مقدمة
بصراحة غير مطلقة
مقدمة
بصراحة غير مطلقة
بصراحة غير مطلقة
بصراحة غير مطلقة
تأليف
يوسف إدريس
مقدمة
مشكلة هذا الكتاب في رأيي أن موضوعاته فيها رأي، وموضوعات كهذه يضعها النقاد دائما وضع مواطن الدرجة الثانية في دولة الأدب والفن، باعتبار أن هناك استحالة في وجود الرأي المباشر مع الفن. لا بد - في رأيهم - لكي يكون الرأي فنيا، أن يستحي ويتخفى تماما، ولا بد أن يظهر في العمل بطريقة غير مباشرة.
والحقيقة أني في بحر عشر سنوات طويلة، وأنا أكتب مادة هذا الكتاب، لم أكن ألقي إلى هذه المشكلة بالا، باعتبار أني أنا الآخر موقن أني أكتب للصحافة، وهي جواز مرور أمثل لأي نوع من أنواع الكتابة، وبالذات النوع القليل الفن. ولكني وأنا أراجع ال (تقريبا 600) انطباع ولمسة ورأي لأختار منها المادة التي تليق بالقدس المسمى بالكتاب، وجدت أن المسألة في حاجة إلى تفكير من جديد. وللوهلة الأولى أحسست أننا نبخس «الرأي» وأهميته بظلم واضح، وبدون تعريفات وتفاصحات كثيرة، فإن أدق مقياس للعمل الفني أو الأدبي هو أثره في «المستقبل»؛ أي القارئ أو القراء. إذا كان العمل يبعث لدى القارئ أو المتفرج إحساسا بالتفاؤل فهو عمل متفائل، رغم كل ما قد يقال عن نهاياته التعسة أو المتشائمة، والعكس صحيح تماما. أما إذا لم يتأثر القارئ بالعمل إطلاقا، فهو قطعا لا يمت إلى الفن بصلة مهما وجد فيه النقاد من رموز وتجريدات.
من هنا نستطيع القول بأن الفن ليس هو الأشكال الفنية المتعارف عليها فقط، وإنما هو كل ما يجعل «المستقبل» ينفعل انفعالا يشبه انفعاله بأي عمل فني؛ آيات الطبيعة، جلسة صادقة صريحة مع أصدقاء، «عمل» قام به أحدهم.
وهذا هو المهم، رأي لا تتحرك له عقولنا فقط، وإنما «ننفعل» له بعواطفنا ووجداننا أيضا. المشكلة إذن ليست مشكلة وجود الرأي في العمل أو عدم وجوده، المشكلة هي في الرأي نفسه، في طريقة تقديمه بحيث يصل إلى طبقات أعمق، ويحرك الوجدان. وبالمناسبة، فإني لا أطيق الحديث عن «العقل» و«العواطف» كشيئين مختلفين ؛ إن أمخاخنا لا تعمل هكذا أبدا، لا تفصل. إنها كل متكامل، كل ما في الأمر أن العقل يحدد خط وكيفية السير، والعواطف تحدد الاتجاه، بالضبط كالتكتيك والاستراتيجية. ولا يمكن أن يتحرك العقل إلا بدافع من عاطفة ما، ولا يمكن أن ينفعل الشخص بعاطفة إلا والعقل مشترك بكل قواه في الانفعال.
ونعود للرأي. حقيقة هناك آراء تساق بطريقة ميكانيكية كمسائل الحساب والجبر، ولكن بالتأكيد هناك آراء تبلغ من تحريكها لأعماق الإنسان وعواطفه مبلغا ربما يعجز العمل الفني عن الوصول إليه.
لقد وجدت أني - في خضم العمل اليومي أو الأسبوعي في الصحافة - قد وصلت إلى أشياء لا يمكن أن ينتهي الإنسان منها بمجرد انتهائه من قراءة الجريدة، أشياء تكون في مجموعها أحاسيس وأحلام وعثرات وقفزات شاب مغامر، خلال أخصب عشر سنوات من عمر الشباب، من الثلاثين إلى الأربعين.
أشياء أرجو ألا يبدو من الطريقة التي أتحدث بها عنها أني أعتز بها لأنها عملي أنا.
الحقيقة أن هدفي الوحيد من هذا الكتاب هو أن أضع أمام القراء - سواء من جيلنا كانوا أم من أجيال لاحقة أو سابقة - صورة حية لتفاعل إنسان مثلي مع أحداث حياتنا العاصفة في الفترة ما بين 1958، 1968.
وكان من المستحيل أن تتجسد صورة كهذه إلا من خلال أعمال فيها رأي؛ رأيي، الذي قد يكون خاصا، ولكني لا أملك سواه، فالرأي الصادق ليس تفكيرة أو تفنينة تستطيع أن تلفقها من وحي الساعة، رأيك الحقيقي شيء آخر. إن الضمير الذي نجله ونقدسه رأي، ضميرك هو رأيك، أو على وجه الدقة، على أساس آرائك يتحدث ضميرك، أدق أجهزة العدالة في نفسك.
لو كنت أعرف أن مهمة اختيار عدد محدود من اليوميات والانطباعات والحكايات، من بين 600 عمل، ستستغرق كل هذا الوقت والجهد والعذاب، لفضلت ألف مرة أن أكتب كتابا جديدا. فالجهد الأكبر استغرقته دقة الاختيار؛ إذ على أساسه سيتحدد صدق الصورة النهائية من زيفها.
وبرهبة أتمنى أن يجد القراء ما يعوض صبرهم، ليس حتى على الكتاب كله، وإنما أولا على قراءة هذه المقدمة.
القاهرة ، أغسطس سنة 1968 «ي. إ»
بصراحة غير مطلقة
(1) صباح الخير
حقيقة بسيطة ولكنها غريبة جدا في الوقت نفسه، قد لا تخطر لك أبدا وأنت تبتسم لمن حولك حين تصحو من النوم، وتقول: صباح الخير!
هذه التحية كانت مشكلتي طوال جزء كبير من الليلة الماضية. أول ما استرعى انتباهي أن تحية الإنجليز لبعضهم البعض في الصباح هي: جود مورننج، ومعناها صباح طيب أو صباح خير. قلت لنفسي: كيف تشابهت تحية الصباح عند الإنجليز في أقصى الشمال وعند العرب؟ نفس الكلمات بنفس المعاني: الصباح والخير. كيف حدث هذا؟ ومن منهم أخذ عن الآخر؟
غير أن تلك الأسئلة أسلمتني إلى مشكلة أخرى؛ إذ باستعراض تحية الصباح في كل اللغات التي أعرفها وجدتها متشابهة تشابها مذهلا محيرا، فهي بالفرنسية بونجور، وبالإيطالية بونجورنو، وبالألمانية جوتن مورجن، وهكذا ... وكلها معناها أيضا مثلما في العربية: صباح الخير. أليست مشكلة تدعو للحيرة والتأمل؟
الجنس البشري موزع على رقعة الكرة الأرضية كلها، تفصله عن بعضه البعض محيطات وأنهار وسلاسل جبال ومسافات مترية وزمنية شاسعة. وبسبب هذا الانفصال والتمزق نشأت عدة مجتمعات متفرقة ذات ألوان مختلفة متباينة، وتركيبات نفسية وخلقية مغايرة. لكل مجتمع منها لغته الخاصة وتقاليده وعاداته وحضارته. كيف حدث إذن أن تلك المجتمعات المختلفة حين أرادت أن تبتكر طريقة لتحية بعضها البعض في الصباح والمساء، اختارت نفس الكلمات ونفس المعاني؟
هل حدث هذا بالصدفة المحضة؟
مستحيل! فلو كان الأمر بالصدفة، لوجد هذا التشابه بين مجتمعين أو ثلاثة. ولكن التشابه في تحية الصباح موجود لدى كل المجتمعات، المتقدم منها والمتأخر، الأسود منها والأبيض والأحمر.
هل يكون التشابه قد حدث نتيجة للنقل أو التشرب. وتكون التحية مثلا قد تسربت من مصر القديمة إلى اليونان إلى أوربا، ومن بلاد العرب إلى بلاد الفرس؟
مستحيل أيضا! فالتحية عند الفراعنة كانت صباح الخير أيضا باللغة الفرعونية، وكذلك كانت عند قبائل الهنود الحمر في أمريكا، وبينهما مسافات بحرية ومائية لا يمكن اختراقها في ذلك الوقت، وكل مجتمع منهما قد نشأ مستقلا عن الآخر، لا يعي حتى بوجود أي مجتمع على الكرة الأرضية سواه.
لماذا إذن لم يحدث اختلاف فينشأ الفراعنة يحيون بعضهم البعض بصباح الخير، وينشأ الهنود الحمر يحيون بعضهم البعض بقولهم: حماك الله مثلا، أو سمعا وطاعة، أو أي شيء آخر غير تلك الكلمات نفسها؟
الواقع أني لم أفكر في الموضوع طويلا لاهتمامي بجغرافية الجنس البشري أو بدراسة تاريخه، ولكن الذي استرعى انتباهي حقيقة هو أن معنى تشابه التحية عند كل الشعوب والمجتمعات، أن طريقة انفعال الإنسان أو الجنس البشري واحدة، مهما اختلفت الظروف والأحوال. فالشمس حين تطلع على كل هذه المجتمعات المتفرقة المتباينة، المتأخرة والمتقدمة، تولد فيهم جميعا نفس الشعور، وتدفع كلا منهم أن يلتفت للآخر، ويقول: صباح الخير! يقولها بالعربية والإنجليزية والسنسكريتية واللهجات المحلية في أيسلندا وأفريقيا وأستراليا، ولكنه يترجم بها إحساسا واحدا شعر به، إحساسه باليوم الجديد.
وقد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ أليس الجنس البشري متشابها في ملامحه، فلكل إنسان أنف وفم وعينان؟ وهذا صحيح. ولكن التشابه هنا ليس تشابها في الملامح الخارجية، ولكنه تشابه في الملامح الداخلية؛ تشابه في التصرف، والتصرف عملية تفكيرية يخيل لكل منا أنها تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. وقد يكون هناك اختلاف، ولكن التشابه الذي أعنيه هو تشابه ما وراء هذه المظاهر الخارجية المختلفة، تشابه الأعماق تشابها أرسخ أقداما من كل هذه الاختلافات القشرية في اللون واللغة والمأكل والملبس؛ تشابها عميقا قد يبدو أحيانا في شكل تصرفات بسيطة جدا تمر أمام أعيننا دون أن نلحظها، مثل تلك التحية التي تواضعت المجتمعات البشرية على استعمالها من تلقاء نفسها، وبوحي من فطرتها الإنسانية فقط؛ تحية الصباح، تلك التي نتمنى فيها لبعضنا البعض - من بلاد الإسكيمو في الشمال إلى جوهانسبرج في الجنوب - صباحا طيبا خيرا نبدأ به يومنا الجديد.
