ودارى ارتباكه بضحكة قصيرة وتمتم: على شرط ألا تكوني غاضبة؟
فسكتت هنيهة قبل أن تقول بلهجة رقيقة: وعلى شرط ألا تعود لهذا مرة أخرى.
وتحول في خطوات ثقيلة، يلوح في مظهره الارتباك واليأس، فرق قلبها له وقالت وهي لا تدري: إن سعادتي في أن أصون لك ...
وكأنما تنبهت إلى نفسها فعضت على شفتيها ولم تنبس بكلمة.
29
وجاء عيد الأضحى فجذب أفكار الأسرة وعواطفها إلى واد واحد تلتقي فيه ذكريات الأمس واليوم، واجتمعت الأسرة ليلة الوقفة في الصالة حتى حسن كان بينهم، واستعرت في الصدور رغبة كظيمة في الاحتفال بالعيد. وطافت برءوسهم ذكريات الأعياد الماضية في حنين دافق لم تعلن عنه ألسنتهم، كان الخروف - في مثل هذه الليل - بمربطه في شرفة شقتهم الأولى يشرئب بعنقه بين قضبانه ثائجا، مذيعا بثؤاجه في عطفة نصر الله احتفال الأسرة بالعيد. ولم يكن الشقيقان ليفارقاه، فهما إما يعلفانه ويسقيانه، أو يناطحانه أو يحلمان بالغد القريب في أمل وفرح.
وفي الصباح وعقب ذبح الضحية يبدأ سباق إلى شي اللحوم والتهامها، والأم مشغولة بهذا وبتوزيع الصدقات على بعض الفقراء؛ كالكناس، وصبي الفران، وغيرهما، أما الأب فيتناول فطوره من الشواء على السفرة ثم يأوي إلى حجرته في انبساط فيضم عوده إلى صدره ويمضي في مداعبة أوتاره. وهناك - غير هذا - العيدية والملابس الجديدة ونزهة الصباح في الخلوات، وفسحة الليل في السينما، وما بين هذا وذاك من ألوان الحلوى واللعب والمفرقعات. وها هي الأسرة مجتمعة ولكن بلا أب. وإنهم لينظرون فيما حولهم فلا يجدون بشيرا بمقدم العيد ولا أملا في بهجته، ثم يسترقون النظر إلى أمهم المتلفعة بالسواد بأعين مستطلعة وألسنة قلقة مشفقة. كلا، لا عيد ولا بشيرا به. وتساءل حسنين في سره «ترى هل يمكن أن يمضي العيد كما كان يمضي غيره من الأيام؟!» وقال حسين لنفسه: «لا عيد، إني أعلم ذلك، انتهى، انتهى.» حسن وحده كان أدناهم إلى التفاؤل. ولعل كثرة تغيبه عن البيت جعلته بمنأى بعض الشيء عن نوع الحياة التي يحياها أهله. وكان إلى هذا - شأنه شأن بقية الأخوة - يعد أمه قادرة على كل شيء، وكثيرا ما يتعزى عن كسله وتلفه فيقول لنفسه «لديهم المعاش وأرباح نفيسة!» وقد اعتاد دائما إذا رجع إلى البيت أن يخلو إلى نفيسة فيسألها: «كيف الحال؟» فكانت تجيبه بالشكوى المرة، ولكن قلبها لم يكن يطاوعها على تجاهل يده إذا مدها لها طامعا في بضعة قروش. كان متفائلا رغم ما يحدق به من تجهم، ومنته نفسه بنصيب هائل من اللحم يعوض عليه أياما طوالا انقضت دون أن يذوق للحم طعما ، وضاق بالجو الكئيب الصامت، فمال على أذن نفيسة وسألها همسا: ماذا أعددتم للعيد؟!
وفطنت الأم إلى همسه فعاجلته متسائلة: ماذا أعددت للعيد يا رجل الأسرة؟
فضحك قائلا: لنا أم نحسد عليها! خفيفة الروح وبنت نكتة ولطيفة، ماذا أقول يا أماه؟ لم يأمر الله بالرزق بعد، وحسبكم أني كفيتكم شري فلم آكل لقمة في بيتكم منذ وفاة أبي إلا مرات معدودات.
وكانت يئست من نصحه ولومه معا فتنهدت صامتة، وتشجع حسنين بفتح باب الكلام فتساءل: ماذا سنأكل في العيد؟
صفحه نامشخص