فجعل الرجل يدعك ذقنه بيده متفكرا ثم قال: عليك بفندق بريطانيا بشارع الأمير فاروق لصاحبه ميشيل قسطندي.
يمكن أن تقيم في حجرة نظير جنيه ونصف شهريا.
ثم تحدثا طويلا عن الإقامة في الفنادق، وسكنى الشقق والمفاضلة بينهما.
49
كانت حجرته بالفندق صغيرة، ذات فراش لشخص واحد وصوان ومقعد خشبي ومشجب، وكان جوها يشي بالرطوبة الكامنة؛ إذ كان بها نافذة واحدة تفتح على عطفة جانبية ضيقة ويحول بينها وبين الفضاء جدار بيت قديم، فلم تجد الشمس سبيلا إليها. وكان يوجد بالفندق حجرات تطل على شارع الأمير فاروق، ولكنها مرتفعة الإيجار، فعدل عنها إلى هذه الحجرة البسيطة قائلا لنفسه: «من العدل أن أعيش كما يعيشون في عطفة نصر الله.» وكان أول ما فعل أن فتح النافذة وأطل منها مدفوعا بحب الاستطلاع، فوقع بصره على عطفة حقيرة، تقوم على جانبيها بيوت قديمة، فعجب للفارق الكبير بينها وبين الشارع الذي تتفرع منه، ثم رأى جدار البيت الذي يحجب عنه الفضاء فداخله ضيق وأيقن بأنه لن يظفر في وحدته بتسلية. وتحول عن النافذة إلى مرآة الصوان فطالع صورته في هيئة غريبة؛ بدا وجهه طويلا وقسماته شائهة إلى ما تناثر على صفحتها الباهتة من إفرازات الذباب، فتضاحك وقال مخاطبا صورته: «إني أجمل منك بفضل الله ورحمته.» ثم مضى يخلع ثيابه، وارتدى جلبابه، ورتب ملابسه القليلة في الصوان الذي بدا على صغره فارغا، والواقع أنه لم يكن يملك غير بدلة وجلبابين وملابس داخلية من نسختين، وجميعها قديمة عملت بها يد الرفو والترقيع، وعلي سبيل الاطمئنان دس يده في جيب الجاكتة وأخرج رزمة الجنيهات، وعدها ثم أعادها إلى مكانها وقد عاودته ذكرياته الأليمة، ثم ذهب إلى الفراش وتربع عليه. لا يدري ماذا يفعل في بقية النهار، ولما لم يجد أحدا يحادثه ولا عملا يعمله فقد استسلم بكليته إلى التأملات والأحلام. وشعر بالوحدة والدهشة، وأدرك أنه سيعاني مر العناء من فراغه، أجل إنه يحب القراءة، ولكن حتى إذا أمكنه ابتياع ما يريده من الكتب فسيظل لديه من الفراغ ما يضيق به، لم يألف الحياة في هذا الصمت الثقيل، وشعر في وحدته الصامتة بأنه شيء ضائع تافه لا يحفل به أحد ولا يأبه له أحد؛ أين صوت حسنين الحاد العصبي الذي لا يفتأ يضج بالضحك أو بالشكوى، أين صوت نفيسة الرفيع وتعليقاتها اليومية الساخرة على الجيران والحوادث، ولكنه لم يشأ الاستسلام لشعوره، وآثر أن يبحث شئون ميزانيته التي سينظم معيشته على أساسها، مرتبه سبعة جنيهات، مبلغ لا بأس به في ذاته، لولا ما يحدق به من ظروف. منه أجرة سكن 150 قرشا، و200 قرش للأكل لا يجوز له أن يتعداها بحال، فول للفطور، وطبق خضر باللحم وأرز ورغيف للغداء، وحلاوة طحينية أو جبن للعشاء، وإذا دعا الأمر أقلع عن العشاء كما اعتادوا أن يفعلوا طوال العامين المنصرمين، ومهما يكن من أمر فلن يسمح لمعدته بأن تكون مصدرا للمتاعب والارتباك، إنه أعظم من هذا، وبوسعه أن يقرر هذه الحقيقة الآن، وهو في مأمن من معارضة حسنين، وأن تحمل المضايقة في سبيل الحياة التي يرضى فيها عن نفسه لألذ من