تأملوا معي تلك الحقيقة، فربما أدى بنا التأمل إلى كشف حقائق أخرى لم ندرسها في الكتب عن الإنسان؛ ذلك المجهول. (2) الشيء الآخر
تعودت أن أذهب إلى عملي كل يوم عن طريق شارع قصر العيني وأعود من نفس الطريق؛ إذ هو أقصر الطرق التي تصل بين بيتي ومكان عملي. وأول الأمر كان المشي في شارع قصر العيني يبهجني؛ إذ كل ما كنت أراه فيه كان جديدا علي، ولكن طول المدة وكثرة التعود أفقداني لذة الإحساس بالشارع ومن فيه، حتى أصبحت أقطعه بلا وعي وبدون أن أفكر إلى أين أو كيف أسير، يكفي أن أضع نفسي في أول الشارع لأجدني أوتوماتيكيا قد وصلت إلى بيتي بطريقة تلقائية لا دخل للإرادة فيها، وكنت أستسهل تلك الطريقة اللاإرادية، ولا أفكر أبدا في تغييرها، وحياتي حين توظفت كان لها أول الأمر طعم جديد. كان المكتب الذي أجلس عليه أحس أنه حقيقة مكتب لامع وأنيق، وأحس حين أعمل عليه أنني حقيقة أعمل وأنتج، ولكن الأيام ... إن العادة لم تلبث أن أفقدتني الإحساس بالمكتب ودقات المنبه التي توقظني، ونظرة زوجتي حين أعود وحين أغيب، والطريقة التي أصفف بها شعري، وفنجان الشاي الذي أشربه في الفراش بعد غفوة الظهر. هذه كلها كان لها مثلما كان لشارع قصر العيني طعم وجدة، غير أنني فقدت الإحساس بطعمها وبجدتها، وأخيرا بها نفسها، وأصبحت لا أزاول حياتي بقدر ما أتحرك أوتوماتيكيا داخلها، وكأنها دائرة من أسمنت وأبواب وأقارب ومكاتب والتزامات أدور فيها مرة كل أربع وعشرين ساعة، أدور كالسجين المحبوس، بل حتى إحساسي بأني مسجون - الإحساس الذي كان يولد في نوعا من الثورة والتمرد والرغبة في التغيير - حتى هذا الإحساس فقدته ولم أعد أثور.
وأمس، فعلت شيئا تافها جدا لم أكن أتصور أن يكون له ذلك الأثر، وأنا خارج من العمل خطر لي خاطر، واحد من تلك الخواطر التي تخطر لنا ونلقيها من وراء ظهورنا ولا نحفل بها، الفرق أني تحمست للخاطر ونفذته، كان لدي وقت فقلت لماذا لا أغير شارع قصر العيني وأحاول أن أعود إلى البيت مرة عن طريق شارع آخر؟ وأخذت شارع الفلكي، ومن أول لحظة وضعت قدمي فيه بدأت حواسي تنتبه، وبدأت آخذ بالي من الشارع، أمشي حقيقة ولا أتوقف، ولكني لا أترك شيئا يمر من أمامي أو أمر من أمامه دون أن أراه أو ألحظه وأفكر فيه.
ويا للعجب مما رأيت! أشياء جديدة تماما على عيني، الشارع مختلف عن شارع قصر العيني، والبيوت مختلفة، بناؤها مختلف وروحها مختلفة، وكأنما لكل شارع طعم خاص وروح خاصة، والبلكونات حديدها مختلف، وحتى الملابس المنشورة على حبال الغسيل ألوانها بدت جديدة لعيني، وكذلك طريقة نشرها وتفصيلها. وكل شيء كنت أحس به؛ الأصوات، طريقة نداء الباعة، أشكال وأعمار وما يرتديه صبيان الدكاكين، وشلل الطلبة التي تحتل النواصي، واللافتات وطريقة كتابتها وما عليها من أسماء أطباء ومحاسبين وشركات. أسماء مختلفة جديدة لها وقع غريب على العين وطعم جديد على الذهن، وكل اسم جديد، ودكان جديد، وشخص جديد، يثير في نفسي عشرات الخواطر الجديدة، حتى عساكر المرور الذين من كثرة ما اعتدتهم في شارع قصر العيني، كانوا قد أصبحوا لدي مجرد إشارات آدمية بيضاء وسوداء تنظم حركة السيارات، وجدتهم في شارع الفلكي رجالا حقيقيين لهم شوارب ووجوه، ولكل منهم شخصية خاصة مستقلة، وطريقة خاصة في إعطاء الإشارات.
مشيت في شارع الفلكي ... وصحيح أني تعبت قليلا؛ لأن المسافة أطول، ولكني عشت بكياني كله في تلك الدقائق التي قطعته فيها، وكأني طفل يتفرج على دنيا جديدة لم تخطر له على بال.
وحين عدت إلى البيت بدأت أفكر فيه - البيت - وفي مشاكله بطريقة جديدة، وبروح جديدة، وبدأت أحس أني كائن آخر غير الذي غادره في الصباح.
وكم من المشاريع نبتت في رأسي! وكم من الأحلام التي كان يخيل إلي أنها ماتت في نفسي وجدتها تنتفض وتملأ علي خيالي، وأحس أنها قريبة مني لا تكاد تحتمل إلا أن أمد يدي لأقطفها! عاودني الأمل. أحسست وكأني كنت فعلا ميتا وعدت إلى الحياة بطريقة ما، وكأن الموت هو أن نسجن أنفسنا داخل حياة متشابهة واحدة، وكأننا نموت حين نكف عن إدخال الجديد في حياتنا، الموت هو أن ندور في دائرة واحدة مهما كانت تلك الدائرة، حقيقة أحسست وكأني تناولت لتوي جرعة حياة ضخمة، أصبحت بعدها أكثر قوة وأكثر حرية وتفاؤلا وإنسانية وأقوى إرادة. وكل هذا لأني فقط عدت ذات مرة إلى بيتي من شارع آخر غير الذي تعودته!
ترى ماذا يحدث لو عدت كل يوم إلى بيتي من شارع جديد؟ ولو قرأت كل يوم كتابا جديدا؟ وتعرفت إلى شخص جديد؟ وابتكرت طعاما جديدا؟ ومارست تجربة لم أمارسها أبدا؟ (3) لماذا رغم قسوتها نحب الحياة؟
لماذا نستيقظ من النوم ملهوفين ونجري على العمل، من العمل نجري إلى البيت، ونتحمل الرؤساء، والخضوع للمطالب والروتين؟
لماذا نتعب أنفسنا ونعيش، ونتمسك بحياتنا إلى آخر رمق، رغم كل ما قد يكون فيها من ظلم وألم؟
بالاختصار، لماذا الحياة أصلا؟ لماذا يكلف الشجر نفسه عناء النمو وتكوين الثمار؟ لماذا تدافع أحط الكائنات عن بقائها بكل شراهة وشراسة؟ لماذا يتعب الطير نفسه في وضع البيض ورعاية الأجنة وملء السماء أسرابا وأفرادا؟
هذه الأسئلة خطرت لي في أثناء كتابة موقف من مواقف قصة أخيرة، وردت فيه على لسان البطل، ولكني لم ألبث أن وجدت نفسي أولى من البطل بمناقشتها، وجدتني أخرج من القصة وينتقل التساؤل إلى لساني أنا، حقيقة ما دامت الحياة آخرتها الموت، ما دام لها نهاية محتمة، فلماذا البداية أصلا؟ وما معنى البداية والحياة والنهاية؟ لا أعتقد أني، أو بطل القصة، وحدنا في ذلك التساؤل، يخيل لي أن كلا منا لا بد أن جاء عليه وقت، أو سيجيء عليه وقت، يجد فيه أسئلة كهذه تملك عليه عقله وتفكيره، ويجد نفسه في النهاية يتساءل مثلنا: لماذا أحيا؟
الفلاسفة من قديم الزمان طرحوا السؤال وحاولوا الإجابة عليه، بعضهم قال: إن دافعنا الأول للحياة هو التكاثر والتناسل، وبعضهم قال: بل هي غريزة حب البقاء الكامنة في كل كائن حي، وأكثر من إجابة تطوع بها أكثر من فيلسوف، ولا يزال السؤال بغير جواب شاف. وجدت أني أنا الآخر مطالب بالبحث عن جواب، فبرغم كل ما تقرؤه لأرسطو وأفلاطون وكانت وبرجسون ودوهرنج وراسل وإنجلز، لا بد أن تجد نفسك في أحيان مطالبا - لكي تؤمن - أن تبحث أنت عن الحقيقة.
ولقد حاولت أن أبدأ من البداية، فأقول لنفسي: إن الحياة - ومنها الحياة الإنسانية - نوع من الحركة، وقوانين الحركة تنص على أن من خواص المادة أن تحافظ على حالتها الكائنة عليها، فإذا كانت تتحرك فمن خواصها أن تظل محافظة على حركتها تلك، وإذا كانت ساكنة فمن خواصها أن تظل محافظة على هذا السكون، إلى أن تتدخل قوة خارجة عنها تغير من حريتها أو سكونها.
ممكن أن ننقل الفرض خطوة أخرى، ونقول: إذا كان هذا هو القانون فلا بد أن كل مادة حية من خواصها أن تظل تحتفظ بحالتها الحيوية، حتى تتدخل قوة ترغمها على التخلي عن حالتها تلك، وتدخلها في حالة أخرى، بمعنى أدق، نحن لسنا أحياء لأننا نحب البقاء، العكس هو الصحيح، نحن نحب البقاء لأننا أحياء، ولا يمكن أن نجد كائنا حيا أو مادة حية لا تحب البقاء حية، فهي رغما عنها - بحكم خاصيتها - لا بد أن تكون كذلك، وأيضا لن تجد مادة غير حية إلا وهي في حالة تمسك واحتفاظ بانعدام حياتها، تقاوم أن تدب إليها الحياة مثلما تقاوم الحياة أن يدب السكون إليها. كل شيء في هذا الكون يعمل على أن يظل على حالته، فإذا تغير فلا بد أن يكون التغير رغما عنه لا بإرادته.
الحقيقة الثانية
المادة في كوننا تأخذ حركتها أشكالا عدة، ملايين عديدة من الأشكال، كل شكل منها يختلف عن الآخر، فالعلم قد أثبت أن لا شيء في الكون في حالة سكون تام، ذرات قطعة الرصاص في حركة دائمة مثلها مثل ذرات خلايا الإنسان، كل ما في الأمر أن ذرات الرصاص تتحرك بطريقة أبسط وأبطأ، بينما ذرات الخلايا تتحرك أسرع، وفي مدارات أكثر تعقيدا.
والخلاف بين الرصاص والبخار والعقل هو فقط خلاف في السرعة ودرجة التعقيد، ولأن المادة في حركتها يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من السرعات ودرجات التعقيد؛ أي بتعبير آخر يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من أشكال الحركة، لهذا نجد أن كوننا يحفل بعدد لا نهاية له من أشكال المادة، وجود كل شكل منها على حدة هو في اختلافه عن الأشكال الأخرى، الاختلاف في الشكل يحتم اختلافا في المضمون أيضا، فحركة ذرات الرصاص باختلافها عن حركة ذرات الخلية الحية، تجعل من الرصاص رصاصا ومن الخلية كتلة حية، الاختلاف في الحركة هنا شكل ومضمون في الوقت نفسه، واسم وصفة. الرصاص رصاص؛ لأنه يختلف عن الحديد والإنسان، فإذا فقد اختلافه عن الحديد والإنسان فقد رصاصيته، والخلية حية؛ لأنها تختلف عن الرصاص والحديد، بل حتى عن مكونات نفس الخلية إذا ماتت، فإذا فقدت الخلية اختلافها فقدت حياتها.
الحقيقة الثانية إذن، حسب قوانين الحركة، أن كل شكل من أشكال الوجود يحاول المحافظة على الحالة التي هو عليها بطريقة سلبية، بمجرد البقاء في شكله المختلف فقط، ولكنه يحافظ على اختلافه بطريقة إيجابية، بمحاولة فرض شكل حركته الخاص على أشكال الحركة الأخرى، النار مثلا تحاول أن تحيل كل شيء إلى نار، والثلج يبرد ما حوله، والحيوانات تأكل النباتات لتحولها إلى نسيج حيواني ... وهكذا.
باستطاعتنا إذن أن نتصور الوجود على أنه مادة دائبة الحركة، تأخذ من حركتها أشكالا لا حصر لها، أشكالا متدرجة في درجة سرعتها ودرجة تعقيدها، كل شكل منها يحاول ابتلاع الأشكال الأخرى، وفرض نوع سرعته ودرجة تعقيده عليها.
الحقيقة الثالثة
بدراسة تاريخ حركة المادة نجد أن الحركة في الكون تجنح أكثر وأكثر إلى أن تتعقد، والدليل على هذا أن كتلة الشمس مكونة من جزيئات وذرات، وحتى من إلكترونات طليقة، بينما في الكرة الأرضية تجد هذه الأشكال قد تداخلت وارتبطت وتعقدت أكثر وأكثر، ونتج عنها الماء والتراب والنبات والحيوان والإنسان.
