فقال حسين بنصف وعي: أما كنا نحزن لوفاة والدنا لو كان غنيا؟
فقطب الشاب متفكرا ثم قال: أعتقد هذا، ولكن لعل الحزن أنواع ودرجات. آه، لماذا لم يكن أبونا غنيا؟ - هذه مسألة أخرى. - ولكنها كل شيء، خبرني كيف صار هذا البك غنيا؟ - لعله وجد نفسه غنيا.
فالتمعت عينا حسنين العسليتان، وقال: يجب أن نكون جميعا أغنياء. - وإذا لم يكن هذا؟! - إذن يجب أن نكون جميعا فقراء. - وإذا لم يكن هذا؟!
فقال بحنق: إذن نثور ونقتل ونسرق ...
فابتسم حسين قائلا: هذا ما نفعله من آلاف السنين. - يعز علي أن أتصور أن تمضي حياتنا في عناء وقذارة إلى الموت.
فقال حسين مبتسما: لا قدر الله.
وقبل أن يفتح حسنين فمه سمعا وقع أقدام آتية من الفراندا، ثم دخل البك بجسمه الطويل العريض في بدلة بيضاء حريرية، وسلم عليهما مرحبا وهو يتفرس في وجهيهما بعينين ضاحكتين، ثم سألهما وهو يجلس: أهلا بابني الحبيب المرحوم، كيف حال والدتكما؟
فشكرا له بلسان واحد، وقد نسي حسنين في طيب اللقاء حنقه، على حين عاود حسين ارتباكه. وتوجس أحمد بك خيفة من هذا اللقاء الذي لا بد أن يسفر عن بذل وعطاء، وكان يسلم سلفا بأنه لن يستطيع أن يرفض لهما رجاء إذا سألاه. والحق أنه لم يكن بخيلا، بل كان جوادا ولكن لا عن طيب خاطر؛ كان يجود في برم وضيق دون أن يستطيع أن يقول «لا»، وتغلب حسين على ارتباكه وقال بصوت رقيق مؤدب، تغني نبراته عن ألفاظ الرجاء والضراعة. - حصلت يا بك على البكالوريا، وظروف أسرتنا تضطرني إلى البحث عن وظيفة؛ لذلك رأت والدتي أن ترسلني إلى سعادتك؛ لما لنا جميعا فيك من عظيم الرجاء.
فجعل البك يعبث بشاربه الغزير المصبوغ، ثم قال: وظيفة؟! باب الحكومة ضيق في أيامنا هذه، ولكني سأبذل ما في وسعي يا بني، لا أعتقد أني سأجد لك وظيفة في الداخلية، ولكني صديق لوكيل المعارف، وكذلك وكيل الحربية، جهز طلب استخدام، وسأكتب لك توصية قوية.
وشكرا له كرم أخلاقه ثم سلما وغادرا الفيلا، وألقى حسنين على الفيلا نظرة توديع وهما يبتعدان عنها، وعاد ببصره إلى وجه أخيه فوجده راضيا حالما، فسأل نفسه في دهشة: ترى هل يفرح الآن بما عده بالأمس تضحية؟ ثم قال: أيقنت الآن فحسب، وبعد أن تنسمت عبير الحياة الحقة في هذه الفيلا، أنه من الظلم أن نعد أنفسنا بين الأحياء.
صفحه نامشخص