بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
وأخيرا في عام 1902م قرر عالم الآثار الفرنسي، إميل كارتياك، الذي كان من أكثر من جاهروا بالتشكيك في دي ساوتولا في مؤتمر لشبونة أن يسافر إلى إسبانيا مع اختصاصي علم الحفريات الفرنسي، الأب بري، ليرى بنفسه الرسومات التي في ألتاميرا.
حين وصل العالمان إلى ألتاميرا، أقنعا ماريا دي ساوتولا بأن تسمح لهما بدخول الكهف وفحص الرسومات. مذهولا بما رآه، تراجع كارتياك عن موقفه في الحال، ونشر اعتذارا رسميا في الصحيفة العلمية الفرنسية «لانثروبولوجي»، لكن لم يعش أي من دي ساوتولا أو البروفيسور فيلانوفا، اللذين ماتا قبل ذلك بتسع سنوات، حتى يريا تبرئة مزاعمهما ورد شرفهما المهني، إلا أن كهف ألتاميرا صار بمثابة كنيسة البابا في فن العصر الحجري القديم، ويعتبر الآن واحدا من أكبر وأهم مجموعات فن ما قبل التاريخ التي عثر عليها على الإطلاق .
عثر منذ ذلك الوقت على كنوز لفن شبيه في عدة كهوف أخرى في أنحاء العالم، في شرق أوروبا والهند وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، وكذلك في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية. وقد وثق علماء آثار ما قبل التاريخ في فرنسا وإسبانيا وحدهما أكثر من ثلاثمائة كهف تحتوي على أعمال من فنون ما قبل التاريخ، أغلبها كان يسكنه الشعب المجدليني في الفترة بين ما قبل 18 ألف عام و11 ألف عام.
عثر على أشهر هذه المجموعات من فنون ما قبل التاريخ في كهف نيو (الذي استقصى بشأنه إميل كارتياك نفسه عام 1907م)، وكهف بيش ميرل (الذي اكتشفه صبية مراهقون بالمصادفة عام 1922م)، وكهف لاسكو (أيضا اكتشفه صبية مراهقون بالمصادفة عام 1940م). أما أقدم الأمثلة على فن عصور ما قبل التاريخ التي عثر عليها حتى الآن فهي موجودة في كهف شوفيه، الذي اكتشفه علماء اكتشاف الكهوف في فرنسا عام 1994م. يحتوي كهف شوفيه على رسومات عدة نابضة بالحياة لحيوانات صيد وضوار، ويعود تاريخه إلى ثلاثين ألف عام مضت، قبل أول ظهور للثقافة المجدلينية بعشرة آلاف عام على الأقل.
ورغم أن الأصول الحقيقية لفن العصر الحجري القديم وقدمه الشديد قد تأكدت بما لا يدع مجالا للشك، فإنه لا يزال هناك سؤالان مطروحان.
أولا: لماذا رسم صيادو العصر الحجري القديم هذه المناظر في مناطق موغلة داخل هذه الكهوف - في بعض الحالات بعيدا عن مداخلها بمئات الأقدام - في أماكن كان يصعب الوصول إليها ويستغرق بلوغها وقتا، ولا يستطيع ضوء النهار التسلل إليها، وحيث كان الضوء الوحيد المتاح لفنان ما قبل التاريخ يأتي من ألسنة اللهيب المرتعشة للشعلات؟
ثانيا: لماذا يمثل العديد من هذه الرسومات أنواعا حيوانية - مثل الماموث ووحيد القرن وثور البيسون - لم تكن فقط نادرة نسبيا، وإنما من الخطر صيدها كذلك؟ ولماذا كانوا نادرا ما يرسمون صورا للغزلان والأيائل وحيوانات الصيد الأصغر حجما التي كانت تشكل القسم الأكبر من الحيوانات التي كانت تصطادها هذه الجماعات وكانت تمثل عماد غذائهم؟
الإجابة الأكثر شيوعا على السؤال الأول هي أن فن العصر الحجري القديم كان مخفيا في أماكن عميقة داخل الكهوف لأنه كان يقصد به شكلا من السحر، لضمان النجاح في الصيد؛ فربما رسمت الصور على سبيل إقامة طقوس سرية جدا لدرجة أنه لا يمكن أداؤها إلا في أكثر الأماكن التي عرفتها شعوب هذه العصور تعذرا في الوصول إليها، بعيدا عن العيون والآذان المتطفلة للدخلاء. في الواقع ما زال اختصاصيو علم الإنسان الذين درسوا ثقافات شعوب الصيد وجمع الثمار يجدون باستمرار أن أهم وأقدس طقوس هذه الشعوب تؤدى دائما في سرية بالغة. وطقس تجديد السهم لدى شعب الشايان، الذي سيأتي وصفه لاحقا في هذا الفصل، إنما هو واحد من آلاف الأمثلة على هذه الأعراف الإنسانية العالمية.
السؤال الثاني أكثر استعصاء على الإجابة، لكن لدينا دليلا مهما في ملاحظة أدلى بها اختصاصي علم الإنسان الرائد، برونيسلاف مالينوفسكي، الذي عاش في جنوب المحيط الهادئ مع سكان جزر تروبرياند البحارة من عام 1914م حتى 1918م، حيث لاحظ مالينوفسكي أنهم كانوا دائما ما يؤدون طقوسا سحرية معينة كجزء من الأعمال المهمة التي توقف عليها معاشهم، مثل زراعة الحدائق، وصنع قوارب من أجذاع الأشجار المجوفة، والصيد في المحيط المفتوح. وقد أشار إلى أن كل هذه الأنشطة تشمل عنصرا مهما من عدم اليقين؛ إذ إن الحدائق قد تضعف، والقوارب قد تتحطم، وحملات الصيد في أعالي البحار لم تكن خطيرة فحسب، وإنما كانت كثيرا ما تنتهي بعودة الحملة خالية الوفاض.
لكن حين كان سكان تروبرياند يصطادون في المياه الهادئة لبحيرات جزرهم، كانوا يستخدمون سما محليا لم يخفق قط في أن يأتي بنتيجة متوقعة تماما؛ صيد وفير. ومما له مغزاه أنهم لم يكونوا يمارسون أي سحر قبل القيام بحملات صيد في البحيرات. هكذا يكون من المرجح أن شعوب العصر الحجري العلوي لم يروا ضرورة في إقامة طقوس سحرية للحيوانات التي كانت متوفرة وسهلة الصيد، في حين كان صيد الأنواع النادرة والخطيرة من الحيوانات عملا غير مضمون، ينطوي على مخاطر ومكافآت جمة، حيث بدا أداء سحر طقسي أمرا لا مفر منه.
صفحه نامشخص