في عملية الصراع من أجل بقاء كل شكل من أشكال الحركة على حاله، لمن النصر؟ المشاهد أن أشكال الحركة المعقدة هي التي تبتلع الأشكال السفلى الأبسط وترفعها إلى درجتها من التعقيد. ولقد ظلت أشكال الحركة المعقدة تزداد تعقيدا حتى وجدت الحياة، وظلت أشكال الحركة الحية الدنيا تتعقد حتى وصلت إلى مراحل النبات الكامل والحيوان والإنسان، والعقل، العقل هنا هو أرقى أشكال الحياة وأكثرها تعقيدا، ليس هذا فقط، بل إنه شكل الحركة الذي يستطيع - دونا عن بقية أشكالها الأخرى - أن يتحرك حركة من تلقاء نفسه لا تخضع لقوانين الحركة.
وبمعنى آخر، مادة الكون ظلت في حالة حركة تلقائية وصراع بين أشكالها، حتى ظهر العقل الذي بدأ يتحرك ويتصرف في مادة الكون وأشكالها تبعا لإرادته الخاصة وقانونه الخاص، ولكنها إرادة محدودة أيضا، وخاضعة لقوانين الحركة العامة السالفة، فالإنسان يستخدم عقله لابتلاع كافة أشكال الوجود الأخرى، ولإحالتها إلى إنسان، أو تأنيسها على الأقل، هو لا يمكن أن يوقف قوانين حركة المادة أو يلغيها؛ لأنه هو نفسه مجرد شكل راق من أشكال حركة المادة، كل ما في الأمر أنه مرحلة نتجت عن تعقيد حركة المادة، وبحكم خاصيتها تجنح إلى تعقيد حركة المادة أكثر وأكثر.
ولهذا، فكما كان الجليد في العصور الغابرة يحاول أن يثلج الأرض وما عليها، فكذلك الإنسان، ذلك الذي كان في مبدأ أمره مجرد أفراد متناثرين على سطح الأرض يحيون في كهوف، ها هو الآن يملأ وجه الأرض، تكاثر جنسه حتى أصبح ثلاثة آلاف مليون، ومن الأحجار صنع بيوتا، ومن الحديد صنع آلات تتحرك، استأنس الحيوانات واستغل النبات، واستأنس كل ما على ظهر الأرض من مواد وطاقات ليحيلها إلى إنسان، أو أقرب ما يكون إلى إنسان.
والنتيجة؟
إننا لا نحيا إذن استجابة لنداء حب الحياة، ولكننا نحيل برغمنا، بحكم قانون شكلنا الحي وحركتنا، بحكم أننا مختلفون عن بقية أشكال الوجود اختلافا لا نملك معه إلا أن نستمر نختلف وندافع عن اختلافنا، ليس فقط بمجرد تمسكنا السلبي ببقائنا أحياء، ولكن بالتمسك الإيجابي، بالدخول في صراع مستمر مع غيرنا من أشكال الحياة واللاحياة، والانتصار عليها ورفعها إلى مستوى حركتنا الإنسانية، ولأن قانون الوجود الأساسي أن الشيء الذي لا يغير لا يتغير، وأننا ما لم نغير نحن من أشكالها ونستأنسها، فأشكال الوجود الأخرى حتما سوف تغيرنا وتخضعنا لقانون حركتها. تلغي وجودنا المختلف ... تقتلنا.
لهذا، فمجرد أن نبقى أحياء هو في حد ذاته موت؛ لأنه إلغاء لخاصيتنا كأحياء؛ إذ خاصية الحي أن يغير كل ما هو غير حي إلى حي، وإلا حوله غير الحي إلى جماد مثله، ونحن نفعل هذا برغمنا وبإرادتنا.
دافعنا للحياة إذن ليس هو الخوف من الموت، أو الرغبة في التناسل، أو المحافظة على النوع، دافعنا أننا فعلا أحياء بغير إرادتنا، حياة من تلقاء نفسها دفعتنا لأن تنشأ لنا إرادة، نستخدمها لكي نتحرك حركة الإنسان الراقية المعقدة، وأن نجعل غيرنا من الكائنات والمركبات - وحتى الأكوان - يتحرك مثلها.
وصحيح أن معظم الناس لا يحيون هكذا، بعضهم يستخدم هذه الإرادة التي تفرد بها في خدمة نفسه فقط، وإحاطتها بما يؤمن وجودها على سطح الأرض، ومع أن في هذا أيضا تحقيقا لبعض إرادة الحياة الكبرى، إلا أنه تحقيق لها على أضيق وأحط نطاق، أما حركة الجنس البشري ككل، فهي تمضي تنتصر وتكسب وتنجح، لا في إحالة كل ما هو حي إلى حي، ولكن أيضا في إحالة أشكال الحياة الإنسانية اسما إلى إنسانية حقيقية، والصراع بين ما هو خير في الإنسان وما هو شر، صراع ليس أبديا كما يعتقد البعض، إنه مرحلة من مراحل تأنيس الحركة الإنسانية داخل المجتمع الإنساني، تمهيدا للتفرغ كلية لتأنيس كل ما ليس إنسانا.
الإجابة عن السؤال: لماذا نحب الحياة رغم قسوتها، ونحتمل شظفها؟ الإجابة أننا نفعل هذا لأن الحياة لا تكون إلا بالانتصار على قسوتها. وتحمل صعاب الحياة ليس ضريبة مفروضة على الإنسان، ولكن صعاب الحياة هي الحياة، وأن نحيا معناه القدرة على التغلب عليها، فالحياة ليست نزهة أو وليمة. إنها معركة، من لا يحاربها ميت، وإن ظلت تحمله الأقدام! (4) الإنسان الآخر الذي يسكنني
أمضيت اليوم بطوله في البيت أحيا كالناس الطيبين الصالحين. وفي المساء ذهبت مع زوجتي في زيارة، وتعشينا في البلد، وحضرنا حفلة، ثم عدنا في منتصف الليل، زوجتي سعيدة تتساءل عن اليهودي الذي لا بد قد مات وجعلني أقضي يوما كاملا معها، وابننا سعيد وإن كان يعبر عن سعادته بطريقته الخاصة، بالصراخ ورفضه خدعة البزازة، وكل شيء في البيت هادئ وسعيد ومرتب! والقاهرة، والليل، والأنوار، وكل ما في الكون يئوب مسترخيا راضيا إلى السكون الذي طال انتظاره. أما أنا فقد كنت أكاد أنفجر - لا من الغيظ - ولكن من هاتين العينين الدخيلتين اللتين ظلتا تراقباني في سخرية وأنا أقوم بدوري طيلة اليوم، بطريقة جعلتني أخجل من نفسي ولا أستطيع أن أذوق طعما لكل ما رأيت وفعلت، عينان لا أعرف أين أذهب منهما، ومنه، من هذا الإنسان الآخر المخيف الذي يحيا داخلي ويحيل صدري إلى نار دائما موقدة لا تهدأ ولا تخمد، الإنسان الجاد الذي لا يبتسم ولا يعجبه العجب، والذي يرتدي على الدوام ملابس الميدان ولا يستريح أبدا، وليس في حربه المتصلة هدنة، الإنسان الدائم القلق، الدائم التفكير، الخطير المشروعات، الباتر الإرادة، العنيد الذي يضعني كل لحظة أمام أوامر لا قبل لي بها: اذهب حالا وتطوع في جيش التحرير الجزائري، اكتب قصة عن السجن، امتنع عن هذه النظرات الحنونة الخاصة التي تسترقها لابنك، اعتبره مجرد واحد من مئات الملايين من أطفال العالم أنت أبوهم جميعا، اقطع كل صلاتك الخاصة بالحياة، لا تستمتع بهذا الطعام فغيرك جائع، أنت مسئول عن الجوعى في العالم، أنت مسئول عن منكوبي أغادير، مسئول عن الحرية في بلدك وعنها في العالم، أنت لم تخلق لنفسك فلا ترح نفسك، أنت خلقت لغيرك فافن في غيرك وعش كيفما اتفق، فالمهم أن تعمل أعمالا تجلب السعادة لكل الناس، وتبدأ من الآن. قم وانهض!
إنسان يسكنني ويجعلني أنام وأنا واقف، وأفكر وأنا واقف، وإذا وقفت أريد أن أطير، إنسان ألهث ولا أعجبه، وأكتب ولا أعجبه، وأجد نفسي مضغوطا بشدة بينه وبين المجتمع الصغير الذي أحيا فيه، بل أجده يدفعني جانبا أحيانا ويتصرف هو فلا يحفل بإحساس صديق، أو قد يسيء إلى عزيز، وأبادر لأصلح وأتعذب لفشلي في الإصلاح، وأتمزق لإحساسي أني لا أستطيع أن أكون عاديا كما يريدني الناس، وغير عادي كما يريدني هو.
طوال اليوم الذي أمضيته «سعيدا» كالأزواج الصالحين، أمضيه وأنا أكتم قطع الفحم المتقدة في صدري، قضيته وأنا «أتحمل» السعادة، وأدفع ثمنها الفادح، هذا الإحساس الممض القاتل، الإحساس أني أتواكل عن مهمة عظمى، أني أهملت، أني مقصر، إحساس التلميذ الذي «يزوغ» عن المذاكرة أيام الامتحان، ولكن التلامذة يعرفون امتحانهم ويؤدونه، أما أنا فلا أعرف امتحاني ولا مهمتي.
ومصيبتي أني لست ضيقا بهذا الإنسان، وكل مرادي أن أرضيه. وهو جبار لا يرضى أبدا ولا يهدأ، كالنار التي أقدم لها نفسي لأرضيها فتزداد ضراما واشتعالا، وربما لن ترضى وتخمد النار إلا بانتهائي وموتي.
أتريدون أن تعرفوا رأي هذا الإنسان الأخير فيما أكتبه الآن، إنه يتهمني بالسخافة والأنانية، وبتهمة أكبر: أني أشرك قراء لديهم مشاكلهم الكثيرة في مشكلة تخصني أنا وحدي.
أتريدون أن تعرفوا رأيي؟ إنه نفس رأيه، فاغفروا لي ما كتبته، إني متأكد أنكم ستفعلون، ولكن الكارثة الكبرى أنه هو لن يصفح أو يغفر أو ينسى، سيظل يؤرقني بتأنيبه أياما، وربما سنين، إنه لا يزال إلى الآن يؤنبني على أخطاء ارتكبتها وأنا طفل! (5) وزن الحرية
لم أكن أعرف أن للحرية وزنا، ليس وزنا معنويا، ولكنه وزن مادي ممكن قياسه وحسابه، كنت أقرأ في كتاب ضخم للعالم الروسي الشهير بافلوف، وإذا بي أجد هذه الفقرة الصغيرة البالغة الأهمية، أنقلها هنا كما قرأتها: «مرة خلال سلسلة التجارب التي كنت أقوم بها على فسيولوجية الجهاز الهضمي، حيرني سلوك الكلب الذي كنت أقوم بإجراء التجارب عليه، كنت أنا ومساعدي قد وضعناه في جهاز الإطعام، وربطنا أطرافه الأربعة بطريقة تحد من حركته فقط ولكنها لا تقيده، ولم يقاوم الكلب ونحن نربطه ولا أظهر أي علامة من علامات الضيق بالوضع، ولم نفعل شيئا آخر أكثر من تقديم وجبات الطعام له مرة كل بضع دقائق، وفي مبدأ الأمر ظل الكلب هادئا يأكل برغبة، وإفرازاته طبيعية، ولكنه بمضي الوقت بدأت سلسلة غريبة من الأعراض تظهر عليه، فبدأ ينبح وينفعل لأقل شيء، ويثور ويخربش قاعدة الحامل وبعض قوائمه، وصحب هذا المجهود العضلي المستمر ضيق في التنفس، وخفقان في القلب، وإفراز غزير من الغدد اللعابية، واستمر هذا أسابيع كثيرة حتى أصيب الكلب بالسقم، وأصبح غير صالح لإجراء تجاربنا عليه، ومع أننا كنا نعتقد أننا على معرفة وثيقة بطبائع الكلاب من كثرة ما أجرينا عليها من تجارب، إلا أن سلوك هذا الحيوان بتلك الطريقة حيرنا تماما ولم نجد له تفسيرا، فلم يكن هناك أي سبب يفسر تصرف الحيوان بتلك الطريقة الشاذة.
