي الطريق يذكر الإمبراطور عزمه على زيارة القيصر، ويقابل بسمارك هذا بالصمت، فيتبرم ولهلم ويقول مغاضبا: «أليس عندك كلمة تجاملني بها؟»
وتنم هذه العبارة البسيطة على عدم فهم ولهلم لكرامة مقامه ولأخلاق بسمارك، كما تنم على ما يرغب فيه هذا العاهل الشاب كثيرا، ولكن بسمارك الشيخ الحكيم العارف بنفور القيصر من مثل مزاج ولهلم؛ خشي زوال الصداقة غير القوية بين ألمانية وروسية إذا ذهب العاهلان إلى الصيد معا، فأشار بعدم القيام بتلك الزيارة المقترحة، وكيف لا يتحول العاهل الشاب إلى جمد إزاء ذلك؟ هو يشعر بأنه جرح في كرامته وفي كيانه، فينزل المستشار أمام منزله ويودعه وداعا جافيا وينطلق تاركا البحث في الأمور المقصودة.
وكانت تلك الركبة في العربة فاتحة التصدع، وما أشبه الأمر بخصام العاشقين عند رفض القبلة للمرة الأولى! ولسرعان ما تدخلت الضباع، ولا شيء أسهل من إثارة حفيظة العاهل، أفلم يكره بسمارك الشائب - عن خبث - إمبراطوره على الإغضاء عن لوم أبويه بشدة لما كان حديثا من نشر مذكرة ولي العهد فردريك عن الحرب بلا إذن؟ وكان بسمارك يهدف إلى تبديد الخرافة القائلة بوجود هوهنزلرني من الأحرار كما يستخرج من تلك الورقات، وذلك وصولا إلى عدم تمكن الديمقراطيين من الانتساب إلى الإمبراطور الراحل، ويرفع «أبناء العم العصاة» رءوسهم ثانية، ويسعون في القضاء على الائتلاف وتقويض سلطان بسمارك معه، ويسلك بسمارك سبيل النضال لأسباب حكومية كما صنع بعد سنة 1870، فيهاجم جريدة «كروززايتنغ» في جريدة «رايخسانزيجر»، ولا يرى بسمارك ما يراه لوسيوس من كون الكفاح اليوم أخطر مما في الماضي ، «فبسمارك لا يؤثر في العاهل الشاب بمثل تأثيره في العاهل الشائب».
ويسمع صريف
3
عال للآلة الألمانية عند العمل، فقد أضرب المعدنون، ويريد الإمبراطور أن يعالج هذا الإضراب معالجة مثالية على حين يرى المستشار مكافحته بالدم والحديد، وبهذا يثبت بسمارك سوء فهمه لمعنى الحركة الاشتراكية وما تنطوي عليه هذه الحركة من قسر، فيبدو مخطئا أمام محكمة التاريخ، ويهدف بسمارك إلى استغلال هذا الإضراب ضد الحمر ولمقاصد انتخابية كما استغل محاولة اغتيال الإمبراطور ولهلم الأول فيما مضى، وذلك إلى أن وصل الإمبراطور «فجأة صالا مهمازيه» إلى مجلس الوزراء المنعقد مصرحا بأن المستصنعين هم المذنبون، وبأنه أمر هؤلاء بأن يجزلوا أجور العمال، وإن لم يفعلوا ذلك استرد جنوده، وهكذا يخشى الإمبراطور الشاب الثورة فيرغب في منع حدوثها بالإصلاحات، وهكذا يبتغي المستشار الشائب تبين معشر الثوريين فيصرعهم بالنار، ويبدو الإمبراطور ومستشاره متفقين في الظاهر. ويتعذر تطبيق جميع أفكار الإمبراطور الحديثة الصحيحة مبدأ في آن واحد أو بتلك الطريقة، والإمبراطور قد اقتبسها من بعض ندمائه الذين يتملقونه مبينين أنه يقوم بدور ملك الصعاليك.
ومن هؤلاء الندماء نذكر معلمه هنزبتر الذي لم يطق إطراء بسمارك بما يكفي عند محادثته والذي لم يتحدث عنه حتى في مذكراته التي كتبها بعد حين، ومن أولئك الندماء نذكر دوغلاس الذي يضارب على أسهم التعدين والذي هو مثر مسل فلم يلبث أن صار كونتا. ومن أولئك الندماء نذكر فون هيدن الذي هو مصور مدير لشركات التعدين فيرسم عاملا شائبا من شرق برلين فيبديه نبيا ويجعل منه عنوانا لفاقة الفقير.
والآن يحدث ما لم يحدث سابقا في حياة بسمارك، فيقدر قوة الخصم دون الحقيقة، ويغالي في الاعتماد على مركزه الخاص، ويدع شرذمة من الندماء يصنعون وفق هواهم مع أنه أخذ على عاتقه مناهضة طبقة بأسرها، وإذا عدوت فترة قصيرة وجدته قد أقام بفردريكسروه فيما بين شهر مايو سنة 1889 وشهر يناير سنة 1890، ولم يحذر حتى ما كان في تلك الأشهر الثمانية من تحريض الإمبراطور إياه غير مرة على الاستراحة حيث هو إلى أن يسترد صحته، وقد لا يستطيع الزوج المسن الذي يتزوج زوجا فتاة أن يشترك في ألهياتها، ولكنه إذا كان حكيما قاسمها إياها جهد المستطيع، ومهما يكن الأمر فإننا نبصر هنا رجلا عميق العرفان بالناس يدع زوجه تتمتع حرة بمعاشرة شبان مرحين مغامرين عابدين لها غير مبصر سهولة إغوائهم لها، وما كان من اعتداد بسمارك بنفسه وازدرائه للناس فأخذ يقضي عليه بالعمى.
وكان لدى بسمارك ما يكفي لإنذاره مع ذلك؛ فما عليه إلا أن يطالع الصحف في فردريكسروه حتى يجد جميع الأحزاب ضده، وقد جاء في إحدى هذه الصحف: «أن ذلك شلل في الحياة العامة»، وجعلت جريدة «جرمانية» عنوان مقالة لها: «الآن يسير كل شيء ملتويا»، وتبصر جريدة كروززايتنغ مملوءة بالخبائث، وتبتهج صحف الأحرار بمناحي الإمبراطور الاجتماعية، ويداوم الاشتراكيون على مكافحة المستشار كما في كل وقت، ويباغت القيصر بسمارك بسؤاله عن عزمه على البقاء في منصبه، ويحذره بوتيشر من خطر استمرار غيابه فيقول له غير مكترث: «لا يجازف الإمبراطور بتسريحي بعد النظر إلى مقامي وسابق أيامي»، ومثله في هذا كمثل دانتون
4
الذي كان يقول عند تحذيره في كل مرة: «إنهم لا يجرءون!»
وما انفكت روح النقد تكون يقظى في بسمارك مع ذلك، فيذمر من تقلب الإمبراطور، «وعلى الوزراء أن ينتظروا غالبا لطويل زمن في أهم الشئون، ولا يلتفت إليهم كما يجب على الدوام» ويعد بسمارك بلاغا أصدره ولهلم لمصلحة صحيفة فولكزايتنغ أنه «استعداد موروث للجنون»، ولا عجب؛ فقد جاء في تقرير لسفير روسية في ذلك الحين أن الناس يتساءلون عن عقل الإمبراطور.
ولكن هنالك وعدا من الإمبراطور لبسمارك الشيخ، ولكن هنالك رمزا منه إلى الصدام، ولكن هنالك «كلبا أسود شنيعا كبير الرأس أرمص جاف الصدر غير أصيل»، وهذا الكلب هدية من الإمبراطور إليه، والآن يعيش هذا الكلب بجانب الأمير بسمارك الذي يقول: «ذلك ما يأتي من خادم ملك، فقد سلمت كلبي الجميل تيراس إلى حارس غابة الصيد ليعنى به متحفظا بهذا الدرواس، وكان يمكنني أن أسم هذا الحيوان لو لم يمنعني من ذلك ما أبصره في عينيه من إخلاص.»
وهكذا، ترى بسمارك شبه المبعد والقريب من التسريح تاركا مولاه في العاصمة بلا رقيب، وهكذا تراه منزويا في غابة فردريكسروه صابرا على صحبة ذلك الدرواس المرسل إليه من مولاه، وهكذا ترى رفيق أيامه و«أعز صاحب له في العالم» - تيراس - لا يحييه في الصباح خلافا لما كان عليه في السنين الماضية، وعلى حارس غابة الصيد أن يقيد تيراس بالسلاسل؛ خشية شروده وعوده إلى حيث يقتل الكلب الإمبراطوري، وإذا خرج بسمارك الشيخ للنزهة ماشيا أو راكبا رافقه هذا الكلب الغريب البشيع، وهو إذا ما جلس بجانب الموقد وضع هذا الدرواس رأسه الكبير على ركبتيه مطالبا بتدليله، وبسمارك يقول ساخرا: «ذلك ما يأتي من خادم ملك.» وبسمارك يصبر عليه مع ذلك.
ونكاد نشعر بأنه بلغ من الاعتزاز ما يعتقد معه تعذر تسريحه، وفي شهر ديسمبر يقول لرفيقة حياته: «يبدي الإمبراطور أقصى درجات الإجلال لي، وهو لم يجرؤ حتى الآن على معاكستي في أية مسألة سياسية، ولو كنت شابا قادرا على البقاء قريبا منه في كل وقت لاستطعت أن أجعله كخاتم إصبعي، ويمكن حل الريشتاغ ثلاث مرات متتابعات، ولكن على الرجل أن يكسر الجرار في نهاية الأمر، ولا يمكن حل مسائل كهذه المسألة الاجتماعية الديمقراطية من غير عماد دم، كما أنه لم يمكن حل المعضلة الألمانية بغير ذلك، وبما أن عاهلنا الشاب يعاف استعمال العنف ...» ولم يتم بسمارك هذه العبارة الأخيرة، ولكن صدرها يدل دلالة كافية على سوء إدراكه لولهلم.
الفصل الثالث
وفي نهاية الأمر - أي في 23 من يناير سنة 1890 - يستدعى بسمارك إلى برلين برقيا، وذلك لما يكون من عقد مجلس التاج في اليوم التالي حلا للمعضلة الاجتماعية، ويسافر بسمارك يوم الجمعة خلافا لعادته، ويصل إلى العاصمة تعبا، ويجمع مجلس الوزراء ويقترح انتظار ما يريده الإمبراطور، وهنالك ينهض بوتيشر، وبوتيشر هذا ظل نجيا لبسمارك صديقا لأسرته مدة عشر سنين فأصبح اليوم صاحب الحظوة لدى الإمبراطور من بين جميع الوزراء، ولم يرتب بسمارك منه إلا حديثا، ومن رأي بوتيشر أن على مجلس الوزراء أن يوجه الأمور وضعا لها في نصابها بعض الوضع، ومنذ وقت قصير كان بوتيشر قد ذكر لبسمارك موكدا أن الإمبراطور عازم عزما قاطعا على القيام بإصلاحات اجتماعية، وذلك حينما كان بوتيشر وبسمارك يتعاطيان الشراب في فردريكسروه، ولكن بوتيشر يكرر الأمر أمام زملائه في الساعة الراهنة، فيقع غير المنتظر، يقع ظهور الجميع موافقا على رأيه.
تلك ساعة هائلة لم يعرف بسمارك مثلها منذ خمس وعشرين سنة، فهو يبصر هجره من قبل زملائه الذين عرفوا اتباع غيره في الأشهر الثمانية الأخيرة، وهو يبصر كيف أهمل فرصه فيتصدى للوزراء غاضبا ويتوجع من سوء توجيه الأمور ويتكلم عن استقالته رجاء معارضته في ذلك فيقابل بالسكوت، ويفض الاجتماع «بين شعور عام بالتوتر»، ويذهب بسمارك إلى الإمبراطور الذي لم يره منذ ركبة العربة تلك، ويقول له هذا الرجل الشيخ والقطب السياسي: «إنني أود إلغاء القانون الراهن المضاد للاشتراكية؛ لاحتياجي إلى تدابير أقوى منه.» وهنالك يذعر الإمبراطور الشاب، ويجمع مجلس التاج ثانية، ويبدي الإمبراطور رغبته في سن قوانين لحماية العمال، ويقوم حلمه على اجتناب ثورة متوعدة، وعلى عقد مؤتمر، وعلى مخاطبة الشعب ب «أسلوب ملهم» في عيد ميلاده.
ويقول لوسيوس: «نتساءل - والحيرة ملء نفوسنا - عمن لقنه تلك الأفكار.» وكان الإمبراطور قد عين مشاوريه، وهم الثلاثة الذين ذكرناهم آنفا، ويطلب من بوتيشر أن يقرأ المذكرة، ويرجى من بسمارك أن يكون أول من يبدي رأيه، ويتظاهر بالهدوء فيشير بالتأجيل قائلا إن الإمبراطور إذا ما نفذ خطته كان لذلك أثر سيئ في الانتخابات لما يؤدي إليه من غم الملاك وتشجيع العمال، ويجيب الإمبراطور عن ذلك مع المجاملة بأنه يود قبل كل شيء جعل القانون المضاد للاشتراكية أقل شدة، ويضيف إلى ذلك قوله إن مشاوريه الشرعيين حملوه على سلوك هذه السبيل، وهنالك يقول بسمارك مزمجرا: «لا أستطيع أن أثبت أنه سيكون لسياسة جلالتكم القائمة على الإذعان نتائج جالبة للنوائب، ولكن ما اتفق لي من تجاريب في سنين كثيرة يجعلني أحس معتقدا وقوعها في المستقبل، والآن إذا ما خضعنا لم نسطع حل الريشتاغ فيما بعد، ووجب علينا أن نتوقع أحداثا أشد خطرا وصولا إلى ذلك، والقانون إذا ظل موقوفا أمكن أن يسفر ذلك عن اصطدام!»
الإمبراطور هائجا: «سأجتنب مثل تلك النكبات وسأحول دون غمر سنوات عهدي الأولى بالدماء ما لم تقض الضرورة القصوى بعكس ذلك.»
بسمارك :
يكون ذلك ذنب الثوريين، فلا تسوى الأمور بغير سفك دم، وإلا عد الأمر تسليما! وإني - لما لدي من خبرة في هذه الأمور - أشير بعكس ما تقترحون، وقد زادت سلطة الملك باطراد منذ تسلمي زمام الأمور، ولا يدل الارتداد الاختياري على غير الخطوة الأولى نحو نظام الحكم البرلماني الذي يكون خطرا في نهاية الأمر وإن لاءم الساعة العتيدة، ولا أدري هل أبقى في منصبي إذا لم تقبل جلالتكم نصيحتي.
الإمبراطور يقول لبوتيشر بصوت خافت: «يوجب ذلك توريطي.» وينم هذا التسار على توادهما ضد بسمارك.
وعندئذ يسأل الآخرون كلهم عن آرائهم، وهؤلاء جميعهم يشعرون بتقاطع قريب الوقوع، ولا يجرؤ أي واحد منهم أن يجهر بالانحياز إلى الإمبراطور مع ذلك، وهنا حيث يجب عليهم أن يختاروا أحد النجدين في وسط المبارزة، كان سلطان بسمارك من القوة ما يفرض عليهم انتحال وجهة نظره ظاهرا، بيد أنه يبصر الرعب بلا داع معقول في نظراتهم وملامحهم، فعاد لا يعتقد وجود نفوذ حقيقي له فيهم وإن لاح أنه رقيب عليهم شكلا.
وتشتد عزيمة زعماء المحافظين بأنباء ذلك الخصام، فيبدءون من الغد بمعارضة القانون المضاد للاشتراكيين والذي هو من وضع بسمارك مصوتين ضده مقوضين قبل الانتخابات ذلك الائتلاف الذي استند إليه بسمارك ثلاث سنين مجردين إياه من أكثريته، وفي اليوم نفسه يهز الإمبراطور جمع كفه أمام وزير الحربية متوعدا قائلا: «عدتم لا تكونون وزرائي، بل وزراء الأمير بسمارك! وقد بدوتم كأنكم ضربتم بالسوط! هو قد غرس كرسيه أمام بابي!» وفي اليوم نفسه يستلقي بسمارك فوق المتكأ محطما لابسا مبذله، فيقول لرئيس المستشارية الإمبراطورية: «أرى الإمبراطور متجافيا عني مصغيا إلى أناس كدوغلاس، وأرى زملائي قد هجروني»، وابنه بيل وحده هو الذي جرؤ على نصحه بالاستقالة، وبيل هذا قال لصديق له: «عاد والدي لا يعرف الضرب كما في الماضي.»
ذلك صواب؛ فالآن يبدأ دور التردد الذي يدوم حتى النهاية، الذي يدوم سبعة أسابيع، وإلى الآن كان يتعذر وقوع مثل هذا التردد؛ لما اتفق لبسمارك من عزم حديدي وذكاء مرن، ويلوح أن كل شيء يتوقف على الانتخابات التي يتمناها ويخشاها معا، ويجتمع في غد الاجتماع الموصوف آنفا بزملائه الحيارى الذين بدوا فيه لطفاء سمحاء، فيقول لهم: «تتقلب أهواء كل عاهل كتقلب الجو، وتظلون مبللين ولو اتقيتم بمظلة، وأبجل في الإمبراطور نسبه وكونه مولاي وإن كان يؤسفني وضعه، ولا يمكننا أن نغضي عن تأليف عصبة
1 ... ويبدو لي الاستسلام.» ويرى اعتزال وزارة التجارة، ويدع أحد مقربي الإمبراطور يحل محله، ويفوض إلى بوتيشر أن يضع مشروعا للمراسيم المرغوب فيها، وينبئ بأنه سيقتصر على وزارة الخارجية، وبأنه قد يكتفي بمستشارية الإمبراطورية، ويبدو تفاهم في عيد ميلاد الإمبراطور مع تبادل ولاء.
بيد أن الوضع يتوتر في شهر فبراير، فتكثر الدسائس، ويرى تغير في مزاج بسمارك الشيخ فيدع نفسه تسير مرة أخرى، ويحاول أن يؤثر في زملائه ضد المراسيم الاجتماعية، وينتحل بوتيشر وجه البلاطي فيذكر أن كل قرار سلبي يسيء الإمبراطور، فيعنفه بسمارك علنا بقوله: «أرى من الخيانة أن يبصر الوزراء المسئولون مولاهم يسلك طريقا خطرة على الدولة فلا يجهرون بمخالفتهم إياه، ولو كان عملنا مقتصرا على تنفيذ رغبة الإمبراطور لكفى ثمانية موظفين عاديين للقيام مقام الوزراء الحاليين.» وتهيأ المراسيم في نهاية الأمر، ويود بسمارك أن يجس في الاجتماع نبض الإمبراطور فيقول: «أخشى ألا أكون عقبة في طريقكم.» فيلزم الإمبراطور جانب الصمت من غير مناقضة، حتى إن هذا لم يكن عند بسمارك من القوة ما يعد به تلميحا كافيا.
وبسمارك يحاول عبثا أن يحمل زملاءه على الاحتجاج، ولما أعرب لهم عن عزمه على اعتزال بعض وظائفه كان السكوت جوابهم، ويقول بسمارك لابنه بعد ذلك: «تنفس جميعهم الصعداء؛ لما لاح من خلاصهم مني بعض الخلاص!»
ويرى بسمارك ما واثبهم من سرور خبيث فيروي أنه رأى ركوب متن العناد متحديا فأقلع عن عزمه على ترك بعض وظائفه، وبذلك يغضب الإمبراطور الذي كان قد سر بعزم بسمارك على ذلك، وهنالك تقع مباراة بين هذين الخصمين، ويرى أيهما يقصر في العدو، وكلاهما يشعر بتعذر دوام الأمر على ذلك المنوال، وكل منهما يريد إلقاء تبعة التصدع على الآخر، ولا يغامر الإمبراطور في تسريح بسمارك، ولا يريد بسمارك الانصراف إلا بصرفه، ويفضل أن يبقى حيث هو لما يرى في استعفائه مختارا ما يرتاح له الإمبراطور، وهكذا يتباغض الرجلان بين البقاء والانتقال، وهكذا يشابه وضعهما وضع الزوجين عند تفكك عقدة زواجهما ورغبة أحدهما في الانفصال وخشية الآخر من الانفصال مع عدم إقدام أي واحد منهما على اتخاذ خطوة حاسمة في الأمر.
ولا ينشد بسمارك إيماء لطيفا ولا تعظيما رفيعا، وإنما يود الكفاح لما فطر عليه من عناد، وهو إذ أبصر تعذر النصر في هذه المرة صار لا يبحث عن سوى هزيمة خصمه أدبيا، ويملأ بغضا وغيرة فيتمسك حتى بأصغر حقوقه، ومن ذلك أن ثار غضبا عندما أصدر أمين السر الثاني بتوقيعه دعوة إلى مستشار في مجلس الدولة بدلا من عرضها عليه ليمضيها، ويرقب ما يسير عليه خصومه من طرق ملتوية، ويبصر وجود مكايد حيث لا تحاك مكايد، ويعد فيكتورية مصدر وحي هنزبتر فيقول: «إن هنزبتر مسدس تعبئه فيكتورية التي هي أقدر شخص، فتستعمله للتأثير في الإمبراطور.» وهو في الوقت نفسه يتذلل بما لا عهد له به فيزور فيكتورية ويقول لها شاكيا إنه عاد غير ملائم للوقت منتظرا عبثا ردها ذلك عليه، وما كان جوابه عند سؤالها إياه عما يمكنها أن تصنعه له إلا قوله: «لا أرغب في غير قليل عطف!» ولو كان ما نعرفه من تاريخ ذلك الدور سوى هذه الكلمة لقلنا إنه شيخ خطف من فمه خبز الحياة!
