بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
عوضا عن المرحلات الآلية كان إنياك ينفذ عملياته الحسابية عن طريق آلاف الصمامات المفرغة، الشبيهة بتلك التي كانت تشغل أجهزة المذياع والتلفزيون والأجهزة الإلكترونية الأخرى خلال منتصف القرن العشرين. كان إنياك يحتوي على أكثر من سبعة عشر ألف صمام مفرغ، وكان يزن ثلاثين طنا، وعرضه ثلاث أقدام، وارتفاعه ثماني أقدام، وامتداده مائة قدم. وكان أسرع مائة مرة من أفضل أجهزة الكمبيوتر الكهروميكانيكية في زمانه.
ورغم أن جهاز إنياك ظل مستخدما حتى عام 1955م، فإن تقنية الصمامات المفرغة الخاصة به شكلت مشكلات عويصة؛ فقد كان الصمام المفرغ مصمما بنفس المبادئ الأساسية للمبة الكهربائية؛ أنبوب زجاجي، مفرغ الهواء، يحتوي على فتيل معدني يسخن حتى يتوهج عند مرور التيار الكهربائي فيه. لكن آلاف الصمامات المفرغة، بآلاف الفتائل المتوهجة، كان ينتج عنها حرارة شديدة، وعند تشغيل هذه الصمامات وفصلها يوميا كانت هذه الحالات المتناوبة بين التسخين والتبريد تولد ضغوطا تؤدي إلى تعطل بعض هذه الآليات الدقيقة أو تلفها في نهاية الأمر، بل في الواقع كان من المألوف مع التشغيل كل يوم أن يتعطل العديد من صمامات جهاز إنياك المفرغة، تاركة آلة التفكير الضخمة غير قادرة على العمل حتى تحديد موقع الصمامات المعطلة وتبديلها، وهي عملية قد تستغرق عدة ساعات.
وبمرور السنين صممت شركة «ريمينجتون راند كوربوريشن» كمبيوتر صمامات مفرغة أكثر تطورا، وهو الحاسب الآلي العام الأغراض أو يونيفاك، وأنتجته من أجل السوق التجارية، وصار متوافرا في السوق في عام 1951م. كان يونيفاك يزن ثمانية أطنان، وفي حجم مرأب صغير، وسعر الواحد منه مليون دولار. ورغم أن قدرته الحاسوبية كانت ضئيلة قياسا بمعاييرنا الحالية، فإن ثمة حدثا غريبا ارتبط بجهاز يونيفاك شكل نقطة تحول في قبول الجمهور لمثل هذه الآلات الجديدة الرائعة.
ففي عام 1952م، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية بين مرشح الحزب الديمقراطي أدلاي ستيفنسون، ومرشح الحزب الجمهوري دوايت أيزنهاور، اقترحت شركة «ريمينجتون راند كوربوريشن» على شبكة «سي بي إس نيوز» فكرة جديدة تتمثل في استخدام يونيفاك في بث تلفزيوني مباشر للتنبؤ بنتيجة الانتخابات أثناء تلقي النتائج من مواقع الاقتراع. ورغم أن مذيع شبكة «سي بي إس» وولتر كرونكيت، ورئيس تحريرها سيج ميكلسون، كانا متشككين، فإنهما ارتأيا أنه على الأقل سيكون في تقديم «عقل إلكتروني» تحليلا لتقارير الانتخابات عند صدورها بعض الترفيه. ومع اقتراب يوم الانتخابات كانت أغلب استطلاعات الرأي غير قاطعة في توقعاتها ما بين فوز ساحق لستيفنسون وتساو في عدد الأصوات، لكن الإجماع العام كان على فوز ستيفنسون بالانتخابات (انظر شكل
9-2 ).
شكل 9-2: اليونيفاك نموذج 1103، الذي صمم لإجراء العمليات الحسابية العلمية، والذي أعلنت عنه «ريمنجتون راند كوربورشن» في فبراير عام 1953م.
عند غلق صناديق الاقتراع وبدء صدور تقارير الانتخابات، غذي بها جهاز يونيفاك عن طريق مبرقة كاتبة. ومما أثار دهشة الجميع أن يونيفاك تنبأ في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الانتخابات أن أيزنهاور سيفوز فوزا ساحقا، وأنه سيحصد 438 صوتا انتخابيا مقابل 93 صوتا لستيفنسون. الخلاصة أن يونيفاك جعل احتمال فوز أيزنهاور بالرئاسة مائة إلى واحد، وقد بدا هذا التنبؤ مستبعدا جدا وغير متفق مع الاعتقاد السائد، حتى إن شبكة «سي بي إس نيوز» قررت ألا تذيعه. لاحقا بعد عدة دقائق بدا أن يونيفاك قد غير رأيه فجأة، وفي الساعة التاسعة بالتوقيت الشرقي للولايات المتحدة أعلن مراسل «سي بي إس» تشارلز كولينجوود أن «العقل الآلي» أعطى أيزنهاور احتمال ثمانية إلى سبعة فقط بالفوز.
إلا أن ما بدا أنه تغيير في رأي يونيفاك كان نتيجة لخطأ كبير حدث أثناء إدخال البيانات. وعند تصحيح الخطأ عاد يونيفاك إلى احتمال مائة إلى واحد كما كان. غير أن «سي بي إس» كانت ما زالت خائفة من هذا التنبؤ الذي بدا غريبا فظلت صامتة. لكن مع انصرام الليل، تبين شيئا فشيئا فوز أيزنهاور الساحق؛ فقد جاء في الإحصاء النهائي 442 صوتا لصالح أيزنهاور مقابل 89 صوتا لصالح ستيفنسون. كانت تنبؤات يونيفاك بالنتائج أقل من النتائج النهائية بنحو واحد في المائة. لاحقا في تلك الليلة أعلن تشارلز كولينجوود محرجا في بث مباشر على التلفزيون أن يونيفاك قد توقع بالفعل نتيجة الانتخابات منذ عدة ساعات، لكن «سي بي إس نيوز» كانت محجمة عن الإدلاء بها. ومنذ ذلك اليوم فصاعدا تحولت مكانة الكمبيوتر في تغطية الانتخابات - وفي نواح عدة من الحياة المعاصرة - من كونه شيئا مستجدا إلى ضرورة ملحة.
الكمبيوتر الشديد التقلص
رغم كل القدرات المميزة لجيل أجهزة الكمبيوتر ذات الصمامات المفرغة مثل إنياك ويونيفاك، فإنها شكلت بعض المشكلات التي انطوت على تحديات بالغة؛ فقد كان حجمها هائلا، وسرعاتها الحاسوبية بطيئة نسبيا، واستهلاكها للطاقة الكهربائية مفرطا، وكمية الحرارة التي تولدها الآلاف من صماماتها المفرغة مربكة. كما كانت الآلاف من صمامتها المفرغة الضخمة والقابلة للكسر كثيرا ما تتعطل وتحتاج للتبديل باستمرار. في الواقع اتسم الجيل الأول من أجهزة الكمبيوتر ذات الصمامات المفرغة، الذي كان مؤلفا من عدة نماذج مختلفة صنعتها عدة شركات مختلفة، بعدم القدرة على العمل المستمر إلا بضع ساعات قبل أن يتعطل أحد مكوناته الكهربائية التي كان يصل عددها لعدة آلاف، ويتحتم غلقه من أجل إجراء الإصلاحات المطلوبة.
صفحه نامشخص