ومن تناسق هذه الشخصية البسيطة أنها تطرد في آرائها وخلائقها، فما بدا منها دليل على ما استتر، ومن عرف رأيا لها في مسألة خطيرة، أوشك أن يعرف سائر آرائها في المسائل الأخرى، وهذه الفلسفة الدينية التي آمن بها فرنكلين تغنينا عن الإسهاب في تفصيل فلسفته الأخلاقية، بل ربما كان الأصلح أن نقول: إن فلسفته الدينية قائمة على قواعده الأخلاقية؛ لأنه يقيم الفضيلة على قواعد المصلحة العليا: مصلحة الفرد ومصلحة النوع بأسره، فهي مطلوبة؛ لأنها صالحة باقية، والرذيلة مكروهة لأنها فاسدة زائلة، ومن وازن بين مسرات الفضيلة وآلامها خرج من الموازنة بإيثارها على الرذيلة؛ لأن آلام الرذيلة أكثر من مسراتها، وكثير من مسراتها زائف مدخول يجني الضرر على صاحبه أو على غيره، خلافا لمسرات الفضيلة التي تصح في جوهرها ولا يخشى منها الضرر على أحد.
ولم يكن فرنكلين مثاليا حالما في رأي من آرائه، ولكنه لم يكن كذلك من الإباحيين المستهترين بالمبادئ والقيم الأدبية، بل كانت له خطة يروض نفسه على اتباعها ويحاسب نفسه على التقصير فيها، وقد بلغ بهذه الخطة مرتبة الاعتدال، ولم يبلغ بها مرتبة العصمة بطبيعة الحال، فهي في شئون الآدميين ضرب من المحال.
كان خاطئا ولم يكن إباحيا، وكان من خطاياه ما عرفه الناس بغير اختياره، ومنها ما عرفوه من كلامه؛ إذ اعترف بانقياده للشهوات في شبابه، وعاب على نفسه أنه انقاد لهذه الشهوات حتى اندفع إلى عشرة بعض النساء ممن لا أخلاق لهن ولا كرامة، وجملة ما يفهم من وصاياه ومن معاذيره في شئون الأخلاق الاجتماعية أنه يحارب الفساد، ويحسب منه رياء المجتمع في التمييز بين المفسدين، فإنه يأخذ المرأة بالذنب ويعفي شريكها منه، وقد ينسى الحقائق في سبيل المراسم والتقاليد، وعليه اللوم إذا فسد من بنيه وبناته من هو مستعد للصلاح ومن هو صالح لأن يكون عضوا من أعضاء المجتمع كالعضو السليم في البنية الحية.
وقد نشر - وهو في الحادية والأربعين - نبذة في مجلة الجنتلمان عن امرأة سيقت إلى ساحة القضاء ليعاقبها على الولادة بغير زواج، ووزرها في سوء الحظ أكبر من وزرها في سوء النية كما يؤخذ من كلامها الذي ألقاه فرنكلين على لسانها، وهذه فقرات منه بعد مقدمته القصيرة:
كل ما أرجوه في ضعة وانكسار أن تتشفعوا لي لدى الحاكم أن يعفيني من الغرامة التي تحكمون بها علي. فهذه خامس مرة - أيها القضاة الأجلاء - أساق فيها أمامكم لتهمة واحدة. وقد عوقبت مرتين؛ لأنني عجزت في المرتين عن سداد الغرامة المقررة. وربما كان هذا موافقا لحكم القانون فلا أناقش فيه، ولكن القوانين أحيانا تخطئ فيتقرر إلغاؤها من أجل ذلك، وغيرها يجثم ثقيلا على كواهل الرعية في بعض الأمور، فيجعل من حق السلطان أن يرفع أحكامها أو يخففها.
فاسمحوا لي أن أقول: إن هذا القانون الذي أدان به مناقض للعقل في ذاته وقاس بالنسبة إلي خاصة من جهة أخرى - أنا التي قضيت ما قضيت من حياتي في جيرتي غير عادية ولا باغية على أحد، وأتحدى عداتي - إن كان لي عداة - أن يذكروا اسم رجل أو امرأة أو طفل أسأت إلى أحد منهم، فإذا تركنا قضاء هذا القانون جانبا فلست أفهم ما هي الجناية التي أعاقب عليها.
لقد ولدت خمسة أولاد أصحاء مخاطرة بحياتي، وقد ربيتهم بجهدي وكسبي دون أن أثقل على المدينة بمنحة أو معونة، وكنت خليقة أن أحسن تربيتهم فوق ما أحسنت لو لم تؤخذ مني تلك الغرامات الثقيلة التي فرضت علي. أفيحسب من الإجرام في طبائع الأشياء أن أزيد عدد السكان في وطن لا يزال في حاجة إليهم؟ أخال أنني أحمد على هذا ولا ألام، وما حدث مني أنني أغويت زوج امرأة أو أغريت أحدا من الفتيان، وما عوقبت قط على جريمة من هذا القبيل ولا اقترفت ما يشكوه أحد قط، اللهم إلا أن يكون مكتب العقود قد خسر الرسوم التي يتقاضاها على الزواج.
على أنني أسأل: هل يحسب هذا من خطئي وتقصيري؟ إنني ألجأ إلى عدالتكم وقد تفضلتم فقلتم: إنني مالكة لقواي العقلية، ولا تعوزني سلامة الفكر والإدراك، وإنني لأكونن على غاية من الغباء لو رفضت الزواج وآثرت الحالة التي أنا عليها الآن على الحياة الزوجية، وقد كنت ولا أزال راغبة في تلك الحياة ولا أشك في صلاحي لها وحسن قيامي بمطالبها؛ إذ كنت على نصيب من النشاط والقصد، ولست بالعقيمة ولا بالقاصرة في تدبير شئون الدار، وأعود فأتحدى كائنا من كان أن يزعم أنني رفضت طلبا للزواج، بل حدث على نقيض ذلك أنني تقبلت الطلب الوحيد الذي تقدم به أول خاطب لي وأنا بعد عذراء، ووثقت به وبإخلاصه فعبث بي وهجرني وفي جوفي جنين.
وأرجو أن تعلموا جميعا أن هذا الخاطب قد أصبح قاضيا في هذا الإقليم، ولكم وددت لو كان جالسا اليوم بينكم على منصة القضاء عسى أن يوصيكم بالرفق في توقيع الجزاء علي، وكنت إذن لا أبالي أن أذكر ما ذكرت من أمره. ولكنني أقول الآن مضطرة أنه ليس بالعدل ولا بالمساواة في الجزاء، وأنه ليس من الإنصاف أن يكون المسيء إلي والمتخلي عني والسبب الذي أوقعني في كل جريرة - آمنا مترقيا إلى مناصب الشرف في الدولة التي تدينني بوصمة العار والمسبة.
ولقد يقال لي: إن الخطيئة خطيئة الدين إن لم يكن لهيئة التشريع حكم فيها. فإن تكن خطيئة دين فدعوها إذن لرب الدين، وقد حظرتم علي أن أدخل كنيستكم. فما بالكم لا تقنعون بهذا الحرمان.
صفحه نامشخص