والواقعي الصنديد بسمارك كان في ذلك الوقت قادرا على التفكير في الأمر بأسره مع ذلك، وبسمارك في شهر فبراير وضع مشروع تقاعده، ويفضي إلى جميع السفراء بحقائق البلد عالما أنهم يسجلونها فيما يرسلونه من التقارير إلى البلاط، وإلى الإمبراطور الذي لم ييأس من استمالته، ويقول بسمارك لسفير سكسونية: «والخلاصة هي أن الإمبراطور يسأل أحد ضباط الفرسان عن رأيه في حل المعضلة الاجتماعية ثم يريد فرض رأي هذا الضابط علي، وهو يتلهف على الهتاف له قلبا وقالبا، ولكنه ليس ذا حظوة عند الطبقات الموسرة لتبنيه قضية طبقات العمال، وأبصر قرب الوقت الذي لا يعتمد فيه على الجيش أيضا فيبدو مصير ألمانية واضحا لكل ذي عينين.» وهكذا ترى ذهنه يترجح بين الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة في تلك الأسابيع المترنحة.
والقول الفصل للانتخابات، وبينما كانت الحامية مذعورة من رب الحرب فتسير صاخبة إلى ميدان تنبلهوفر كانت كتائب العمال تمشي صامتة إلى صناديق الانتخابات، واليوم تنتقم لنفسها من عنف عشرة أعوام، واليوم تتحقق نبوءة ليبكنخت الحديثة، وهي: «وماذا اكتسبتم بعد أحد عشر عاما؟ اعترف كل إنسان في مؤتمر باريس بأن الديمقراطية الاجتماعية الألمانية أقوى منظمات العالم وأحسنها، أردتم خنقنا، ولكنكم أوجبتم تقويتنا، وما هي ألمانية بغير عمالها، ألا إن العالم عرف فكرة جديدة، ألا إن العالم عرف ثورة جديدة، فإذا أردتم مقاومة روح الوقت وقعت الواقعة لا محالة!»
واليوم يبلغ الحزب الاشتراكي الديمقراطي من الشأن ثلاثة أضعاف ما كان عليه، واليوم يبلغ عدد الأصوات الحمر مليونا ونصف مليون من سبعة ملايين، واليوم يبلغ عدد الأصوات ضد بسمارك أربعة ملايين ونصف مليون.
ومن الصحيح أن يعتقد بسمارك أن مراسيم الإمبراطور المشوشة أعانت - بعض الشيء - على ذلك السقوط الانتخابي، ومن الخطأ زعمه أن نتائج الانتخابات تكون كما كانت عليه منذ ثلاث سنين لولا تلك المراسيم، ولم يزل أمله؛ فقد أبصر تجدد الكفاح، ويزول ضعفه، ويشمر عن ساعده لما رآه من خطر يحيط بالدولة، ويصقل سلاحه، ويقوم سلاحه هذا على إنقاذ الوضع بتشديد أحكام القانون المضاد للاشتراكية وتقوية الجيش، ويقول للإمبراطور: «سيكون حل المجلس مرة أو مرتين أمرا ضروريا، وندعو أمراء الريخ إلى برلين عند الاقتضاء، ونضيق نطاق التصويت العام، وهنالك تضيق الجماهير بالإضرابات والانتخابات ذرعا فلا ترتاح لهما، وقد تشتعل بعض الفتن، فيكون لنا بذلك من الفرص ما يصفى به الحساب مع الديمقراطية الاشتراكية، والنجاح لا يزال ممكنا، ولا يزال عندي من القوة والثقة ما أقوم معه بذلك، وسيتعذر ذلك بعد حين، فلا إذعان!»
وعلى ذلك الوجه يتكلم المكافح القديم، والآن كما كان منذ ثلاثين سنة يود أن يقضي على روح الوقت، وليس الإمبراطور الشاب أكثر صداقة للشعب من بسمارك، ولكنه «وهو كاره لاستعمال القوة»، يجيب عن ذلك بقوله: «إنك تبدي من النصائح ما يستحيل على عاهل شاب أن يرضى به!»
بسمارك :
لا بد لنا ولكم من إنزال الضربات، وعاجلها خير من آجلها! ولن تستطيعوا أن تقضوا على الاشتراكية الديمقراطية بسياسة الإصلاح، وسيأتي يوم تكرهون فيه على سحقها بالبنادق.
وهكذا يسير بسمارك بالأمور إلى أقصى الحدود، وهكذا يبلغ من الثقة بنفسه ما يقدم معه استقالته عند وقوع العكس جاعلا الأمور بذلك سهلة على الإمبراطور، بيد أن ولهلم يحلم بالألوف الثمانين من الجنود الإضافية التي وعده المستشار بالفوز بها من الريشتاغ، فتناول يد المستشار وردد كلمته الآتية ترديدا روائيا وهي: «لا إذعان!»
ويتقوى بسمارك بهذا النجاح فيصل إلى مجلس الوزراء في الغد حاملا شعورا من الزهو مضاعفا قائلا: «إن الإمبراطور مستعد للنضال، فأستطيع أن أظل بجانبه!» وينظر إليه سامعوه صامتين مشغولي البال، ويعتز بسمارك فيقبض على زمام الأمور بإحكام ويعزم على إبعاد زملائه من الإمبراطور مذكرا إياهم بأمر وزاري قديم قاض بمنع الوزراء من الاتصال المباشر بالملك.
ويأتي هذا التذكير بعد الأوان، فمنذ طويل زمن تضافر كل من الوزراء والندماء ورؤساء الجيش وزعماء المحافظين ضد بسمارك، ومنذ طويل زمن ألقى جميع هؤلاء في روع الإمبراطور كون بسمارك مسئولا عن الخيبة في الانتخابات، ويترك ولهلم كل فكرة كفاح بغتة فيقول في إحدى الولائم متوعدا: «سأسحق كل من يعوق عملي!» وهذا الوعيد هو صورة حرفية عما كان الأمير قد كتبه إلى بسمارك قبل ذلك بزمن طويل، ويرتفع نجم بوتيشر، ويشكوه بسمارك إلى الإمبراطور، فلم يتمالك الإمبراطور أن أنعم عليه في المساء نفسه بوسام النسر الأسود الذي كان قد أنعم على بسمارك بمثله بعد حل معضلة شليسويغ هولشتاين، ولما سمع بسمارك بهذا النبأ ردد قول شيلر في رواية فالنشتاين: «لقد وجدت سبيلك يا أوكتافيو!»
والآن لا يبالي بغير نيل أكثرية جديدة في الريشتاغ، وتبدأ الصخرة القديمة للسلطة الملكية بالارتجاج تحت رجليه، ويبحث حوله عن أساس ثابت جديد، شأن الملاح الذي لا يزال يتشبث بالصخرة التي سيتحطم عليها.
الفصل الرابع
يلوح لبسمارك أن آخر ما يتمسك به من وسيلة هو أن ينال أكثرية في الريشتاغ وأن يطيب خاطر الإمبراطور وأن يقابل غضبه بما لهذا البرلمان الذي ازدري طويلا من سلطان وهمي، فبالأكثرية يستطيع أن يعطي الإمبراطور ثمانين ألف جندي، وهو على صواب في اعتقاده أن أحدا غيره لا يستطيع أن يصنع ذلك، أفلم يرد «أبناء العم» المعارضون أن يسلموه إلى الوسط مخادعين؟ أفلم تحك المكايد حوله قبل الانتخابات بأشهر مع فيندهورست إسقاطا له؟ وماذا عليك لو تلافى ذلك؟ وليبرز العدو والمؤتمن من الجحيم! ويمكن اليهود واليسوعيين أن يتفقوا، ويحدث بليشرودر، ويوعز إلى فيندهورست بأن يعطي إشارات التفاهم، وتبدو المفاجأة، ثم يعقد اجتماع ويناقش في الأمور كما في غابر الأيام.
وهنالك يجلس فيندهورست قليلا، وهو يستطيع للمرة الأولى منذ عشر سنوات أن يصوغ مطاليبه ثانية، وكان من الممكن أن ينال فيما مضى، ولكن المستشار وجد الثمن غاليا في ذلك الحين، واليوم يلم ببسمارك احتياج ملح، ولا بد من قبول الشروط، ويطالب فيندهورست بإلغاء أشد البنود في القانون المضاد لليسوعيين، ويطالب بتعليم النصرانية في المدارس الابتدائية، ويجادل في المسائل ويناقش فيه مدة طويلة، ويظهر بسمارك علائم التعب ويتكلم عن ضعف صحته، ويعلم فيندهورست خيرا من سواه أن بسمارك - وإن أساء استعمال هذه العبارة ثلاثين سنة - قد تكون عبارته هذه صحيحة في الوقت الحاضر، ويذعر فيندهورست الكاثوليكي من ارتفاع السيل الأحمر، ويرى أنه لا يقدر على عوق تقدمه غير ذلك الساحر الشائب.
وهكذا يوصل إلى النتيجة الغريبة القائلة إن فيندهورست يضرع إلى بسمارك أن يبقى في منصبه! ووجه الغرابة هو أن كل واحد منهما كان - منذ عشر سنوات أو تزيد - يتمنى موت الآخر أو اعتزاله، فلما أصبح اعتزال بسمارك قريب الوقوع طلب إليه فيندهورست أن يظل فوق السرج، ويبقى الأمر معلقا عندما انصرف فيندهورست، ولكن هذا الكاثوليكي قال لصديق له في ذلك المساء: «تراني آتيا من لدن رجل عظيم على سرير موته السياسي.»
والرجل العظيم يود الحياة مع ذلك، والآن يدعو إليه زعيم المحافظين ليعلم مطاليب هذا الحزب، ولكن «أبناء العم» البارونات المالكين، يحتشدون، فيعرفون في ساعات قليلة آخر مشاريع بسمارك، وهم يرصون صفوفهم مرة أخرى ضد هذا الفرع الشرير لدوحتهم، وهم يرفضون أن يحققوا معه، أو تحت إشرافه، ائتلافا فكروا في صنعه بغيره وخلافا له، وهم يرفضون بغلظة أن يأتوا إليه، وهم يبلغون إلى فيندهورست أسباب رفضهم في اليوم التالي طمعا في أن يعرف الإمبراطور رسميا ما هو الشرط الوحيد الذي يعين به العرش أركانه، وفي الوقت نفسه يذهب الكونت لنبرغ ستيرم إلى بوتيشر ويضع نفسه تحت تصرفه ليكون واسطة اتصال بين الحزب والحكومة، وهو يضيف إلى ذلك قوله: «عادت مفاوضة الأمير بسمارك غير ممكنة.»
وعلى المجاهد القديم أن يواجه الآن رءوس السعالي،
1
واليوم يرفع رءوسهم ضده - للانتقام - جميع من ازدراهم في الماضي، واليوم يقتله أبناء طبقته الخاصة أدبيا بدلا من الالتفاف حوله والمحافظة عليه، واليوم يقهر الطاغية عشيرته الأقربون، واليوم يطعن في فؤاده، وليس هذا عمل بطل يا أوكتافيو! وفيما كنت ترى الجميع يهجرون بسمارك كنت لا ترى بجانبه غير عدوه القديم - غير حزب الوسط - وتنتقم ألمانية منه؛ لجبروته، وتنتقم ألمانية من عظمته.
وهكذا تشدب الأيدي الحازمة جميع غصون شجرة البلوط القديمة الهائلة في آن واحد، ولا ترى الآن من يسقط رأس الشجرة الذاوي خدعا لحارس الغابة الجافي!
ولم يبق على حارس الغابة الإمبراطور الشاب غير عمل سهل يقوم به، ويقوي الإمبراطور قلبه فيقرأ مقالات جميع الصحف، ويجتمع بجميع الوزراء والندماء فيرى ما يساورهم من حقد وضيق بسبب المستشار، ويتشجع الإمبراطور في نهاية الأمر ويقنع نفسه بألا يصبر على حزب الوسط، ولا على زعيمه على الخصوص، ويجرؤ أخيرا على اتخاذ خطوة حاسمة، وينبئ المستشار بزيارته له، ولا تفتح الرسالة في تلك الليلة مصادفة، وينادى بسمارك قبيل الساعة التاسعة من الصباح التالي للاجتماع بمولاه الذي جاء في وقت غير مقرر ومن غير سابق تنبيه.
ويبصر ولهلم حل ساعته الكبرى، ويظل واقفا في أثناء الحديث كله فيضطر بسمارك إلى بقائه قائما مع ما يشعر به من تعب في الصباح الباكر على الدوام، ويسأله الإمبراطور بعد كلمات قليلة تمهيدية عن عدم رده فيندهورست، ومن الواقع أن كان الإمبراطور قد أمر الشرطة منذ أسابيع بأن تراقب المستشارية مراقبة وثيقة كما لو كان يصنع فيها نقد زائف، فصار الإمبراطور يعرف جيدا من يزورون المستشار، ثم قال الإمبراطور إن على المستشار أن يستشيره قبل الاجتماع بأناس من ذوي الشأن كفيندهورست.
وهنالك يتميز بسمارك غيظا، وهنالك يبدو عنيفا لاذعا، وهنالك يوضح للعاهل واجبات رئيس الوزراء وحدود حقوق الملك التي لا يمكنه أن يجاوزها، وهنالك يذكر شين ما يوده الإمبراطور من رقابة، وهنالك يصرح بأنه لا يخضع لمثل هذه الرقابة ولا يأذن فيها.
الإمبراطور :
حتى لو أمرك مولاك بذلك؟
بسمارك :
حتى لو أمرت بذلك يا صاحب الجلالة!
ولم يسبق أن سمع بسمارك الذي «شاهد ثلاثة ملوك» كلمة «أمر» تخرج من فم أي واحد من سادته هؤلاء وإن لم تزل تستعمل في المراسيم تبعا للعادة القديمة، حتى إن المليك الأول كان قد قال للسفير الشونهاوزني الشاب بسمارك إنه لا «يأمره» بالذهاب إلى فينة، بل «يطلب منه» أن يفعل ذلك.
ويدل أشد كتب ولهلم الأول المرسلة إلى وزيره في ست وعشرين سنة اشتمالا على الغضب على تقيد في اللهجة جدير بالذكر، وكان هذا القيد الأكبر غير المكتوب هو الشرط الضمني الذي وافق به على الخدمة ذلك الذي خلق للقيادة، وهو إذا ما أنب زال ولاؤه، ولا تكون إلا متعذرة خدمة بسمارك إذا اختلفت صلته بمليكه تحت أزهار الولاء عما يكون عادة بين رجلين شريفين متساويين مرتبة، والآن ينهار البناء بأسره أمام تلك المسألة ذات الصرير فلا يبدو سوى شريف أمام شريف. ويسفر ما حدث في تلك الساعة الهائلة من توتر عن فقد ولهلم لشجاعته التي أعدها بعناية وعن عدم ضبط بسمارك لنفسه عدة دقائق.
وفيما كان الإمبراطور يتمتم معتذرا ويقول إنه قصد الرغائب لا الأوامر وإن المستشار لا يمكن أن يكون قاصدا إحداث شغب في الشعب؛ صاح بسمارك غاضبا قائلا: «هو كذا! ولا بد من وقوع مثل تلك الاضطرابات في بلد لا يعرف أحد فيه ماذا يهدف إليه الإمبراطور بسياسته!»
ويرتعب الإمبراطور الشاب، وهو لم يتعود الكفاح مقابلة على ذلك الوجه، ولكنه يظل هادئا أكثر من ذلك القطب السياسي الشائب في بدء الأمر، ويتكلم عن إنقاص طلب زيادة الجيش حتى يمكن الاتفاق مع الريشتاغ الجديد طامعا أن يثير هذا الاقتراح غضب ذلك المكافح الشيخ فيقدم استقالته، ولكن بسمارك يسترد رباطة جأشه ويبصر نصب شرك له فيصرح بأنه يستقيل إذا رغب الإمبراطور في ذلك. وهكذا، يحاول كل من الرجلين إلقاء التبعة على عاتق الآخر، وتكاد عواصف ذلك الكفاح الأخير حول السلطان تضطرب بلا صوت تحت سطح تلك المحاورة المستحرة، والآن يبدأ الإمبراطور قوله: «عاد وزرائي لا يقدمون إلي أي تقرير شفوي، وقد قيل لي إنكم منعتموهم من ذلك بغير موافقتكم مستندين في ذلك إلى أنظمة مهملة منسية.»
ويبدي بسمارك اعتدال دم فيوضح له أنه عمل وفق نظام صادر سنة 1852 قائل إنه يحق للملك بعد أن يناقش رئيس الوزارة في الأمور أن ينحاز دوما إلى الوزير المختص ضد رئيس الوزارة، فيقضي بذلك. ويقول بسمارك إن هذا النظام ضروري لا ينبغي إلغاؤه.
وهل سدت جميع الطرق المؤدية إلى السلطان إذن؟ يحاول الإمبراطور أن يهاجم من جهة ثالثة، فيدنو من الرجل الشائب منتحلا لهجة ولي عهد قائلا إنه يلتمس أن يشرك بأكثر من قبل في إدارة الأمور وأن يذاكره المستشار قبل تقرير الشئون المهمة، وهل معرفة الإمبراطور قليلة بالرجل الذي هو أمامه؟ يرفض بسمارك بغلظة عمل أي شيء من ذلك، معتمدا على نصوص الدستور، ويتكلم عن صلاته بولهلم الأول ويقول باختصار: «وجب أن تكون قراراتي معدة عندما أجيء إلى جلالتكم.»
صخر تحت سطح البحر، ولا ميناء أمين! السلطان قبضته، ولا يفرط في ذرة منه! أنت تظل ظل عاهل إذا ما ساس وسيطر!
والآن لم يقنع الشيخ بدحض مطاليب مولاه الشديد الشكيمة، بل يود أن يذل الإمبراطور، بل يريد أن ينتقم من هذا الذي أساء إليه في الأيام الأخيرة، بل يبغي أن يرمي قلب عدوه العاهل بسهم!
بسمارك في سنة 1894.
ترى على المائدة هنالك محفظة، وليس عليه إلا أن يفتحها، وهي تمثل علبة بندورا،
2
وبسمارك بلا مناسبة يحول الحديث إلى مسألة زيارة الإمبراطور المقترحة لقيصر روسية، ويخرج ورقة من تلك المحفظة وينظر إليها وهو يقول: «لدي أسباب وجيهة ضد مثل هذه الرحلة؛ فقد وصل تقرير من لندن في هذه الأيام قال السفير فيه إن القيصر أبدى ملاحظات غير سارة حول جلالتكم في أثناء حديث خاص.» ويمسك بسمارك الورقة بهدوء كما لو كان ممثلا، ويعض الإمبراطور على شفتيه، وهل يذعر؟
الإمبراطور: «تفضل بتلاوتها علي!»
هنالك يبدو ميفيستوفل جزوعا فيقول: «محال! لم تبد تلك الملاحظات لتكرر!» وهنالك يهز بسمارك الورقة بيده هز إغراء، وهنالك يرتعش الإمبراطور ولا يود أن يظهر ضعفا، فيقول: «أعطني إياها!» وهنالك يختطفها الإمبراطور ويقرؤها فيحمر ويصفر وينصرف صامتا، فقد أبصر - فيما أبصر - أن القيصر يقول عنه «إنه مجنون، إنه غلام غير مهذب!» وقد شعر بأن بسمارك ساطه
3
بأشد مما فعل القيصر، وبسمارك عامله في بدء الأمر كما يعامل الأستاذ تلميذه ثم شتمه، وهل يستطيع بعد تلك الإهانة أن يمد إليه يده؟ إنه مدها إليه متكلفا حينما ولى ظهره ذاهبا حاملا خوذته بيده اليمنى، ويسرع في النزول من الدرج وفي مغادرة ذلك المنزل وفي ركوب عربته، ويهرع راجعا إلى أخلائه، ويسير بسمارك الشائب وراءه متئدا وينحني عند عتبة باب داره.
ولا مثيل لما فعله بسمارك في تلك الساعة، وإن هذا العاصي الذي هزأ بالنبلاء والأمراء عن خبث منذ خمسين سنة يعود اليوم إلى سابق سيرته ليعاقب العاهل، وقد بلغ من الحذق في تمثيل دوره ما عبر معه عن رأيه في ولهلم على لسان شخص ثالث، وما كتم معه حكمه الذي هو حكم القيصر في ولهلم حتى اختطفه منه هذا الإمبراطور، وما كان ليستطيع عدم تسليم الورقة عندما خطفها الإمبراطور منه! ولم كان ولهلم من الغباوة ما اختطفها معه حين تحذيره؟ «يمكن الرجل أن يكون أشقر الشعر أزرق العينين فيخطئ كالقرطجي!»