وأخيرا خطر لنا أن السبب قد يكون هو السبب البسيط الذي كان من الممكن ألا نفطن إليه لفرط بساطته؛ أي يكون السبب هو الأربطة التي تحد من حركة الحيوان، وبالتالي من حريته، وسمينا هذه الظاهرة انعكاس الحرية (Freedom Reflex) ، التي تدل على وجود غريزة الحرية (Freedom Instinct) . ومن الغريب أننا وجدنا كبار العلماء الذين كتبوا عن الغرائز لم يشيروا إلى غريزة الحرية هذه من قريب أو بعيد، فالعلامة «جيمس» مثلا لا يشير إليها ضمن الانعكاسات الخاصة للإنسان «أي ضمن غرائزه».
وبموالاة الدراسة في هذا الاتجاه أمكننا أن ندرس بعض آثار غريزة الحرية هذه، ونعرف أنها من الدقة بحيث إذا وضعنا أي شيء ولو كان بالغ التفاهة في طريق الحيوان - حتى ولو لم تقيد أطرافه - لانعكس هذا على حياة الحيوان نفسه، ولأثر بشكل خطير على وظائفه الحيوية وبقية غرائزه، وأعتقد أننا كلنا نعلم أن هذا الانعكاس الخاص - أو تلك الغريزة - تبلغ عند بعض الحيوانات حد أنه لو قيدت حرية الحيوان بأي طريقة فإنه يمتنع فورا عن الطعام، ولا يلبث أن يذوي ويموت.
الحرية إذن ليست مجرد شعار أو اعتقاد، إنها حقيقة علمية، غريزة مثل التزاوج والبقاء. الكائن الحي حي؛ لأنه يملك حرية حركته، وأي قيد على حريته أو حركته سوف يناضل ضده ويكافح ويضرب بالرصاص حتى يزول أو يهلك دونه، حقيقة علمية ما أجدر أن يتأملها أعداء الحرية وأعداء حركة الشعوب! وما أجدرنا أن نتأملها نحن أيضا، نحن الذين ننادي بالحرية ونؤمن بها!» (6) الحياة
أول أمس
لعلكم قرأتم خبر الحادث الذي وقع على الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية، والذي مات فيه أربعة وجرح أربعة عشر. قدر لي أن أرى الحادث رأي العين، بالصدفة كنا قادمين بالعربة على نفس الطريق، وفي منتصف المسافة بين طنطا وكفر الدوار وجدنا جمعا هائلا من الفلاحين يحيط بعربتين مدشدشتين مقلوبتين، وما كدنا نتوقف لنرى ما هنالك حتى تطوع فلاح شاب من تلقاء نفسه، وقال: أربعة ماتوا والباقيين اتعوروا.
وهبطت تدفعني الرغبة والرهبة والفاجعة وحب الاستطلاع، عربة مقلوبة مكسورة، وعربة مقلوبة مفعوصة، والزجاج مبدور يملأ الطرقات كحبات الأرز الأبيض المبعثرة، وجثث، أربع جثث مغطاة بقش الأرز يبصرك بها الناس الطيبون الواقفون مخافة أن تخطئ وتدهسها، وضابط النقطة يتم محضرا لا أدري لماذا ولا متى بدأه؟ وبرنيطة طفل صغير راقدة على التراب البعيد لا يجرؤ أحد على أخذها أو لمسها، وعربة إسعاف، وسواري، وعربات كثيرة واقفة هبط سائقوها يتأملون المشهد واجمين وكأنهم يتأملون المصير، وتحت الأرجل والعربات دم، دم كثير غزير داكن لونه يأخذ لون أسفلت الطريق، والواقفون جميعا يهمسون لبعضهم البعض، وكأن شيئا كبيرا هائلا لا يزال محلقا في الجو له مخالب وعلى استعداد للانقضاض.
قال أحد الواقفين: سائق هذه العربة مات، وسائق هذه في حالة خطرة، والجرحى نقلوا إلى المستشفى، والقتلى ستحملهم عربة الإسعاف.
جرحى وقتلى ودم وارتباطات وصدقات ومئات الأقارب والعائلات والعمات والخالات، تضيع كلها في ثانية، زمان كان الفارق بين الحياة والموت فارقا شاسعا وكبيرا: مرض مزمن يعجز الأطباء عن علاجه، نزال يستمر أياما طويلة وليالي، أما اليوم فالفارق بين أن تحيا وأن تموت بسيط جدا، مجرد سهو يحدث، طوبة في الطريق، أن يأخذ السائق باله أو لا يأخذه، أن يضغط على البنزين بخفة أو بثقل، ولست أبالغ، فالحادث الذي رأيته - بضحاياه وقتلاه وجرحاه وخسائره - سببه أن كلا السائقين لم ير أحدهما الآخر لثانية واحدة! ولو كان أحدهما قد فعل لما وقع الحادث. التفاتة، سرحة صغيرة ممكن أن تكون قد استغرقت لمحة خاطفة من الوقت، نقلت أربعة - وممكن أن تنقل أكثر - من عالم حي هم فيه أحياء لهم ما لكل الأحياء من قوة وحيوية وآمال وأولاد ومشاريع، إلى جثث تحتها التراب وفوقها قش الأرز.
عدت إلى مواصلة السفر وفي قلبي انقباض بغيض وتأملات. بالآلة والبنزين والكهرباء والسكك العريضة والذرة دخلنا في عصر السرعة، والفارق بين عصرنا هذا وعصر الدواب أن مسئولية الناس في ذلك العصر كانت مسئولية جزئية، فهم لم يكونوا يستطيعون التحكم تحكما كاملا في دوابهم أو حظهم وظروفهم، إلى درجة أنهم كانوا يريحون أنفسهم ويقولون: خليها على الله. أما في عصرنا هذا فنحن نتحكم تحكما كاملا في كل شيء، ولهذا فمسئوليتنا كاملة عن كل شيء، ولهذا فهي مسئولية كبيرة، وكلما كبرت المسئولية عظم أتفه خطأ ينشأ عنها وأصبح جريمة، جريمة قد تودي بحياة بضعة أشخاص في عربة، وقد تودي بحياة بضعة ملايين في دولة.
وطوال الطريق لم أستطع أبدا أن أنسى أن الفاجعة التي رأيتها كان سببها هفوة ارتكبها إنسان.
وطول الطريق وأنا لا أستطيع أبدا أن أزيح من خاطري الدم الغامق المتجمد، والزجاج المبدور، والجثث المغطاة بقش الأرز.
أمس ...
وفي الساعة الثالثة صباحا كنت في مطار القاهرة، والليل قد رطبت الثالثة حدته وخففت ظلامه، والمطار راقد في قلب الصحراء كالنجفة الكبيرة الموقدة ذات المصابيح المتعددة الألوان، والطائرات جاثمة على أرضه والركاب يصعدون ويهبطون، وبين كل حين وحين يرتفع صوت الميكروفون، يقول: يسر شركة كذا أن تعلن عن رحيل طائرتها إلى بومباي وإلى فيينا وإلى براغ ونيويورك، وأنا أودع صديقا.
وفجأة أحسست برجفة صغيرة تهزني، وبكلمة تحتل ذاكرتي كلها وتبهرها: السفر.
كم من مرة تمنيت فيها أن أمضي عمري مسافرا متنقلا من بلد إلى بلد. ونحن أطفال صغار، أتذكرون؟ حين كنا نفرح بالسفر ونظل طول الليل لا ننام مخافة أن يساهينا الآباء ويسافرون، أتذكرون اليقظة المبكرة والفرحة، والمحطة، والذهول الغريب المستولي على الناس: ذهول السفر؟ وانتظار القطار القادم من مكان بعيد مجهول، ورائحة خشبه وعرباته وهي تختلط برائحة دخانه ورائحة الصباح المبكر مكونة رائحة السفر، نستنشقها بشغف ونهم والقطار يمضي بنا سريعا ينقب الزمن والأفق، ويذهب بنا بعيدا في أغوار العالم الفسيح المجهول.
وآلاف الأشياء تغير طعمها في أفواهنا لما كبرنا، والسفر وحده لم يتغير طعمه ، ولا تغيرت أبدا تلك الرغبة الملحة في التنقل، الرغبة التي تمنيت معها وأنا واقف يحجزني حديد السور لو يصبح في استطاعة الإنسان أن يسافر متى أراد وكلما أراد، لو اختفت فجأة تلك الحواجز السخيفة بين الدول، اختفت الجوازات والتأشيرات والجمارك والحدود، حدود الدول وحدود الشعوب والأفراد والطبقات، وأصبح العالم كله وطن أي إنسان لمجرد كونه إنسانا، وأصبح الناس في كل مكان أناسه، وأي بلد يحل فيها بلده، وأي لغة لغته، وأي عملة عملته، وأي جار أخاه.
الطائرات كثيرة ومحومة، وقادمة من بلاد بعيدة وذاهبة إلى بلاد بعيدة، والذهول الحبيب يسيطر على القادمين والذاهبين، ونفسي أحس بها تتفتح، وأحاول أن أعثر فيها على أثر لحادثة الطريق الزراعي والخوف من عصر الطائرات والعربات فلا أجد. أجدها قد أصبحت نقطة، قطرة مريرة ذابت تماما في حلاوة تلك الكلمة ذات الرنين الحلو: السفر. (7) العودة ومشاكل العودة
كل عودة إلى مصر لها دائما سحرها الخاص! ما من مرة كانت العودة مماثلة. الطائرة النفاثة تحلق، والمضيفة في الميكروفون الأخنف تقول: بعد دقائق تصل إلى القاهرة، وتنظر من النافذة أسفلك فتجد أنوارا، وتحاول التخمين، هذه طنطا، هذه بنها، القادمة هي القاهرة لا بد، ولكن القادمة لا تكون القاهرة، إن استعجالك للحظة الوصول يكاد يسقطك في طوخ أو في قليوب، ولكنها القاهرة هذه المرة، هذه الساحة الواسعة المضاءة لا تكون - في مصر كلها - إلا القاهرة، ما أحلاك يا قاهرة! ما أجملك من الجو فقط! إنا عائدون مرة أخرى لك، للحمى الغريبة المزمنة، للمعارك المعهودة، للوجوه العجوزة التي كادت لطول بقائها تكتم الأنفاس. إننا عائدون يا قاهرة، فيك كل ما يغري بالبعاد، ولكن فيك ما هو أروع من القرب والبعد والمتعة والسعادة، فيك الحياة.
إنني لا أعرف ماذا فينا نحن المصريين يجذبنا - كاليويو - بشدة وبقوة وباستماتة إلى هذه البقعة من سطح الكرة الأرضية؟ وكأنما قد دفن لنا «عمل» أو شددنا إليها بتعويذة، في قلب لندن في ميدان ريجنت أو بيكاديللي، الأنوار والفتارين والحركة الهائلة المائجة والمتعة على قفا من يشيل وسحر الحضارة الأوربية الخارق، ولكنك في لحظة تذكرها تومض قاهرتك في مخيلتك فكأنما يومض الحق، كأنما تومض الأحلام الجميلة فيذوب شارع ريجنت وميدانه، تذوب حضارة أوربا، وتتجرد وتقف وكأنك في الصحراء الكبرى، أو في قلب المحيط الأطلنطي قد انتقلت بكل ذرة حياة فيك إلى مصر، ترويها بالدمع إن استطعت.