شهوة الطعام. ثم 200 قرش لأمه، وهو قدر زهيد، وكان بوده لو يضاعفه ولكن لا حيلة له؛ فلم يبق لنفقاته النثرية وكسائه إلا 150 قرشا، فيما عدا الضرائب التي تخصم عادة من المرتب. ثم تساءل فيما يشبه الحيرة؛ ألا يمكنه أن يقتصد ولو مبلغا قليلا في صندوق التوفير؟! إنه لا يطيق الحياة بلا اقتصاد من أي قدر كان، ولا يظن أن إنسانا احتضنته أم كأمه يستطيع أن يمارس الحياة بلا اقتصاد. والحق أن أمه بين النساء كألمانيا بين الدول، قادرة على الاستفادة من كل شيء، ولو كان زبالة! كانت ترقع البنطلون حتى إذا بلغ اليأس قلبته، فإذا أدركه اليأس مرة أخرى قصت أطرافه وجعلت منه سروالا داخليا، ثم تصنع من بعضه طاقية وتستعمل بقيته ممسحة، ولا يلفظه البيت إلا فتيتا. لا بد من الاقتصاد مهما كلفه الأمر، وإن قسوة الحياة التي عضتهم بلا رحمة لحرية بأن تجعل من الاقتصاد عقيدة لهم، وعندما بلغ هذا الحد من التفكير تداعت إلى نفسه مشاعر الخوف التي كانت تعذب أسرته بسبب وبلا سبب، والتي لم يكن من باعث لها إلا الفقر، أجل كانوا في خوف دائم من أن تزيد النفقات الضرورية على الإيراد المحدود؛ كأن يتعرض أحدهم للمرض، أو يجد من ناحية المدرسة طلب، أو تتعطل نفيسة عن الكسب ردحا من الزمن، أو أو أو ... مما لا يقف عند حد، أواه! لشد ما يشعر بغمز الألم في صميم قلبه وهو يجتر هذه الذكريات! ومن خلالها يتراءى لعينيه وجه أمه المعروق الجاف كمثال حي للصبر والألم، أحب الوجوه إلى قلبه على بؤسه ودمامته، ومن عجب أن نفذت إلى نفسه - وقتذاك - نسمة مطلولة بغتة لشعوره بأنه بات قادرا على التخفيف عنها مما يثقل كاهلها، أجل إنه من الغد موظف من موظفي الدولة، وبعد أعوام قصيرة أو طويلة يصبح حسنين موظفا أيضا من درجة أعلى، وسيفاخر هو مدى الحياة بأنه قنع بشهادة متوسطة لييسر لأخيه الحصول على شهادة عليا، ترى هل يذكر حسنين هذه العبر؟ إنه يبدو مشغولا بأمر نفسه عما عداها، ذكي بلا ريب، ومجتهد، بيد أنه ... آه فليمسك عن نقده في غربته؛ فما أشد حنينه إليه! وما أكبر شوقه حتى إلى عناده وملاحاته! ومزق الصمت صفير قطار قطع عليه أفكاره وخفق قلبه، وكان الفندق غير بعيد من المحطة، فلم يكن بد من أن تذكره القطر بين آن وآن بالقاهرة وأهلها، وعاودته ذكريات الوداع فنهشت قلبه حتى سح حنينا دافقا، ثم غشيت قلبه سحابة مظلمة من الوحشة والكآبة، فقال لنفسه يصبرها ويعزيها: لعلها ضريبة اليوم الأول للفراق، ثم يهون الأمر رويدا رويدا، وتحير ماذا يفعل؛ هل يقضي سحابة اليوم في هذه الحجرة أو ينطلق إلى الخارج ليجول جولة في المدينة الجديدة، ثم خطر له خاطر هبط على نفسه كما تهبط أداة النجاة على المتخبط بين الأمواج، وهو أن يكتب رسالة لأخيه، وجاء بخطاب وبدأ يكتب بلا توان، فوصف رحلته والفندق وصاحبه قسطندي، وحجرته وأشواقه، ثم حمله تحياته إلى أمه ونفيسة، ثم توقف متسائلا هل يهدي تحية إلى بهية؟ هل يذكرها بالاسم، أو يصفها بخطيبة أخيه أو يقنع بتحية عامة لأسرة فريد أفندي؟ ثم آثر الأخير بعد تردد طال أكثر مما ينبغي.