الفصل الخامس
ترى في اليوم التالي رجلين شائبين في غرفة ذات نور غبش يرتبان أوراقا، وترى أحدهما يخرج غلفا من الخزائن والمحافظ، وترى الآخر يقرأ العناوين ويجمعها أكداسا أكداسا، والرجلان هما بسمارك وبوش، ويقول بسمارك لصاحبه: «سأكتب مذكراتي، وستساعدني على ذلك، فسأستقيل، وأستعد لوضع متاعي في عيابي،
1
ولا بد من إرسال أوراقي في الحال، وذلك حذر حجزها إذا ما بقيت هنا وقتا آخر ... والحكاية هي أمر ثلاثة أيام، أو ثلاثة أسابيع على ما يحتمل، ثم أنصرف لا محالة؛ فالوضع أصبح لا يطاق، ولكنني لا أعرف كيف أخرج هذه الأوراق بأمان، وقد ترسل إلى بيتكم، ولكن كيف؟»
بوش :
يمكنني أن آخذها رزما صغيرة يا صاحب السمو ثم أسلمها إلى هيهن.
بسمارك :
ومن هو هيهن؟
بوش :
هو رجل يوثق به.
بسمارك :
يمكنني أن أرسلها إلى شونهاوزن ثم تذهب فتحضرها من هنالك، ولا تتوان في استنساخ أهمها، ثم احفظ النسخ إلى إشعار آخر، وهذه هي رسائلي إلى الإمبراطور ولهلم، وهذه هي رسالة التوصية التي أخذتها من فردريك ولهلم حينما ذهبت إلى فينة، قل لي ما هو عمرك؟
بوش :
تسع وستون سنة؟
بسمارك :
وي، يمكنني أن أتمتع بحياة الريف حتى الثمانين من عمري.
ويمضي يومان فيأتي بوش بالنسخ، فيقول له بسمارك: «أعدها معك، لا؛ فالرأي ألا يفعل هذا، وماذا يحدث لو رأوك تجيء وتخرج حاملا غلفا كبيرة، تعال وانظر إلى هنا، فهذه هي أقوم طريقة.» ويضعان الأوراق في صندوق بين بعض الخرائط حيث لا يلاحظها أحد - كما يظهر.
وهكذا يغادر بسمارك ذلك البيت الذي سيطر منه على البلاد، وهكذا يغادر بسمارك ذلك البيت الذي شاد منه إمبراطورية، وهكذا يغادر بسمارك ذلك البيت كأنه مؤتمر يتعقبه أعداؤه فيود أن ينجو ظافرا بكنزه الأخير؛ أي بأوراقه التي سينتفع بها في منفاه والتي سيتخذها سلاحا ضد أعدائه، ولا تجد في الديوان، الذي ظل رئيسا له زمنا طويلا، شخصا واحدا يستطيع أن يعتمده فيودعه ما هو خاص به! وهل من مأمن بعيد من العيون؟ هنالك يفكر في شونهاوزن لما لا تلوح له فردريكسروه مكانا أمينا، ومن ثم ترى كيف يذكر اسم مسقط رأسه للمرة الأولى بعد سنوات كثيرة، ويستدعي صحافيا؛ أي رجلا كان يمكنه أن ينتزع منه نبأ في الحين بعد الحين (لأن بوش كان ذا نفوذ كاف يستطيع به أن يؤذي بسمارك)، ويمر هذان الشيخان تلك الغلف التي لا تقدر بثمن ذهابا وإيابا، ويخيل إلى بوش أن تلك الوثائق مما يفيده إذا كتب مذكراته الخاصة، ومن المحتمل أن يذكر بسمارك مصير أرنيم الذي حكم عليه - بتحريض منه - بالسجن مع الأشغال الشاقة؛ لأنه رفض إعادة بعض أوراق الدولة.
وفيما كان ذلك العمل السري يسير إذ يحضر جنرال بهي، إذ يحضر رئيس الغرفة العسكرية، فيقول إنه مرسل من الإمبراطور ليسأل كيف يمكن إلغاء النظام الوزاري الذي سنه المرحوم الملك فردريك ولهلم الرابع في سنة 1852؟ فيجيب بسمارك بغلظة قائلا إن ذلك النظام سيظل نافذا قاصدا حمل الملك على عزله.
ويصل الكونت بولس شوالوف في اليوم التالي، ويأتي من سان بطرسبرغ مفوضا تفويضا تاما في تجديد المعاهدة الروسية لست سنوات بدلا من ثلاث سنوات، وهذا ما سعى إليه بسمارك منذ سنة، وسينتهي حكم المعاهدة في شهر يونيو، وتتوقف سلامة الإمبراطورية على راحة بالها من ناحية الشرق، وكان الإمبراطور الشاب قد وافق على ذلك التجديد، وكان القيصر على علم تام بضمن الأمر، فكتب على هامش إحدى وثائق الدولة يقول: «ومن أجل بسمارك ينطوي اتفاقنا الودي على ضمان بعدم وجود أي تفاهم مكتوب بيننا وبين فرنسة، وهذا ما يهم ألمانية إلى الغاية.» والآن يهز بسمارك كتفيه، ويقول للرسول الروسي المذعور إن ما أشيع من خبر قرب اعتزاله صحيح، وإنه يمكنه أن يسوي الأمر مع خلفه المجهول، وهنا نبصر أولى نتائج سقوط بسمارك وأخطرها، فقد تبودلت البرقيات مع سان بطرسبرغ وصارت روسية غير مطمئنة إلى سياسة ألمانية بعد أن أصبح تسريح ذلك القطب السياسي الممتاز قاب قوسين أو أدنى، ويرفض القيصر تجديد المعاهدة.
وفي ذلك الصباح، وفور معاهدة شوالوف للمستشارية، يعود الجنرال هنكه حاملا طلبا حاسما من الإمبراطور قائلا بوجوب إلغاء النظام الوزاري القديم، ويصعب على الجنرال أن يملك صوته وهو يقول: «وإلا فإن صاحب الجلالة ينتظر أن تقدموا إليه استقالتكم في الحال وأن تقابلوه شخصيا في القصر في الساعة الثانية بعد الظهر ليقبل الاستقالة.» «العالم ينهار!» هذا ما قاله الكردينال في الفاتيكان بعد معركة كونيغراتز، وما كانت هذه الكلمة لتدور في خلد بسمارك طرفة عين، وسيقول ما يفكر فيه حول المسألة بعد قليل، والآن يجيب عن ذلك هادئا: «لست من حسن الصحة ما أغادر معه المنزل، وسأكتب.» ويخيل إلى هنكه أن بسمارك ثوري بين سحابة حمراء وينصرف، ولما يمض قليل وقت حتى أخذ الأمير بسمارك من الإمبراطور مذكرة غير مختومة جاء فيها: «تدل تقارير قناصل ألمانية في روسية دلالة واضحة على أن الروس يقومون بحركات عسكرية استعدادا لمحاربتنا، فمن المؤسف جدا ألا تكون هذه التقارير قد بلغت إلي، وكان يجب عليكم أن توجهوا نظري إلى هذا الخطر الهائل الذي يهددنا! وقد أنى لنا أن نحذر النمسويين ونتخذ ما يجب من تدابير الدفاع ... ولهلم.»
والواقع أن هذه التهمة مختلفة، فليس في الأفق مثل ذلك الخطر، وإنما الحافز إلى تلك المذكرة هو الحرص على الانتقام الشخصي تجاه ذلك الخزي القاتل الذي أصاب بسمارك به ولهلم بذلك التقرير عما قاله قيصر روسية فروته سفارة لندن، ولا شيء يلائم بسمارك أكثر من كتاب القذف ذلك الذي أرسل إليه بلا غلاف ولا عنوان، وأول شيء يجب عليه أن يكتبه هو أن يرد عنه «تهمة الخيانة العظمى»، ويأبى الإمبراطور قبول الجواب، ويعيده بلا تعليق، وبسمارك الآن في وضع يعزو فيه سقوطه إلى أسباب سياسة عالمية لم يعارضه في ميدانها أي حزب حتى الآن.
وبسمارك بعد الظهر من ذلك النهار يشرح لمجلس الوزراء كيف نشأ الخصام، وبسمارك يختم كلامه العظيم بقوله: «وعلى ما كان من ثقتي بالتحالف الثلاثي لم يغب عن بالي إمكان حبوطه ذات يوم؛ وذلك لأن النظام الملكي في إيطالية غير ثابت الأساس، ولتهديد حزب الشمال الإيطالي ما بين إيطالية والنمسة من صلة؛ ولذا لم أدخر وسعا في عدم هدم الجسر بيننا وبين روسية ... وإني لما يمازجني من ثقة بمقاصد القيصر الودية لا أستطيع أن أعمل بما يود أن يوجهني به صاحب الجلالة في هذا المضمار، وأما قوانين حماية العمال فلا تستحق أن يجعل منها مشكلة وزارية، وإذا كنت لا أستطيع أن أدير دفة السياسة الخارجية كما أود انصرفت، وهذا يلائم رغائب الإمبراطور.» ويوكد بسمارك حسن صحته وقدرته على العمل، ويصرح بأن العامل الوحيد في اعتزاله هو إرادة عاهل يريد أن يتسلم زمام الحكومة بيده.
ويتوقف بسمارك مرة أخرى، وهل يدركون معنى فقد بسمارك وزيرا للخارجية؟ وهل يعربون بالإجماع عن عزمهم عن الاستقالة مؤثرين في الإمبراطور بذلك؟ وهم إذا فعلوا ذلك يكونون قد حذروا مولاهم الشاب من المستقبل، ويكونون قد أتوا عملا يستحق الذكر في التاريخ، ولكنك لم تسمع غير تمتمات، ومايباخ وحده هو الذي نطق بكلمته المهمة: «سيكون اعتزال المستشار كارثة قومية، وعلينا أن نحول دون اعتزاله، ولننصرف معه جميعا، وهذا الذي سأفعله مهما كان الأمر.» ويسير الجدال سيرا وديا ذات ساعة، ويفض الاجتماع مع الاحتجاج على اعتزال بسمارك، فلما حل المساء اجتمع زملاء بسمارك مرة أخرى، «وعدلوا عن فكرة الاستقالة الشاملة لمخالفتها تقاليد بروسية».
وبسمارك بعد تلك الجلسة يأمر بشد حصانه ويخرج من المنزل راكبا وإن لم يكن من عادته في مثل ذلك الحين من حياته وفي مثل ذلك الفصل من السنة؛ أن يأتي مثل ذلك العمل ، وهو قد صنع ذلك؛ لكي يري الإمبراطور مقدار الصحة في قوله له بواسطة هنكه: «لست حسن الصحة ...» ولكي يعجم عود أهل برلين - على ما يحتمل - ولكن لم يهتف له أحد، ولما عاد بسمارك إلى البيت وجد جوبيتر
2
قد أرسل إليه رسولا آخر في غيابه، وقد عاد إليه رئيس الديوان المدني لوكانوس في المساء، ويبدو هذا الرسول زاويا ما بين عينيه جزعا، وتقوم رسالته على سؤاله بأمر صاحب الجلالة عن سبب عدم تقديمه استقالته بعد، وهل يضرب بسمارك المائدة بجمع كفه الآن؟ كلا، وإنما يجيب عن ذلك بأدب: «يمكن الإمبراطور أن يعزلني متى أراد ... وإني مستعد أن أضع التوقيع الثاني من فوري على مرسوم عزلي، ولكنني أحمل الإمبراطور مسئولية تسريحي، وسأنشر الأسباب على الجمهور؛ ليدرك الحقيقة. ولا بد لي من وقت أسوغ به استقالتي أمام محكمة التاريخ بعد جهاد ثمان وعشرين سنة لم يخل من فائدة لبروسية وللريخ.» ثم عقب ذلك حديث كاد يفقد فيه رباطة جأشه، ويملي بعد ذلك صيغة استقالته ويصححها ويهذبها في الصباح التالي ويرسلها إلى القصر، وفي تلك الوثيقة يبين أوجه العراك الرئيسة ويختمها بكلمة المعلم الآتية:
إنني بعد النظر إلى إخلاصي في خدمة البيت المالك وخدمة جلالتكم وبعد النظر إلى الوجه الذي لاءمت به وضعا اعتقدت دوامه حتى الآن، وجدت من المؤلم جدا أن أترك علاقتي المعتادة بجلالتكم وبسياسة الريخ وبروسية العامة، ولكنني بعد أن رزت بدقة مقاصد جلالتكم التي لا بد لي من تنفيذها إذا بقيت في منصبي، رأيت أنه لا معدل لي عن الالتماس من جلالتكم خاشعا أن تتفضلوا علي بقبول استقالتي من منصب مستشار الريخ ومنصب وزير الخارجية مع منحي راتب التقاعد القانوني، وإني بعد النظر إلى ما كان من انطباعات في الأسابيع الأخيرة القليلة أجد مع الاحترام أن تقديم هذه الاستقالة يناسب رغائب جلالتكم وأرى أنها تقابل بالموافقة الكريمة، وكان يمكنني أن أقدم استعفائي منذ زمن طويل إلى جلالتكم لو لم أعتقد رغبتكم في الانتفاع بخبرة خادم آبائكم المخلص، والآن حين يساورني يقين بأنه لا حاجة لجلالتكم بذلك، يمكنني اعتزال الحياة السياسية غير خائف من حكم الرأي العام بأن ذلك وقع قبل الأوان.
فون بسمارك
وعلى ما أبداه بسمارك من احتجاج كثير أنعم عليه الإمبراطور عند اعتزاله بلقب دوك لوينبرغ؛ أي بشرف أراد الإمبراطور فردريك أن يمنحه إياه فوفق في رفضه آنئذ، ولكن المستشار المعتزل استطاع بعد جهد كبير أن يتخلص من منحة مشبها إياها بالمكافأة التي تعطى لذوي الجد من موظفي البريد عند اعتزالهم الخدمة، ويود الإمبراطور أن يعتقد الجمهور كون اعتزال المستشار بسمارك منصبه نشأ عن عوامل صحية ممسكا عن إرسال نص كتاب الاستقالة إلى الصحف مقتصرا على ما وجهه إلى بسمارك من عبارات الشكر لخدمه السابقة، مصيبا نجاحا في أعين الشعب على هذا الوجه في بدء الأمر، ويحاول الإمبراطور في الوقت نفسه أن يحتفظ بهربرت في الخدمة، فيطلب من بسمارك أن يستعمل نفوذه لدى ابنه هذا في الأمر، غير أن بسمارك يجيب عن ذلك على طريقة فالنشتاين بقوله: «إن ابني بلغ سن الرشد.» وبسمارك يسر إلى بعض خلصائه بأن الحافز إلى ذلك هو رغبته في عدم الإذعان للإمبراطور، وبسمارك يقول «ومن يشعر بغرق السفينة لا يدع ولده فيها.»
وتشتد فجيعة هربرت في ذلك الحين، وهربرت لو خلف أباه بعد موته منصبا وكان موضع حظوة لدى الإمبراطور لاستطاع أن يبدو رجلا سياسيا ذا قيمة، والآن على هربرت أن يقاسم أباه نصيبه في الانزواء فينصرف، والآن يود هربرت فعل ذلك لمشابهته أباه في الشعور بالشرف، وهربرت يخبر الإمبراطور في ذلك المساء بما اتخذته روسية من قرار في رفض تجديد المعاهدة، ومن ينعم النظر في فحوى هذا النبأ يجده من إملاء الأب الشائب؛ فقد جاء فيه: «في الأمس علم الكونت شوالوف أن جلالتكم لا تتردد في تسريح الأمير بسمارك، فلم يتمالك القيصر إسكندر أن قرر الامتناع عن تجديد المعاهدة السرية ما دام يرى المناقشة في أمر سري كهذا متعذرة مع مستشار الريخ الجديد.» ويكتب ولهلم في أعلى تلك الرسالة كلمة: «أوافق على تجديد المعاهدة.» كما يكتب في أسفلها كلمة: «لماذا؟» ويأتي هربرت بإيضاح أوفى من ذلك، ويأتي تعليق آخر مع تكرار كلمة «لماذا؟»
ولا شيء كهذا الاستفهام المكرر يدل على عدم معرفة ولهلم درجة ما لاسم بسمارك من النفوذ في أوروبة، والآن يذعر ولهلم، فيرسل من يوقظ شوالوف في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل راجيا أن يقابله في الساعة الثامنة صباحا، وفي هذه المقابلة يوكد ولهلم لشوالوف أنه يود تجديد المعاهدة، وهنالك يفعل شوالوف كل ما يستطيعه تنفيذا لآخر ما رغب فيه بسمارك ونيلا لتفويض من القيصر في تجديد المعاهدة مع تغير الوضع.
وفي تلك الأثناء يقرأ الإمبراطور الصحف فيجد أن جميع الأحزاب وجميع طبقات الأمة تستحسن ما تم؛ «فالأمة هادئة مع وجد، ولكن الأمة تنظر غير وجلة إلى انصراف ذلك الرجل القوي من الوضع الذي عاق به تقدم البلاد الداخلي، وستذكر الأمة يوم 18 من مارس سنة 1890 من الأيام التي يفكر فيها مع السرور»، ولم يعلق مجلس النواب البروسي أي تعليق على البلاغ الرسمي باعتزال بسمارك، ويعم الفرح رجال البلاط وقواد الجيش لانصرافه.
ويروي هوهنلوهه عن أحد الجنرالات أنه «كان من المرح كالرجل الساذج المثلوج
3
الفؤاد الذي لا يستطيع الآن أن يعبر عما في نفسه حرا طليقا، فشعور طرب كهذا كان عاما، وعلى ما كان من شمول نفوذ الأمير كان يمازح الناس حس الضغط وحس التكمش، فأصبحوا من الانتفاخ ما يشابهون به الإسفنج الجاف بعد أن كان مغموسا في الماء.» ولم تتنفس الأمة الصعداء بمثل ذلك منذ قرن، منذ موت فردريك الأكبر.
وفي تلك الأيام لم يعرف أحد في ألمانية تقرير مصير البلاد من قبل ثلاثة رجال، وإن شئت فقل من قبل رجل واحد في الحقيقة، ولما زود القيصر شوالوف بسلطات تامة وجد شوالوف هذا بعد تسريح بسمارك بخمسة أيام تغيرا في الأحوال الروحية، وأراد بسمارك صيانة المعاهدة من دسائس برلين فاقترح بواسطة ابنه أن توقع في سان بطرسبرغ، وأراد هربرت إحضار المعاهدة من بين المحفوظات السرية فلم يجدها لما سبق من نقل هولشتاين إياها من مكانها، ويثور سكرتير الدولة هربرت ويعزر المسجل ثم البارون، ويقول: «كان يمكنكم أن تجتنبوا هذه الغباوة! يظهر أنكم تعدونني رجلا ميتا قبل الأوان!» ويراه هولشتاين رجلا خطرا، وما الذي يحفز هذا البارون كثيرا إلى تهييج جميع الناس ضد روسية؟ «ولا ينتظر خير من المعاهدة، وهي لو أذيعت لعزينا إلى النفاق، ولو نفذت المعاهدة لوقع صيتنا ومقامنا الاجتماعي تحت رحمة روسية، ومن مصلحة روسية أن يشيع أمرها لما يؤدي إليه أقل شك فينا من ابتعاد العالم عنا، ثم يمكن روسية أن تملي علينا صلاتنا في المستقبل، والشرط الأول هو: «أنني أريد الاشتراك مع عميلي السابق ب... ومعه فقط»، والآن أتعرفون ما هو الوضع؟»
والحق أن هذه الإفادات الظرفية غير صادقة، فكما أن بسمارك أطلع الكونت شوالوف على معاهدته الدفاعية الأولى ضد روسية كان مستعدا في كل وقت لإطلاع النمسة على المعاهدة الثانية، وإنما الذي منعه من صنع هذا هو ما أبداه القيصر من رغبة في الكتمان، ومما يتعذر إدراكه على رجل له ما للقزم من طبيعة كهولشتاين وشركائه هو إمكان الجمع بين الشجاعة والحيلة، وهؤلاء الناس الذين لا يزيد ذكاؤهم على ما لدى المتغطرس هم من المتلبسين بالفضيلة والمنتحلين للصراحة، وإذا سألت عن هولشتاين وجدته ذا حقد مقنع وعزة مكلومة، ووجدته يهدف إلى جعل عودة بسمارك إلى السلطان أمرا مستحيلا، وهو الذي ما انفك يحوك الدسائس هو وفالدرسي ضد بسمارك منذ سنين.
وينم خلفاء بسمارك على عجز في المناصب التي تسلموها، فقد كتب ماريشال يقول: «إن رجلا عظيما كبسمارك يمكنه أن يستعين في عمله بأعقد الآلات، ولكن رجلا عاديا مثلي يعجز عن صنع ذلك.» ويجتنب كابريفي سلفه عند مغادرة هذا للقصر، ولما أخذ بسمارك يدعوه إلى العشاء بعد حين لم يلب الدعوة غير مرة قائلا إنه لا يستطيع أن يسمع مثلما سمع عن مولاه في المرة الأولى.
ثم يواثب القلق بسمارك فيسأل كابريفي عن المعاهدة الروسية في أثناء تنزه في حديقة المستشارية، فيجيب هذا الجنرال عن ذلك بقوله: «يمكن رجلا مثلكم أن يلعب بخمسة كرات دفعة واحدة على حين يكتفي الآخرون باللعب بكرة واحدة أو كرتين.» ويجتمع المستشارون، ويوجههم هولشتاين، ويصرحون بأن ما تشتمل عليه هذه المعاهدة من فوائد هو لروسية، ويقولون إنها تشجع روسية على إثارة أزمة في الشرق، فتنقض فرنسة على ألمانية آنئذ!