إنها عزيزة علينا وغالية، وكلما قابلت أجنبيا زار مصر ووقع في حبها أكاد أغار عليها من حبه، إنها تعز على المرء حتى وهو في قلبها هنا، أكاد كل صباح أصحو من النوم لأقبلها، وأقول لها: كيف حالك اليوم يا مصر؟ كيف أصبحت؟ كيف داويت الجرح الذي خلفه التروللي باص؟ وأنت يا نيلنا ماذا دهاك حتى تبتلع أبناءنا بالجملة وكأنك أصبت في عقلك بلوثة نهم وجشع؟ أم تراك في حنين - وقد أقمنا السد ومنعنا فيضانك - إلى عروس النيل نفتدي بها شرك؟ ألا ما كان أحكم أجدادنا حين كانوا يفتدون مئات الأرواح بروح واحدة، وما أسخف مهندسينا وأخصائيينا اليوم حين يقررون أن حوادثك ليست سوى قضاء وقدر، لا علاقة لها بإهمال أو بعطب أو بشيء يدل على تقصير.
المهم، تلوح القاهرة دائما ويتجدد الشجن، ولكن السعادة تتدفق بأعظم وأروع تدفق، والقلب كالموشك على لقاء الحبيبة ينبض، وأقسم أن النبض يسرع، وألهث، بعد ثوان سيلامس العجل أرضك، وحتى لو انفجر العجل ومتنا فسنموت هنا ولن نتمزق على أرض غريبة، ولن نتجمد على الثلج، على الأقل سيتاح لنا بجزء من اللحظة أن نستنشق قبضة هواء اختلطت بترابك ولامسته، جزء حمل معه لا بد أريج أذرتنا، وضربات فئوس عمالنا، ورذاذ سبابنا.
ولكنا دائما وأبدا، وإلى أن يقدر الله، نهبط في سلام، وللفرحة القصوى أحياء، أجزاء عائدة إلى الكل الكبير، أخيرا بعد البرد والمطر والعواصف والثلج والترمومترات القابع زئبقها متجمدا في القاع، تلفح وجوهنا نسمة الحب الدافئ؛ أقصد الهواء، هواءك يا أرضنا، أرض كل هؤلاء الناس العرايا والمثقفين، حتى أرض لصوصك وخفرائك ولومانجيتك، أرضنا كلنا بلا تمييز ولا تحيز ولا استئثار. أتفهمين؟
وصحيح أن الإجراءات التي تتخذ فيما بين الطائرة وباب الخروج من المطار إجراءات تكاد تجعل الإنسان يفكر في العودة من حيث أتى، إلا أن الإنسان يحتملها والسلام، خاصة هذه المرة، فلقد صدمت حقيقة بمشهد حوالي عشرين ضابطا وصف ضابط يقفون عند الجوازات، ولقد مررت ورأيت بلادا كثيرة شيوعية ورأسمالية وبين بين، ولم أر في مطار من مطاراتها هذا العدد المرعب من ضباط الشرطة بالملابس الرسمية، بل إن ضباط الجوازات في معظم بلاد العالم يرتدون الملابس المدنية حتى لا يفزعوا - ولا مؤاخذة - القادمين! وإني لأتساءل عن السبب في هذا العدد الكبير وعن تواجدهم هكذا بطريقة تجعل الإنسان يعتقد كأن شيئا، لا سمح الله، قد حدث أو يوشك أن يحدث.
في الليلة الرابعة عشرة ...
في الليلة الرابعة عشرة في بولندا أحسست بالحنين إلى مصر وإلى اللغة العربية، وتجربة غريبة أن توجد في وسط شعب يتحدث لغة لا تفقه فيها حرفا واحدا - واللغة البولندية من أصل سلافي، واللغات السلافية كانت بعيدة عنا تماما، وأعتقد أنها لا تزال - وأن ترى الحياة كاملة تدور حولك وتسير بكلمات ومصطلحات أنت تجهلها تماما. تستمع وتحاول أن تخمن، وتخطئ أخطاء بشعة في التخمين، والحياة سادرة سائرة، أنت وحدك الذي لا تعرفها، تجربة تدفع لتأمل كثير، ولكنها تدفعك أكثر إلى الحنين إلى لغتك وموسيقاك وتكوينك النفسي، وهكذا صممت أن أجد القاهرة، في غرفة الفندق لحسن الحظ هناك جهاز راديو ضخم، وبنظرة إلى حجمه قررت إما أن يستحضر لي الجهاز القاهرة، وإما على الله العوض في الصناعة البولندية، والمشكلة كانت أن أعثر على الصوت العربي العزيز بين أربع موجات قصيرة واثنتين متوسطتين وواحدة طويلة، أعددت نفسي لعملية بحث، كان غير مهم عندي لو استغرقت الليلة بأكملها، ولكم أن تتصوروا مبلغ ذهولي حينما أدرت المفتاح قليلا على أول موجة قصيرة صادفتني، وإذا بي أذنا لأذن هكذا مع صوت من؟ مع أم كلثوم، مع اللغة العربية والقاهرة وموسيقانا وتكويننا النفسي مرة واحدة مفاجئة، ولا غلوشة ولا مطبات صوتية، بل إرسال ثابت وكأني أسمعها من المنصورة وليس من وارسو، وفي لحظة انقلبت وارسو إلى المنصورة، وشعور الغربة إلى ونس عارم محيط، حتى مستمعي السيدة أم كلثوم الذي يضايقني ترديدهم المتصل للآهات تلو الآهات، وكأنهم كورس إغريقي مفروض، كنت أستعذب منهم الأصوات وأحس كأني بينهم، وأم كلثوم ما أروع «سخوت» و«بلغت بالجود» و«الاشتراكيون أنت إمامهم»، وهي تأتيني من على بعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، فيها سيال عاطفي يوشك الوصول إلى القمر، وفي حلاوة من حلاوة عسل نحلنا، وشربة «القلة» من مائنا تمخر في عباب نفوسنا، تحمل رائحة «تقليتنا» وأشجاننا وخرافاتنا وحلقات ذكرنا، شكرا لهؤلاء المجهولين الذين أقاموا هذا الإرسال القوي لإذاعتنا، شكرا للمذيع حين قال في النهاية وقد حسبتها باريس أو طنجة، هنا القاهرة. (8) الحر
انفتح أكثر من مليون حنفية، وتدفق الماء يغسل مليون رأس ووجه وقفا، وبدأ أهل القرية يومهم مبلمين متضايقين، بوز كل منهم شبرين، وعلى استعداد تام لخلق مشاجرة حامية إذا وجد الشاي ناقصا سكرا، أو إذا طالبه ابنه بالمصروف، أو إذا لم يجد الهباب الشبشب «اللي قلت مليون مرة لازم يفضل متنيل هنا تحت السرير».
وما كادت آلاف الأبواب تفتح، وتفرغ آلاف البيوت محتوياتها من الأفندية والعمال والطلبة، حتى بدأ الناس يدركون سبب الضيق الذي صاحب يقظتهم؛ إذ كان الصباح أحر صباح عرفوه في حياتهم، صباح بدأت حرارته تصل إلى التاسعة والثلاثين في غمضة عين، صباح لم يستمر أكثر من ربع ساعة، قضاها الموظفون يحتسون القهوة ويرسلون آلاف السعاة إلى آلاف محلات الفول والطعمية والبسكوت استعدادا لبدء العمل، ولكن العمل لم يبدأ ... بدأ الحر. «دي ما حصلتش» قالها مليون جار لجاره وزميل لزميله ومليون أم محمد لأم فيفي، وأعقبتها أو سبقتها مليون لعنة أصابت بئونة، وذلك المنخفض السخيف الذي حدث في الصحراء وكان السبب في تلك الموجة المفاجئة من الحر.
وأصبحت الحرارة 40°، وبدأت الحمى تجتاح القاهرة. عشرة آلاف كف على الأقل ارتفعت وهوت على عشرة آلاف صدغ من أقلام ساخنة جدا، لم ترفع لردها أكثر من خمسة آلاف كف ربما لنقص في الشجاعة، وربما للحكمة القائلة «بات مضروب ولا تبات ضارب»، وبدأت الأعصاب تلتهب وتتحول إلى أسلاك نحاسية ساخنة، وبدأت آلاف العربات تتأرجح. الدركسيون ملتهب، والبنزين ملتهب، والأسطى محمود محموم، واوعى يابن ال... وطاخ! حادثة، وصفارة، ألف صفارة، وأربعة آلاف جنحة، ومليون خناقة، وأكثر من أربعة ملايين يمين باطلة أقسمها سكان القاهرة، ومليار مرة تقلقلت عظام الآباء والأجداد لتحتمي من اللعنات والدعاوي التي تتساقط عليها بالأكوام.
ووصلت الحرارة 41°، وبدأت النار، الشوارع نار، والبيوت نار، والظل نار، والشمس نار، والأكل نار، والنوم نار، وثمن الثلج نار، والراديو نار، عبد الحليم حافظ يجأر بأعلى صوته: نار يا حبيبي نار، وأجراس تتن تتن حريقة. فين؟ وإذا بالحريق مليون حريقة، وكل حريقة في حاجة لإطفاء. السماء في حاجة لإطفاء، والأرض في حاجة لإطفاء.
والناس والعقول وحتى الماء في حاجة لإطفاء، وتتن تتن ... المطافي تحاول بلا فائدة إطفاء الحرائق، والتنظيم يحاول إطفاء الأرض، والكازوزة ... مليون زجاجة كازوزة تحاول إطفاء الأجواف، والمحاولات كلها تزيد النار اشتعالا، والملجأ الأخير الثلج، التهمته النار وتحول إلى دخان وحشيش، يباع سرقة، ويشترى سرقة، ويتعاطى خلسة.
وبلغت الحرارة 42°، الموت. كل شيء وكائن بدأت تموت أجزاء فيه، الرغبات تموت، والسيدة محشورة بين الرجال في الأوتوبيس كالطعام البايت لا يلتفت إليه أحد، وخناقة تنشب بين بائعي العرقسوس ولكنها لا تصل أبدا إلى حد التماسك، ولسة ح اتخانق يا عم؟ الدنيا حر موت، والخدامة تتأخر وتفتح الست فمها كالعادة لتنصب منه الشتائم، فتفتحه فلا يخرج منه شيء، لسانها يقف كالعصا الجامدة في حلقها ويأبى التحرك.
الحرارة 43، 44، 45°، موت وهلوسة واستسلام كامل للحر. الحديث يتناقص إلى كلمات، ثم إلى أنصاف كلمات، كالأغاني الأخيرة لصباح ونجاح سلام: آه ... أيي... ياه، الملابس تخلع وتلقى قطعة وراء قطعة. المدير العام يلهث محشورا في البانيو، ووكيل الوزارة يهوي على زوجته المسورقة، وامرأة المعلم برعي تقول له: أيوه روح اتهوى عني يا شيخ، ويصبح الناس عرايا تماما في منازلهم، ويظن كل منهم أنه هو الوحيد العاري، ولو قدر للحيطان أن تختفي لمات الناس من الضحك على بعضهم حين يرون أنفسهم ملايين العرايا في مختلف الأوضاع: الراقد على البلاط، والرافع ساقيه، والممدد على بطنه، وأشكالا لا أول لها ولا آخر من الأجساد، أجساد أحيانا أنصافها العليا لرجال وسيدات، والسفلي أحيانا لأفيال. أجساد دائخة تنتظر غروب الشمس وكأنها تنتظر موعد الإفطار في رمضان، رءوس مدلاة مصدعة وكأنها منفوخة بدخان الأعصاب التي احترقت.
وتغرب الشمس، ومع هذا تزداد الأرض التهابا، وتتفتح ملايين الأبواب وتخرج ملايين الناس هالعة كالدجاج الذي طال حبسه، زاحفة إلى النيل، مستعرضة فيه، طالبة حمايته.
