بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
أما الهومو إريكتوس، بدماغه الكبير نسبيا وسريع النمو، فلم يكن ليصعب عليه كثيرا أن يبني كوخا بدائيا بحبك العصي والأعمدة معا وتغطية هذا الإطار بجلود الحيوانات أو الأوراق والفروع. ولا كان ليصعب على هذا الكائن الواسع الحيلة أن يحيك من جلود الحيوانات قبعات وعباءات ليحمي نفسه من أشعة الشمس الحارقة والأمطار الغزيرة في المناطق المدارية. ورغم عدم العثور على بقايا مادية لمثل تلك المصنوعات العتيقة في أقدم المواقع الأثرية، هناك أنواع أخرى من الأدلة التي توحي بأن أنواعا أخرى من أشباه البشر الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ قد صنعوا بالفعل المساكن والملابس، واستخدموها قبل ظهور الإنسان الحديث تشريحيا في المشهد بوقت طويل.
مساكن أشباه البشر
رغم قلة الآثار التي يمكن العثور عليها لمساكن أشباه بشر من فترات زمنية موغلة في القدم، إلا أنه ثمة استثناءات مثيرة. أحد أهم هذه الاستثناءات عبارة عن تكوينات معينة من أحجار وأغراض أخرى ثقيلة عثر عليها مرتبة في دوائر أو مدارات بيضاوية في بعض أقدم مواقع السكن المكشوفة التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ. رأى بعض اختصاصيي علم الحفريات أن هذه الدوائر الحجرية هي بقايا للأساسات التي وضعها أشباه بشر من عصور ما قبل التاريخ لحمل جدران المساكن التي أقاموها من إطار من العصي، والتي غطوها بجلود الحيوانات أو سقفوها بسعف النخيل أو الغاب أو الحشائش.
أقدم هذه الدوائر الحجرية - وأكثرها إثارة للجدل - مجموعة من كتل البازلت الضخمة (حجر بركاني) عثر عليها لويس ليكي في مضيق أولدوفاي في شرق أفريقيا، في رواسب يعود تاريخها إلى 1,8 مليون سنة. تكاد تخلو المنطقة داخل هذه الدائرة الحجرية تماما من أي قطع أثرية، في حين يتناثر في المنطقة الواقعة خارج الدائرة مباشرة بقايا لأدوات وعظام فريسة من الحيوانات. هذا يوحي بأن أشباه البشر الأوائل الذين سكنوا هذا الموقع كانوا يلقون بنفاياتهم خارج مسكنهم مع جعل المسكن من الداخل خاليا نسبيا من أي ركام أو فضلات، وهو نمط سلوكي لوحظ كثيرا بين الصيادين وجامعي الثمار المعاصرين.
ثمة أدلة أكثر حسما على هيئة دوائر حجرية موثقة بعناية ارتبطت بمواقع تعود إلى عصور ما قبل التاريخ في أوروبا. يقع أحد هذه المواقع في تيرا أماتا، وهو موقع مكشوف بالقرب من نيس في جنوب فرنسا، والآخر هو بيلزينجسليبين، وهو موقع مكشوف في وسط ألمانيا. وفقا للتقديرات، يبلغ عمر هذين الموقعين 380 ألف عام، وتلك كانت فترة دافئة في المناخ العالمي، حين أنشأت أعداد من الإنسان المنتصب القامة، هومو إريكتوس، الأكثر تطورا في شمال أوروبا
7
مقرات إقامة دائمة؛ فقد عثر في كل من تيرا أماتا وبيلزينجسليبين على مجموعات من الأحجار المرتبة في تشكيل دائري مميز، وفي كلتا الحالتين فسر العلماء الذين نقبوا في هذه المواقع وجود هذه الدوائر الحجرية بأنها أساسات لأكواخ صغيرة.
في تيرا أماتا، على ساحل البحر المتوسط الفرنسي، وجد عالم الآثار الفرنسي هنري دو لوملي بقايا رماد وسط كل دائرة حجرية، في إشارة إلى أن السكان كانوا يشعلون النار داخل أكواخهم بانتظام. كذلك تعرف دو لوملي على عدة جدران منخفضة من الأحجار وحصى الشواطئ التي كانت قد أقيمت على الجانب الشمالي الغربي من كل مستوقد، لحماية النار على ما يفترض من رياح «المسترال» العاتية التي كثيرا ما تهب من الشمال الغربي في تلك المنطقة. كان دو لوملي يعتقد أن أسطح أكواخ تيرا أماتا كان يحملها شيء شبيه ب «وتد الخيمة» يقف في وسط الكوخ، وافترض أن كلا من هذه الأكواخ كان مزودا بثقب في السقف لإخراج دخان النار التي كانت تشعل بداخلها.
وفي بيلزينجسليبين قضى عالما الآثار الألمانيان ديتريش وأورسولا مانيا سنوات في التنقيب في موقع سكني مكشوف كبير أسفرت عن العثور على عظام مشروخة ومكسرة للعديد من حيوانات الصيد، والكثير من الأدلة على إشعال النار، وآلاف الأدوات المصنوعة من الأحجار والعظام والقرون والعاج. وجد آل مانيا في بيلزينجسليبين إطارات لثلاث حلقات بيضاوية وأغراض ثقيلة أخرى اعتقدا أنها كانت أساسات لمساكن. وكانت مداخل كل هذه الأساسات تفضي إلى الجنوب الشرقي؛ بما يوحي بأنها كانت مبنية لتحاشي الرياح الشمالية الغربية السائدة. وأخيرا، كانت آثار المواد المحترقة، أمام هذه الحلقات البيضاوية الثلاث، تشير إلى أن سكان بيلزينجسليبين كانوا يضرمون النار في مداخل هذه المساكن بانتظام.
حين بدأ بشر النياندرتال بعد ذلك بمدة طويلة الاستقرار في شمال أوروبا واصطياد الماموث الصوفي ووحيد القرن الصوفي والخيول البرية والماشية البرية أثناء العصور الجليدية الأخيرة، استخدموا عظام الماموث في بناء جدران من أجل مساكنهم الشبيهة بالحصون. أقدم هذه المواقع يكاد يبلغ 45 ألف عام، ويوجد في موقع مولدوفا الأول في أوكرانيا، حيث وفقت معا فكوك وجماجم وعظام أطراف كبيرة تعود لهياكل خمسة عشر ماموثا على الأقل، ورتبت في دائرة كبيرة. يماثل موقع مولدوفا الأول بدرجة كبيرة أطلال مستوطنات أخرى من عظام الماموث بناها بشر حديث تماما منذ نحو 15 ألف سنة. لم يبق شيء من جدران هذا البناء وأسقفه، الذي ربما كان مكونا من إطار من العصي مغطى بجلود الحيوانات الضخمة - الماموث ووحيد القرن وثور البيسون والماشية البرية - التي كان يصطادها سكانه غير العاديين.
صفحه نامشخص