وهكذا ترى إزالة ركن من أسس عمل بسمارك في ثلاثة أيام نتيجة لتلك الحجج الواهية التي تنم على قصر بصر، ونتيجة لحقد ودس فيهتز جميع البنيان، وهولشتاين فضلا عن ذلك يؤثر في أناس من ذوي القدر بكلام يخرج من فيه، ثم يؤثر كابريفي فيما يأتي به هولشتاين من تلقين قاصدا أن يجيء بشيء جديد يحمل به مولاه الشاب على الإعراض عن القيصر البغيض، ويسر الإمبراطور بأنه وجد أخيرا ناصحا بدلا من الثعلب الخطر «يعمل بهدوء وصراحة ووضوح ومع اجتناب للمخاطر الدبلمية»، ويشعر ولهلم بأنه يسير سيرا مستقيما كالبروسي الحقيقي في قديم الأزمان، وينبئ هولشتاين في نهاية المقابلة بأن الإمبراطور قال: «والآن يجب أن يسدل ستار على المسألة، وأراني آسفا على قول هذا.»
كلمات قليلة يسهل النطق بها في حجرة صغيرة من ذلك القصر الذي ولد فيه ذلك الإمبراطور الشاب منذ ثلاثين سنة، كلمات قليلة يمليها الميل والحقد والحسد والطموح والحمى والفزع والهلع والهوى ونسيج مستعص من الفتون كان عدم شعور العاهل به أقل من سواه، كلمات قليلة لم يسطع أحد أن يبصرها غير ذلك البصير الذي عاد لا يسأل عن رأيه، كلمات قليلة تزلزل سلامة الإمبراطورية الألمانية، كلمات قليلة تسفر عن التحالف الفرنسي الروسي.
وبسمارك في الأيام الأخيرة التي يقضيها في برلين يزيد ثبات خلق، وبسمارك لا يكظم غيظه، ولكن ضربا من المكر كان يحول دون تبرمه فيهدف إلى إظهار نفسه رجل العالم، وهو لا يبدي شيئا لزملائه العدائيين، وهو يقول لبوتيشر الذي قبل يديه مودعا: «إنكم مسئولون جزئيا عن هذا الفراق.» ويقيم مأدبة وداع خيالية للوزراء في الغرف الخالية التي أنى له أن يغادرها فلم يصافح بوتيشر عند وصوله مزدريا مع أنه هو الداعي ومع اشتهاره بمراعاة الرسميات في مثل هذه الأمور، ويعرض عليه زملاؤه إقامة وليمة له فيرفض ذلك بصوت ثابت: «لم أر بين موظفي الإمبراطورية غير وجوه باسمة، وهذا إلى أنني عدت الآن غير مستشار بما اقترفتموه من ذنب.» وفي تلك الأحايين تساور فؤاد ذلك الوثني مشاعر الحقد والانتقام، وليس هذا من الخسة، بل هو زئير أسد جريح.
ومن يزره يأخذ رشاشا من الصحة، ومن ذلك أن جاءه سفير النمسة بكتاب ودي رقيق من الإمبراطور فرنسوا جوزيف، وفي هذا الكتاب إشارة إلى أن استقالة بسمارك كانت لانحراف صحته، فيرد المستشار السابق هذا السبب مناقضا بذلك ما ذكره الإمبراطور ولهلم مصدرا للأمر، مبينا أنه كان يتمتع بصحة جيدة جدا حين استقالته، ومن ذلك أن جعل السلطان يعلم بواسطة سفير تركية أنه عزل من منصبه عزلا، ومن ذلك أن قال لسفير بافارية إن الإمبراطور لا قلب له وأن وصف له ولهلم بالرجل الذي «سيدمر الإمبراطورية» وقد ذهب مودعا إلى السفارات الأجنبية فمحى بالقلم الرصاصي كلمة «مستشار الإمبراطورية» من البطاقات التي تركها فيها، وقد تكلم عن وضعه الجديد فقال: «يسرني أن يخاطبني الناس باسم بسمارك، فإذا حدث أن استعملت لقب دوك كان ذلك عند سياحتي متنكرا.» وقد اتهم دوك بادن الأكبر مواجهة بحوك الدسائس حتى تركه هذا الأخير مغاضبا.
ويذهب بسمارك لتوديع الإمبراطور شكلا، فلا يدع مسئولية ولهلم في عزله تمر مقنعة، ولما تظاهر الإمبراطور بالسؤال عن صحته مع الاكتراث قاطعه بغلظة قائلا: «إن صحتي جيدة يا صاحب الجلالة.» ولكنه لم يستطع أن يجعل ولهلم يوافق على نشر كتاب استقالته، ويعود إلى المنزل فيقول: «إن أمورا نفسية استحوذت علي» في تلك الزيارة، وفي الوقت نفسه يضطر بسمارك إلى رزم ثلاثمائة صندوق وثلاثة عشر ألف زجاجة خمر على عجل فيؤدي هذا إلى انكسار أدوات ثمينة؛ وذلك لأن خلفه كان قد تسلم عمله، ولأنه أمهل يوما واحدا كما روى، وتموت أوغوستا، وتحاول عدوته الأخرى فيكتورية أن تشمله بكل مجاملة بعد فوزها العظيم.
ويزور بسمارك التربة الملكية قبل رحيله نهائيا، وينتحل وضع شاعر فيضع ثلاث وردات على ضريح مولاه الشائب، ثم يتناول القربان في منزله، ويريد القسيس أن يعظ بآية «أحب أعداءك»، فتنهض حنة التي نظمت تلك الحفلة وتسكت القسيس المذعور. ثم تمدد بسمارك على متكأ فلخص السنين العشرين التي قضاها في هذا البيت كما يأتي: «لقد أمتعت نفسي بأمور كثيرة، وأنا الآن في الخامس والسبعين من عمري، ولا تزال زوجتي معي ولم أفقد أحدا من أولادي، فهذه من النعم الكبرى، وكنت أعتقد دوما أنني أموت في منصبي، والآن ليس لدي ما أصنعه، وكنت أقوم بشئون الخدمة مترجحا بين المرض والصحة مدة ثمان وعشرين سنة فأستقبل بريدا وأرسل بريدا في كل يوم، والآن قد انتهى ذلك، ولا أعرف ماذا يجب علي أن أعمل، وأجدني مع ذلك أحسن مما أنا عليه في أي وقت مضى.»
وهنالك العامل الفاجع في الوضع، فعمل الشيخ اليومي هو الذي نزع منه، وبسمارك في تلك الليلة لم يتكلم عن الخطط ولا عن الريخ الذي أوجده فيشعر اليوم بأنه في خطر، بل يتكلم عن بريده اليومي، وهكذا تكون آخر يد يصافحها هي اليد التي لم يحدث أن مسها قبل اليوم مع تناوله مواده منها في كل يوم منذ عشرين سنة، هي يد لفرستروم المعروف بالفارس الأسود وببريد بسمارك، لا يد وزير أو يد سفير أو يد أمير، ويتجلد لفرستروم بعد أن يدعى قبل انصراف الأمير بثلاث ساعات فيقابل من فوره، ويظهر أن هذا هو الوداع الوحيد الذي فقد فيه المستشار السابق رباطة جأشه هنيهة عند النهاية.
ويدخل لفرستروم فتتوارد ذكريات اليوم الأول من الإمبراطورية إلى خاطر بسمارك، ويفكر بسمارك في أيام فرساي حينما نظر إلى ذلك الرجل للمرة الأولى فعينه في وظيفته الحاضرة، ويسأله بسمارك عن بقائه محبا لعمله، ويقول: «لا أزال أذكر الغرفة التي قدمت إلي فيها تقريرك الرسمي الأول حينما كنت قائد عشرة.» ثم يشكر بسمارك له صدق خدمته في تلك السنوات الكثيرة، أي يبدي له من الشكر ما لم يبد مثله لأحد من رجال الإمبراطورية، ثم يقدم إليه ما هو بدع لديه من هدية، ويتناول بسمارك أول كأس تقع تحت يده من الكئوس الفضية الكثيرة ويسلمها إليه «لتكون شاهدة على عرفاني الجميل ولكيلا تنساني».
الفصل السادس
وقف بسمارك في مدرسة القرية بفارزين، وأشار إلى المواقع في الخريطة، ويوضح للصبيان كيف صنعت ألمانية وكيف كانت فيما مضى، ويضع لأحد الأولاد سؤالا، ويغضب لأنه لم ينل جوابا، ويرتجف المعلم قليلا بجانب بسمارك؛ حذر أن يسأله أيضا.
وفي أثناء تلك الأشهر الأولى، وبعد خدمة الدولة أربعين عاما، يحاول المبعد أن يستأنف حياة شريف في الريف، فيستدعي الخول
1
والمستصنعين والنواطير والرعيان، وفي كل أسبوع يزور المدرسة ليعلم صبيان قريته ببوميرانية ما لا يريد أن يتعلمه أبناء برلين منه، ويضجر ضجر الشريد أينما كان فيكتب إلى صديق له قوله: «وددت في شبابي أن أتمثل نفسي في مشيبي خليا متمايلا حاملا مبضع تطعيم بيدي.» أفلم يكن هذا مبتغاه منذ عشرين سنة أو تزيد؟ وعليه أن يتعلم ذلك، والآن يشعر مع عسر سجيته بأن «المحطة الحاضرة هي أقل ملاءمة من كل محطة تقدمتها».
وبسمارك - مع الزمن - يعود غير مكترث للتطعيم ولا للصبيان ولا للنواطير ولا لمصنع الورق، وبسمارك على ما لديه من وقت فراغ ومن عطل من الأشاغيل الرسمية، وبسمارك مع بلوغه ما ابتغاه منذ طويل زمن؛ لا يصبر على تخصيص نفسه لإدارة أملاكه الواسعة وثروته الكبيرة، حتى إنه إذا ما قرأ لم يبال بغير ما يلائم مصيره، وهو يتبين من مذكرات نابليون خياله الخاص، وكتاب الانقلاب لزولا هو كل ما يعنى به من كتب هذا الكاتب، وعنده أن يوليوس قيصر «يمكنه أن يكون كثير الملاءمة لزماننا، وبروتوس هو من الأحرار الوطنيين».
وتتمتع حنة بحياة هدوء، وتشعر بالربو
2
وكثير من الأوصاب في الغالب، وترغب عن الذهاب إلى الينابيع المعدنية لكيلا تترك رفيقها وحده، وهي إذا ما دار الحديث حول عزله - وهذا ما يقع كثيرا - التهبت غضبا وأخذت تسب، وما خطب هربرت؟ لقد لزم جانب أبيه الشائب ، ويبلغ الأربعين من عمره ويبقى عزيبا، ويفقد خدمته، ويكره الزراعة، ويجهل أمور الفلاحة، ويملأ مرارة باطنية، وينغص والده عليه عيشه للمرة الثانية، ويعن لأبيه أن من الممكن أن يروق ابنه منصب سفير، بيد أن الأب والابن لم يلبثا أن أبصرا عسر ذلك، ويرى بسمارك دنوه من الثمانين مع عدم وجود ذرية له من الذكور ومع شدة شعوره الأسري، فهربرت أعزب، وبيل ليس له من الولد سوى البنات، ويتكلم بسمارك عن إحدى بنات بيل، فيقول: «يا ليتني أعرف الرذيل الذي يتزوجها فتبذر معه نقودي ذات يوم!»
وتهن العظام منه، أجل، لا يزال حسن السمع والأسنان والهضم، ولا يحتاج إلى نظارات قوية، غير أنه إذا أراد الركوب وضعت له مرقاة ورفع السائس ساقه اليمنى؛ تسهيلا لاستوائه على ظهر فرسه، ولا يطيق حتى اليوم من يبدو فوقه، ولا يزال كما كان طالبا يناجز من يلوح التماعهم أكثر منه، وهو يقول لبارون طويل كلوح الخشب فيعيره فروة قصيرة: «حقا إنني لا أحب أن يكون ضيوفي أطول مني.»
وفي سنيه العشر الأخيرة يصبح بسمارك حاد الطبع أكثر من قبل: «فأنا مجموعة أعصاب، وكان ضبط النفس أصعب الأمور في حياتي»، وهذا ما أجاب به عن سؤال مصور ألوان: هل هو المستشار الحديدي حقا؟ والذي عرف تأثير حاله النفسية في حاله البدنية أحسن من سواه هو الكاتب الخيالي فيلبراند، فلما زاره أبصره من الباب مستلقيا وحده على متكأ، «فوجده غارقا في تأملاته، ووجد وجهه الأحمر ضاربا إلى صفرة، ووجد ملامحه مسطرة متكرشة، وكان يلوح أنه جالس بين الأنقاض مفكر في السنة التي كانت شاهدة على سقوطه وفي كنود الحياة، ولكنه ينهض ويقبل علي بقامته الطويلة وقورا ... ويعود إليه شبابه في ذلك الوقت القصير، ويقف نظري ما ينم عليه بصره الثاقب من صموت وترقب وتفرس وتأمل عميق فيما يقع تحت عينيه وما يدور في خلده».
وأظهر ما يوصف به بسمارك في تلك الأيام هو ما عند المفكر من نظر بعيد؛ وذلك لتواري الأمور في الوقت العتيد وراء مدى الرؤية، وكما نزع السلاح من يد هذا الولوع بالكفاح، وكما عاد دماغه لا يكون مركز الوحي السريع كالبرق فيحركه عزم قاطع؛ منعت عيناه من ألوف الجمل المكتوبة التي كان يمكنه أن ينقب بهما فيها، فيختار ما يطيب له منها، وإن هذا الرجل الذي كان يصبو في أثناء نشاطه على الدوام إلى الإقامة مرة أخرى بغابات فتائه الهادئة؛ يألم الآن من احتماله هذه الحياة التي كان يحلم بها.
والحق أن المبعد يشعر بأنه يعيش في صحراء، ويعيش مبغض الناس الكبير هذا وحيدا، وكان يشكو من فتح باب مكتبه دوما مدة ثلاثين سنة فصار الآن يئن من عدم فتح إنسان لبابه مرة واحدة في كل أسبوع تقريبا، وبسمارك يقول: «لدي صحف، لا أناس، ولي ملايين من الأصدقاء، ولا أكاد أجد صديقا.» ويصفه فرنسي بعد سقوطه بقوله: «إنه يرتجف من فوره في بعض الأحيان، ويقول - كما لو أفاق من حلم: أنسى عطلي من عمل أقوم به.» ويراه رجل من حرسه القديم، فيقول إن الأمير «محتاج إلى من يصغي إليه.»
ويأتي كيزرلنغ الذي هو آخر من بقي حيا من أصدقاء بسمارك والذي لم يدعه بسمارك مرة واحدة في السنوات العشر الأخيرة من سلطانه إلى زيارة المبعد، ثم يذهب إلى همبرغ ليقيم بها ويعود إلى فردريكسروه فيبقى فيها يوما واحدا - أو يومين - وتكتب إليه حنة في همبرغ، فترجو منه أن يطيل إقامته بفردريكسروه وتقول له: «إنك تقوم بأحسن ما يعمل لنا نحن البائسين الذين فقدوا كل إيمان بأي إنسان كان تقريبا، ونحن الذين ترونهم شديدي الثقة بمودتكم المحببة، ونحن الذين ينعشهم حبهم الشامل الذي يرتبطون به فيكم، أبرقوا بأنكم آتون فتسرون صديقكم القديم.» وتكتب حنة بالأسلوب البياتي المسرف، وتخادع حنة نفسها كما حاولت صنع ذلك، ولكننا نبصر من خلال الأسطر حقيقة وحدتهم القاسية.
والمقاطعة شديدة، ولم يقصده في البداءة سوى نفر قليل من الأجانب للاستطلاع في الغالب، ومن هؤلاء الأجانب نذكر أمريكيا من ملوك الخطوط الحديدية لم يره بسمارك من قبل ، فلما وصل هذا الأمريكي أخذ ينفض غبار السفر عن نفسه فسمع صوت خطا مضيفه الثقيلة صاعدا في الدرج، ويدخل المضيف ويجلس بجانب الأجنبي الذي كان يعنى بزينته، ويقول له: «إنكم أول شخص أبصره في هذا الأسبوع لما هو واقع من مقاطعتي التامة، ولا يرغب أحد في الاتصال بي؛ فالناس يخشون أن تذكر أسماؤهم في الصحف زائرين لي، فلا يروق ذلك عاهلنا الشاب الجالس على العرش، ومن الناس من يجاوز فردريكسروه في كل يوم من غير أن يراني مع أن الناس منذ شهر كانوا لا يمرون علي في شوارع برلين بلا تحية؛ فالكلاب تتبع من يطعمها.»
وغير قليل عدد الرجال الذين يذكرون تقبيل بسمارك إياهم عند انصرافهم، وليس هؤلاء فقط من الشبان الذين يشعر الشيب بحب لهم، غير أن مشاعر عوام بوميرانية أطيب من مشاعر ذوي البصائر من أهل برلين، وقد قال فلاح في فارزين للخولي: «دعوه يأتي إلى هنا؛ فهو يستطيع أن يعتمد علينا!»
ولم يلبث كيزرلنغ وبوشر أن توفيا بعد اعتزال بسمارك، ويحزن عليهما لخلوهما من الأثرة ولصداقتهما الخالصة، وفي الحين بعد الحين تزوره السيدة فون سبيتزنبرغ وحسناء من صواحب الأملاك المجاورة، ويرحب بلنباخ وشويننجر لما عندهما من أحاديث مسلية لبسمارك، لا لمواهبهما، وذلك ما يعرفه مكس ليبرمان فيرفض دعوة إلى فردريكسروه مع أنه المتفنن الوحيد الذي استطاع أن يرسم لبسمارك صورة رائعة في ذلك الدور، ولكنك إذا عدوت زوج بسمارك وأخته وأبناءه لم تجد في العالم من يأبه بسمارك لحياته، حتى إن أخلص خدمه ماتوا فلم يحل محلهم أحد، حتى إن تيراس الثاني مات حينما كان سيده في الثمانين من سنيه، فعزم هذا السيد على عدم اقتناء أي كلب آخر درءا لألم الدفن عنه.
وهكذا يهجر بسمارك الكلاب في نهاية الأمر بعد أن هجره الرجال.
الفصل السابع
يستخرج المنفي حياة جديدة من حقده، والحقد أشد المشاعر لدى هذا المبعد، وإذا كان العالم ينتقم من رجل عبده، فإن هذا ما صنعته ألمانية عند سقوط بسمارك، وأمواج الحقد تعود إلى الشاطئ الذي سالت منه ، وكان أبناء طبقته ومرتبته؛ أي أكابر الموظفين والأشراف والأمراء، أكثر الناس صفاقة مخزية كما دل عليه سلوكهم.
وإذا حدث في عيد أو احتفال عام أن أريد الإبراق إلى فردريكسروه منع مدير المنطقة ذلك معتذرا بأن ذلك يؤدي إلى فقده وظيفته، ولا أحد من زملاء بسمارك سابقا يجرؤ على زيارته، وينوي فالدرسي الذهاب إلى همبرغ فيسأل برلين أن تأذن له في زيارته، والمرة الوحيدة التي قرأ فيها الأمير بسمارك إمضاء كابريفي في أسفل وثيقة هي المرة التي طالبت فيها الحكومة الإمبراطورية هذا الرجل الذي خدم بروسية والإمبراطورية مدة أربعين سنة بأن يعيد الراتب الذي أخذه عما بين اليوم العشرين واليوم الحادي والثلاثين من شهر مارس سنة 1890 مستندة في ذلك إلى أن اسمه في ذلك الحين كان مسجلا في جدول المتقاعدين، وفي الوقت نفسه جعل كابريفي هذا سفراءه يبلغون جميع الحكومات الأجنبية رسميا بألا تعلق أدنى أهمية على آراء الأمير بسمارك.
ويصرح أحد زعماء حزب الوسط أمام الناس بأنه: «لا ينبغي للأمير بسمارك أن يكون ذا نصيب في عظمة ألمانية ومجدها! فمن العار علينا أن يحتوي وطننا أناسا من طرازه!» ويمنع سيبل من الوثائق الضرورية لإتمام تاريخه؛ وذلك لتمجيده في ذلك الأثر بسمارك أكثر من تمجيده ولهلم، وإذا استثنيت كاردورف وآخرين قليلين رأيت أكابر الأشراف ببرلين قد اتفقوا - بعد نقاش شامل - على الابتعاد عنه بعد سقوطه، فيقول إنه يجتنب كما تجتنب الهيضة
1
في همبرغ، «والنذالة حرفة رابحة، وماذا أقول عن وغد كأوغوست دونهوف يدور في الطريق؛ لكيلا يلاقي هربرت!»
ويعزر دوك بادن الأكبر رئيس بلدية هذه المدينة؛ لأن مجلسها أراد منح بسمارك لقب متوطن شرف، وتصرح الإمبراطورة فردريك لهوهنلوهه بأن بسمارك مدين في فوزه لمولاه المسن، ويجد فرنسوا جوزيف أن من «الفواجع إمكان سقوط مثل هذا الرجل بهذا المقدار»، ويراقب الإمبراطور فردريكسروه، ولا يتفلت من عيون جواسيسه سوى الزوار الذين ينزلون على استحياء إلى محطة بوشن ليتموا رحلتهم إليه في قطار محلي غير مراقب.
