وثب إلى منحدر الشاطئ، وعيناه تحملقان في المكان الذي ابتلعها تحت الجسر، ثم جمد في موقفه لا يدري ماذا يفعل، أو لا يدرك ماذا يريد، وظل على جموده يكاد محجراه أن يلفظا عينيه من شدة الحملقة. وتوقع مرات أن تطفو على ظهر الماء ثم أدرك أن النيل المندفع إلى ما تحت الجسر لا بد أن يكون قد جرفها معه؛ فلعلها تتخبط في جوف الجسر أو تغوص فيما يليه من النهر، ومر بخاطره أن ينزع سترته ويقذف بنفسه وراءه لعله ينتشلها، ولكنه لم يحرك ساكنا، ووجد لهذه الخاطرة ما يشبه السخرية المريرة، فازداد جمودا وشعر بأنه لم يعد لعقله سيطرة عليه. وما يدري إلا وصوت من وراء يسأله باهتمام محسوس: أسمعت صرخة؟
فالتفت إلى الوراء فرأى شرطيا تنم حركاته على الاهتمام فقال له في ذهول: نعم، لعله غريق.
وجعل الجندي يحدق في الظلام فوق النهر ثم حث خطاه نحو الجسر. وأعاده الجندي إلى شيء من وعيه فتراجع إلى موقفه الأول، ولم يعد في طاقته أن يضبط نفسه فاندفع عدوا صوب الجسر، ثم عبره إلى سوره المطل على الناحية الأخرى من النهر، وألقى ببصره إلى التيار المتدفق. وما لبث أن رأى آثارا للحادثة لا تخطئها العين، رأى قاربا يشق الماء بسرعة قادما من الشاطئ الأيسر نحو وسط النهر، ويسمع أصوات استغاثة وصراخا آتية من الشاطئ البعيد. وكان سطح النهر فيما يلي الجسر مضاء بما ينعكس عليه من أنوار المصابيح فتصفحته عيناه هنا وهناك، ولكنه لم يعثر على ضالته. ثم تبعت عيناه القارب الذي أخذ يقترب من الوسط شاقا سبيله في الرقعة المضاءة، ثم اندفع مع التيار حتى خرج عنها إلى الظلام. ووجد نفسه يتساءل «ترى هل يفوز القارب في سباق الموت هذا؟» ولم يستبن حقيقة مشاعره، أو لعله هرب من باطنه بتركيز حواسه في القارب فتابعه حتى رآه يتوقف عن التجديف، ثم رأى شخصا يقفز منه إلى الماء، على حين تعالت أصوات الباقين بالقارب . هذه هي اللحظة الفاصلة، وتتابع خفقان القلب حتى جف حلقه، وحاول عبثا أن يرى شيئا خلال الظلمة التي لفت القارب أو أن يميز كلمة معبرة في هدير الأصوات المختلفة، ثم كل منه البصر فلم يعد يرى شيئا وكأنه عمي، وأخذ يتنبه - دون التفات - إلى تجمهر خلق كثيرين حوله، ثم سمع أحدهم يقول: القارب يعود إلى الشاطئ؛ فلعله انتشل الغريق.
وتمشت في أوصاله رجفة وتساءل: «ترى أنجت أم هلكت؟ أذهب أم أفر؟!» ولكنه تحول عن موقفه وسار في اتجاه الشاطئ الذي يقصده القارب مدفوعا برغبة لا تقاوم في تعذيب نفسه إلى أقصى حد، ولم يعد السير ليسعف جزعه فأطلق ساقيه للريح وعيناه تسبقانه إلى بقعة من الشاطئ تجمهر عندها كثيرون، وبلغها والقارب يرسو إلى الشاطئ، فدنا من المتجمهرين بساقين متخاذلتين واندس بينهم وأطرافه ترتجف على رغمه، ثم ألقى بعينين متحجرتين إلى القارب الذي اكتنفه ستار خفيف من الظلمة. وكان يقف غير بعيد منه ضابط النقطة المواجهة للشاطئ ونفر من الشرطة. ثم بدت أشباح الرجال وهي تنتقل من القارب إلى الشاطئ حاملة بينها الغريق فصاح بعض المتجمهرين: هل نجا من الغرق؟
وأرهف السمع ليتلقى الجواب، ولكن لم ينبس أحدهم بكلمة، ومضوا يرتقون منحدر الشاطئ في شيء من الجهد والأعين محدقة بهم حتى ميزت حقيقة الحمل، فصاح بعضهم في ارتياع: إنها امرأة يا ولداه!
وتساءل آخر: كيف غرقت؟
فصاح غلام: رمت بنفسها من فوق الجسر فرأتها زوج النوتي واستصرخت زوجها لإنقاذها.
وجعل حسنين يتبعهم ناظريه في طائف من الغرابة والذهول، فلم يدر كيف يصدق أن هذه هي أخته وأن أحدا لا يعلم بهذه الحقيقة، وأنه لا يفعل شيئا إلا أن يقف بينهم كالغريب المستطلع، وبلغ الرجال طوار الطريق، وسرعان ما نشطوا إلى عملية الإسعاف ليفرغوا ما في جوفها من ماء. وقد أمر الضابط العساكر بتشتيت المتجمهرين، ولكن أحدا منهم لم يتعرض لحسنين، فلبث بمكانه جامدا لا يطرف، لا تتحول عيناه عن الجسم المقوس الذي تعبث به أيدي الرجال الغليظة، وانتبه الضابط إليه فاقترب منه وحياه بإيماءة من رأسه وسأله: أشهدت الحادث؟!
فخرج الشاب عن ذهوله في انزعاج ولكنه أجاب بعجلة: كلا.
وأنام الرجل الفتاة على الأرض وجثا أحدهم إلى جانبها ثم جس نبضها، وألصق أذنه بصدرها فوق القلب، ثم رفع رأسه قائلا: صعد السر الإلهي إلى بارئه، لا حول ولا قوة إلا بالله.
صفحه نامشخص