50
وغادر حجرته في الصباح الباكر، ولكنه وجد الخواجا ميشيل قسطندي جالسا إلى مكتبه البالي عند أسفل السلم، وقد سأله الرجل عما إذا كان يحتفظ بشيء ثمين في حجرته، فابتسم حسين على رغمه، وقال له: «الأشياء الثمينة في جيبي!» وانطلق إلى الطريق، ثم قصد إلى مطعم فول في نهايته كان عرف موقعه في أثناء جولته أمس بالمدينة، وتناول فطوره، ولفت نظره بصفة خاصة سلطة حمص لم يعرف لها نظيرا في القاهرة، وتمشى في المدينة حتى التاسعة ثم ذهب إلى المدرسة الثانوية؛ ليقدم نفسه إلى الباشكاتب ويتسلم عمله رسميا. وقد اهتزت نفسه لمرأى المدرسة، وعاودته ذكريات قريبة حية لاحت في عينيه كالحلم، وعرف البواب بشخصيته، فمضى به إلى حجرة الباشكاتب، وطلب إليه أن ينتظر حتى يحضر الرجل عما قليل. وجلس حسين على كرسي قريبا من المكتب، وجعل ينظر خلل الباب المفتوح إلى فناء المدرسة في جو يثقل عليه الصمت. بعد أسبوع يبدأ العام الدراسي وتمتلئ هذه المدرسة بحياة حارة. وذكر كيف كان - منذ أشهر- يقضي أسعد أوقاته بالمدرسة في مثل هذا الفناء، وكيف كان يمتلئ خشوعا حيال أي موظف من موظفيها. إنه الآن أحد هؤلاء الموظفين، بيد أنه لم يستسلم للزهو، إن التلميذ حلم، أما الموظف فحقيقة، التلميذ مشروع مستشار أو وزير أما الموظف فدرجة ثامنة لا أكثر. ولم يطل به الانتظار؛ فما عتم أن صكت أذنيه سعلة غليظة ونحنحة عميقة ثم أزيز بصقة، ورأى على الأثر رجلا يقتحم الحجرة مهرولا، قصير القامة، رقيق الجسم، كروي الوجه، أعمش العينين، تعلوه صلعة ناصعة البياض، وقد قبض على طربوشه بيد وراح يجفف صلعته بمنديل باليد الأخرى، وما إن وقعت عيناه على الشاب حتى صاح به: بسم الله الرحمن الرحيم، كيف طلعت هنا؟ هل بت ليلتك في حجرتي؟ تلميذ مستجد؟!
فوقف حسين مرتبكا وقال: أنا يا بيك الكاتب الجديد حسين كامل علي.
فقهقه الرجل ضاحكا، ولكن أدركه السعال وعاودته النحنحة، فامتلأ فمه مرة أخرى ونظر حوله في حيرة ، ثم جرى إلى الخارج، وغاب نصف دقيقة، ثم عاد أحسن حالا وهو يقول كالمعتذر: لعن الله البرد، أصاب به كل مطلع فصل من فصول السنة، فتجدني في حيرة دائمة ما بين فصول السنة وفصول المدرسة، لا مؤاخذة يا حسين أفندي، السلام عليكم أولا.
فمد حسين يده مبتسما وهو يرد تحيته بأحسن منها، ثم جلس الرجل إلى مكتبه ودعاه إلى الجلوس فجلس، وأنشأ الباشكاتب يقول: اسمي حسان حسان حسان، العادة في أسرتنا أن يتسمى الابن الأكبر باسم أبيه، ألم تسمع بأسرة حسان بالبحيرة؟ كلا؟! كلا، كلا يا سيدي، الله الغني، التلاميذ الكلاب يدعونني بحسان أس 3.
صفحه نامشخص