فضحك حسين في ارتباك وقال: ولكن أخي مصمم على استكمال تعليمه.
فعاد الرجل يقول هازئا: اسمع؛ إذا كانت لك أهداف في الحياة كإعادة دستور سنة 1923 مثلا فالأخلق بك أن تؤجل زواجك، ولكن دستور سنة 1923 قد عاد والحمد لله، فلماذا لا تتزوج؟ يجب أن تتزوج في نهاية هذا العام حال توظف أخيك، أما إذا أصر على تكملة تعليمه ووافقت والدتك على هذا فلا يحق لها أن تعارض في زواجك، أجل، لا يحق لها أن تدلل واحدا على حساب حرمان الآخر من حقه الأول في الحياة.
ووجد حسين حديث الرجل مؤثرا أكثر منه مقنعا، ولكنه لم يشأ أن يقطع بالرفض؛ أن تنفصم ما بينه وبين الرجل من أسباب المودة، فقال: أعتقد أنه من الممكن أن أحقق آمالي دون أن أقضي على آمال أخي.
وكان حديث الزواج يدور دون هدف معين في الظاهر، ولكن التفاهم الصامت عن الهدف كان تاما بينهما، وسبقت إليه إشارات فيما ينشأ بينهما من أحاديث كل مساء، وكأن حسين لم يشأ أن يقنع بهذا القدر من التفاهم فقال في حياء شديد: وأظن آنسة إحسان لم تعد أولى خطى الشباب.
فضحك الرجل عاليا وقال: إحسان صغيرة طبعا، ولكن الزواج لم يخلق للكبار.
لم يتقدم الموقف عن هذا الحد فيما تلا ذلك من أيام، حتى اقترح حسان أفندي أن يقدمه لبعض أقاربه في حفل عائلي فلم يسع حسين إلا القبول، وخجل أن يظهر أمام الأقارب بمظهره الذي لا يسر حبيبا، وركبه فجأة ما يشبه الجنون - هكذا وصفه فيما بعد - ففصل بدلة جديدة على أقساط، وابتاع حذاء وطربوشا مدفوعا إلى هذا كله بعواطفه ونزوته الطارئة حتى إذا جاء أول الشهر أدرك أنه من المستحيل أن يرسل النقود إلى أمه، وأرسل بدلا منها خطاب اعتذار كاذب يقول فيه إن مرضا ألم به، وإنه أنفق في العلاج ما ناءت به ماهيته المحدودة. وقد كتب الرسالة بيد باردة ونفس منقبضة، مقتنعا في أعماقه بأنه هوى من خطأ إلى خطأ، وأن تعاقب الأخطاء قد أفقده اتزان التفكير وسداد الرأي فلم يحسن حتى اختلاق العذر.
53
ثم كان يوم الخميس، وكان حسين مستلقيا على فراشه يقرأ جريدة الصباح التي يحتفظ بها عادة لوقت العصر، فسمع دقا على الباب فظنه خادم حسان أفندي، ومضى إلى الباب وفتحه وإذا به يرى أمه أمامه. أجل، أمه دون غيرها، ففغر فاه دهشة، ثم أخذ يدها بين يديه هاتفا: أماه! .. في طنطا؟! لا أكاد أصدق عيني!
وشد على يدها، ثم قبل خديها أو تبادلا بالأحرى قبلتين، وفي طريقهما إلى حجرته سألها بدهشة: لماذا لم يخبرني حسنين بحضورك كي أنتظرك في المحطة؟
فجلست المرأة على الكرسي الذي قدمه لها وهي تقول مبتسمة: لم أجد صعوبة تذكر في الاهتداء إلى مسكنك؛ إن الاهتداء إلى مسكن في شبرا أشق من هذا بكثير. وقد اقترح حسنين علي أن أنتظر حتى يخبرك عن حضوري برسالة خاصة، ولكني لم أجد داعيا لإزعاجك وأنت مريض، كما لم أحتمل البقاء في القاهرة وأنا أعلم أنك هنا وحيد ومريض.
صفحه نامشخص