وكان بدن مسلمة يختلج، وهو يقول ولا يكاد صوته يبلع أذنيه: هيه يا أبا عتيبة! - ثم رأيتك في الرقة، وكان ثمة أخي عتبة قد جلس بين ولديه بشير ونوار، ورأيتك تدني عتيبة ولدي منك فتضمه إليك، وعلى شفتيك كلمات لا أسمعها، وتفيض برك على أخي وولدي وأهلي جميعا، لا تستثني منهم أحدا، ثم تمضي وعلى شفتيك كلمات لا أسمعها كذلك ...
ثم ماذا يا أبا عتيبة؟ - ثم أراني وإياك على راحلتين في أرض البلقاء، نقصد ذلك الدير الذي لقينا فيه ذلك الراهب ذات يوم فحدثنا، ولكننا نجد الراهب قد مات، فنرجع محزونين وأنت تقول: قد انقطع الوحي منذ محمد، وما صدق الراهب ولا بر، بل كذب وفجر، وإن وافقه القدر؛ ولولا علالة نفس تستشرف إلى معرفة ما استسر في غدها من غيب الله؛ ما غبرت قدمي في هذه البادية ألتمس إلى التسلية سببا وأنشد راحة نفس. - ثم ماذا يا أبا عتيبة؟ - ثم أفقت من إغفاءتي فإذا أنا على هذا الطريق في ركب الحاج إلى مكة ، قد شرفني مولاي بصحبته وبسط لي معروفه وبره. - ذاك حقك علينا يا أبا عتيبة، ولكن ما شأن ولدك عتيبة هذا وما خبره؟ فقد شوقتنا إليه يا صاح! - فتى يخطو إلى الشباب، قد خلف أباه على أهله، وحفظ عنه الولاء لأميره، فهو غلامك يا مولاي وإن لم يكن له حظ الرؤية وشرف المصاحبة. - فقد صار له علينا الحق - إذن - أن نثبته في ديوان الجند، وأن نقدر له الأعطية، ونعفيه من عبء الجهاد، حفاظا لعهد أبيه، واعترافا بما أبلى في الحرب وما لا يزال يبلي ... - بورك لك يا مولاي! - وبورك لك يا أبا عتيبة. - ولكن هذه الرؤية التي رأيت ... - اكتمها يا نعمان، فلا تقصصها على أحد؛ حتى ندخل المدينة، فنلتمس ابن سيرين
8
في مسجد رسول الله فنقصها عليه، فنسأله تعبيرها، وإني لأرجو أن تكون خيرا بشرت به. - وانسرح مسلمة في واد سحيق، والهواجس تصطرع في رأسه، وانسرح النعمان في واد آخر ...
هذه الرؤيا التي قصها النعمان على مسلمة لم تكن غريبة عليه؛ لقد تراءت له في إغفاءته تلك القصيرة - كما تراءت لصاحبه، وكما قصها عليه - ولو كانت أضغاث أحلام
9
لما تراءت في صورة واحدة لرجلين قد اختلفا نفسا، وتباعدا آمالا، وتباينا في أسلوب العيش، وإدراك صور الحياة!
وخطرت في رأس مسلمة صورة أمه ورد، ثم غابت في حواشي الظلام، وخفق قلبه خفقة؛ لقد خلفها في دمشق مريضة، أتكون الآن في اللحظة التي تذكر فيها كل أم ولدها، وولدها بعيد قد لفه الليل في مجاهل البادية، فليس له سبيل إلى لقائها؟
وضاق صدره، ولكن نسيم الليل الهاديء لم يلبث أن رده إلى نوع من الهدوء يشبه الاستسلام؛ فاطرح كل ما كان يصطرع من الأوهام في رأسه، وأقبل على ذكر الله مطمئنا راضيا مؤمنا بقضاء الله وقدره.
الفصل الحادي عشر
صفحه نامشخص