بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
مع تضاؤل أهمية صيد مجموعات الذكور للحيوانات الكبيرة بصفته ضرورة اقتصادية، صارت الحروب المنظمة التي يشنها الذكور من أجل أرض القرى الزراعية والقبائل المنافسة الأخرى وثروتها المادية ونسائها استراتيجية جذابة لاكتساب الثروة والأملاك والنسل بصورة متزايدة. وهكذا مع توسع قرى العصر الحجري الحديث المستقرة في أنحاء أوروبا، أشار ظهور تحصينات متزايدة الضخامة إلى بداية الحروب الممتدة المنظمة.
انتشرت تقنيات الزراعة في شرق أوروبا وغربها مع ثقافة الخزف الخطي التي ظهرت في وديان أنهار الدانوب وإلبه والراين في ألمانيا الحالية منذ حوالي 7500 عام من منشئها في المجر وصربيا. وطوال الخمسمائة سنة التالية، ظل أفراد ثقافة الخزف الخطي يهاجرون على عجل عبر وديان الأنهار وعبر أوروبا حتى فرنسا وبلجيكا غربا وأوكرانيا شرقا، طاردين - وفي بعض الحالات مبيدين - شعوب الصيد وجمع الثمار الأصلية التي كانت تعيش هناك؛ فقد كانوا يجدون الرواسب الغنية لتربة اللويس - التي كانت وفيرة بصفة خاصة في وديان الأنهار - مثالية لزراعة محاصيلهم من القمح والشعير والدخن والشوفان والبازلاء والعدس والفاصوليا. وبجانب اصطياد الغزلان والحلاليف في الغابات المفتوحة، كان شعب الخزف الخطي يربي الماشية والماعز والخنازير المستأنسة.
ورغم أنه كان يعتقد في الماضي أن هذا الشعب المزارع القديم كان مسالما، فقد عثر مؤخرا على أدلة على حالات قتل عنيف في العديد من مواقع شعب الخزف الخطي، منها أدلة على حوادث إعدام جماعي حيث أبيدت قرى تعود إلى العصر الحجري الحديث بأكملها. وقد وجد علماء آثار مقبرة جماعية في تالهايم في وادي نهر الراين بها أربعة وثلاثون شخصا - نصفهم تقريبا رضع وأطفال - قتلوا بالضرب على رءوسهم بآلة ثقيلة، أغلب الظن مطرقة حجرية من العصر الحجري الحديث.
وقد أسفر التنقيب الجزئي لمقبرة مشابهة قرب فيينا عن بقايا ستة وستين شخصا قتلوا بطريقة مماثلة. وخمن علماء الآثار أن المقبرة ككل ربما كانت تحتوي على ثلاثمائة شخص على الأقل. وفي هيركسهايم، في وادي الراين أيضا، عثر على بقايا أكثر من ثلاثمائة شخص مبعثرة في أنحاء مستوطنة واحدة؛ إذ لم يدفن أي منهم بالطريقة اللائقة في قبور، وكان من بين تلك الأشلاء 173 جمجمة لضحايا قطعت رءوسهم وألقيت في عجالة في خنادق.
ربما ألقى شعب الخزف الخطي جثث الأعداء الذين ذبحوهم في قبور جماعية، لكنهم كانوا يدفنون موتاهم بعناية في قبور؛ فعند التنقيب في هذه القبور وفحص الهياكل العظمية، وجد علماء الآثار أدلة على إصابات رضية في نحو ثلث الرجال البالغين؛ مما يشير إلى أن العنف بين هذه الشعوب كان بالغا كما كان بين أكثر المجتمعات التي درسها اختصاصيو علم الإنسان عنفا وميلا للقتال.
علاوة على ذلك، تزيد معدلات الموت جراء العنف كثيرا مع الانتقال من الشرق للغرب؛ مما يوحي بأن حروب العصر الحجري الحديث كانت أكثر شيوعا حيث انتقل شعب الخزف الخطي إلى أراض يسكنها صيادون وجامعو ثمار، في حين كان العنف أقل شيوعا في المناطق التي استوطنت لفترات زمنية أطول. وأخيرا، كانت قرى شعب الخزف الخطي في العادة محصنة بسياج من أوتاد خشبية، وكثيرا ما كان يحوطها خنادق مائية أو قنوات كانت أحيانا تطوق مستوطناتهم تماما. هذا يشير إلى أنه مع انتقال هذا الشعب الزراعي شمال وديان الأنهار في أوروبا عصور ما قبل التاريخ، كانوا يستولون على أراض كان يسكنها من قبل شعوب أصلية من الصيادين وجامعي الثمار، فكانوا يشتبكون معهم، وفي حالات عديدة يبيدونهم.
ليس المقصود بهذا أن الرحالة الصيادين وجامعي الثمار كانوا دائما مسالمين ولم يخوضوا الحروب قط؛ فقد كان الشايان محاربين ماهرين ومنظمين يفتخرون كثيرا بانتصاراتهم، ويتباهون طيلة حياتهم بالأعداء الذين أزهقوا أرواحهم، لكن «حروب» الصيادين وجامعي الثمار كانت في مجملها عبارة عن مجموعات مهاجمة، لا تختلف عن الغارات التي كانت تشنها قردة شمبانزي نجوجو في أوغندا التي جاء وصفها في الفصل الأول.
كانت الإغارة النموذجية للصيادين وجامعي الثمار هي أن يقدم مجموعة من الذكور على التوغل خلسة في أرض جماعة مجاورة، وعند مقابلة عضو من الجماعة المعادية كان يقضى عليه في الحال، وكان المعتدون يتراجعون سريعا إلى أرضهم، حتى حين كانت مجموعة كبيرة من المغيرين يهاجمون قرية أو معسكرا معاديا بأعداد كبيرة، نادرا ما كان المعتدون يقدمون على إبادة الشعب كله، أو مصادرة أرضه بأكملها، أو سرقة كل أغراضه، رغم أنه كان من المألوف أن تؤسر الإناث في سن الحمل ويعاد بهن كغنائم حرب.
لكن حين بدأ البشر العيش بشكل دائم في مكان واحد وتكديس الثروة، صارت الحروب تدريجيا أكثر فتكا؛ فقبائل النوتكا التي عاشت في الساحل الشمالي الغربي لأمريكا الشمالية - التي كانت تتباهى بسلوكها الهادئ وطبيعتها المتزنة - كانت لا تأخذها الشفقة في الحرب؛ فكان من دأبها حين تهاجم مستوطنة أخرى أن تبيد كل السكان - ما عدا القليل من الأفراد الذين كانت تأسرهم ليصيروا عبيدا - وتفر بكل ما تستطيع حمله.
كقاعدة عامة، كلما زاد حجم المستوطنات الزراعية وزاد استقرارها كانت حروبها أكثر تخريبا ودمارا. وحين نشأت أولى الحضارات المدنية في وديان أنهار دجلة والفرات والنيل والسند واليانجتسي والأصفر - ومع استخلاص المعادن في العصرين البرونزي والحديدي التي زادت كثيرا من فاعلية الأسلحة الفتاكة - نشأ دور الجندي الدائم المحترف؛ فقد نظمت كل الحضارات المدنية القديمة جيوشا دائمة، وصارت الحروب استراتيجية غزو، تندلع على نطاق كبير، من أجل السيطرة على مساحات متزايدة من الأرض وأعداد متصاعدة من الناس وتملك زمام أمرهم. وما كان أي من هذا ليصير ممكنا لولا الانتقال من البحث عن الطعام إلى زراعته.
صفحه نامشخص