بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
البزوغ البطيء للكتابة
كثيرا ما يصور اختراع الكتابة باعتباره حدثا فريدا وقع في زمان ومكان محددين؛ إذ دائما ما يوصف بأنه بدأ نحو سنة 3000 قبل الميلاد مع الكتابة المسمارية لسكان بلاد الرافدين القدماء، وانتشر من هناك إلى أماكن أخرى في العالم القديم، غير أن كل الأدلة تشير إلى أن الكتابة بالأحرى تطورت تطورا بطيئا جدا في أماكن عدة، وفي أزمنة عدة، وفي ثقافات عدة، ولم تبتكر في زمن واحد ومكان واحد.
مما لا شك فيه أن البشر ظلوا يستخدمون رموزا مرئية للتعبير عن معان محددة طيلة أكثر من عشرين ألف عام. وقد دل على هذا بجلاء آلاف النقوش الحجرية التي عثر عليها في كهف لا باسيجا، وكذلك مئات المواقع الأخرى التي تعود إلى العصر الحجري القديم في أوروبا (لي كومبريل ولاسكو وليز إزيه وألتاميرا ووادي فال كامونيكا)، وآسيا (كهف كابوفا وكهوف مجفيميفي وكهوف إداكال ولاداخ ونقوش جدول ديجوكشيون)، وأفريقيا (جبال أكاكوس وجبل العوينات وبيدزار ونيولا دوا وكهف بلومبوس وكهف وندرويرك)، وأستراليا (موقع موروجوجا في شبه جزيرة بوروب)، والأمريكتين (بحيرة وينيموكا ولونج ليك وموقع ثري ريفرز وموقع كومب مايو).
غير أن نقوش العصر الحجري القديم العلوي لا ترقى لما يمكننا اعتباره أنظمة كتابة مكتملة؛ إذ يعني مفهوم «الكتابة» في ثقافتنا المعاصرة التمثيل المنهجي والبياني للغة المكتملة النمو، بما لا يقتصر على أسماء فحسب، وإنما كذلك أفعال وأساليب للتعبير عن أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل. وفي أغلب الحالات، تشمل الكتابة الحقيقية بعض الإشارات إلى الطريقة التي كانت تنطق بها الكلمات الدالة على المعاني المختلفة في اللغة المنطوقة لدى الشعب الذي دون هذه الكتابة.
شكل 7-4: هذا الخطاب المسماري، المكتوب بقلم إسفيني الشكل على صلصال رخو، أرسل إلى مدينة لكش لملك بلاد ما بين النهرين ليخبر إياه بوفاة ابنه في القتال.
أينما كانت تظهر الحضارات المدنية كانت تتطور أنظمة كتابة مكتملة لأنه كان ثمة حاجة إليها؛ فالمجتمعات المكونة من عشرات أو مئات آلاف الأشخاص - الأغراب بعضهم عن بعض في أغلب الأحيان - تحتاج إلى تقنيات تواصل يمكنها نقل رسائل معقدة بفاعلية ومصداقية عبر الزمان والمكان. ولما كانت هذه المجتمعات المدنية لا تمتلك نظام كتابة - أو ليس باستطاعتها اقتراض نظام كتابة من جيرانها - فقد اخترعت أنظمة خاصة بها.
كانت الثقافتان السومرية والأكادية في بلاد الرافدين من أوائل الشعوب التي وضعت نظام كتابة مكتملا، بدأ برسوم لحركات معينة مثل المشي والأشياء المادية مثل الأغنام والأبقار والخبز والشعير. مع الزمن صارت تفاصيل هذه الرسومات الرمزية مبسطة، وتطورت أخيرا إلى رموز موحدة تشبه الأشياء التي كانت تعبر عنها في الأصل شبها طفيفا. وفي نهاية الأمر، أصبحت كل هذه الرموز ترسم في شكل يسمى «مسماريا»، يتكون من نقوش تحفر في صلصال لين بعود غاب على شكل وتد أو قلم خشبي (انظر شكل
7-4 ).
وبمرور الوقت، تبنى العديد من الثقافات القديمة كتابة السومريين المسمارية باعتبارها «أبجدية» معيارية، وصارت الكتابة المسمارية الطريقة الموحدة لكتابة اللغات القديمة البابلية والآشورية والحوثية والعيلامية والحورية والأورارتية والإجاراتية والفارسية، لكن رغم أنهم جميعا ربما كانوا يستخدمون نظام الكتابة نفسه، فإن الشعوب التي كانت تتحدث هذه اللغات المختلفة لم يكن بعضها يستطيع قراءة نصوص الآخرين التي كانت بالكتابة المسمارية. بالمثل، لا تستطيع الشعوب التي تفهم اللغة الإنجليزية وحدها أن تقرأ نصوصا سوى المكتوبة باللغة الإنجليزية، ولا تستطيع قراءة النصوص الإسبانية أو البرتغالية أو الهولندية أو الفلمنكية أو الإيطالية أو الفرنسية أو الألمانية، رغم أن هذه اللغات كلها تستخدم أساسا الأبجدية نفسها.
في الوقت نفسه كانت أنظمة الكتابة تتطور أيضا في حضارات قديمة أخرى؛ فقد شاع استخدام نظام الكتابة الفريد الذي أسماه الإغريقيون الهيروغليفية أو «النقوش المقدسة» في وادي النيل بعد عام 3000 قبل الميلاد بقليل. تحتوي الكتابة الهيروغليفية، مثل المسمارية، على عدد من الرموز الخاصة التي تمثل أصوات الحروف الساكنة (فالهيروغليفية المصرية، شأن العديد من أشكال الكتابة الأخرى، ليس بها ترقيم لأصوات حروف العلة). أما الغالبية العظمى من الرموز الهيروغليفية فهي تمثل معاني محددة. ومع الزمن زاد عدد الرموز الهيروغليفية من ثمانمائة خلال العصور القديمة للحضارة المصرية إلى نحو خمسة آلاف رمز مع بداية الإمبراطورية الرومانية بعد ذلك بعدة قرون.
صفحه نامشخص