ويأمر ولهلم بفتح الرسائل والكتب التي ترسل إلى الأمير بواسطة البريد، ولا يدعوه ولهلم إلى حفلات تسليم الأوسمة مع أنه حامل لرتبة فارس النسر الأسود، ويقول ولهلم لفرنسي إنه لا ينوي «أن ينال من الدوك بقوة محكمة الإمبراطورية العليا ما لا يود أن يمنحني إياه طيب النفس»، وولهلم وحده هو الذي يستعمل نحوه لقب دوك الذي أنعم به عليه، ولا تجد غير ولي أمر واحد يأسف على سقوط المستشار بسمارك الذي هو أكثر سواس أوروبة دهاء، غير ليون الثالث عشر الذي كان أشد الناس عداوة لبسمارك فيقول: أفتقد بسمارك.
ومن بين الذين عملوا مساعدين له نذكر ذلك الذي كان خصما له سابقا فصار أكثر الناس ولاء له، نذكر شلوزر: الرجل الوحيد الذي جلب العزل إلى نفسه لجهره بتأييد رئيسه السابق، والآن تكون ثلاثون سنة قد مرت على احترابهما بسان بطرسبرغ في سبيل شرفهما، والآن حينما جردت الحكومة الجديدة شلوزر من منصبه المهم لدى الفاتيكان يزور فردريكسروه «لينقل خبر تسريحه»، وكان شلوزر في السبعين من عمره، وكان من شدة العناية بالأمير بسمارك ما يبدو معه مثل ولد له، فيأتي إليه بأحسن مقعد ويرقب غليونه، ويبدي له بذلك قيمة الصلح الحقيقي مرة أخرى.
وإذا جرؤ إنسان على الصراخ في ساشنفالد رجع الصدى إليها، ويهزأ الشيخ بجميع من يسقطون ولا يستثني منهم أحدا، ويعدد خطايا خلفه، ويقول عن كابريفي ساخرا: «إنه جنرال فاضل.» ويقول عن ميكل: «إنه أحسن خطيب ألماني، فصوغ العبارات هو آية زماننا.» وهو يرقب سقوط فالدرسي وكابريفي وبوتيشر مسرورا، وإذا أردنا تمثل وضعه تجاه المجتمع البرليني الذي أبعده وجب علينا أن نبصره رئيسا لوليمة عندما يرفع نظارته القديمة ذات الإطار الذهبي ليرى المدعوين بها فيسأل بصوت خافت: «ما هو اسم ذلك البادني الدبلمي الجالس هنالك؟» ويقول الرجل الذي يقص علينا هذا النبأ، ويقول الرجل الذي سئل عن ذلك، إن وضعه كان كوضع الأسد الناظر إلى ذبابة.
وهو لا يضن على الإمبراطور بمظاهر الاحترام، فترى صورة مكبرة لهذا العاهل معلقة في غرفة الطعام، وينهض في عيد ميلاد ولهلم ويقول : «أشرب نخب صاحب الجلالة الإمبراطور والملك.» وترن هذه الكلمة رنينا باردا في الغرفة، ولا شيء يدل على أنه يهدف إلى رجل أجنبي أكثر منها، وجميع من يسمعونها من بسمارك يعلمون مؤلم الحقائق عن سقوطه وعن الإمبراطور، ومن ذلك قوله: «إن كاتون كان رجلا ممتازا إلى الغاية، وما فتئ موته يبدو لي رائعا، ولو كنت في مكانه لسرت على سنته أيضا فما طلبت عفو قيصر، وقد بلغ رجال ذلك الزمن من احترام أنفسهم ما لا ترون مثله في أيامنا.» وقس على هذا ما كان يصدر عنه من كلام بعد روية!
وأقسى من ذلك ما أبداه لفريونغ من ملاحظة، ويقرأ كتاب اللصوص لشيلر ليلا، فيأتي إلى قول فرانزمور للشائب: «إذن، أنت تهوى أن تعيش مخلدا؟» ويعلق بسمارك على هذا قوله: «إذن، ينتصب مصيري أمام عيني.» ويقول الراوي: إنه نطق بهذه الكلمة مع اهتزاز خفيف في الصوت، ولكن من غير تغير في وجهه الشديد التكرش، ثم صمت الأمير كثيرا مفكرا وهو يرسم صورا بطرف عصاه على الأرض الندية، ثم يعود إليه وعيه فيطمس ما رسم، ويقول: «لا تظنوا أنني جرحت جرحا بليغا بما حدث في السنوات القليلة الأخيرة، وإن شئتم فقولوا إنني فخور بما صنعت في العالم فلا أدع تلك الحوادث ترجني.»
بيد أن غضب المعتدى عليه يبدو في اعترافه لصديقته سبيتزنبرغ، وقد جاء هذا الاعتراف بعد العاصفة بعام، ومنه نعلم أن الرعد لا يزال يقصف، قال بسمارك: «قذف بنا في الشارع كاللصوص، وطردني الإمبراطور كالخادم، وكانت سيرتي في جميع حياتي سيرة شريف لا يمكن سبه بلا تعويض، وأشتمل على نسيج ماجد لا يعتدى عليه من غير أن يعاقب، ولكنني لا أقدر على مطالبة الإمبراطور باسترضائي، ولا أحمل تجاه أولئك الناس من المشاعر غير ما لدى غوتزفون برليشنجن
2
عند النافذة، ولا أستثني الإمبراطور من هؤلاء، وأبشع ما في أخلاقه وأخطر ما في سجيته هو أنه لا يستقر عند مؤثر وأنه عرضة لجميع المؤثرات في الحين بعد الحين، ولن أسره بالموت، وهم كلما أمعنوا في تهديدي أريتهم من هو الرجل الذي يعاملون، ويا ليتني أختم حياتي قائما بعمل فاجع!»
وهكذا يتأجج شوقا إلى الانتقام ويتوهج، وهكذا يترشح من جميع مسامه شعوره بأفضليته، غير أن ما فطر عليه هذا المتمرد من مشاعر إكرام للدم الملكي يعترض له بغتة، غير أن ما تم لهذا المتمرد من عادات في نصف قرن جعله ينظر إلى مليكه نظره إلى رجل لا يقدر على تحديه فيدعوه إلى النزال.
ويشعر ولهلم بأن الأمة تميل إلى تأييد قضية بسمارك شيئا فشيئا، ويسعى ولهلم أن يكسب شوطا في اللعب، فلما مرت ثلاثة أعوام على الخصام مرض بسمارك فوجد ولهلم وسيلة لوصل ما انقطع فعرض عليه قصرا يمرض فيه فرفض بسمارك ذلك برقيا، وهنالك يرسل ولهلم إليه مقدارا من المعتقة
3
المشهورة فيشربه بسمارك عن حقد مع هاردن الذي هو أشد الناس عداوة للإمبراطور، ويقول بسمارك لأحد أصدقائه: «ينتقص صاحب الجلالة قواي، فهو يشير علي بأن أشرب قدحا واحدا من الرحيق في كل يوم، مع أنني أحتاج يوميا إلى ست زجاجات منه حتى أصح.»
ومهما يكن من أمر فإنه يتعذر على بسمارك بعد تينك المحاولتين اللتين قام بهما ولهلم أن يجتنب الشكر له شخصيا، ولو لم يفعل ذلك لوجده هؤلاء القوم الطوع مخطئا، ومما يزعجهم ما يتمثل لهم من خصام بين الإمبراطور والمستشار السابق، وهم يفضلون صمه
4
على لحمه
5
روما
6
لكتمه، وهذا إلى أن بسمارك يود إخافة خصومه ببرلين.
وبسمارك قبل قيامه بزيارة الشكر هذه يستدعي ضابطا ليعلم منه تفاصيل عن الزي الرسمي المناسب، ثم يسأله هازئا: «وما هي أقوم طريق لإمساك السيف وفق النظام الجديد؟»
والواقع أن لبس البزات الرسمية مع تقلد السيوف من الأمور الشائعة في برلين، ويود الإمبراطور أن يقنع نفسه ويقنع الآخرين بأنه يستقبل جنرالا، فينظم كل أمر بين كتيبة الشرف المحيطة بعربة البلاط وكتيبة الشرف أمام القصر كما لو كان الشيخ مولتكه هو الزائر، والآن على الإمبراطور أن يسمع صابرا هتافات الترحيب بخصمه العظيم، والآن على الإمبراطور أن يطيق تصفيق الجمهور لشخص غيره.
ولا يسر بسمارك بهذا الرئاء الشعبي، ويصفه من رأوه جالسا في عربته في ذلك الحين بطيف لابس بزة بيضاء شاحب اللون شارد الذهن كما لو كان يفكر في أمور بعيدة جدا، ولا بد من أن تكون مشاعره آنئذ مزيجا من الهزوء والازدراء، وهو إذا ما رجع بصره إلى الذكريات التاريخية لم يغب عن باله أن واحدة من زياراته النافعة للبلاط لم تثر مثل هذا الابتهاج الذي اتفق للرواية الراهنة الخالية من الخير، ومما لا ريب فيه أنه يتمثل حينما ينحني الآن احتراما ما أتاه من تلقين في أربعين سنة بأن الملك وكيل الله، فيرى ما في هذا التلقين من باطل ما دام يحتقر من أعماق فؤاده ذلك الرجل الذي يبدي له إجلالا على ذلك الوجه! وكيف يحتمل مع كبريائه مثل تلك الساعة إذا لم يقنع نفسه بأن العاهل يبجله كذلك؟
ولم يكد بسمارك يبلغ درجات القصر المعهودة، ولم يكد بسمارك يبصر تلك الوجوه التي لم يرها منذ أربع سنين حتى أخذ يناكد الجميع فيأتي بهربرت معه خلافا للبرنامج المقرر، ويأتي زعيم
7
لتحيته فلا يقول له غير كلمة: «كيسل؟ يلوح لي أنك أصغر مما كنت عليه في ذلك الحين.» وكل واحد في غرفة الانتظار يسمع كلام بسمارك، وكل ما يقوله بسمارك يطبق عليهم، ويلزمون جانب الصمت جميعا، ويدخل بسمارك على الإمبراطور وحده، وينحني احتراما ويعدله الإمبراطور ويقبله هذا العاهل البغيض، وتمضي دقائق قليلة فيأتي الأمراء الصغار وتسفر أصواتهم الصبيانية عن بهجة، ويقدم الغداء في الساعة الرابعة، ويرجى من بسمارك أن يداري نفسه بعد متاعبه.
وفي الليل تقام له حفلة عشاء كبيرة فتحضرها الحاشية، ويصل بيل غير مدعو كهربرت، ويجلس بسمارك بين ابنيه فيشعر بأنه أكثر أمانا، ويحس - أبا - أنه أعلى من العاهل الهوهنزلرني، ولا يؤدي وجود ابنيه إلى غير اشتداد الحقد عليه، فيعم الجميع روح انقباض، ولم يشعر أحد بأنه في مأمن حول المائدة حتى عندما يأتي بسمارك الشيخ بالنوادر، وهل هنالك من يحمر وجهه بفعل الخمر، فتخرج من فيه كلمة قاسية كما جاء في الأساطير التوتونية؟
8
وهل يستل الآخر سيفه فيقاتل ابنا بسمارك فرسان الإمبراطور؟ يعرف أوتوفون بسمارك جيدا كيف يمسك بسيف النظام القديم، ولكن هذا لا يعدو حد الخيال، ولا يفكر أحد - ولا الإمبراطور - في هذا جديا، ويعد الإمبراطور الدقائق على الساعة الدقاقة نزقا منتظرا الوقت الذي يغادر فيه هذا الضيف الخبيث قصره وعاصمته، فالحق أن جميع من هم حول المائدة يخشونه مع عدم إكرام، وعليهم مع ذلك أن يشعروا بأنهم أصحاب السلطان تجاه هذا المنفي.
ثم يتنفس الجميع الصعداء، فقد أشعر خادم بعربة الضيف، ويشيع الإمبراطور عدوه هذا ليلا، ويعود هذا العدو إلى منفاه في منتصف الليل.
ويرد الإمبراطور الزيارة إلى بسمارك في فردريكسروه فيأخذ معه نموذجا من الجهاز الحربي الجديد ليسأل القطب السياسي الأول في عصره عن رأيه في الجراب وفي اليوم التالي يتساءل الناس عما دار بين الإمبراطور والمستشار السابق من حديث، فيقرءون في جريدة بسمارك كلمة أملاها بسمارك مجاملا مع خبث - كما هو واضح - فقد جاء فيها: «إن الإمبراطور تفضل فسأل الأمير بسمارك عن أمر مهم، تفضل فسأله عن رأيه في تخفيف أجهزة الجنود المشاة لدى الخدمة الفعلية، تفضل فعرض عليه عسكريين كاملي العدة طالبا ملاحظاته، وقد رئي تعديل القبة
9
بأيسر مما كانت عليه من قبل»، فبمثل هذا البيان البريء يجعل الشيخ ذلك الشاب محل سخرية في عيون نصف ألمانية.
وبسمارك مع ذلك ينشر ما يستطيعه ضد ولهلم وحكومته قائلا: «ليس من الإخلاص أن أمتنع عن إبداء رأيي الصريح، كما يتوقع أناس من أهل برلين على ما يظهر، ومن قول هؤلاء الناس إنني إذا التزمت جانب السكوت كان تأثيري في التاريخ أعظم ومنظري فيه أروع.» وما بقيا عليه من عدم صلح فيرى من خلال ما حدث في السنين الأربع الأخيرة من تقلبات، ويبلغ بسمارك الثمانين من عمره، ويأتيه الإمبراطور في عيد ميلاده مع دبدبة وعدة وحفدة،
10
ويسلم إلى بسمارك سيف شرف من ذهب ويلقي خطبة بهية، ولكن بسمارك لا يجيب عنها، وتفتتح قناة كييل التي تصل بين بحر الشمال والبحر البلطي والتي هي من آثار بسمارك فلا يذكر لهذا المستشار السابق اسم، ويحتفل في سنة 1896 بعيد الريخ الفضي فيرسل ولهلم إلى بسمارك برقية شكر خالدة، ويحتفل في سنة 1897 بمرور مائة عام على ولادة ولهلم الأول فتذكر أسماء صغار مساعديه ولا تقال كلمة عن بسمارك.
وترسل إليه نماذج سفن حربية ذات يوم، ويضطر أحد الكونتات في يوم آخر إلى إلغاء دعوة هربرت إلى عرس بعد أن انتهت إليه هذه الدعوة؛ وذلك لأن الإمبرطور علق حضوره العرس على ذلك الإلغاء.
وهكذا يتوقف مقياس نعمة الإمبراطور ونقمته على ما يحدثه بسمارك من هزات في الحكومة بما يبديه من نشاط سياسي.
الفصل الثامن
حقا لم يظهر بسمارك استعدادا لكم فمه وعدم إبداء رأيه، فأما الحاضر فكان يبدي لمعاصريه نقده حوله بواسطة الصحافة، وأما الماضي والمستقبل فقد وضع عنهما كتابا، ولما عن له في السنين العشر السابقة أن يضع كتابا عندما يكون لديه فراغ بعد اعتزاله لم يعد ذلك حد النظر، ولم يقع ذلك عن رغبة في الإبداع، وهو لم يرد عندئذ سوى قضاء فراغه في العمل، ومن الأسباب الحافزة إياه إلى ذلك الآن ما كان من طلب الناشر الألماني كوتا المستعد لتحدي المقاطعة. ولا يقوم السبب الثاني على سابق حكمة ولا على تنوير بصيرة، بل على دهاء وحب انتقام، وبسمارك في سنين كثيرة كان يكتفي بما يدبجه يراع أصدقائه عما يقصه من أنباء أعماله إجمالا وتفصيلا فيسد بذلك ما في تاريخه من ثغرات حالا، شأن المصور المزخرف، واليوم حل أجل تصفية الحساب.
وهنالك يرى ما في روح بسمارك من قليل خيال ومن كثير قيمة في الأمر الراهن، وإن هذا المتفنن في اللغة الألمانية، وإن هذا الرجل الذي أبدع في كثير من خطبه ووثائقه ورسائله وأحاديثه أسلوبا ألمانيا خيرا من كل ما تم منذ أيام أستاذ البيان والخالد بآثاره غوته، يجهزنا بمذكراته بجذع ساطع، لا بأثر فني رائع؛ وهذا لأنها تهدف إلى غاية ، ولأنها وليدة حال نفسية خاصة، لا لأنه طعن في السن أو لأنه كدر كثيرا، ما ظهر الآن قادرا على إملاء أنفس المقالات وأعسف المجادلات عن شئون الزمن العتيد، وما دلت عليه رسائله الأخيرة من هوى رجولي ممزوج بسوداء هادئة كما في الماضي، وهو - حتى عندما يتكلم عن الماضي أبا - يؤدي نظر سامعه ووجود كلبه وإمساكه القدح بيده إلى إعارة روحه أجنحة وتثبيت نسق نعوته.
والآن يجلس في مكتبه فيريد أن يرسم في نفسه مجرى سابق حياته، ومن أجل من؟ وماذا كانت عليه الأمة؟ وهل لهذه الكلمة معنى مقرر؟ وهل للأمة معالم؟ يبدو قادرا كتابة وتكلما على رسم أقسام من تاريخه بروعة إذا ما تناول الملك والريشتاغ وقصد التأثير في سامعيه، ولكنه إذا ود الآن أن يزود جمعا مجهولا بصورة فنية عن أعماله وبنموذج عن البناء الذي أتم شيده احتاج إلى صبر وانسجام وقدرة على إنكار الذات؛ ولذا أوجب شعوره بأمر الأسلوب تمرده على كتابة مذكرات على النموذج المألوف.
وفي البداءة يجعل عنوان مسوداته «مذكرات وأفكار»، وهو بهذا النوع من الجمع الواسع يسهل عليه أن يلم أفكاره ويضم بعضها إلى بعض، وهو لسلامة القرينة في أسلوبه لم يحاول أن يأتي بأي انتقال بين ما ذكر من الوقائع، وهكذا لم يكن الكتاب الجليل الذي تركه تراثا للألمان تاجا يصلح حتى لجبينه الخاص، وهكذا نرى هذا الكتاب مجموعة من الحجارة الكريمة المنفصلة وغير المرصعة، ولكن مع حسن نحت وتشذيب.
ومن مميزات أسلوبه في هذا الكتاب بلوغه الغاية، وهذا الكتاب مشحون بالجمل الموجزة التي يعبر غيره عما في الواحدة منها بستة أمثالها، وهذا إلى خلو الكتاب من التكلف والتنميق، وهذا إلى الحفر فيه بمنقاش دقيق حتى صار بيانه سفر أخبار مكثف. وفي الكتاب تبصر جميع مشاعره وأحقاده مستترة وراء الوقائع فلا يجد عسرا في صرع أعدائه، وهو يختار موضوعه محابيا مجتنبا نقد نفسه غير مادح لها، وحيل القطب السياسي هذا، وهذا العبث الرائع بين الماضي والذراري، مما يضاعف استمتاع من يعرفون طبيعته جيدا، وعلى جميع الناس أن يقرءوه مع ذلك، ولو من أجل أسلوبه الألماني الكامل الذي ليس بالكلاسي
1
ولا بالعصري.
وتعدل قيمة هذه الوثيقة التاريخية قيمة مذكرات نابليون، وهي دون مذكرات قيصر نفعا، وقد استطاع النقاد أن يجدوا فيها طائفة من الأغاليط التي إذا ما استثنيت واحدة منها لم تعدها تلفيقا، ولا غرو، فالمؤلف لم يزعم أنه يتوخى الدقة المطلقة ولا الكمال الأمثل. ولنا قول عن بسمارك لإهماله أهم الوقائع عن الكفاح الثقافي، ولسكوته عن القانود المضاد للاشتراكية وعن سياسته الاقتصادية، وليس لنا ما نقوله حول ما علمناه من المسائل، وهو فضلا عن ذلك، وهو لأنه عدو مذهب ماركس الأزرق، يشعر بنفوذ سلطانه الشخصي في التاريخ، والعيب الوحيد في تصويره البطولي هو أنه - مع استثناء أوغوستا - لم يبد على نسيجه صورة أخرى تقاس بصورته الخاصة وتستحق أن تكون خصما له.
ولم تزل العفاريت الثلاثة التي كانت بجانب مهد بسمارك - وهي العجب والشجاعة والحقد - تسيطر على هذا الشيخ عندما كتب مذكراته، وهي قد بلغت من السيطرة عليه ما بدت معه اعترافاته صورة عن روحه الملغزة، ولا تكاد تجد في كتابه المؤلف من ثمانمائة صفحة شخصا أثنى عليه، ولا تستثن من ذلك معلميه ولا رؤساءه الرسميين ولا الأمراء ولا النواب ولا الزملاء ولا التابعين. ولا ترى من هؤلاء من مدح مدحا غير مقيد، حتى إن رون الذي هو أخلص الجميع لم يخل من تنديد به، ولا تبصر غير الأصاغر، كستيفان وهولشتاين وشويننجر من سلم من الذم، وإذا ما استحوذ الحقد والهزوء على قلمه صلح له كل شيء، ومما لا مراء فيه أنه هدف إلى إطراء مولاه الشائب خلافا لمولاه الشاب.
