وانتهى التفتيش فأمر الضابط رجاله بمغادرة الشقة ثم اقترب من حسنين وقال برقة: أكرر الأسف. وإنه ليسرني أني لم أعثر على شيء كان حريا بأن يسبب لكم المتاعب!
ورفع يده إلى جبينه بالتحية وغادر الشقة مخلفا وراءه سكونا محزنا، وتبادل الشابان نظرة ذاهلة دون أن ينبسا بكلمة، وأقبلت المرأتان نحوهما بوجهين ميتين، وانتبه حسنين من ذهوله بغتة متأوها، فوثب إلى الباب وأبرز رأسه راميا بطرفه إلى فناء البيت فرأى رجال البوليس في نهاية الفناء يشقون طريقهم وسط لمة من الرجال والصبية، بينهم البقال والحداد وبائع السجائر، فتراجع وهو يضرب صدره بقبضته صائحا: الجميع يتفرج على فضيحتنا، افتضحنا وانتهينا.
وعاودت نفيسة البكاء ونظرت الأم إلى حسين كأنها تستغيث به، ولكن الشاب لم يدر ماذا يقول، وبدا كأنه يقاوم طعنة قاسية، وجعل حسنين يذرع الصالة وهو يواصل ضرب صدره بعنف ويقول: بودي لو أقتل! .. لن يروح عن صدري أقل من القتل.
وضاقت الأم بعنفه بنفسه فغمغمت قائلة: هدئ من روعك يا بني، ماذا يجدي ضربك نفسك هكذا؟
فصاح في غضب: دعيني أقتل نفسي ما دمت لا أجد من أقتله!
وخرج حسين عن صمته فقال بصوت غريب: يجب أن نتدبر أمرنا في هدوء.
فرماه بنظرة من عينين محمومتين وقال: أي أمر نتدبره؟ .. لقد افتضحنا وانتهينا! - هذه مصيبة لا حيلة لنا فيها، ولكننا لم ننته، فلنتدبر أمرنا.
لم يكن صدره ليحتمل المناقشة فمضى إلى حجرته، وارتمى على فراشه، وكان الخزي يخنقه والغضب يحرقه فمقت أخاه المذنب مقتا قتالا ود معه لو يخفيه عنه الموت إلى الأبد، واستسلم لخواطر دموية جنونية راح يجترها في ذهول وهذيان، ولحق به حسين فجلس على الكرسي صامتا متحاميا إثارته، وكان هو نفسه في حالة تستحق الرثاء. لم يبلغ منه الحزن يوما ما بلغه في تلك الساعة، فلم يغب عنه ما أصاب سمعتهم من طعنة قاتلة، وما يتهددهم من قلاقل في الحاضر والمستقبل، وما نزل بأخيه الأكبر من قضاء لا قائمة له بعده، ماذا جنت أسرته حتى تستحق هذا كله؟! وأخذت تتجمع في ذاكرته ذكريات من آلام الماضي ويربطها بآلام الحاضر فبدت له كدمل خطير يتكشف فجأة عن مضاعفات سامة في الوقت الذي يظن به الاندمال والشفاء. وكعادته قرن آلام أسرته بآلام الناس فوجد نفسه يتأمل حزنا شاملا، وكان يلقي على تأمله هذا كآبة لا شك فيها، ولكنها كثيرا ما توحي بشيء من الصبر والعزاء، ثم نزعت به نفسه إلى تلمس بصيص نور في ظلامه المحيط، وجعل يسترق النظر إلى وجه أخيه المكفهر متحينا فرصة لمحادثته.
ولبثت الأم وابنتها بموقفهما ونفيسة لا تمسك عن النحيب. لم يعد بوسع المرأة المحنكة أن تحسن التفكير والتدبير، غلبت على أمرها، وقهرها الحزن والأسى، وكان قلبها يعاني الآلام التي تتوزع قلوب أبنائها جميعا يضاف إليها ألم خاص دفين يخيفها بقدر ما يعذبها، وتشفق إشفاقا شديدا من ذيوعه وافتضاحه، هو ألمها لحسن نفسه، أين ذهب؟ ماذا يفعلون به لو قبضوا عليه؟ أي مصير يرصده؟ لا ينبغي أن تذكر له إلا عطفه وحنانه، وأنه جاد لهم بخير ما في نفسه، وأنه كان ملاذهم في الملمات، يا له من طريد لا نصير له ولا حبيب، حتى أهله ينكرونه ويمقتونه. عين حسود أصابتهم، نفسوا عليها الموظف والضابط ونسوا الآلام التي تركتها حطاما، وتنهدت في عصبية لأنها لم تعد تحتمل نحيب نفيسة وانتهرتها قائلة: كفاك بكاء ارحميني؛ فإني لا أجد من يرحمني!
ولكن نفيسة لم تكن تملك من نفسها شيئا، حتى آلام الموقف الحقيقية غابت عنها في حالتها العصبية، غلبها خوف غريب ترتعد منه الفرائص. ولم تكن تبكي حزنا أو أسفا أو غضبا، ولكن بكاء هستيريا تغالب به خوفا لا يغلب، خيل إليها معه أنها هي المطاردة، وتوقع قلبها شرا فظيعا، أفظع مما وقع، فتلفتت فيما حولها في ذعر كأنما تخشى أن ينقض عليها فجأة، وسمعت أمها تقول بصوت ضعيف «هلمي بنا إليهما!» فرحبت بالدعوة لتفر من مشاعرها، وسارت وراء أمها إلى الحجرة في خطوات ثقيلة، ثم خفق قلبها وهي تجوز العتبة كأنما تجفل من لقاء أخويها.
صفحه نامشخص