ومع بدء الظلام الحقيقي تبدأ الحرارة تتقهقر رغما عنها كالجيش العنيد، وتبدأ الألسنة تتحرك وتقول: موت، ثم نار، ثم الدنيا لسه حر، ومن جديد تبدأ الخناقات، ثم تنخفض الحرارة درجة فتصبح أحاديث.
وهناك بعد منتصف الليل بكثير، تهب نسمة واحدة فقط، يستقبلها سهران مثلي فيتثاءب مغتبطا وكأنه نجا من موت محقق، ويقول: ياه أما كان يوم! (9) الإنسان حيوان مائي
كيف يحدث هذا؟
لست أدري كيف يحدث هذا؟ من أسابيع قليلة كانت عملية غسيل الوجه أو الاستحمام بالنسبة إلي عملية تعذيب، كنت أقف أمام الدش وأتردد آلاف المرات وأنا أنظر إلى نقاط المياه الصغيرة التي تتساقط منه، وأحس الخوف منها وكأنها قطرات من ماء النار، وبعد أن أستجمع أطراف شجاعتي وأفتح الحنفية، ينساب الماء في أزيز مخيف، ويتصاعد لانسيابه بخار بارد مثلج، وكأن الماء لا يتبخر ولكنه يتجمد بخارا، وأغمض عيني في النهاية وأنا أسلم نفسي لحزمة الإبر المتدفقة من الدش، كل ثقب فيه تخرج منه إبرة مائية طويلة طولها أمتار. حزمة من الإبر الطويلة تتساقط فوق جسدي في شراهة ووحشية، وتكاد تنغرز فيه وتصل إلى النخاع.
وأي ماء كنت أراه أحس لتوي بالقشعريرة منه وكأني أخافه وأخاف لمسه، حتى النيل كنت إذا رأيت مياهه أحس برهبة طاغية. كتل ضخمة هائلة من الماء الداكن المتكاثف وكأنها غابات وأحراش مائية نامية، تنتظر أن يخطئ إنسان ويمد فيها قدمه أو يده، فتشده وتبتلعه ولا تتركه إلا مخنوقا.
ومن أيام قليلة حدث شيء عجيب! فتحت الحنفية لأغسل يدي، ودون أن أدري أو أتردد وجدت نفسي أغسل يدي فعلا، ووجدتني لا أختصر الغسيل، أطيل فيه وأترك الماء ينساب على ساعدي حتى يبلغ الكوع. والماء لا يخرج منه بخار يغشو له الجو ولكنه يلمع كسبائك الفضة المجدولة.
وكنت أريد فقط أن أغسل يدي فإذا بي أغسل وجهي ورأسي، وأجعل الماء ينساب في صدري فأستعذب لمسه وكأنه خد الجميل، وأجعله ينساب في فمي وأتذوقه وأجد طعمه حلوا وكأن ثمة سكرا طبيعيا قد أضيف إليه.
والنيل اختفت أحراشه، واختفت كتل مياهه الضخمة الهائلة، وبدت وكأنها قد شفت وخفت حتى تلاشت. ولم يعد في النيل سوى ملايين الأطفال العرايا الحديثي الولادة يلعبون ويداعبون بعضهم البعض، ويتقافزون ويتراقصون، ويكونون دوائر وقوافل وتشكيلات، لا يكاد الإنسان يراها حتى يحس في الحال برغبة لا يستطيع مقاومتها في أن يخلع ملابسه ويقذف بنفسه بين ملايين الموجات الطفلة، يلاعبها ويدعها تلاعبه.
وطوال يومي أي ماء رأيته خارجا من عربة رش، أو لامعا في زجاجة كازوزة، أو حتى مصبوبا من كوز، أي ماء رأيته كنت أحس برغبتي في صبه على نفسي أو شربه أو حتى مجرد تذوقه. وأي ماء رأيته ولمسته كنت أحس بلمسه حبيبا غير غريب، ولكأنه سلام صديق مألوف، صديق طفولة، ربما كأني ألامس نفسي، كأني أصبحت ماء مثل الماء، أو أصبح الماء إنسانا.
إنه الصيف. (10) المفترى عليهم
في صفحة كاملة قرأت لمحمد عودة مقالا عن «تبعات الاشتراكية». وعودة أحد الكتاب القلائل الذين تفرض كتاباتهم على القارئ احتراما خاصا وتقديرا، فمع التحليل البارع تجد الخلق، ومع الموضوعية تجد الحماس، ومع الثقافة تجد التجربة والواقع، ولكن الذي أحزنني ويحزنني دائما هو هذا الهجوم الذي يلقاه المثقفون هذه الأيام، لكأن الثقافة أصبحت تهمة وعلامة من علامات الإخلال بالشرف. والعجيب أن الهجوم يصدر عن مثقفين، لولا الثقافة ما كتبوا وما استطاعوا القراءة والاطلاع على التراث الأجنبي، وأخيرا لولاها ما استطاعوا أن يعرفوا قيمة القلم أو يتخذوه أداة للكتابة، والهجوم ينصب دائما - ولا أعرف لم - على مثقفي هذا الجيل؛ إذ نفس هؤلاء الذين يهاجمون مثقفي هذه الأيام نجدهم هم المنادين بتكريم الجبرتي وابن سينا وعمر مكرم وعلي يوسف وعبد الله النديم ومختار ولطفي السيد. أما حين يصل الأمر إلى هذا الجيل فإن حالة اشمئزاز مفاجئة تجتاحهم، وتدفع واحدا أحترمه مثل عودة لأن يقول: إن الحل الحقيقي لأزمة المثقفين هو إنتاج مثقفين جدد، مثقفين من قلب الشعب، من أبناء العمال والفلاحين، صادقين مع أنفسهم، صادقين مع مجتمعهم، لم يعانوا تشويه وتضليل الثقافة الاستعمارية وقيم المجتمع الاستعماري.
لماذا أحكام الإعدام؟
حقيقة أن عودة قبل هذه الفقرة يدعو الثورة لأن تصفح عن مثقفي اليمين واليسار، وتمنحهم فرصة أخرى ليراجعوا أنفسهم ولينضموا إلى القافلة، ولكن المثير هو حكم الإعدام الأخير الذي أصدره عودة على مثقفي هذا الجيل عامة، حتى أصبح الحل الحقيقي استحضار أو استنبات مثقفين جدد، وكلام كهذا ليس ظلما فقط، ولكني لا أستطيع أن أسميه إلا بأنه نوع من الاندفاع المخرف المتحمس، إذ هكذا طبع بعض الناس. في ساعات النكوص عملهم الوحيد أن يلوموا الآخرين ويسقطوا عليهم خوفهم، وساعات الانتصار - مثل ساعتنا تلك - التي قام فيها قائد الثورة بعمل بطولي تاريخي عميق المدى والأثر، يدفعهم الانبهار بالعمل إلى نسيان أشياء كثيرة أو تناسيها، وعلى الأقل إلى نسيان أنفسهم والأرض التي يقفون عليها، ويسارعون بإلقاء كل أوراق الماضي على الآخرين وتحميلهم مسئولية كل فشل سابق، ثم أخيرا يعمدون إلى إلغائهم كلية كما يطالب الزميل.
بيت الداء
والمثقفون هم أسهل الأهداف، هم الحائط الواطي الذي يسارع كل صنديد بالقفز عليه، إن ما قرأته عن المثقفين في بلدي جعلني أحس وكأنهم مصابون بنوع من الطاعون، بعضهم خونة وبعضهم سفلة وبعضهم انتهازيون، وأقل صفة لبعضهم السلبية والعقم، إنني لا أعرف بلدا من بلاد العالم ثار فيه بعضهم على خلاصة خلاصته، على هؤلاء الذين أنفق البلد على إنتاجهم المال والجهد والسنين بمثل ما حدث لدينا، وبالذات هذا الجيل من المثقفين. ولو كانت الثورة قد استجابت لكل ما كتب وقيل لكان من واجبها أن تقوم في الحال بمذبحة قلعة أخرى ضد المثقفين، وتركهم مشنوقين على عواميد النور في شارع الكورنيش، ولكن الثورة لم تفعل هذا. لقد وقف قائدها جمال عبد الناصر في جامعة الإسكندرية يحاضر أساتذتها ويضع يده كالطبيب الماهر على بيت الداء، ويقول: إن المشكلة لم تكن مشكلة المثقفين، ولكنها مشكلة الطبقات؛ إذ المشكلة هكذا فعلا، فأعداء شعبنا لم يكونوا هم المثقفين، أعداؤه كانوا الاستعمار والرجعية، الاستعمار بظلاله ومفهوماته وعقلياته، والرجعية بكل صورها، ولهذا حاربنا الاستعمار والرجعية، وحين أصبحت الرأسمالية عدوا حاربناها، أما المثقفون، وبالذات مثقفو هذا الجيل، فهم، لكي يستريح عودة، أسلم معه جدلا إنهم حافلون بالعيوب والمتناقضات، ومع هذا فهم الجيل الذي صنع الثورة - هذه الثورة - بكتاباتهم، بخطبهم، بمواقفهم، بالنار المقدسة التي أوقدوها، بمطالباتهم بالجلاء، بتضحياتهم، بالسجون التي دخلوها، بالشهداء الذين سقطوا، بتجاربهم المرة العنيفة مع صدقي والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي وفيتز باتريك واللورد كليرن والملك، هم الذين هيئوا الشعب للثورة، وحين جاءت الثورة عكس كل ما قيل التفوا حولها، وكيف بمن مهد للثورة لا يلتف حولها حين تجيء؟ وما حدث بين الثورة وبين قطاعات من المثقفين لم يكن نتيجة لعداء؛ إذ لم تقم الثورة لتحطم المثقفين المخلصين، لقد قامت لتحطم الاستعمار والإقطاع والرجعية، إن ما حدث كان فقط نتيجة لاختلاف في الرأي، اختلاف كان لا بد أن يحدث، فهو التفاعل الحيوي الخلاق الذي استفادت منه الثورة بقدر ما استفاد منه المثقفون، والثورة يكون نجاحها أحيانا ليس فقط بمقدار ما تحققه من مكاسب وما تحرزه من انتصارات، ولكن أيضا بمقدار ما تحدثه في المجتمع من رجة فكرية وجذب وشد واختلاف واتفاق.
ما معنى الثورة البيضاء؟
وأحد مفاخرنا أن ثورتنا كانت ولا تزال بيضاء، وهي ليست مفخرة فقط، ولكنها في رأيي إحدى دعائم الثورة وركائزها، فثورتنا بيضاء؛ لأنها أبقت على هذا التفاعل الحيوي في حدوده المعقولة، والثورات الأخرى الدموية لجأت إلى الدم لضعفها؛ لأنها قامت تريد أن تفرض الثورة فرضا على شعبها، وليس أن تخلق من مواطنيها شعبا ثائرا، ولهذا فجريان الدماء على الأرض عقم هذه الأرض وأخمد نهائيا هذا التفاعل الخلاق بين مركز الثورة ومحيطها، وبين القادة والشعب، وبين القادة أنفسهم والشعب نفسه، وقد فعلت ثورتنا هذا، وقويت بهذا الفعل؛ لأنها لم تيأس من طبقات بأكملها كما يدعونا بعضهم إلى اليأس، ولا نفضت يدها من فئات بحالها. إن جمال عبد الناصر قد وضع بخطبته الأخيرة دستورا ثوريا جديدا حين تحدث عن فساد «البعض» ويأسه من «البعض»، ولم يحكم أبدا على طبقة أو فئة ككل، وحمدا لله أن الذين يكتبون عندنا ليسوا هم الذين يحكمون، إذ من يدري إذا؟ ربما كانت الدماء قد سالت أنهارا وبلا سبب، إن أخذ بعضهم الأمور مأخذا «فنيا» «جماليا» بحتا.
