بناء امّه عربی
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
ژانرها
وأصبحت طرابس الغرب ولاية تحكمها الدولة حكما مباشرا منذ 1835، واقترن ذلك في نفس الوقت بأمر آخر أكثر خطورة هو نشأة تنظيم آخر في نفس الولاية، هو ما تطلق عليه اسم «التنظيم السنوسي» وقد عرفت بلاد أخرى السنوسية، عرفتها مصر - أو على الأقل واحاتها وصحراؤها الغربية - وعرفها سودان وادي النيل، ولكن السنوسية في طرابلس الغرب لها شأن آخر، فهي - وبصفة خاصة في برقة وما يلحق بها في الصحراء - تكفل للناس رعاية شئونهم من تعليم وتهذيب وإرشاد وحفظ أمن واستقلال موارد الأرض زراعة وأنعاما وتجارة.
وكان هذا بحكم عوامل سلبية وأخرى إيجابية، فأما العوامل السلبية فأهمها أن طرابلس الغرب لم تنل من عناية حكومة الدولة ما يجب لها، فهي بعيدة وفقيرة نسبيا، والدولة من جهتها لا تكاد تفرغ من حل أزمة داخلية أو خارجية إلا وتواجهها أزمة جديدة؛ فكانت النتيجة أن الحكم العثماني لم تكن له آثار ظاهرة إلا في الحواضر الكبرى، وترك ما يليها للزوايا السنوسية تعمل فيها على الوجه الذي رأينا. وبينما نرى الحكومة العثمانية عموما يغلب عليها الحذر، بل قد يهيئ لها هذا الحذر ألوانا من الوهم أو التخيل لوجود أخطاء لا حقيقة لها في الواقع، فإننا نجدها في طرابلس الغرب باتساعها عموما قد فهمت السنوسية على حقيقتها، فلم تكد لها أو تعطل عملها، بل نشأ خلال القرن الثاني عشر نوع من «التفاهم» وعدم تعرض أحد الفريقين للآخر. ويرجع هذا دون شك إلى أن السنوسية في الحواضر أو ما إليها لم يجاوز عملها الإرشاد الديني كما تقوم به أية طريقة من طرق التصوف، وركزت جهودها في زواياها المنبثة في المناطق الصحراوية والواحات وما إليها. بل إن الرياسة نفسها كانت في واحة الجغبوب أولا ثم في الكفرة ثانيا؛ أي إنها أوغلت في الصحراء، وكان عدوها الأكبر الاستعمار الأوروبي- الفرنسي طول الوقت في السودان الغربي ثم الإيطالي في برقة وطرابلس الغرب فيما بعد.
ومنشئ السنوسية السيد محمد علي السنوسي، شريف حسني من بلاد الجزائر ومن عباقرة الأمة العربية في تاريخها الحديث. درس في بلاده الأصلية وفي الحرمين وفي الأزهر، وتأثر بعوامل النهوض المتنوعة التي كانت تعمل في الجماعات في مختلف أنحاء البلاد العربية، ثم هداه اجتهاده وإخلاصه إلى ذلك التوجيه الفريد للسنوسية، وخلفه رجال من أبنائه وأبناء أبنائه، وكانت أحداث الغزو الإيطالي التي أتاحت للسنوسية امتحانها وفرصتها، وهيأت لها أن تكون «المحور» الذي ارتضاه أغلب من كان في أيديهم بناء الأقاليم الليبية بعد الحرب العالمية الثانية.
وأطماع إيطاليا في الساحل الأفريقي المقابل لها قديمة، وهو لها مهاجر، وأغضب الإيطاليين وضع الفرنسيين أيديهم على بلاد الجزائر وتونس، وعملهم على وضع أيديهم على المغرب الأقصى، واقتضى عمل فرنسا لامتلاك المغرب في يوم قريب أن تسترضي إسبانيا بشيء من المغرب الأقصى، وأن تطلق يد إيطاليا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية. وأقرت ذلك الدول الأوروبية المختلفة، وبدأت إيطاليا عملها الحربي في الثغور، وقاومت الحاميات التركية وجماعات الشعب ما استطاعت، ثم اتسع نطاق الحرب فعاث الأسطول الإيطالي في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، واستولى على رودس وجزائر أخرى، وضرب بيروت بالقنابل ... إلخ، وحرك هذا دول البلقان لتأليف حلف لمحو ما بقي للترك في البلقان، وكانت الحرب البلقانية الأولى، وأرغم هذا الدولة العثمانية على أن تسلم بفقدان طرابلس الغرب وعقد الصلح مع إيطاليا.
