بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
في الواقع، إذا نظرتم بموضوعية إلى الهندسة المعمارية لبلدة أو مدينة حديثة سترون بسهولة أنها تتكون من نوعين من البناء: (1) مبان ومنازل قائمة بذاتها، وهي بصفة أساسية أبنية شبيهة بالكهوف قائمة على الأرض بجوار أبنية أخرى شبيهة بالكهوف. (2) ومبان مرتفعة، وهي بصفة أساسية أبنية شاهقة شبيهة بالجروف تتراص فيها شقق شبيهة بالكهوف. هذه الشقق مزودة بفتحات في جوانبها لدخول الضوء والهواء (نوافذ)، بالإضافة إلى فتحات أكبر (أبواب) تؤدي من خلال شبكة من الممرات والسلالم إلى مخارج مفضية إلى العالم الخارجي.
الحقيقة نفسها التي مفادها أن أغلب البشر لا يشعرون بالانزعاج أو بالقليل منه حين يطلون من نوافذ أو شرفات تعلو عن الأرض بمئات الأقدام لهي دليل على انحدار البشر من أسلاف كانوا يسكنون الأشجار. وعدم شعورنا بالمحاصرة وإحساسنا بالأمان والأمن عوضا عنه حين ينغلق علينا بناء شبيه بالكهف، ذو فتحات صغيرة لإدخال الضوء والهواء والدخول والخروج، لهو دليل على التاريخ التطوري لنوعنا من العيش داخل الكهوف؛ في كهوف طبيعية أولا ثم كهوف من تصميمنا وبنائنا. من ثم لم ينقرض إنسان الكهف؛ فهو حي يرزق ويعيش الآن في منازل وشقق في العالم الحديث. •••
حين بدأ البشر الناشئون استخدام النار أطلقوا العنان لمجموعة كبيرة جديدة من القدرات البشرية، محررين أنفسهم أخيرا من الحياة على الأشجار كأسلافهم لتصير حياتهم بالكامل على الأرض، تحميهم النار وأسلحتهم من الضواري التي قاسمتهم موائلهم العديدة والمتنوعة. ولأول مرة في تاريخهم الذي امتد لملايين السنين، استطاع أشباه البشر سكنى الكهوف، في حماية من ظروف الطقس والمناخ وفي دفء نيران المخيمات. كذلك تحرروا من إيقاع النهار المداري المؤلف من اثنتي عشرة ساعة والليل المداري الشبه الثابت؛ فقد سمحت لهم النار بالبقاء مستيقظين لساعات متأخرة من الليل، يؤدون أعمالهم على الضوء المنبعث من النار، ويتواصل بعضهم مع بعض بشأن أحداث النهار. وأخيرا، نوعت النار نظام غذاء أشباه البشر تنويعا كبيرا؛ إذ أتاحت لهم طهي الحبوب والجوز والجذور والدرنات التي يجمعونها؛ مما أعطاهم حرية تناول ما كان غير قابل للأكل قبل ذلك بسبب صلابته أو مذاقه المر أو احتوائه على سموم خطيرة.
كذلك مكنت النار أشباه البشر من طهي اللحوم التي كانوا يحصلون عليها بالصيد - وبالسرقة من صيد ضوار أخرى - مما جعل ما كان غير آمن وعسير الهضم آمنا وسهل الهضم. وبالتكيف مع نظام غذائي من الطعام المطهو، وجد البشر الناشئون طريقة للحد بدرجة كبيرة من مقدار الوقت والطاقة الذي كانوا يحتاجون إليه في مضغ طعامهم اليومي وهضمه، وأثناء ذلك تمكنوا من دعم أدمغتهم المتزايدة الحجم والأكثر «تكلفة». في الواقع، كانت تقنية النار الإنجاز الوحيد الذي عبر به البشر الناشئون - نهائيا ودون رجعة - الفجوة الشاسعة التي فصلت البشر عن باقي مملكة الحيوان منذ ذلك الحين.
في الفصل التالي سنبحث القدم الحقيقي للملبس والمسكن، وسنتأمل الأدلة على أن بشر ما قبل التاريخ كانوا ينعمون بالدفء والجفاف في كهوفهم وأغطية أجسادهم الصناعية، ليس من آلاف السنين - كما يشيع الافتراض - وإنما منذ مئات آلاف السنين؛ فتقنيات الملبس والمسكن هي التي مكنت أشباه البشر المداريين من الإقامة في المناطق المعتدلة في دوائر العرض الشمالية، ومن البقاء على قيد الحياة في شتائها القارص، ومكنتهم من سكنى كل البيئات البرية تقريبا على كوكب الأرض في نهاية المطاف.
الفصل الرابع
تقنيات الملبس والمسكن
القبعات والأكواخ والشملات والخيام
إن بيتك هو جسدك الأكبر.
خليل جبران، «النبي»
صفحه نامشخص