بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
من بين كل القطع الأثرية التي استخرجها علماء الآثار من مواقع مخيمات أشباه البشر في عصور ما قبل التاريخ، لم يعثر تقريبا على أي بقايا مادية لمساكن أو ملابس تعود لزمن أقدم من زمن ظهور البشر الحديث تشريحيا في أوروبا منذ أقل من خمسين ألف عام. حدا هذا الانعدام في الأدلة بالعديد من العلماء لاستنتاج أن الملبس والمسكن ظهرا في وقت حديث نسبيا من تاريخ أشباه البشر.
بيد أن تقنية النار مكنت البشر الناشئين من العيش في الكهوف طوال 1,75 مليون عام، وثمة أدلة وفيرة على إقامة أعداد أخرى من البشر الناشئين من تلك الفترة في أماكن لا توجد فيها كهوف مناسبة، فهل لنا بناء على ذلك أن نستنتج أن العديد من البشر الناشئين عاشوا عراة وفي العراء طوال مليوني عام تقريبا دون خرقة على أجسادهم أو سقف فوق رءوسهم كي يحميهم من ظروف الطقس والمناخ؟
المفقود من «العصر الحجري»
للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نبدأ بذكر أن كل أشباه البشر الذين كانوا يعيشون قبل اختراع الزراعة والتعدين، كانوا رحالة يعيشون على الصيد وجمع الثمار، ولا يصنعون أغلب الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم اليومية من الأحجار، وإنما بالأحرى من النباتات والحيوانات التي يجدونها في موائلهم الطبيعية. ولا تستطيع أي من هذه المواد العضوية البقاء مدة طويلة بمجرد طمرها في الأرض، ولا سيما في التربة الدافئة الرطبة للبيئات المدارية التي عاش فيها أغلب المجموعات السكانية من بشر عصور ما قبل التاريخ.
بقايا النباتات والحيوانات الميتة هي الغذاء الطبيعي لأنواع لا حصر لها من الحشرات والرخويات والديدان والفطريات والبكتيريا. وفي المناخ المداري تتغذى مثل تلك الأحياء على الأدوات الأثرية المصنوعة من هذه المواد خلال أيام أو أسابيع، وبعد مرور بضع سنوات تختفي كلها تماما، بل حتى في المناخ المعتدل ليس من المحتمل أن تبقى مثل هذه المواد لأكثر من بضع مئات السنين على أعلى تقدير؛
1
لذا لا غرابة أنه بعد مرور مئات آلاف السنوات يمكن بالكاد العثور على أثر لملبس أو مسكن من عصر ما قبل التاريخ في أطلال أقدم المواقع الأثرية.
شعوب الصيد وجمع الثمار التي عاشت حتى العصور الحديثة ودرسها اختصاصيو علم الإنسان، اعتادت الانتقال من مكان إلى آخر مع تغير الفصول وتبدل مستوى توفر الغذاء النباتي والحيواني باستمرار. في أغلب الحالات كانت المساكن التي بنتها تلك الشعوب الرحالة لأنفسها تقام في مخيمات مؤقتة وتهجر بعد أسابيع أو شهور قليلة. لهذا السبب، فإن كل الممتلكات المادية التي كانت تلك الشعوب تستخدمها في حياتها اليومية كانت لا بد أن تكون صغيرة وخفيفة لدرجة تكفي لحملها من مكان لآخر. وكل شيء صنعته تقريبا كان مركبا من المواد العضوية النباتية والحيوانية القابلة للبلى.
كانت الرماح والسهام والهراوات وعصي الحفر وعصي السير وهياكل الأكواخ والخيام تصنع من جذوع الأشجار والشجيرات وفروعها الخشبية. أما جدران الأكواخ وأسقفها ومواد الفراش ومصدات الرياح فكانت تصنع من النباتات المورقة، ومنها سعف النخيل والحشائش والغاب. وكانت الأسلاك والحبال والشباك والحقائب والأسرة المعلقة تنسج من ألياف موجودة في الكروم والجذور واللحاء. وكانت أوعية الطعام والمياه والأدوات والأسلحة والتمائم والعقاقير والصبغات تصنع من قرعيات وقرون حبوب تم تجويفها، وكذلك الفروع المجوفة للبوص وحشائش المستنقعات والخيزران. أيضا القبعات والأردية والسراويل والمآزر والأحذية والنعال وخيوط الحياكة والأسلاك وأغطية الخيام كانت تصنع من جلود الحيوانات وأوتارها. وكانت أكواب الشراب والمصاغ والأدوات الموسيقية والأوعية الصغيرة بجميع أنواعها تصنع من قرون وعظام وريش ومخالب الطيور والحيوانات.
إلا أن أشباه البشر الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ، مثلهم مثل الصيادين وجامعي الثمار المعاصرين الذين خضعوا للدراسة من جانب اختصاصيي علم الإنسان، استخدموا مادة محددة في حياتهم اليومية؛ الحجر، الذي لا يمكن أن يتآكل أو يختفي من المواقع الأثرية التي تعود لعصور ما قبل التاريخ.
صفحه نامشخص