على أن الدولة العثمانية احتفظت للسلطنة وللخلافة بحقوق، وكانت عندما أرادت أن تتخفف من أعباء المقاومة لإيطاليا في طرابلس أن أقامت على نحو ما السنوسية في مقام النيابة عنها صاحبة السلطان في برقة. وقد يكون في هذا القول شيء من قلة التدقيق، ولكن كان المعروف - من جانب الأهلين ومن جانب الإيطاليين أنفسهم، ومن جانب العرب خارج طرابلس الغرب، ومن جانب الدول الأوروبية التي يهمها الأمر - أن السنوسية تحتل مكان الصدارة في حركة المقاومة.
وفي الحرب العالمية الأولى دخلت إيطاليا الحرب حليفة لفرنسا وبريطانيا، ودخلتها الدولة العثمانية حليفة لألمانيا والنمسا، وأدى هذا إلى انقسام في الزعامة السنوسية، كان من رأي السيد أحمد الشريف متابعة الجهاد وتوسيع رقعة ميدانه ضد إيطاليا وحليفاتها في مصر والسودان وغيرهما، وتنسيق خططه مع الترك العثمانيين وحلفائهم، وانتقل هو في النهاية إلى تركيا ثم الحجاز حيث وافته المنية، وكان من رأي السيد محمد إدريس قبول عقد اتفاقات مؤقتة مع الإيطاليين والإنجليز. وانتهت الحرب العالمية الأولى على هذا الوضع، ثم كان الانقلاب الفاشي الكبير في إيطاليا، واستيلاء موسوليني على السلطة في بلاده، ثم عمله على بناء إمبراطورية استعمارية كبيرة، وتحويل الأقاليم الطرابلسية البرقاوية إلى مستعمرة حقيقية، ومن ثم كانت سياسة الإرهاب والقمع والإبادة التي اتبعها الإيطاليون ضد الأهليين.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، وهزيمة إيطاليا، ووجوب تصفية حكمها في أفريقية الشمالية، واحتل البريطانيون أجزاء من المستعمرة، واحتل الفرنسيون فزان. ولو جرت الأمور وفق ما اشتهى البريطانيون وحلفاؤهم لخلص لهم النفوذ في برقة، ولتبرعوا للطليان بطرابلس نفسها ولفرنسا بفزان، وكانت مفاوضات ومحاولات ليس هذا موضع تفصيلها. وانتهى الأمر بتأليف المملكة الليبية المتحدة ومبايعة السيد محمد إدريس ملكا عليها. (2) تونس
أكثر أقسام الوطن المغربي العربي اتصالا بالمشرق، وأكثرها تشكلا بحياة الحواضر، وهذا من عصور سابقة؛ لاندماجه في العالم العربي، وهو أيضا يغلب عليه في تاريخه نزعة تشكيل شعب متماسك، وإن شارك سائر أقسام الوطن في بناء الدول المغربية الكبرى (ومركز بناء هذه الدول في الغالب المغرب الأقصى). ولزراعة تونس وتجارتها شهرة، وعلى العموم البداوة في القطر أقل.
وإلى تونس اتجه الغزو الأوروبي الصليبي كما اتجه إلى الثغور المغربية الأخرى، وتدخل رؤساء البحر العثمانيون في تونس لإنقاذها، كما تدخلوا في الجزائر وفي طرابلس الغرب، كان ذلك في القرن السادس عشر. وأصبحت تونس نيابة عثمانية - وقد شرحت معنى هذا الاصطلاح فيما سبق - والنائب هو «الباي»، ثم أصبحت «البايوية» وراثية فعلا - وإن لم تكن كذلك قانونا - في الدولة الحسينية، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر «كما كانت الحال في بيت القرامانلي في نفس الوقت في طرابلس الغرب كما رأينا»، وذلك مع الخضوع للسيادة العثمانية.
وفي خلال القرن التاسع عشر، أخذ أمراء البيت الحسيني بسياسة التجديد التي سارت عليها الدولة العثمانية نفسها ومصر على يد الخديويين، وعلى نفس الخطة سارت فارس والصين واليابان وغيرها من الدول غير الأوروبية.
صفحه نامشخص