ما هي الجريمة؟
حسنا أيها السادة الذين تحدثتم كثيرا وطويلا عن المثقفين حتى كادت الثقافة تصبح تهمة، وبالذات تهمة هذا الجيل، ما هي الجريمة التي ارتكبها المثقفون؟ أجريمتهم أنهم ثاروا على الاستعمار أيام كان عندنا استعمار؟ أجريمتهم أنهم أصدروا مجلات وصحفا شتمت الملك وهو ملك، وعادت الإنجليز أيام أن كان الإنجليز هم الإنجليز؟ ووقفت بقوة وثبات وإخلاص ضد جميع المحاولات التي بذلت لجر البلاد إلى مناطق النفوذ والأحلاف؟ أجريمتهم أنهم جميعا 99
منهم أيدوا الثورة قلبا وقالبا، ووضعوا أنفسهم في خدمتها في تكويننا كشعب وكأفراد، إلى الحد الذي نبدأ نحس معه أن لنا تاريخا لم تكتبه أجيالنا السابقة فقط، ولكن كتبناه نحن أيضا، ارتكبوها كفئة بأكملها ليدعو الأستاذ محمد عودة الثورة أن تنتظر إلى أن يخرج جيل جديد من المثقفين أبناء الشعب؟ وهؤلاء المثقفون معظمهم من أين جاءوا؟
إنهم جميعا يكادون يكونون قد جاءوا - ليس فقط من صلب الشعب - ولكن كثيرين منهم جاءوا من أفقر طبقات الشعب، ولا يزالون إلى اليوم مخلصين لمساقط رءوسهم، وتجاربهم وثقافتهم «الاستعمارية» لم تلوثهم كما يدعي عودة، بالعكس، لولا هذا التراث من التجارب، لولا كفاحهم الرهيب من أجل أن يضعوا أنفسهم وثقافتهم في ظل أوضاع معادية خطيرة، لولا صلابة العود التي اكتسبوها، لولا كل هذه العوامل التي لم «تلوثهم» كما يقول عودة ولكنها «صقلتهم» و«سقتهم» وجعلتهم أبناء مخلصين لهذا الشعب، يعملون من أجله قبل الثورة وبعدها، لولا هذا ما كانوا قد استطاعوا القيام بكل ما قاموا به، إن العمل العظيم لا يلغي أي جهد آخر مهما صغر، ولقد كانت الثورة معجزتنا الكبرى وليلة قدرنا وعملنا الأعظم، ولقد كان جمال عبد الناصر بطل شعبنا الذي ظل يبحث عنه وينتظره أحقابا وأحقابا، ولكن هذا البطل نفسه هو الذي يتولى بنفسه إنصاف هذه الأعمال التي تضاءل بجوار ما فعله، هو الذي وقف في ميدان عابدين يوم 23 يوليو الماضي، يقول: إن نجاح الثورة كان سببه الحاسم التفاف الشعب حولها منذ أول لحظة، والمثقفون كانوا ضمن الشعب الذي التف حولها، وهو نفسه الذي حدد المشكلة في جامعة الإسكندرية، بقوله: إننا نعادي الأوضاع الظالمة والعلاقات الاجتماعية التي تستنزف دماء الشعب وجهوده، ولا نعادي أفرادا وطوائف، جمال عبد الناصر هنا يتكلم بضمير المثقف المخلص الشريف، ويرد عل كل الطعنات التي وجهت إلى المثقفين، ويخاطب بالذات هذا الجيل منهم، الجيل الذي مهد للثورة واحتضنها، ولا يزال مستعدا للتضحية بالأرواح في سبيلها.
الشعارات الرنانة
أما أن يطالب الأستاذ عودة إزاحة هؤلاء جانبا واللجوء إلى جماهير الشعب مباشرة، أو انتظار جيل جديد ينشأ من المثقفين، فهو كلام إنشائي لا معنى له، فالمسألة ليست إطلاق شعارات رنانة! إن القضية أخطر من هذا بكثير، إن إزاحة تراثنا الثقافي الممثل في هذا الجيل، إزاحة خبرتنا المبلورة فيه، صرف النظر عن ثمرات أنفق شعبنا الكثير ليترجمها بدعوى أن اللجوء إلى الأصل معناه الوحيد إضعاف ثورتنا، معناه حرمانها من جنودها وأركان حربها وخبرائها، إننا نقيم المشروعات والمصانع ليعمل الناس ويتثقفوا، فنحن بلد فقير الموارد لا يزال المثقف فيه ثروة لا بد من استغلالها، وليس هذا فقط بل إني لأطالب أن تفتح ثورتنا أذرعها لمثقفينا وأن تثق فيهم وأن تحملهم المسئولية، فإذا كانت هي القلب فهم الشرايين، وإذا كانت هي العقل فهم الأعصاب، والجفوة بينهما لا محل لها ولا معنى، بالعكس، أي خطوة لن يستفيد منها إلا أعداء الثورة؛ أعداء المثقفين، وبالذات مثقفي هذا الجيل المفترى عليهم. إني لعلى ثقة من أن بعض عيوب التطبيق عندنا مرجعها إلى نبذ المثقفين والنظر إليهم بعين الشك، وكيف يحدث هذا والثورة عندهم كالقلب غالية لا يتوقف لها نبض؟ كيف يحدث هذا وهم الذين دعوا لها وبشروا بها وكانت أقصى آمالهم أن تنجح وتمضي وتستمر؟ بل حتى في خلاف بعضهم معها كان السبب شدة الحرص على نجاحها وانطلاقها، إني لا أستطيع أن أتصور ثورة تحارب الاستعمار العالمي، والاحتكارات والإقطاع في الداخل، ورأس المال المستغل، بلا جيش من المثقفين، بلا خبرة المثقفين، بلا إخلاص المثقفين ومثاليتهم، حتى بلا أخطاء المثقفين، فأوهن الأخطاء دائما هي أخطاء المثقفين، إلا ذلك الخطأ الذي يتردى فيه بعضهم أحيانا ويطالب بإبادة المثقفين وكأنهم جراد أو ناموس أو ذباب ذو طنين، والمصيبة أن هذا يحدث دائما من أحد المثقفين، واللهم احم كل المثقفين من بعض المثقفين. (11) انهزم العدوان وانتصر الروتين
لي مع العدوان الثلاثي الغاشم قصة خاصة، كلما هل علينا نوفمبر من كل عام أتذكرها، ورغم أن معارك الشعب تتخذ ذكراها باستمرار طعما خاصا كلما تقادم بها العهد؛ إذ هي لا تفقد أبدا محتواها العاطفي، كلما استعدناها استعدنا معها أحاسيسنا العارمة بأول شعور بالغزو الأجنبي أحسه جيلنا، فالغزو كنا نقرأ عنه في كتاب التاريخ ونحاول تخيل موقف شعبنا في الإسكندرية وكل مكان، وهو يواجه الأسطول البريطاني ويلتف حول عرابي ليلقي بالغزاة في البحر، أما في عام 1956 فقد وقفنا مع شعور الغضب الخلاق المجيد وجها لوجه، وأحسسنا لأول مرة في حياتنا بمعاني كلمات كنا نرددها ترديدا نظريا أجوف مثل: الغزو المسلح، والاستعمار العسكري، والغدر الاستعماري، ومؤامرات الدول الكبرى وخستها، كل هذا عشناه وشعرنا به وخضناه كتجربة موت وحياة، تجربة تعاظم فيها إحساسنا بالخطر، وتعاظم أكثر شعورنا بالرغبة المستميتة للوقوف في وجه هذا الخطر وسحقه، إن كلمات جمال عبد الناصر: سنقاتل ... سنقاتل ... سنقاتل ... ولقد كتب علينا القتال كما كتب علينا الاستشهاد، كلمات مثل تلك لا يمكن إدراك معناها الحقيقي والشحنة العاطفية التي تصاحبها إلا لمن يقدر له أن يحيا تجربة الغزو التآمري كاملة، تجربة كلما مر عليها الزمن ازدادت أصالة وضربت بجذورها إلى أعماق بعيدة، هنا في داخلنا نحمل جمرة مقدسة من تاريخ هذا الشعب، كلما تعاقبت عليها السنون ازدادت توهجا وقدسية وأصبح لها في أذهاننا مذاق معتق خاص، مذاق الحرية مختلطة بالدم، مذاق الاستقلال مختلطا بمسئولية الحفاظ عليه، مذاق الثورة مختلطة بروحها الدافعة الخلاقة المتوثبة.
ورغم هذه الأحاسيس البالغة القداسة، تبقى لي مع ذكريات المعركة قصة لا أظن إلا أنها - كإحدى نكاتنا الشعبية المشهورة - ضاحكة، فبعد أكثر من عام مر على العدوان، وكنت أثناءه مفتش صحة للحي العريق الدرب الأحمر، فوجئت بالنيابة الإدارية لوزارة الشئون البلدية والقروية - التي كانت تتبعها الصحة - تستدعيني للتحقيق. وذهبت إلى مقر النيابة وأنا أتساءل عن ماهية الجريمة المجهولة التي تستدعي هذا التحقيق، ولم يطل بي التساؤل، فقد واجهني وكيل النيابة بالتهمة، وسألني: لماذا لم أذهب إلى عملي يوم 5 نوفمبر سنة 1956؟ وكانت شهور كثيرة قد مضت وكنت قد نسيت، فسألته بدوري: كيف عرف أني لم أذهب إلى مكتب الصحة يوم 5 نوفمبر المذكور؟ فقال لي: إن أمامه تقريرا من المفتش الفني للإدارة الصحية يفيد بأنه ذهب إلى مكتب الصحة في اليوم المذكور وانتظر من الساعة الثامنة إلى العاشرة صباحا، دون أن أحضر، وأنه مر على المكتب بعد ظهر نفس اليوم فوجد أني لم أذهب إلى هناك، وأنه راجع الدفاتر فوجد أني لم أكن قد طلبت إجازة أو أبلغت بمرضي، فكيف أتغيب يوم 5 نوفمبر بطوله دون إذن؟
وجعلتني الأسئلة الكثيرة أتذكر، فيوم 5 نوفمبر كان سادس أيام العدوان الثلاثي، وكنت فعلا قد تركت القاهرة بكل ما فيها من عمل ومسئوليات، وذهبت مع الأصدقاء أحمد عباس صالح وكامل زهيري وأحمد مجاهد وسعد زغلول وعادل أمين إلى المطرية، في طريقنا إلى بورسعيد، حيث وجدنا الصديق الفنان حسن فؤاد ينتظر هو الآخر أن يهرب إلى بورسعيد، وكان المسئول عن العملية كلها وعن جبهة المطرية الضابط «م، أ»، وهو أحد أبطال جيشنا الأحرار، وقصة سفرنا إلى المطرية ومحاولات تهريبنا إلى بورسعيد في حد ذاتها صفحة من صفحات كتاب العدوان ليس هذا مكانها، ولكن المهم أنها حدثت يوم 5 نوفمبر، اليوم الذي استدعتني النيابة الإدارية لتحقق معي سبب تغيبي فيه، والحقيقة أن السؤال روعني، فالبلاد كلها تواجه خطرا داهما، وكانت هناك غارات مستمرة على القاهرة، والمواصلات متوقفة، والكهرباء تسحب في أثناء الغارات، والشعب كله بفلاحيه وموظفيه وعماله قد ترك كل شيء ليتفرغ تماما لمواجهة العدوان ورد الطغاة، كله إلا المفتش «الفني» الذي استيقظ مبكرا جدا واخترق القاهرة المشتعلة والجماهير المحترقة بالحماس والغضب، ولم يأبه لهذا كله وإنما مضى بنشاط غريب إلى مكتب صحة الدرب الأحمر ليجلس هناك من الساعة الثامنة صباحا ليعرف إن كان طبيب المكتب سيحضر في ميعاده، أم سيتأخر ساعة ليتسنى له أن يضع تقريرا عن هذا التأخير؟ بأية عقلية فعل هذا كله؟ وبأي مقدرة خارقة استطاع أن ينفصل نفسيا عن شعبنا كله ليتركه يواجه المعركة ويتفرغ هو لضبط موظف في حالة تأخير أو غياب.