والحقد حتى في أمر ولهلم الأول وجد إلى قلب بسمارك سبيلا، ويمكن استجلاء الوجه الذي عامل به كبار أعدائه وصغارهم من مطالعة الصفحة التي صب فيها جام غضبه على الطبيب الألماني المجهول الأمر الذي أسفرت مداواته له في سان بطرسبرغ عن أذى كبير له، ولم يكتف بسمارك بإسقاط هذا الطبيب مع مضي ثلاثين عاما على ذلك، بل أشار مغاضبا إلى الدوكة الكبرى التي أوصته وأوصت بلاط سان بطرسبرغ به.
وبسمارك بين سراح ومراح وحتى موت بوشر في سنة 1892، أملى على هذا المفضال جوهر المجلدات الثلاثة، ثم غير فيها مقدارا لا يستهان به متبسطا هنا وهنالك، وهو لم يبد كبير حماسة حول هذا العمل، وإذا حضر الطبيب شويننجر أبصر - في الغالب - ما يأتي فقال: «بوشر أبكم مكتئب متجهم مرهف الأذنين مستدق القلم الرصاصي جالس أمام ورقة بيضاء، والأمير مضطجع على كرسي طويل متأمل في الصحف غير ناطق بكلمة، وبوشر ليس أقل منه صموتا، وتظل الورقة بيضاء»، ثم يساعده الطبيب قليلا، ومن المحتمل أن يتلو بعض المقالات، وقد يجد بسبب أحد الزوار ما يدفعه إلى الإملاء ذات حين.
بسمارك في سنة 1895.
وكان بوشر دون بسمارك حماسة للأمر مع تمتعه بذاكرة أحسن من ذاكرة ذلك، وكان يشكو من كون الأمير «يكرر كثيرا من الأمور عدة مرات وعلى أوجه مختلفة تقريبا، وهو يقف عند أكثر المسائل أهمية ويعيد نفسه متناقضا، وهو إذا تناول أمورا كان نصيبها الحبوط تنصل من مسئوليتها؛ حذر اللوم، ولا تكاد ترى من يبدو مثله خطرا، وقد أنكر كتابه إلى بريم (في سنة 1870) إلى أن ذكرته بأنني أنا الذي نقله إلى الجنرال في مدريد، ومن المحتمل أن يكون قد فكر في مؤرخي المستقبل وفي ترك وصية للأعقاب، ولكنه يفكر أيضا في الحال، وفي الحال يريد أن يؤثر».
وبسمارك إذ عطل من المستندات وكان راغبا في الانتقام من أعدائه وخروجه رابحا لقضيته، راعه ما أبصره من تناقض بين ما أبداه من رأي خاص وما أبداه من رأي عام عن السلطة الملكية، فقد قال: «ما فتئت منذ سنة 1847 أدافع عن المبدأ الملكي وأرفعه كالراية، ولكنه كشف لي أمر ثلاثة ملوك فوجدت تصرفاتهم لا تناسب من هم في مثل سموهم، ومما يناقض المبدأ الملكي أن يذاع هذا بين الأنام، ومما يتعذر علي مع ذلك أن أسلك سبيل النذالة فأسكت عن ذلك أو أن أذكر أمورا على غير وجهها.»
وهكذا ، وفي نهاية الأمر يرى هذا الممثل الأكبر أن يكفر عن عيشه في عالمين، والآن يجب على هذا الذي لم ينطق بالحق إلا وراء المسارح حتى الساعة الراهنة أن يقول الصدق للمرة الأولى على نور المنحدر، وبسمارك حتى في ذلك التاريخ يضفو حقده على عامله السياسي فيدبج يراع هذا الملكي ذات حين فصله المشهور عن ولهلم الثاني فيصوب به سهما مميتا إلى سمعة هذا العاهل، ولا يتناول في ذلك هذا العاهل وحده ما أبدى آل هوهنزلرن هنالك بأقتم صورة، ولن تجد ما هو أبلغ من ذلك الفصل ضد النظام الملكي.
وكان بسمارك بصيرا بصرا تاما بما يكون لذلك من أثر بالغ حينما أمر بنشر جميع كتابه فور وفاته، ويدعي ورثته وجود إشارة فيفضلون حماية الإمبراطور على دفاع أبيهم عن نفسه من قبره، وهم لم يمتنعوا عن نشر المجلد الثالث في سنة 1898 فقط، بل داوموا على حفظ سمعة ولهلم الثاني حتى بعد فراره من ألمانية سنة 1918، وقد احتجوا على ما كان من «نشرها الفوري» عند تلك الهزيمة مؤيدين القضية التي رفعها الإمبراطور ضد الناشر بدلا من أن يتخذوا جميع الوسائل وصولا إلى عرض تلك الوصية على أعين الأمة في نهاية الأمر.
الفصل التاسع
«يقضي الواجب علي بأن أتكلم، ويسدد هذا الواجب إلى وجداني كالمسدس الذي يصوب إلى كياني، وبما أنني أعتقد أن السياسة الحاضرة تقود الوطن إلى ورطة يجمل اجتنابها، وبما أنني أعرف هذه الورطة على حين يخادع الآخرون أنفسهم حولها؛ كان من الخيانة أن أسكت، ويريد أصدقائي الأعزاء أن أكون ميتا حيا مكتوما بكيما
1
فلا يحق لي أن أبدي حراكا، ولكنني في عزلتي أستطيع أن أداوم على خدمة وطني، والآن أجدني طليق اليدين أكثر مما كنت عليه من بعض الوجوه، والآن وقد خلوت من العوائق الإدارية أقدر في الخارج على الدعاية في سبيل السلم التي ما انفكت تكون غايتي الوحيدة منذ عشرين سنة.»
وهكذا يسير اكتراثه لتراثه مع عدائه لخلفائه وشوقه إلى الانتقام من الطاعنين فيه، ويسترد المبعد في العقد الأخير من عمره سلطانه على الرأي العام الذي أضاعه في السنين السابقة، وهو لكي يصل إلى هذه الغاية يلوح له أن يسوغ جميع صنعه بما يطيب له من الوسائل، وهو يرى أن يلقي إلى الصحف بواسطة خلصائه ما لديه من كتب مهمة من ولهلم الأول، فيحمي نفسه من مثل ما أصاب به أرنيم بأن يقال عند الضرورة مثلا إن بعض هؤلاء الخلصاء لا بد من أن يكون قد استنسخ تلك الرسائل عند تقليبها ضيفا في فردريكسروه، وهذا إلى قوله إن الكتب الخاصة التي أرسلها إلى الملك هي ملك أدبي له، «فما يكون من إدماج الأفكار الواحدة في الرسائل لا يجعل لها صفة رسمية.» ويبوح بسمارك بأمور أخرى إلى هاردن الذي دعاه إليه بعد أن قرأ مقالاته والذي كان محل سره وموضع صداقته في سنين.
وبسمارك - خلافا لما يظن في البداءة - لم يتصرف في صحف كثيرة في أول اعتزاله، فكان معظم الجرائد الألمانية يخشى مجازفة الاتصال به، وبسمارك لم يستقبل في الأشهر الأولى غير صحافيين من الأجانب مع ذلك، وجريدة هنبرغرنخريختن وحدها هي التي فتحت صدرها للمستشار السابق، فظلت أكثر الصحف الألمانية طرافة عدة سنين، ويملي بسمارك مقالات كثيرة لها، ويوحي بسمارك بغير قليل من المقالات إليها، حتى صار الناس يعدونها مونيتور
2
فردريكسروه، وقد تصدت جريدة هنبرغر تلك لجريدة «رايخسانزيجر» في الأزمتين أو الأزمات الثلاث التي حدثت في تلك السنوات.
وبسمارك بعد عامين من سقوطه يواجه خطبا جللا، وبيان الأمر:
أن الأمة التي بعدت منه منذ زمن طويل صارت تعود إليه بعد عزله، وتغدو تلك الأحوال معلومة بالتدريج فيسفر ذلك عن عزيف رياح وعن إثارة عواطف كثيرة، ويأخذ بسمارك - في الأيام القليلة الأولى - أكثر من ستة آلاف برقية حمد وثناء، وتتبنى مدينة همبرغ الحرة قضية جارها الجديد، وتستقبله استقبالا باهرا، وفيما كان يمر راكبا عربته من الشوارع المزينة بالأعلام إذ يهرع إليه ملاح إنكليزي وهو يقول: «أريد أن أصافحك!» ولا ريب في أن هذه هي المرة الأولى التي يصافح فيها إنسانا من العوام، ولم يحدث قبل ذلك أن دعا فلاحا إلى مائدته، والآن يدعى إلى الغداء معه فلاحان حمسان من شونهاوزن؛ لما أبدياه من تقديس مؤثر له، ويلخص هربرت الوضع بعبارته البارعة: «إنهم يعدونك ضمانا لهم، والحق معهم.»
وتظل هذه الحوادث منعزلة لكبير وقت، حتى إن المنفي بعد عامين؛ أي في أواخر شهر مايو سنة 1892، استطاع أن يقول: «أجل، إنني خدعت في أمر الشعب الألماني، وهذا الشعب لم يدرك أن الذي يدفعني إلى الانتقاد هو قلقي العظيم حول مستقبل الإمبراطورية الذي يقض تفكيري في أمره مضاجعي، لا ما يظن؛ من ضغينة ولا حب انتقام ولا أمل في العود إلى السلطان.»
وما كان ليقول مثل ذلك بعد أسبوعين، ويصبح هربرت خاطبا لوارثة نمسوية مثرية وفق رغبة أبيه، ويرى بسمارك أن يذهب إلى فينة ليحضر العرس، ويلتمس مقابلة فرنسوا جوزيف فيقال له إنه سيرحب به، بيد أن ولهلم وأعضاء بلاطه يخشون أن يكون المستشار السابق حاملا مقاصد سيئة، ويئز
3
زعانف
4
ولهلمستراس، ويخافون اكفهرار الجو ويرفعون أصابع التحذير، ويكتب الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور فرنسوا جوزيف قوله: «سيسافر بسمارك إلى فينة في أواخر الشهر، اقتطافا لما أعده المعجبون به من استقبال حماسي، وأنت تعرف أن من آثاره تلك المعاهدة الروسية ذات الوجهين التي وضعت وراء ظهرك فأبطلتها. وما انفك بسمارك منذ اعتزاله يشن حربا غادرة ضدي وضد وزيري كابريفي، وهو لم يأل جهدا في إبداء ضروب المكر والحيل حتى يحول المسائل بما يعتقد معه العالم أنني أتقدم إليه بسلف، ويبدو له أن يقوم بمقابلتك كما طلب، وقد تكون هذه المقابلة أهم ما يهدف إليه، فأطلب إليك - والحالة هذه - ألا تعقد وضعي في بلدي بمقابلة هذا التابع غير الطائع ما لم يأتني معترفا بذنبه.»
وفي الوقت الذي يرسل فيه ذلك الكتاب الوقح يرسل كتاب آخر إلى سفير ألمانية في فينة الأمير روس من إنشاء هولشتاين وبإمضاء كابريفي جاء فيه: «إذا ما زار سموكم الأمير أو أي واحد من أفراد أسرته؛ فإنني أرجو منكم أن يقتصر ذلك على الشكليات وألا تقبلوا منه أية دعوة إلى العرس، وبهذا التوجيه يخاطب رجال السفارة كما تخاطبون. وأضيف إلى هذا أن صاحب الجلالة لن يقبل دعوة إلى هذا العرس، ونوصي سموكم بإنباء (الوزير) الكونت كلنوكي بهذا الأمر بما ترونه من أسلوب.» وهكذا يوصم بسمارك رسميا بالرجل الذي لا يقبل، وهكذا يحذر وزير خارجية النمسة منه.
ويخبر بسمارك سرا بأمر ذلك الكتاب، ويدعو كابريفي إلى المبارزة قائلا: «لقد اخترت شاهدي، ولا تزال يدي اليمنى سليمة، ولي خبرة في إطلاق النار من المسدس، ولكنني قلبت الأمر في ذهني فوجدتني ضابطا يرى عرض الأمر على محكمة شرف مؤلفة من شيوخ القواد، ليس لي أن أدعه يواجه هذا المسدس.» وعلى هذا الوجه يبدي ذلك المارد بسالة الأسد فيه ابنا للسابعة والسبعين من سنيه، وهو يريد أن يدافع عن اسمه ومرتبته وشرفه مخاطرا بحياته، ولن يرسل ابنه ليقوم مقامه في ذلك، وهو يود مقابلة الموسيقى بنفسه، وهو - كما في كل حين - تساوره رغبة روائية في ختم حياته المكدرة بفاجعة.
وبسمارك يسلك أقوم الطرق، وبسمارك يصف لخلانه «كتاب أوريا»
5
هذا بالمجون، وبسمارك يذيع في جريدته على الجمهور ما يأتي: «إن ما اتخذ من الوسائل لحمل عاهل النمسة على عدم مقابلة الأمير - بعد أن كان مستعدا لذلك - حمل على انتقاص مقام الأمير الاجتماعي والحط من قدره، وعد إهانة لشخصه، فلا نجد في سابق سيرة الأمير ما يسوغ ازدراءه بمثل هذا.» وتنفجر هذه القنبلة وتجاوز شظاياها ما وراء حدود ألمانية.
ولم يحدث منذ وجدت بروسية أن أثار ملك بروسي شعبه ضده بمثل ذلك، ولم يصب البروسيون في سنة 1848 غضبهم على العاهل الضعيف في الحقيقة، والآن يبدو نصف ألمانية في هرج ومرج، والآن حين يمر آل بسمارك من برلين يزدحم الجمهور على رصيف المحطة ويطلب من الشيخ أن يلقي خطبة، ولكنه يجد من الحكمة أن يضبط نفسه فيصمت لإحكامه خطط انتقامه، ويشق الأمر على طبقة الأشراف في فينة ثم تبتعد، ويتظاهر سفير ألمانية بالمرض ويلزم سريره على حين تناضل زوجه الأميرة الفيمارية بشجاعة عن المستشار السابق المشتوم. وفيما تحف ببسمارك تلك المشاعر يحتفل ابنه هربرت بتزوجه الكونتس هويو بعد عشر سنين من امتناعه عن الزواج بإليزابت هاتسفلد لمثل تلك الأسباب.
ويشعر بسمارك الشيخ برجوع شبابه إليه تجاه تلك النظرات المعادية، ويفكر مرددا سابق قوله بلسان الحال: «نجهل فوق جهل من يجهل علينا!» فيدعو إلى مقابلته رئيس تحرير جريدة نيوفري بريسه فيهاجم الحكومة جهرا بما لم يصنع مثله منذ أربع وأربعين سنة، وفي الماضي لام الملك على نذالته أمام الشعب، والآن يلوم الحكومة على حماقتها حيث يقول: «لا ريب في أن النمسة أفادت ما استطاعت من ضعف مفوضينا وعجزهم في المعاهدة التجارية، وكانت النتيجة عندنا أن أرى الآن في المقدمة أناسا كنت أدعهم في المؤخرة لما رئي من وجوب تغيير كل شيء، ثم إنني لا أرى ارتباطي في عهد تجاه أي رجل ذي منصب ولا تجاه خلفي، فجميع الجسور هدمت، وقطع الحبل الذي كان يربطنا بروسية، وقد عطلت برلين من السلطان الشخصي والطمأنينة.»
وفي برلين يستحوذ الغم على أولياء الأمور، وهؤلاء إذ لم يستطيعوا أن يعيبوا هذا «الشيخ الثرثار» خفية، وجب عليهم أن يقوموا بذلك علنا؛ ولذا تبدأ الآن جريدتا «المونيتور» بالمبارزة أمام ألمانية الهائجة على حين تنظر أوروبة إلى ذلك بعين الفرح والارتياح، وفي تلك المبارزة لا تصيب كل طعنة تصوبها الحكومة الهدف، وفي تلك المبارزة تبلغ كل قذيفة يوجهها الخصم غايتها.
جاء في صحيفة كابريفي: «لا نذكر وجود رجل دولة في تاريخ البلدان الأخرى، بله ألمانية، سلك مثل تلك السبيل بعد ترك منصبه، والذي يلوح أن الأمير لا يألو جهدا في نشر عدم الثقة معقدا بذلك سوق مركبة الإمبراطورية الصعب، وهل هذا من الوطنية؟ وتخونه ذاكرته، ولا أحد يستطيع أن يقدر مبلغ الأذى الذي يتأهب الأمير ليصيب به وطنه الخاص.»
وفي اليوم التالي يبدي بسمارك نفسه صحافيا بارعا، فيبدو معتقدا أن تلك المقالة من إنشاء رئيس تحرير تلك الجريدة المهاجمة، وبذلك يمكنه - مع احترام ساخر - أن يوجه سهامه إلى الحكومة غير المسماة فيقول: «إن من المستحيل أن يكون أناس محنكين مهذبين كأولئك الذين يسيرون شئون الدولة مسئولين عن مقالة صحافية سليطة مثل تلك المقالة، ويفترض أن ذلك قذف، ولا يسع الأمير إلا أن يرى من المضحك انتصاب رئيس التحرير بنتر فوق منصة الخطابة ليعظه، ولا شيء يسر الأمير بسمارك أكثر من تعقبه قانونا، ولا يجد الأمير محذورا في ختم عمله السياسي بتلك الخاتمة الروائية.»
ويظهر أن حنق الجمهور الألماني انقلب إلى ضحك بعد ذلك الجواب، بيد أن أولياء الأمور ببرلين فقدوا رشدهم غضبا، فحملوا على بسمارك وعلى نصف الأمة أيضا، فنشروا في ذلك التاريخ ما أصدر إلى سفارة فينة من إرشادات خسيسة، فبذلك أتيح لكل ألماني أن يقرأ في جريدة «رايخسانزيجر» كيف أن المستشار الجديد كان حريصا على إهانة سلفه، ويغلي دم الأمة، وفي البداءة عد مئات الألوف من الألمان عزل بسمارك عملا غليظا، ولكن مع الفائدة، فرأوا أن الإمبراطور قام بذلك عن دهاء وحسن ذوق، والآن يدرك كل واحد عطل الإمبراطور من هذا وذلك، ويسفر ذلك عن تبدد آخر شعور عدائي ضد بسمارك بطوفان من الهتاف الشعبي لم يتفق قبل ذلك لرجل في ألمانية غير متوج أو غير لابس بزة رسمية.
وكان على بسمارك أن يبلغ الثمانين من عمره قبل أن يفوز بالشعب الألماني، وبسمارك، نائبا، كان خصما للشعب، وبسمارك رئيسا للوزارة البروسية كان مكافحا للشغب، وبسمارك مستشارا للإمبراطورية كان عدوا للريشتاغ، وكان بسمارك في منزله وفي أملاكه الريفية يعيش بين أبناء طبقته الخاصة بعيدا من الطبقة الوسطى ومن ذوي الثقافة فلا تجد بين عشرائه أساتذة ولا رجال أعمال ولا أرباب فن، وبسمارك عاش بين السياسيين والأشراف ستين سنة، وبسمارك في كلتا الحربين على الأكثر، وفي حياته الزراعية كشريف على الأكثر؛ تنفس بمثل هواء هذا الشعب الذي عمل من أجل ذراريه عشرات السنين فشعر بوجوده.
واليوم تأتي جماهير كثيرة لتحيته في جميع الأماكن التي يمر منها في أثناء رحلته من فينة إلى كيسينغن، واليوم تلتمس المدن شرف استقباله استقبالا عاما، واليوم يرحب به جميع أقوام الألمان الذين قهرهم أو عاسرهم كأهل سكسونية وجنوب ألمانية، وتسخر أوروبة من منع حكومة بروسية مدينتي هاله ومغدبرغ من تكريم بسمارك وذلك حين كانت موسيقى كولبرغ الحربية مستعدة للعزف، فأخذت ترسل ألحانها راجعة؛ لكيلا تحتفل بعدو البلد، ولكن الفرح يعم ألمانية عند قراءة ما حدث في ينا.
فهنالك في السوق القديمة تحتشد المدينة والجامعة وفلاحو القرى المجاورة والأساتذة والولدان والنساء، ويستقبل رئيس الجامعة الأمير في بيت لوثر، ويخرج بسمارك إلى الباحة حيث كانت تشتعل نيران المعسكر الفرنسي منذ تسعين سنة فوجدها بسمارك مكتظة بالموائد الطويلة وما عليها من قناني الخمر والجعة وبالأغاني وآلات الطرب وبأهل هذه المدينة الألمانية الإقليمية المنتظرين المرحبين به ترحيبا روائيا المتشوقين إليه المتحمسين له.
وهنالك يتقدم هذا الطويل النجاد اللابس معطفا أسود ويطوف على الجموع ويلقي تسع خطب لا تشتمل واحدة منها على عبارة فارغة، ثم يلتفت إلى تمثال غوتزفون برليشنجن ويقتبس قول غوته الذي أجراه على لسان غوتز هذا جوابا عن وصف وكيل إياه باللص، وإليكه: «لو لم تكن ممثلا لإمبراطوري الذي أقدس له حتى في مثل هذا الوضع القذر؛ لحملتك على ابتلاع هذه الكلمة حتى تتخم أو تفزر بها!» وما كان ينطق بالكلمات الأولى من جملة غوتز الغليظة هذه التي ما انفك يرددها في حياته حتى تعالت أصوات الهتاف البالغ حد الجنون، ثم قال مستنتجا: «يمكن الرجل أن يكون تابعا مخلصا لأسرة مليكه ولعاهله ولإمبراطوره من غير أن يعتقد الحكمة فيما يأتيه عمال هذا العاهل أو الإمبراطور من التدابير، وإني غير معتقد وجود تلك الحكمة فيما يقوم به عمال ولي الأمر عندنا، ولا أكتم رأيي في ذلك في الحال والمستقبل!»
