70
ذهب مع أصيل الغد إلى فيلا أحمد بك يسري، وفي نيته أن يقدم له فروض الشكر لمناسبة تخرجه ثم يستشفعه لنقل أخيه إلى مدرسة من مدارس القاهرة، وقد وقف البواب احتراما للضابط ثم قاده إلى السلاملك، ومضى إلى الداخل لإنباء البك بحضوره، وجلس حسنين إلى الكرسي الذي جلس عليه أكثر من مرة في أوقات متباعدة وظروف مختلفة، وراح يسرح طرفه في الحديقة. وجرى بصره في الممشى الطويل المتعرج الذي رأى الدراجة تقطعه في مهل وحذر منذ أكثر من عام، وتساءل ترى ألا تزال تلهو بهذه الرياضة؟ وابتسم للذكرى حينا ثم تساءل مرة أخرى أحقا جاء للشكر والشفاعة وحدهما؟! وعاوده الابتسام. بيد أنه كان في حيرة من أهدافه، قلقا حيال البواعث التي تحركه، مشفقا من الإساءة إلى خطيبته، ثم ذكر زيارته الأخيرة - التي أعقبت تخرجه - لبيت فريد أفندي وكيف مرت في أحاديث مملولة وشعور أليم بالحرمان، حتى إنه لم يظفر بجلسة منفردة واحدة بفتاته، ذكر هذا فوجد من التذمر ما هون عليه إحساس التأنيب الذي دب في أعماقه لسروره بذكريات فيلا أحمد بك، ونفض عن رأسه أفكاره، واستسلم لمشاعر الطموح التي تتوهج في قلبه في محيط هذه الفيلا الرائعة، فانثالت على مخيلته الأحلام، ماض جديد وبيت جديد وقبر جديد وأهل جدد، ومال موفور وحياة وضاءة لامعة، ومع أنه صار ضابطا، ولعل كثيرين يرمقونه بعين الحسد لذلك، إلا أنه أدرى الناس بقلبه الذي يحترق لهفة على الحياة السامية النظيفة، هذا القلب الذي أورده الجزع موارد القلق والسخط والشقاء، ولبث على استسلامه للأحلام حتى عاد البواب من الداخل وتنحى عن الباب في أدب وهمس «سعادة البك قادم.» ونهض حسنين، ثم ظهر البك في بدلته البيضاء والوردة الحمراء تزين عروته، ولما رأى الشاب ألقى على بدلته العسكرية نظرة شاملة ثم قال ضاحكا: أهلا بالضابط.
وانحنى الشاب على يده مسلما وهم بالكلام ولكنه رأى حرم البك تتبعه قادمة من الداخل، وفي أثرها الفتاة، وأدرك أنه جاء في وقت غير مناسب لغرضه؛ لأن الأسرة متأهبة للخروج، وقد توكد هذا لديه حين لمح السيارة تدور في الممشى الواسع وتقف عند أسفل السلاملك منتظرة الذاهبين، فما كان منه إلا أن سلم على المرأتين وتأخر خطوتين قائلا: جئت لأقدم لسعادتك فروض الشكر لمناسبة تخرجي، وأرى أن أستأذن في الانصراف الآن حتى لا أؤخركم.
ولكن البك قال: بل نجلس لنشرب ليمونا معا؛ ما يزال أمامنا فسحة من الوقت.
وجلسوا، فجلس وهو يبذل قصاراه ليضبط أعصابه ؛ فلم يكن أبغض إليه من أن يتولاه الاضطراب أو الارتباك حيال البك وأنداده من علية القوم، وذهب البواب لإحضار الليمون، أما البك فسأله برقة: أين كان تعيينك؟
فقال حسنين بزهو مكتوم: سلاح الفرسان بالقاهرة. - كنت من المتقدمين؟ - الثامن.
وهنأه الرجل، ثم ساد الصمت، وكان في عزمه - لو قابل البك منفردا - أن يعدد أياديه على أسرته وما بذل من شفاعة محمودة له ولأخيه؛ على أن يتدرج من الثناء إلى عرض مسألة أخيه حسين، ولكنه عدل عن هذا مصمما على الاحتفاظ بكبريائه أمام المرأتين، وأمام الفتاة خاصة، ولم ير ضيرا في تأجيل مسألة شقيقه إلى غد أو بعد غد على أن يحدث البك عنها في مكتبه بالوزارة. وجاء خادم نوبي بأقداح الليمون، دار بها عليهم. وانتهز حسنين فرصة رفعه للقدح إلى فمه فاسترق إلى الفتاة نظرة من فوق حافة القدح فرآها وهي تحسو شرابها في رفق ولطافة، فلم يند عن زورها هذه الحركات العصبية التي يبعثها الازدراد العنيف، وتمززت السائل في رقة فانسكب في هوادة وحياء، وقد اكتسى وجهها بهدوء بديع واسترخاء حالم، كأنها تستنيم للمسات النعاس، وأعاد القدح إلى الصينية ثملا بنشوة افتتان تبعثها الأناقة والرشاقة وأمارات الأرستقراطية، وتخيلها فجأة بين ذراعيه مستكينة مستنيمة، فصر على أسنانه؛ «ما هذا الجنون الذي ينبعث في دمي؟! ليس شهوة فحسب، بل ليس شهوة على الإطلاق، بهية أشهى منها، وإن كان يخجلني الظهور معها أمام الناس، ليس ركوب هذه الفتاة بعمل جنسي ولكنه غزو كامل وفتح مظفر، هذه!» وانتبه من أفكاره على صوت أحمد بك وهو يسأل: كيف حال الأسرة؟
فخطر له خاطر ظن أنه يرفع من كبريائه، وكانت الأكاذيب تنبعث في نفسه أحيانا بوحي البديهة؛ فقال بلا تردد: الحمد لله، انقضت متاعبنا بعد أن كسبنا القضية!
فتساءل البك: أي قضية؟
فقال بثبات وثقة: قضية قديمة بين أمي وأخوالي على أوقاف، وقد حكم لأمي بنصيبها كاملا!
صفحه نامشخص