بلا قيود
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
ژانرها
وفي عام 1775م كون واط شراكة مع رجل الأعمال وصاحب المصنع الإنجليزي ماثيو بولتون لصناعة محركه البخاري المعدل، غير أنه كان لا يزال هناك عقبة أخيرة لا بد من التغلب عليها؛ إذ لم تكن المكابس والأسطوانات الضخمة في المحركات البخارية الأولى مشكلة بدقة كافية بحيث تكون محكمة لدرجة تمنع تسرب الهواء؛ مما كان يجعل البخار يتسرب مع كل شوط ليقلل من قوة المحرك وكفاءته بدرجة كبيرة. وقد حل هذه المشكلة صانع مدافع من ويلز يدعى جون ويلكنسون؛ إذ كان قد توصل إلى طريقة لثقب المدافع ثقوبا دقيقة طبقها على ثقب الأسطوانات الضخمة التي في محركات واط الأولى، التي كان أولها مزودا بمكبس تجاوز عرضه أربع أقدام كان يتحرك صعودا وهبوطا داخل أسطوانة بلغ ارتفاعها أربعا وعشرين قدما .
كانت باكورة محركات واط البخارية متقدمة كثيرا عن محركات الضغط الجوي الخاصة بنيوكومين، وقد أنجزت نفس قدر العمل باستخدام ربع الوقود. وقد ترتب على ذلك أن صار محرك واط سريعا الآلية المفضلة لضخ الماء من مناجم الفحم. بيد أن الحركة البسيطة المتذبذبة لهذه المحركات القديمة كانت مناسبة فقط للعمل الذي يتطلب حركة صاعدة هابطة، مثل ضخ المياه أو رفع مطرقة وإنزالها بالتناوب في المسبك الآلي. فكان لا بد من اتخاذ الخطوة الأخيرة: كان لا بد من تحويل الحركة المتذبذبة للمكبس والأسطوانة إلى الحركة الدائرية اللازمة لتوفير الطاقة لمصانع نشر الأخشاب ومطاحن الدقيق ومصانع المنسوجات التي انتشرت طوال القرن الثامن عشر في أوروبا.
وكان بولتون هو من أقنع واط بتزويد مكبس محركه البخاري المعدل بحدافة عن طريق ذراع، إلا أن بيكارد كان قد سجل براءة اختراع تلك الفكرة بالفعل. لكن واط المبدع رفض مشاركة بيكارد واستطاع التحايل على براءة اختراع بيكارد بربط مكبس محركه البخاري المعدل بحدافة ذات ترس «كوكبي» تعمل بمبدأ مختلف عن مبدأ الذراع البسيط. وقد أثبت محرك واط الجديد نجاحا ساحقا، وجعلته شراكته مع بولتون التي استمرت خمسة وعشرين عاما ثريا طيلة حياته.
كان لنجاح واط في اختراع محرك بخاري يولد حركة دائرية بسرعات مرتفعة نسبيا أعظم الأثر؛ فقد حرر المجتمع الأوروبي من اعتماده القديم على السواقي المائية - التي لا يمكن وضعها إلا في مناطق محددة يتوفر فيها مصدر مضمون بالمياه المتدفقة التي يمكن استغلالها - وكذلك طواحين الهواء، التي كانت تعتمد على هبوب الرياح المواتية وتحولها، وهو ما كان صعب التنبؤ به. ولأول مرة كان من الممكن وضع مصدر الطاقة الدوارة أينما عظمت الاستفادة منها.
هكذا أمكن بناء مصانع المنسوجات أينما كان الموقع أفضل. وأصبح من الممكن بناء مصانع نشر الأخشاب ومطاحن الدقيق على ضفاف أنهار هادئة وصالحة للملاحة ومستعدة لاستقبال أحمال الغلال والأخشاب التي تجلبها الصنادل والقوارب النهرية. وقد جعلت رواسب الفحم وخام الحديد العديدة المنتشرة في أنحاء الجزر البريطانية من بريطانيا مكانا مناسبا لتطور الصناعات القائمة على الحديد والصلب والفحم الحجري والبخار.