تلك اللهجة هي لإلقاء البهجة في نفوس أناس من الألمان جلسوا حول موائد أقداح مدت في ميدان عام ذات مساء من يوم صيف، غير مسئولين عما قيل بها، وهنالك حين عودته إلى عربته لم يقدر على الخطو لشدة الازدحام، فتبصر مئات الناس يحاولون لمس تلك اليد التي ظلوا يخشون شدة وقعها ثلاثين عاما فأصبح صاحبها الشيخ يمدها إلى الجميع للمصافحة، ويسكت عنه ارتيابه الفطري لقليل ساعات أو لبضعة أسابيع، ويسأل نفسه عن إمكان صدور أصدق الأقوال وأعمقها من هؤلاء العوام أكثر من صدورها عن طبقته الخاصة التي حسدته حينما كان قابضا على زمام الحكم فخانته ثم أسقطته في نهاية الأمر.
وهو في أثناء هذه الاحتفالات والولائم والمواكب التي جعلت من سياحته - مجاوزا جنوب ألمانية - مظاهر نصر، وهو في غضون ما لقيه من ولاء وحماسة وجد ما يدفعه إلى التفكير في منح مثل هؤلاء القوم من السلطان أكثر مما لديهم، وهكذا في تاريخ لاحق، ونتيجة لجور يتوجع منه، يبصر بسمارك كيف أضاع الفرص، وتلك الخطب كانت أولى خطبه الشعبية، وهو قد ألقاها في دوائر البلدية وحانات الجعة وفي أعلى الشرف وفي الساحات العامة بين درسدن وميونيخ، وبتلك الخطب ينطق ذلك الشيخ بإنذاراته المتأخرة كما يأتي:
يقوم النظام الملكي الدستوري الذي نعيش به على تعاون بين إرادة العاهل وقناعة الرعية، ومن المحتمل أن أعنت من غير قصد على خفض شأن البرلمان إلى مستواه الراهن، ولم أرد قط أن يبقى على مستواه المنخفض زمنا طويلا، وأتمنى أن أرى في البرلمان أكثرية ثابتة لما لا يكون له من السلطان الضروري بغير هذه الأكثرية، وإن الواجب الدائم للمجلس التمثيلي هو أن ينتقد ويرقب وينذر ويحذر، وأن يوجه الحكومة في بعض الأحوال، ولا يهدأ لي بال حول دوام نشوئنا القومي ومتانته ما لم يتحول الريشتاغ على ذلك الوجه، وفي الماضي كنت لا أدخر وسعا في تقوية الشعور الملكي في الشعب، وقد هتف لي وشكر لي في البلاطات وفي العالم الرسمي مع رغبة الشعب في رجمي، واليوم يهتف لي الشعب ويصفق لي على حين يطوي أركان البلاط والأوساط الرسمية كشحا عني، وأظن أن هذا يسمى سخرية القدر.
فبتلك البراعة يتخلص ذلك النقادة الأعظم في أصعب أدوار خطته حين يهدف إلى التأثير في الجمهور، والحق أن تصرفه ينطوي على سخرية فاجعة، وهو يعرف هذا، وعن هذا التحول المتأخر يصدر سهاده ، وإذا نظرت إلى عمله السياسي في جميع حياته وجدته مركزا تركيزا ذاتيا، مفكرا فيه تفكيرا ذاتيا، موجها له توجيها ذاتيا، وبسمارك في جميع حياته يرد كل شيء إلى المبدأ الحكومي الآتي وهو: أن عداء بسمارك العميق للشعب لم ينشأ عن رغبته في الإشراق ما دام استخفافه بالناس صانه من هذا الزهو، كما أنه لم ينشأ عن نيله سلطانه وحفظه هذا السلطان بفرضه من عل، وإنما نشأ عما في الرجل من ذكاء يعد ضربا من العبقرية الفطرية وعن شعوره دوما، ومن ناحية الدم بأنه سليل طبقة عالية، فلا يريد الحكم بسوى هذه الطبقة التي هي طبقته وإن لم تكن هذه الطبقة عنده دون غيرها محلا للانتقاد، وكان يرى أن الملك وطبقة الأشراف ركنا الدولة، فلا يعدو منح حق التصويت العام حد إعطاء جيل يسير في الظلام امتيازا عن غصب، فمن إضعاف البرلمان وإخضاعه لسلطة الملك يتألف مبدأ بسمارك الأساسي بانيا للدولة، وعلى هذا المبدأ سار بسمارك في عشرات السنين.
ولم يكن النظام الملكي القوي الذي كان يباهي به بسمارك في اللندتاغ والريشتاغ غير سلطان صوري كالنظام الملكي الإنكليزي الذي لم يقصر في انتقاده، ولكن بينما ترى الشعب في إنكلترة جوهرا لشكل النظام الملكي ترى جوهر شكل النظام الملكي في ألمانية هو المستشار، وإن شئت فقل بسمارك نفسه، وبسمارك قد عرف بما فيه الكفاية وجه الخدعة في ملاعبته الشعب، وذلك من غير أن يأذن لأي غريب أن يدخل بين الإمبراطور والمستشار في تلك الرواية الاستبدادية، والإمبراطورية هي إمبراطوريته، ولا يرى لسواه حقا في إصدار الأوامر، وما كان ليرضى بعمله، وما كان لاعتداده بذاته أن يسكن بغير هذه الشروط، وقد دام هذا حتى حدث المستحيل، وهو أن الملكية التي ما فتئ يعلن سلطانها مدة ثلاثين سنة قضيت في مكافحة ممثلي الشعب؛ لم تنشب أن تجسدت في شخص آخر فبدت بكل قوتها وأسقطت مولاها، وهنالك وقف ذات حين وحيدا بلا ولي وبجانب الشعب.
والآن حينما انحاز الشعب إلى بسمارك اعترف هذا الشيخ بما في حساباته من خطأ، والآن يقف بجانب الشعب عن هوى غريزي؛ أي لمثل السبب الذي سبق أن وقف به مخلصا بجانب النظام الملكي، والآن يتنزل عن مقدار كبير من كبريائه فيعترف أمام بني وطنه وأمام أوروبة بقوله: «إن من المحتمل أن أعنت - عن غير قصد - على خفض شأن البرلمان إلى مستواه الراهن.»
وفي تلك الأسابيع يقيم رجال الفن بميونيخ وليمة له، ويرفع لينباخ قعبا مملوءا بجعة ميونيخ تكريما لضيف الشرف، ولكنه وجد قعب الجعة من الثقل ما خشي معه أن يسقطه فأعاده إلى المائدة، وهنالك يصرخ بقوله ملهم هز به مشاعر الحضور، وهو: «من يعجز عن حمله يضعه!»
وبتلك الكلمة المرتجلة يلخص المصور ما بين ولهلم وبسمارك من صراع، ويقول بسمارك: «إذا ما دنا قطاري من محطة وأخذ يدخلها ببطء سمعت هتاف الجمهور الذي ينتظرني وهزجه فيكاد قلبي يطير فرحا من عدم نسيان ألمانية إياي.»
الفصل العاشر
نرى في طالع بسمارك كما في خط يده ما يؤيد تقديرنا لسجيته، فهو قد ولد في برج الأسد فدل هذا على القوة، وكانت الشمس في برج الحمل كما كانت خاضعة للمريخ فدل هذا على الشجاعة، وكانت الشمس مضادة لأورانوس فدل هذا على القيام برسالة، وهكذا تراه جامعا لعلامات النار الثلاث.
ويدل خطه على العقل أكثر من دلالته على الخيال، وينم خطه على الإرادة والقوة والاعتداد بالنفس وضبط النفس والثقة بالنفس وحس الشكل، وعلى الزهو والعناد، وعلى البعد من الاصطلاح، وعلى الترتيب وكثرة مفاجئات رجل واقع تحت رحمة أعصابه، وخطه ضخم مع عدم تكلف لكبر الحجم، وأظهر انتظام في خطه كان عند بلوغه منتصف عمره فلا تجد فيه علامة انفعال أو آية زيادة، ويغدو خطه في مشيبه أكثر مرونة وأعظم سخاء، ومما يجدر ذكره بقاء خطه كسجيته غير متحول مدة خمسين سنة.
وهو حتى في مشيبه ظل مناضلا قبل كل شيء، فلما حرضه كيزرلنغ على أن يبدو الآن رجلا منسجما قال له متحديا: «ولم أكون منسجما؟» ولما تقاطر الناس إليه احتفالا ببلوغه الثمانين من عمره متوقعين أن يروا شيخا هادئا سمعوه ينطق من شرفة منزله بالكلمة النارية الآتية، وهي: «ليست الحياة غير كفاح بين الخلائق كلها، فارجعوا البصر إلى النباتات فإلى الطيور ناظرين إلى الحشرات، وارجعوا البصر إلى الكواسر فإلى البشر لا تجدوا حياة بلا كفاح!» فبهذه الذهنية سوغ انتخابه عضوا في الريشتاغ، وفي ذلك يقول: «أود أن أرى وجوههم جالسين على مقاعد الحكومة حينما أكون جالسا في الدور الأدنى من الردهة، فأنا قطرة كيماوية تحلل كل أمر عند صبها في المناقشة.» ويدور الحديث حول القناعة فتمدح فيقول: «أتجدون ما هو أتعس من إمبراطورية ألفية تقتل الطموح وتعرقل التقدم وتؤدي إلى ركود في الأخلاق؟»
ولم تعد نصرانيته حد الشكل منذ زمن طويل، والآن تبصر صحيفتها مطوية تماما، ولا تجد في نهاية حياته - كما في بدئها - سوى شك يحوله إلى وثنية صوفية في الحين بعد الحين، وإليك ما أتاه من إيضاح عاطفي رفيق صباه كيزرلنغ الذي جرؤ وحده على سؤاله عن هذه الأمور، فقد كتب يقول بعد زيارته الأخيرة له: «يظهر أن شعوره الديني يترجح بين جزر ومد، وينام غرامه في مشيبه، ومن المحتمل أن يكون قد نام فيه مع العمر أيضا شوقه إلى إله ذي مشاعر بشرية، وهذا يفسر ما بين الحب والدين من علاقة مطلقة.» ويروي كيزرلنغ أن آخر اعتراف لبسمارك هو قوله: «يؤسفني أن أقول إنني ابتعدت كثيرا عن الرب فيما قمت به من ضروب الكفاح في السنوات العشرين الأخيرة، والآن في هذا الدور الكئيب أشعر مع الألم بهذا الابتعاد.»
وهو إذا ما أخذ يجادل في الدين ذكر أمورا قد تزعج حنة المتدينة العجوز، ومما حدث أن كان يقرأ جريدة فتركها تسقط، فقال أمام أحد الضيوف: «أود أن أعرف جيدا: هل تمتد الثنائية التي تتخلل فينا إلى الكائن الأعلى؟ تبدو الثنائية في كل أمر خاص بنا، فالإنسان مؤلف من روح وبدن، والدولة مؤلفة من حكومة وممثلين للشعب، وكيان البشرية بأسرها قائم على العلاقات المتقابلة بين الرجال والنساء، وتشتمل هذه الثنائية على أمم بأجمعها ، وإني - من غير تجديف
1
على الله - أود أن أعرف: هل يوجد بجانب إلهنا كائن يكمله كما تكمل المرأة الرجل؟» وتذكره حنة بالثالوث على استحياء، فيقول: «إن هذا مذهب غير معقول.» ثم يداوم على قوله سائلا نفسه بلهجة جدية: «قد تكون بيننا ويبن الله مراحل، وقد يكون لدى الله من يستعين بهم على تدبير شئون هذا الكون الذي لا حد له، ومن ذلك أنني إذا ما قرأت غير مرة صحفا، فأبصرت الوجه المحزن الذي تسير به الأمور عندنا وأبصرت توزيع السعادة والشقاء بيننا توزيعا غير عادل سألت في نفسي دوما عن ورثنا في هذه الأرض من نائب رئيس لا ينجز في كل وقت إنجازا دقيقا مقاصد إلهنا الكريم.»
وذلك هو آخر شرر متطاير من ذلك المذهب الطبيعي قبل أن ينطفئ، وليس العالم في نظره سوى دولة مترامية الأطراف، وهو على ما يراه من عيوب كثيرة فيه يجد حاكمه الأعلى واجب الكمال، ثم يفترض وجود نائب رئيس كعميد الناحية البروسي يكون - كما يقول - في حال أخرى مفسرا للقوانين تفسيرا فاسدا، ومطبقا لها تطبيقا خاطئا، ويعود في أواخر عمره عودا قاطعا إلى الأساطير التوتونية
2
التي لم يتركها في السر قط، وبسمارك - في أوقات عناده تلك - لا يرغب في سماع قول عن مخافة الله لهذه المخافة نفسها، وبسمارك يقول إن سبب عبادة الناس للشمس في المناطق الحارة هو ما تبدو به الشمس في هذه المناطق من قوة خطرة، وبسمارك يعزو عبادة التوتون للصاعقة والرعد إلى مثل ذلك السبب، وبسمارك يضيف إلى ذلك قوله مزدريا: «والناس هنالك كلاب أيضا، فهم يحبون من يخافون، ولا يقدسون لغير من يخشون.»
خطوط بسمارك في أدوار حياته (السنوات 30 و45 و80 من عمره).
ويقص أحد القناصل كيف تفلت من الزنوج فيقول له بسمارك: «إن جميع أمورنا بيد الله، وأحسن عزاء لنا في مثل هذه الحال هو أن يكون لدينا مسدس جيد فلا نسيح بلا رفيق.»
ولا يخلو ذهنه من التصوف، وتعظم خرافته، فمن قوله: «أعلق أهمية كبيرة على مثل تلك العلائم في الطبيعة الصامتة، فالطبيعة أبرع منا وأعقل.» وهو يكثر من ذكر ما تنطوي عليه الأرقام من سحر، فقد سبق أن نظر إلى دورية حياته فحسب تاريخ وفاته، والآن يرى أن حياته ستختم في سنة 1898 لأنه لم يمت في سنة 1883، والآن يقول: «هنالك أمور كثيرة لا يمكن تفسيرها كالنور والشجر وحياتنا الخاصة، ولم لا يكون من الأمور ما يجاوز حدود إدراكنا المنطقي إذن! أوصى مونتين بأن تكتب على قبره كلمة: ربما، فأود أن تكتب على قبري كلمة: سنرى.»
أويعتقد بسمارك الشيخ دوام أثره؟ هو لم يخدع بملق قومه، وهو لم يبهر بالصيت، ولا جرم أن ذكره طبق الآفاق في الوقت العتيد، ومن ذلك أن أتاه نائب عاهل الصين؛ ليسأله عن أقوم الطرق في مقاومة دسائس البلاط في بكين، ومن ذلك أن وجد من العرب من كتب يقول له إنه مشهور في العالم العربي وإن معنى اسمه «طلقات سريعة» و«نشاط مع شجاعة» (؟)، وما قيمة اشتهاره بين الألمان؟ فالألمان «صغار قصار الأبصار، ولا أحد منهم يعمل في سبيل الجميع، وكل واحد منهم يعمل من أجل نفسه، وكل واحد منا لا يحتمل الآخر، وكل واحد منا سمح مع الأجنبي، وإن مما يقض مضاجعي أن أبصرهم يهدمون البناء الذي أقمته حجرا بعد حجر، ثم يختلط حابل أفكاري بنابلها.» وهكذا يزعج بسوء ظنه القديم، وهكذا يحرك بانقسامات الأمة وبارتيابه الحديث من مولاها، فينظر إلى المستقبل بقلق متزايد بعد بلوغه الثمانين من سنيه.
وفي عيد ميلاده يعرب له جميع شعوب ألمانية عن ولائهم، وهو لم يغمطه فيرفض تهنئته غير عدوه القديم الريشتاغ، ويقف بسمارك على الشرفة ويخاطب الشبيبة بقوله: «لا تضق صدوركم، وارضوا بما أعطاكم الله، وقد وفقنا لإنقاذ ما أعطاه على الرغم من خطط بقية الأوروبيين المتوعدة، وليس هذا بالأمر الهين في كل زمن.» فبهذه البراعة يلقي برقعا دقيقا على غمومه في تلك الساعة من عيد ميلاده، وهو - كما في كل وقت - يتذرع بذلك الأسلوب المغري الجدير بمن يمهد المصاعب ، وينظر الطلاب إلى الشائب الساحر الذي يتبلج وجهه مع غموض على نور المشاعل الخفاقة، فلا يدركونه جيدا.
والمستقبل وحده هو مصدر غمومه تلك، وليس في الماضي ما يخافه، وإذا نشرت مذكرات ورسائل كان له بذلك حافز، فلما اشترى أحد المصارف رسائله لحساب مانتوفل قال: «لقد نسيت - في الحقيقة - ما تشتمل عليه هذه الرسائل، وهذا إلى أنني لم أكتب رسالة يؤسفني نشرها.»
وهذا صحيح، فهو لم يرغب في كتمه تغيير رأي أو حزب، وهو لم يأت قط أي عرض لمبادئ، ومما سره أن قرأ رسائل رون عنه بعد طبعها، ولديه مجموعة عن صوره الهزلية، فكان يبتهج بأن يتلو على ضيوفه قولا عن فمه الصارم وعينيه الغاضبتين وحاجبيه الحادين، ولكن لما عرض عليه نموذج لتمثال له أيام طلبه بحث في الملامح كعالم بالفراسة، فقال: إن المتفنن أخطأ في عرضه أصيلا ودبلميا في وقت واحد، وقال إن شفته السفلى أغلظ من شفته العليا على الدوام، فكان ذلك آية على الثبات، وقال إن رقة شفته العليا علامة على الطموح إلى السلطان.
وإذا لم تتح له فرصة للمشاكسة ولم يجد موضوعا للسخرية، وإذا لم يجلس وحيدا مستمعا من بعيد إلى ضوضاء عمله؛ لم يجد في ذلك ما يحمله على المباهاة باتساع بصيرته، وإنما يذعر من مغامرته، وفي ذلك يقول: «كانت حياتي بأسرها مضاربة جريئة بمال الآخرين، وما كنت أبصر هل يكتب النجاح لخططي، ويا لعظم ما أشعر به من مسئولية في ذلك اللعب بمال غيري! ولا أزال أقضي ليالي أرق عندما أفكر في إمكان سير الأمور في الماضي على وجه خلاف ما وقع.»
ويشتد غما في أثناء مرض حنة الأخيرة، ويود لو يموت معها، فقد قال: «لا أرغب في الموت قبل زوجي، كما أنني لا أرغب في البقاء بعدها.» ويأتي بها إلى فارزين وفق طلبها، وهي تشكو من ضيق النفس فلا تكاد تتحرك، وبسمارك مع أنه صار يملي على غيره ما يرسل من كتب قليلة، ومع أنه عاد لا يكتب من الرسائل بيده إلا نادرا ؛ خط بقلمه الأسطر الآتية بعد موت أخيه مرسلا إياها إلى أخته: «يجب ألا أزيد سوداء حنة بأن أدعها تلاحظ ما في من حزن، فهي منهوكة القوى، وتتوقف حياتها على المؤثرات النفسية، واليوم لدينا أخبار مكدرة عن بيل لإصابته بداء المفاصل، وفي الماضي كان يسرني دوما أن أذهب إلى فارزين، وأما الآن فلا أكاد أوطن نفسي على السفر إليها لولا وجود حنة فيها، وأتمنى في الوقت الحاضر أن أقيم بمكان لا أغادره إلا إلى القبر، والعزلة هي ما أبحث عنه ... من أخيك المخلص الوحيد التعب من الحياة: فون بسمارك.»
وفي الخريف تموت حنة بالغة السبعين من عمرها، وفي الليلة السابقة استطاعت حنة أن تكلمه حول المائدة عند تناول العشاء، وفي الصباح ذهب إلى غرفتها فوجدها متوفاة، ويجلس رجل القوة هذا حافيا لابسا ثياب النوم ويبكي كالطفل، فقد خسر شيئا لا يعوض، وكان هذا من ملاءمة ثنائية حياته ما قابل معه في المساء نفسه بين نهاية سلطانه السياسي ونهاية حياة هذه الصادقة، «وهذه نهاية أعظم مما في سنة 1890؛ لما لها من الأثر العميق في حياتي، ولو بقيت في الخدمة لدفنت نفسي في العمل، وقد ضن علي بتلك التعزية.»
وفي اليوم التالي يأخذ وردة من إكليل، ويذهب إلى خزانة كتبه، ويتناول مجلدا من التاريخ الألماني ويقول: «قد يغير هذا أفكاري».
