وقال أبو محمد ولم يزل يشرق بضحكته: لقد أذكرتماني أمرا حانت مناسبته، فقد كنت بأنطاكية ذات يوم من سنة 70، وقد زحف الروم بجحافلهم يلتمسون غرة عبد الملك، حين اشتغاله بحرب ابن الزبير وتوقي مكايد عمرو بن سعيد ومقاومة الخوارج،
9
وبدا للروم كأنما دانت لهم أنطاكية وانفتح البر، ولم يكن ثمة جيش للعرب يصد غاراتهم، واستضعف المسلمون فأوى منهم من أوى إلى داره، وفر من فر إلى خارج المدينة، ورأيتني ذلك اليوم بغتة بين كوكبة من جند الروم، يسوقون في الحبال ثلاثة أسارى من العرب، وليس معي إلا سيف مفلول، قد تحطم من كثرة الضراب، وهتف بي الأسارى في أغلالهم يطلبون النجدة: إلينا يا أخا العرب!
وثارت حميتي، فحملت فردا على الجماعة بسيفي المسلول، لم أحفل بما تنال سيوفهم من لحمي، وقصدت إلى الأسارى أريد أن أخلصهم من أيدي القوم، وتوالت علي الضربات لا أكاد أحس وقعها على جسدي، وأوشكت أن أخلص الرجال، بعد أن جندلت في طريقي إليهم بضعة نفر، وهتف أحد الأسارى بصاحبيه: أبشر عتبة! أبشر سعيد! وهتف آخر منهم - وهو يشير إلى جانبي فزعا: فديتك يا بطال ... احذر! ونظرت إلى حيث كان يشير؛ فإذا رومي في زي بطريق قد رفع سيفه على رأسي، فهممت أن أخلى للضربة القاسمة، ولكن سيفه نالني ...
ثم كشف أبو محمد عن كتفه؛ فإذا أثر ضربة غائرة في حبل العاتق مما يلي العنق ... واستأنف أبو محمد: فذلك أول ما سمعت كلمة «البطال»!
كان النعمان يسمع ذاهلا، قد اختلجت شفتاه وحال لونه، فلم يكد يسكت أبو محمد البطال حتى ابتدره سائلا في لهفة: وماذا صنع بالأسارى؟ - لست أدري؛ فقد أعجلتني ضربة قسطنطين عن تخليصهم، فنجوت من الموت ولم أكد! - من قسطنطين؟ - ذلك البطريق الذي نالني بتلك الضربة، لقد لقيته بعدها في بعض الصوائف، وعرفته وعرفني، ولكنه أفلت من يدي ... - والأسارى؟ ...
قال البطال مستخفا: وما عنايتك هذه بهؤلاء الأسارى وقد مضى زمان؟ وكم بين العرب والروم من قتلى وأسارى! - قد قلت: إن عتبة كان أحد هؤلاء الثلاثة؟! - ومن عتبة هذا؟ - إني لأظنه أخي. - أخاك؟! - نعم، فقد خرج للغزو منذ ذلك التاريخ فلم يعد، ولم تكن صوائف ولا شوات يومئذ، فقد كان عبد الملك في شغل عن الصوائف والشواتي بحرب الخوارج.
صمت البطال برهة وهو يحدق في وجه صاحبيه، ثم قال موافقا: قد يكون إياه ...
وكان عبد الوهاب بن بخت صامتا، يستمع إلى ما يدور من الحوار بين الرجلين في اهتمام، ثم عقب: بل إني لأرجو أن يكون إياه.
فالتفت إليه النعمان قائلا وقد شاع في وجهه الأمل: عندك ما تقول يا أبا عبيدة؟ - نعم، فقد كان أحد الثلاثة سعيد بن جنادة، وقد خلص بهم الروم إلى البحر، فاحتملوهم أسارى على ظهر سفينة رومية، ولكن ابن جنادة التمس غرة من القوم، فألقى بنفسه من السفينة بعد ما أبعدت عن الساحل، فبلغ البر سابحا ... وقد لقيته فحدثني ... - بماذا حدثك؟ - قال: إن أحد صاحبيه اسمه عتبة الرقي، أليس بلدك الرقة؟ - بلى، وماذا قال غير هذا؟ - لم يحدثني عنهما أكثر من ذاك. - وأين ابن جنادة هذا؟ - مات تحت أسوار ملطية
صفحه نامشخص