كان أعظم الآثار المترتبة على اختراع محرك بخاري ناجع ذات حركة دوارة تأثيره الهائل على وسائل النقل برا وبحرا؛ فحين ألحق المحرك البخاري بعجلة ضخمة مزودة بمجاذيف خشبية، نشأت السفينة البخارية. وحين ركب المحرك البخاري في عربة كبيرة وثقيلة مصنوعة بالكامل من الصلب ووضعت على قضبان من الصلب، نشأت السكك الحديدية. ومن بين نتائج المحرك البخاري الدوار الكثيرة، لا بد أن نعد السفينة البخارية والسكك الحديدية بين أكثرها إسهاما في التحول؛ فقد أحدثتا معا ثورة في السفر والتجارة على مسافات بعيدة، وأتاحا أكبر تحول في طبيعة المجتمع البشري منذ نشأة الحضارة المدنية منذ آلاف السنين.
محركات النقل
ظلت السفينة الشراعية لآلاف السنين تحت رحمة رياح البحر، التي قد تهب في تقطع وبغتة من عدة اتجاهات مختلفة. في أوائل القرن التاسع عشر، قبل بناء أول سفينة بخارية عابرة للمحيطات، كان من المألوف أن تستغرق الرحلة من أوروبا إلى أمريكا بالسفينة الشراعية شهرين بحرا في المتوسط. على النقيض من هذا، قامت باخرة، «جريت ويسترن»، أول باخرة بعجلات تجديف تبنى خصوصا لعبور المحيط الأطلنطي، برحلتها الأولى من إنجلترا إلى نيويورك في أبريل عام 1838م في ستة عشر يوما، ومع حلول عام 1875م كان هناك أسطول من السفن البخارية ذات الهياكل الحديدية - مزودة بمحركات بخارية ودافعات مروحية متطورة بدلا من عجلات التجديف - يعبر الأطلنطي في سبعة أيام بصفة منتظمة. كذلك صارت الرحلات الأخرى التي كانت تستغرق شهورا من السفر بحرا إلى أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند والشرق تقطع في نسبة ضئيلة من الزمن السابق. ترتب على هذا أن شهد السفر والتجارة بين القارات زيادة هائلة في القرن التاسع عشر؛ أي بين عامي 1800 و1900م.
أقيمت أول خدمة سكك حديدية منتظمة بين مدينتين عام 1830م في إنجلترا بين مانشستر وليفربول، وقد أثار نجاح السكك الحديدية في العقود التالية هوسا ببناء الخطوط والقطارات والقاطرات في أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية؛ مما استهلك كميات كبيرة من الحديد والصلب. وهكذا صارت الرحلات التي كانت تستغرق فيما مضى أياما تقطع في ساعات، والشحنات الثقيلة التي كانت تنقلها السفن والصنادل والقوارب النهرية ببطء فيما مضى باتت تحمل على عربات بضائع وتشحن برا في نسبة ضئيلة من الزمن الذي كان يستغرقه النقل بالقوارب.
حين عدل صانعو الآلات والمخترعون في أواخر القرن الثامن عشر فن صناعة المكبس والأسطوانة اللذين أصبحا أكثر دقة - وربطوا المكبس بعمود ذراع تدوير دقيق الصنعة - تحولت حركة المكبس المتذبذبة إلى حركة دوارة متصلة، ونشأ «المحرك الترددي». كان المحرك البخاري هو المحرك الترددي الأساسي للقرن التاسع عشر، وسرعان ما صار مصدر الطاقة الأول للمصانع والسفن والسكك الحديدية الأوروبية، غير أن المحرك الترددي كان متجها نحو مستقبل أكثر غرابة وتحولا.
صفحه نامشخص