والآن يوجد محل خال في حياته، ولا شيء يستطيع أن يقوم مقام تلك النظرة الهادئة المخلصة التي كان يمكنه أن يغوص فيها حينما يود أن ينسى لبضع دقائق مناضلاته وإهاناته، واليوم يسأل أخته عن سبب سكنها بعيدة منه: «وهكذا يصنع ولداي اللذان نشدا الاستقلال عن ظل المنزل الأبوي، وابنتي المحبوبة ماري هي عندي ... وهي إعارة لدي ... وكان كل ما بقي لي هو حنة وصلتي بها وقلقي الدائم حول صحتها وما أحمله من شكر لها منذ ثمانية وأربعين عاما، والآن كل شيء باطل، والآن كل شيء خال، وهذا الشعور جائر، ولكن ما بيدي حيلة، وأعذل نفسي لما كان من كفراني تجاه حب الشعب وشكرانه لما قدمت إليه من خدم، وإذا كنت قد تمتعت في السنين الأربع الأخيرة بذلك الحب والعرفان بالجميل فلتمتع حنة بهما أيضا، واليوم خبت تلك الشعلة في، فأدعو الله ألا يطيل عمري ... اغفري لي شكواي هذه يا أخت قلبي الصغيرة، فلن أعيش كثيرا.»
وبسمارك في عزلته تعود أفكاره إلى عهد شبابه، فهو لم يلبث أن صار يقص أمورا لم يحدث بها أحدا قبل الآن، ومن ذلك: «كنت في السنة السادسة من عمري عندما علمت نبأ موت نابليون، وأحد المنومين هو الذي أخبر أمي بذلك، وقد أنشد أمي قصيدة إيطالية تبدأ بكلمة: كان!» وهكذا يبدو أول القرن في آخره، وهو يتكلم عن الماضي كما لو كان شعر مانزوني
3
يدفعه إلى القول لنفسه: «كان!» ومما حدث ذات مرة أن تكلم بسمارك الشيخ عن كنيبهوف، فكتب يقول لصهره:
عزيزي أوسكار! لقد بلغنا من الكبر ما لا نطمع معه أن نعيش طويلا، أفلا نستطيع أن نجتمع ونتحادث مرة أخرى قبل حل تلك الخاتمة؟ مضت ست وستون سنة أو سبع وستون سنة على الزمن الذي كنا في الكلية قد اجترعنا فيه الجعة من القنينة لأول مرة، وكان هذا على الدرج القريبة من الطبقة الثالثة، فدعنا نشرب معا قبل فوات الأوان، أود أن أسمع صوتك مجددا قبل أن ... ألا تركب القطار قبل مغادرة برلين؟ ولم لا تركب قطار همبرغ بدلا من قطار ستيتن؟
ويظل هذا الكتاب على مائدته بسبب لطخ مداد، فلم يرسله إلا مؤخرا، فبسمارك في وحدته هذه يشتاق إلى عشرة رجل أهمله مدى حياته، والآن بعد موت زوجه وعند بعد ولديه يريد أن يسمع صوت وداد، وهو وإن بقي واقعيا عادا للسنين ذاكرا المكان الذي شربا فيه الجعة أيام الطلب؛ يشعرنا بأنه عاد لا يتبسم عندما يكتب.
وهل ذهب نشاطه الذهني بين تلك الكروب؟ وهل غفل عن الريخ؟
كلا، لم يغب عنه ذلك، ولم يذهل عن أعدائه الحاكمين؛ ففي فصل الخريف من سنة 1896 بدت نتائج عدم تجديد المعاهدة الروسية؛ فقد سافر القيصر إلى باريس، وجنت فرنسة ابتهاجا بروسية، ويقرأ بسمارك في الصحف الألمانية أن قطع الصلات بروسية من زلاته فيشتاط غيظا، ولا غرو؛ فهو يعرف جيدا من هم المسئولون عن التصام عن إنذاراته، ولن يدع أحدا يدعوه هادما ما بقي حيا، ويستل سيفه خوضا لغمار معركة قاتلة، ويدل الشعب الألماني على أولئك الذين يحملون تبعة عزل ألمانية في الحقيقة، ويكتب في جريدته:
كانت تانك الإمبراطوريتان حتى سنة 1890 متفقتين اتفاقا تاما على أن إحداهما إذا ما هوجمت ظلت الأخرى محايدة ساعية إلى الخير، فلما اعتزل الأمير بسمارك لم يجدد هذا الاتفاق، وإذا كان ما لدينا من أخبار دقيقا حول ما حدث في برلين وجدنا أن الكونت كابريفي هو الذي رفض دوام ذلك الضمان المتقابل، لا روسية التي ساءها ما وقع من تغيير في المستشارية والتي كانت مستعدة لصنع ذلك مع ذلك، وبهذا يفسر أمر المرسيلياز في كرونشتاد، والذي نراه هو أن خطأ سياسة كابريفي هو الذي أسفر - للمرة الأولى - عن تأليف ما بين إمبراطورية القيصر المطلقة والجمهورية الفرنسية.
وتلقي أوروبة السمع، ويئن الألمان، وما كان المجاهد الشيخ ليجرح الإمبراطور بأبلغ من تلك الطعنة النجلاء، وتجيب جريدة «رايخسانزيجر» عن ذلك متلعثمة: «إن أمورا دبلمية كالتي هي موضوع بحث، هي من أسرار الدولة التي يجب حفظها حفظا وثيقا، وإن كتمها بدقة هو واجب دولي، وعكس ذلك يصيب مصالح الدولة بضرر كبير.» ويكتب آخرون عن الخيانة العظمى وعن السجن مع الأشغال الشاقة وهلم جرا، ويبرق الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور فرنسوا جوزيف إبراق الظافر بقوله: «والآن تعرف - كما يعرف جميع العالم - علة عزلي الأمير.»
ومع ذلك يرسل الإمبراطور تريبيتز إلى الأمير في الصيف آملا أن يقول بسمارك شيئا مفيدا للأسطول، ولكن المستشار السابق يركب متن العناد، فهو بدلا من أن يجيب عما يسأل عنه، يعرب عن رأيه في الإمبراطور «غير متحفظ كثيرا»، فيضطر تريبيتز إلى إراءته بزته الرسمية، ويقول بسمارك مستنتجا: «بلغ الإمبراطور أنني لا أرغب في غير بقائي وحدي وفي غير الموت مستريحا.» بيد أن العاهل الشاب لم يدعه وحده على ما أهانه به هذا الشائب؛ فالإمبراطور يشعر دوما بانجذابه إلى الشيخ الساحر، فيزوره قبل موته بستة أشهر مع حاشية كبيرة، وذلك بلا دعوة وللمرة الثانية.
والشيخ يجلس أمام بيته على كرسيه ذي العجلتين، والشيخ يدعهم يمرون أمامه عارضا لجميعهم، فلما مد لوكانوس إلى بسمارك يده التي كان قد سلم بها كتاب العزل إليه «جمد الأمير كالتمثال، فلم تتحرك عضلة في وجهه كما لو كان شاخصا إلى ثغرة في الفضاء.» ويقف لوكانوس أمامه مختلج الوجه، ثم يدرك لوكانوس الأمر وينصرف، ويفكر المضيف حول المائدة في توجيهه آخر إنذار إلى ضيفه وخصمه الذي لن يراه مرة أخرى، ويستوحي اعتزازه التقليدي فيبدأ للمرة الأولى بعد سبع سنين بمحادثة الإمبراطور حول السياسة العالمية، ويحول ولهلم الحديث إلى مزاح، ويحاول بسمارك الرجوع إلى حيث وصل، ويأتي الإمبراطور بنكتة أخرى، ويذعر رجال البلاط، ويقول الشاب مولتكه همسا: «يا للهول!»
ثم يتحول بسمارك إلى نبي، ويشعر بسمارك بأن الساعة تمضي، وبأن حياته تنقضي، وبأنه لن يبصر الشاب الذي اغتصب منه إمبراطوريته مع أنها ثمرة جهاده في حياته، ويرى بسمارك أن هذا العاهل سيضيع البلاد ويخسر تاجه - عاجلا كان ذلك أو آجلا - وأن من الواجب أن يخبر بالخطر الذي يسير إليه قدما، فربما يهزه صوت المحتضر، وهنالك يقول بسمارك بغتة وبصوت يسمعه كل من كان حول المائدة: «يا صاحب الجلالة، يمكنكم - لا ريب - أن تصنعوا ما تودون ما دام هؤلاء رجالكم، ولو حدث غير هذا لتغيرت الأمور.» ويبدو الإمبراطور أصم، ويثرثر الإمبراطور وينصرف.
ويرسل القطب السياسي الشيخ إنذاراته ونبوءاته تباعا أمام خلصائه، فيؤثر هذا في كل واحد من هؤلاء، ومن ذلك قوله:
إذا ما أحسنت سياسة البلاد أمكن الحكومة اجتناب الحرب القادمة، وإذا ما أسيئت سياستها دامت تلك الحرب سبع سنين على ما يحتمل، والمدفعية هي التي تقرر مصير الحروب القادمة، ويمكن أن تستبدل المدفعية بالجيوش لدى الضرورة، فيجب صنع المدافع في أيام السلم، وقد تعلن روسية النظام الجمهوري في وقت أقرب مما يظن، والعمل أكثر نيلا للانتصارات في الكفاح بينه وبين رأس المال، ولا يلبث هذا أن يحدث في كل مكان يكون للعمال فيه حق التصويت، وسيكون النصر النهائي الحاسم للعمال.
وما وجهه بسمارك إلى ألمانية من إنذارات فجميعه وليد شجاعة وإقدام، وقد بلغ بسمارك من صفاء النفس ما صار يمكنه أن يتهم معه نفسه، ومن قوله: «قد يكون الوجه الذي قمت به بوظيفتي علة ما يبصر في ألمانية من عدم حزم، وقد يكون ذلك سبب ما ينمو في ألمانية من الوصولية والملق على حساب الكرامة، وكل شيء يتوقف على تقوية الريشتاغ، وهذا لا يتم إلا بانتخاب نواب مطلقي الاستقلال، والريشتاغ ينحط، فإذا داوم على انحطاطه بدا المنظر قاتما لا ريب، وأعتقد أن الأزمات القادمة أشد خطرا من كل ما حدث، ولم أزل أرى ألا يطاع أحد خير من أن تحاول قيادة الآخرين. وإن شئتم فقولوا إنني كنت ذا رأي جمهوري، ولعل الله يهيئ لألمانية دور مجد بعد دور بوار، ولا مراء في أن ذلك سيقوم على أساس جمهوري.»
الفصل الحادي عشر
بسمارك أتى من الغابة وإليها يعود، وبسمارك ماتت زوجه وأصدقاؤه، وماتت خيله وكلابه، وعاد لا يبالي بأولاده ولا بحفدته، ونزع منه السلطان، وغدا غضبه على ضياع سلطانه لا يهزه، وصار يقاسي آلاما في أعضائه؛ لبلوغه من الكبر عتيا،
1
والآن يلزم جانب الصمت ذلك الذي بلغ الثمانين من سنيه وهو يفتن العالم بما يكتب، والآن لا يكاد هذا الشيخ يشرب، والآن يجلس على كرسيه مستمعا لثرثرة الشبان، والآن لا يبدو غير ظل لبسمارك!
ولم تزل الغابة ذات أثر كبير في حياة بسمارك عند مجاوزته سنواته الأخيرة، وصار بسمارك في الثالثة والثمانين من عمره ولما ينفك عن السير في الغابة صامتا غير مبال بسوى أفكاره الخاصة، وقد قال: «ليس لي الآن غير الغابة ملجأ.» وأصبح بسمارك لا يلتفت إلى الحقول موليا وجهه شطر شجر الصنوبر الذي غرسه في دوغلاس منذ سنين منجذبا إلى المغارس وإلى أقسام الغابة المشتملة على أقدم الأشجار التي يهز النسيم أوراقها فيسمع لها حفيف، وتتجمع الزرازير وراء المنزل، فيقول: «إنها تعقد مجلسا شعبيا لاقتراب الربيع.» وينتظر ظهورها على المصطبة مساء عارفا كل واحد منها، «ولم يأت غير خمسة منها مع أن عددها سبعة، ويكون رئيسها آخر ما يحضر، ويمكنها أن تنام وتنهض بلا ألم.» ثم يذهب إلى الحوض ويفكر في أقوم الطرق لتسوية ما بين الإوز والبط والجرذان من خصام دائم، ويريد أحد ضيوفه أن يخرج لابسا عمرة
2
عالية فيعرض عليه لبادته الخاصة قائلا: «أعف شجري من رؤية هذه الأداة!»
وحب بسمارك لأشجاره أكثر من حبه لزواره ومن حبه لألمانية، وقد قال محدثا عن الأشجار ذات مرة إنها من الأجداد، والآن يود اتخاذ مقره الأخير بينها، ويختار صنوبرتين عظيمتين ويطلع عليهما خلصاءه ويقول لهم: «أريد أن تكون راحتي الأبدية هنالك في المكان الأعلى بين تينك الشجرتين حيث هواء الغابة الطلق وحيث يمر علي نور الشمس والنسيم العليل، فمما أكرهه أن أوضع في صندوق ضيق وأحبس تحت الأرض.» ثم يتكلم عن الهنود وقدماء التوتون الذي يعلقون موتاهم بين ذرى الشجر، يقول هذا وهو يعرف أن ضريحا ضخما ينتظره في مكان آخر، يقول هذا وهو يعرف أن كتابة قبره تنقش، وتجده يميل إلى مردة الغابة مع ذلك، ولو كان يستطيع السير وراء ميله ما كان له ضريح ولا كتابة قبر غير الريح ونور الشمس.
إذن، ينتهي بسمارك كما بدأ وثنيا ثوريا قائلا بوحدة الوجود، وينم على هذا كل كلمة فاه بها بين خلصائه، وبسمارك مع ذلك يرضى الآن كما رضي في الماضي بطقوس المؤمن بإله النصارى، وسيكون له قبر شريف، وستنقش أسلحته على هذا القبر، وسيقال على حجر قبره إنه خادم الملك المخلص مع أنه لم يكن خادم أحد وقد مارس القيادة مدة أربعين سنة، ولم هجر غاباته التي كان فيها وحده مع النور ومع الرب فيبدو ملكا في أرضه؟ ولم تحول عن الفلاحين والطرائد وأشجار البلوط المئوية التي كان يلعب تحتها وليدا وينعم النظر فيها شابا ويستجم حولها سياسيا ويستمع لحفيف أوراقها شائبا؟ وما الذي ربحه فؤاده من هذا الرحيل؟
كلا، لا رضا، وتتبدد أوهام الشيخ، ويكره على الزهد، وهو حين يفكر في هذا يبحث عبثا عن ساعات العمل التي كانت له سعادة فيها، ولم تكن له نشوة من نجاح أو مجد أو جلال أو نصر، أو من انتقام تقريبا، ويبصر دنو أثره من الخطر نتيجة لجهل خلفائه، ويبصر ارتجاج أثره نتيجة لخفة خلفائه، ويرى تمايل أثره في العصر الجديد، وسيدب الوهن فيما شاده، وسيكون موضع شك ما وجده ثابتا، وسيصاب بالعطب مبدؤه حول الدولة، فلن يكون العاهل صاحب السلطة العليا، ولن يكون الشعب محل ازدراء، وهو إذ يقذف به خارج سبيله يغدو ضمن دائرته الواضحة الغامضة، ولا يجد في كل وقت أجوبة عن الأسئلة التي وضعها عن العدمية في أثناء فتائه متبعا تلك الطرق التي كان بسمارك الصبي يسلكها راكبا حصانا، فصار بسمارك الشائب يسلكها راكبا عربة صامتا مفكرا في وسط الغابة.
وتمضي ثلاثون سنة، فيقف الألمان عند ضريح بسمارك ويخفضون راياتهم تحية له، وكان البناء الذي شاده هذا المعلم من البساطة والمتانة ما عاش معه أطول مما جاء في نبوءته، وقد زال جميع أمراء الألمان الذين استند إليهم في إقامة الريخ، ولم يجرؤ أحد منهم أن يمتشق مثل الحسام الذي كان يستله أمير فردريكسروه ببسالة حتى في الثمانين من سنيه، وترى الإمبراطورية ثابتة أمام عمايات أوروبة مع ذلك، وترى تلك القبائل الألمانية التي لم يؤخذ رأيها قط، وترى تلك الشعوب الألمانية التي عدت موافقتها غير ضرورية، وترى تلك الأمة الألمانية التي ظلت قبل ذلك منقسمة ألف سنة، قد ظهرت متحدة في أثناء الحرب الكبرى، وبقيت حية بعد تغيير نظام الحكم، فهي وإن خسرت ملوكها وأمراءها لم تخسر وحدتها الألمانية.
وتعيش ألمانية، وقد خذلها أمراؤها في محنتها، غير أن الشعب الألماني الذي اعترف بسمارك بمزاياه الرائعة بعد حين ظل ثابتا، فأنقذ أثر بسمارك من الدمار.
فهرس التواريخ
الجزء الأول (1815-1851)
1771:
ولادة فرديناند فون بسمارك، والد أوتو.
1790:
ولادة ولهلمين منكن، أم أوتو.
1810:
ولادة برنهارد فون بسمارك، أخي أوتو.
1815:
ولادة أوتوفون بسمارك في الساعة الواحدة بعد الظهر من اليوم الأول من أبريل.
1816:
إقامة آل بسمارك في كنيبهوف.
1822:
بسمارك يدخل معهد بلامان ببرلين.
1827:
ولادة ملفين فون بسمارك، أخت أوتو.
1832-1833:
بسمارك طالب في غوتنجن.
1833:
يتعرف برون.
1835:
يتمرن في محكمة بلدية برلين.
1836:
مقرر في إكس لا شابيل.
1836-1837:
خاطب مرتين.
1837:
مقرر في بوتسدام.
1839:
وفاة أمه واستقراره بكنيبهوف.
1842:
خاطب للمرة الثالثة.
1844:
معاشرته تادن وبلانكنبرغ، خطط رحلة في آسية، ملفين تتزوج أرنيم كروشلندورف.
1845:
وفاة أبيه واستقراره بشونهاوزن.
1846:
يصير مراقب الأسداد، موت ماري بلانكنبرغ.
1847:
خاطب حنة فون بوتكامر (ولدت سنة 1824) نائب في اللندتاغ الموحد، خطبته الأولى، زواجه.
1848:
ولادة ابنته ماري.
1849:
نائب في المجلس الأدنى، ولادة ابنه هربرت.
1850:
نائب في برلمان إرفورت.
1851-1858:
سفير لدى البندشرات في فرانكفورت.
الجزء الثاني (1852-1862)
1852:
ولادة ابنه ولهلم بيل.
1855:
زيارته الأولى لنابليون الثالث.
1858:
يصبح الأمير ولهلم وصيا على العرش.
1859-1862:
يعين سفيرا في سان بطرسبرغ.
1859:
مرض شديد.
1861:
ينادى بولهلم ملكا لبروسية.
1862:
يعين سفيرا في باريس، يزور بياريتز.
الجزء الثالث (1862-1871)
1862:
يعين رئيسا للوزارة ووزيرا للخارجية.
1862-1866:
تصادم الحكومة والبرلمان.
1864:
لاسال يجتمع به، الحرب الدانيماركية.
1865:
معاهدة غاستن، يجتمع بنابليون الثالث في بياريتز.
1866:
محاولة قتل بسمارك في شارع أنتردن لندن، نصر على النمسة.
1867:
إقامة جامعة دول ألمانية الشمالية ونصبه مستشارا للجامعة، المهر الأول وابتياع فارزين.
1869:
يقدم استقالته للمرة الأولى.
1870:
برقية إمس والحرب الفرنسية الألمانية.
1871:
إقامة الإمبراطورية الألمانية (الريخ) وتعيينه مستشارا لها، الإنعام عليه بلقب أمير يرثه الخلف عن السلف، معاهدة صلح فرانكفورت، المهر الثاني، ابتياع فردريكسروه.
الجزء الرابع (1872-1888)
1872:
الكفاح الثقافي، تحالف الأباطرة الثلاثة، زيارة موتلي الأخيرة، يقدم استقالته للمرة الثانية.
1873:
قوانين مايو المضادة للكاثوليك، حملة المحافظين القائمة على الافتراء، رئاسة رون لمجلس الوزراء واعتزال رون.
1874:
محاولة قتل بسمارك في كيسينغن.
1875:
يقدم استقالته للمرة الثالثة.
1877:
يقدم استقالته للمرة الرابعة.
1878:
محاولة قتل ولهلم الأول مرتين، القانون المضاد للاشتراكية، مؤتمر برلين.
1879:
تحول في السياسة الخارجية، محالفة النمسة.
1880:
مرض، يقدم استقالته للمرة الخامسة، وزير للتجارة.
1881:
فاجعة هربرت الغرامية.
1883:
التحالف الثلاثي، نجاح الطبيب شويننجر في معالجته.
1887:
معاهدة الضمان .
1888:
موت ولهلم الأول.
الجزء الخامس (1888-1898)
1888:
عهد فردريك الثالث وموته.
1889:
آخر خطبه في الريشتاغ.
1890:
يقدم استقالته للمرة السادسة، تسريحه، الإنعام عليه بلقب دوك لوينبرغ، عدم تجديد المعاهدة الروسية.
1892:
مقاطعته في فينة، سياحة ناجحة في ألمانية.
1893:
موت أخيه برنهارد فون بسمارك، مرض شديد.
1894: «تسوية» مع ولهلم الثاني، موت الأميرة حنة.
1895:
بلوغه الثمانين من عمره.
1896:
إفشاء حول المعاهدة الروسية.
1897:
توجيه آخر إنذار إلى الإمبراطور.
1898:
وفاة أوتوفون بسمارك في 30 من يوليو (الساعة العاشرة مساء).
صفحه نامشخص