ورفض وكيل النيابة أن يكتب ردي أول الأمر، ولكنه رضخ للأمر الواقع وكتبه؛ إذ قد طالبت في ردي لا بأن يحدث التحقيق معي عن غيابي، ولكن لا بد من التحقيق مع المفتش «الفني» هذا بتهمة أنه كان يؤدي عمله التافه في وقت تتعرض فيه البلاد لأقسى محنة مرت بها. إن أداء العمل الروتيني حينئذ هو الجريمة، وليست الجريمة ترك العمل لإنقاذ الوطن.
ولكن الروتين هو الروتين، والجهاز المنحط هو الجهاز، والروتين مع الإنجليز والاستعمار والعدوان لا يعقل أبدا أن ينقلب ويصبح مع الشعب والوطنية، والشيء الذي يحز في النفس أننا هزمنا العدوان الثلاثي حقيقة وقضينا على الاستعمار، ولكننا لم نستطع أن نقضي على الروتين، ففي قضيتي الخاصة، ورغم الظروف الواضحة، انتصر الروتين، وكانت نتيجة التحقيق بعد انقضاء أكثر من عام على هزيمة العدوان، أن جوزيت بخصم ثلاثة أيام من مرتبي مع الإنذار؛ لأني تغيبت بدون إذن يوم 5 نوفمبر سنة 1956! (12) بصراحة
1
انتهت اللجنة التحضيرية من المناقشات العامة ، وقد سمعت كثيرين يقولون إن النقاش داخل اللجنة التحضيرية قد طال وتشعب، وإننا في ثورة لا تحتمل هذا الأخذ والرد.
والحقيقة أنها وجهة نظر بالغة الأهمية، فبعض الإجراءات الثورية تفسد فاعليتها بمحاولة الإعلان عنها أو طرحها للمناقشة قبل التنفيذ، ولكن هناك وجهة نظر أخرى لا تقل أهمية، لكي ندركها لا بد أن نسأل أنفسنا أولا: هل الثورة هي النجاح في سن وتطبيق الإجراءات الثورية، أم الثورة أساسا وقبل أي شيء آخر هي إيمان الناس بحتمية هذه الإجراءات، وإدراكهم لضرورة القيام بها وتبنيهم لها؟ والناس هنا هم أولا طبقات الشعب وفئاته التي قامت من أجلها الثورة، وتسن من أجل مصالحها هذه القوانين.
ذلك هو السؤال، والإجابة عنه - ونحن في صدد بناء الهيكل التنفيذي والتشريعي للثورة - من الأهمية بمكان، فالإجراءات الثورية ضرورة حتمية من ضرورات أي ثورة، وإيمان الناس بهذه الإجراءات وفهمهم وتبينهم لها ضرورة لا تقل أهمية، فهذا الإيمان هو الحماية الأولى والأخيرة للإجراءات، ومن ثم للثورة نفسها.
المشكلة إذن ليست القيام بالإجراءات الثورية، المشكلة الحقيقية هي في إيمان الناس إيمانا لا يتزعزع بها، فالإيمان هو الثورة؛ إذ حين يدرك الفلاح ويؤمن إيمانا عميقا أن الأرض التي يزرعها هي من حقه، ومن حقه وحده تملكها، ووجود هذا الإيمان في قلب الفلاح حتى ولو لم يكن باستطاعته تملك الأرض، هو الثورة. أما منح الخمسة فدادين لفلاح لا يزال يدرك أن الأرض لمالكها وأنها خير هبط عليه من السماء، أو ورقة يانصيب ربحها، فهو عمل حقيقة قد يرفع من مستوى الفلاح ويجعله مالكا، ولكنه أبدا لا يعد ثورة ولكنه من نتائج الثورة، وهذه الكلمات الضخمة الجوفاء التي نسمعها تقال وتطلب «الرحمة» و«العدل» ومنح «الفرص الأخرى» للإقطاعيين والرأسماليين، وكلمات إذا تعمقنا أصلها وجدنا أن سببها راجع إلى أن قائليها - بعد - لم يؤمنوا بالثورة، ويعتقدون مثلا أنها «مصائب» حلت بالرأسماليين والإقطاعيين، أو إجراءات قامت بها «الحكومة».
فليستمر النقاش
النقاش إذن داخل اللجنة التحضيرية وداخل المؤتمر العام - حتى ولو استمر طويلا - ليس واجبا فقط ولكنه ضرورة حتمية لا بد منها لكي يتبين الناس القوانين الثورية، ولكي تحس جماهير الشعب وتدرك أن التغيير لها ولمصلحتها، وأنه ليس عقابا لأحد على ذنب ارتكبه، ولا محاولة للانتقام من عبود أو فرغلي للوسائل غير القانونية التي لجأ إليها هذا المواطن أو ذاك من «الأغنياء» كي يفروا، ولكنه تغيير اجتماعي جذري في طريقة حياتنا ووسيلة وطرق إنتاجنا، تغيير يمليه العلم والتطور والمصلحة، تغيير ليس هدفه «رفع» مستوى حياة البعض «بمصادرة» أموال البعض الآخر، ولكنه تغيير هدفه أن يكمل تحررنا، وبمثل ما طردنا المستعمر كي نتحرر كشعب، نحطم النظام الاستغلالي الاستعماري كي يتم تحررنا كأفراد.
مثل هذا التغيير قد يتم على الورق بقوانين وإجراءات نصدرها، أما لكي يصبح حقيقة واقعة لها كل قداسة الإيمان فلا بد أن يعقبها تغيير جذري مماثل داخل كل عقل وقلب. لا بد أن يؤمن كل منا إيمانا راسخا به، والإنسان لا يؤمن إلا إذا اقتنع، والاقتناع لا يتأتى إلا بالنقاش، ومن أجل هذا فنحن في حاجة إلى مناقشات كثيرة ومناقشات ... نفس حاجتنا الماسة إلى الإجراءات.
الديمقراطية
وهو موضوع يقودنا في نفس الوقت لمناقشة كلمة كثر استعمالها في الآونة الأخيرة: الديمقراطية. وقف خالد محمد خالد يدافع عن ديمقراطية مثالية، ورد عليه الرئيس بمفهوم علمي للديمقراطية الاشتراكية. والديمقراطية على أي الحالات تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، جاءت الثورات الوطنية لتحقق هذا المبدأ، وحين قامت الثورات الاشتراكية وضعته نصب عينيها؛ اسما في حالات، وحقيقة محدودة في حالات أخرى، وكان لا بد لثورتنا هي الأخرى أن تأخذ موقفا ما من الديمقراطية باعتبار أنها الحرية الكاملة للشعب واللاحرية لأعداء الشعب، والوسائل والأشكال الديمقراطية كثيرة ومختلفة، ولكن هناك ركنا هاما من أركان الديمقراطية لا بد منه لأي حكم شعبي، سواء في ديمقراطية سليمة أو حتى في ظل أوضاع ديمقراطية فاسدة، هذا الركن هو مسئولية الحكومة أمام الشعب. فلنتبع في حكم أنفسنا أي طريق نشاء، ولكن لا بد أن يكون لنا في النهاية وسيلة نستطيع بها أن نحاسب الحكومة، لا بد لنا من جهاز من حقه أن يراقب ويناقش أعمالها ومشاريعها وسياستها وينقذها ويوجهها، لا لمجرد مبدأ المراقبة والمحاسبة والتوجيه، ولكن لكي تتم أساسا عملية الإيمان بكل ما تقوم به الحكومة من إجراءات. فالإيمان كما قلنا لا يتأتى إلا بمناقشة، وإلا بحق في المناقشة وحق في إبداء الرأي.
لقد كشفت مناقشات اللجنة التحضيرية أنه حتى مثقفينا الكبار - بعض أساتذة الجامعات ووكلاء الوزارات مثلا - متخلفون فكريا وثوريا عن قيادتنا ومفهومنا للحكم والثورة، وهو ليس عيبا فاضحا كما يبدو للبعض، إنه في رأيي ظاهرة طبيعية جدا سببها الأول الانفصال الفكري بين القيادة والقاعدة، وحتى إذا نحن ضيعنا وقتا كثيرا مع هؤلاء لنناقشهم ونفهمهم كي يصلوا إلى مستوى القيادة في الإيمان، فهو وقت غير ضائع أبدا، إنه وقت نكسبه ونوفر به أن نبني البناء على غير أساس من التفهم الكامل واليقين، إن الثورة لكي تستمر ماضية ناجحة مكتسحة لا بد أن تمضي بنا كلنا، بفهمنا الكامل لها، باقتناعنا وإيماننا وإرادتنا، فنحن الهدف من قيامها، ونحن أيضا الوسيلة لإقامتها.
فلتوسع القيادة صدرها
إن الخطوات التي حققتها ثورتنا تعثرت ثورات كثيرة وهي تحقق بعضها، ومهمة ثورتنا ليست مهمة تخص الشعب في مصر فقط. إن مصر سواء أرادت أم لم ترد هي حاملة لواء الثورة العربية كلها، وجمال عبد الناصر هو الزعيم الذي أجمعت الشعوب العربية رغم الحديد والنار على مبايعته، إنها تضع فيه كل آمالها، كل مطامحها وأيام مستقبلها، وهي حقيقة لا نقولها خطابة أو إنشاء، إنها واقع ملموس يكفي أن تطوف البلاد العربية لتراه وتحسه وتفخر به، ثورتنا غالية إذن لأنها ثورة العرب، على مصيرها يتوقف مصيرهم، وأعداؤنا يعلمون هذه الحقيقة تمام العلم، ويبنون كل خططهم في المنطقة على أساسها.
ثورتنا هي أعلى حقيقة نمتلكها إذن، وأمضى سلاح عثرنا عليه بعد طول عناء وطول فشل، وجربناه ونجح النجاح الأكيد، من واجبنا إذن أن ندافع عنها إلى آخر رمق ونحفظها، وأولا وقبل كل شيء نهيئ لها أسباب النجاح، من واجب كل منا أن يساهم بقلبه وعقله ولسانه ، أن يحياها ويربط مصيرها بمصيره، ويجب أن تتهيأ قيادة ثورتنا لهذه المشاركة الجماعية الكبرى، وأن توسع صدرها حتى لآراء كهذه يعرضها أصحابها بشكلها الخام الذي واتته به. يجب أن ندرك أننا ما لم نغير جذريا من الطريق الذي كنا سائرين فيه، فمعنى هذا أننا سنعود لارتكاب نفس الأخطاء، ومحال أن نظل نرتكب نفس الأخطاء، فقد ظل شعبنا، وظلت شعوبنا العربية كلها تنتظر يوم الخلاص على أيدي ثورة تنبثق منها وتندفع بها بقوة إلى الأمام، والثورة جاءتنا وعاشت بيننا زمنا، فأي موقف سلبي منها جريمة.
ليقل كل منا ما عنده، ولتسمع القيادة وتع وتنفذ، ولنكن صادقين مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، خاصة ونحن نتحدث عن قمة الصدق، ونحن نتحدث عن الثورة. (13) كلمة الثناء قد تقتل أحيانا
قابلت اليوم الرجل الذي كاد يقتلني مرة بسبب كلمة ثناء عابرة قلتها له، وكانت المقابلة مفاجأة لكلينا، فلم أكن أتوقع أن يعمل عم عفيفي سائق تاكسي بعد إحالته إلى المعاش، وهو لم يكن يتوقع أبدا أن يكون زبونه هذه المرة هو نفس الطبيب، رئيسه السابق في الصحة، ولكنها الصدفة المحضة آثرت أن تجمعنا، وهي التي أعادت إلى ذاكرتي أيام الصحة وأوبئتها ومشاويرها، والعربة الفورد المتهالكة التي كثيرا ما خرجت بها مع عم عفيفي في مأموريات رسمية، وكان للعربة أكثر من سائق، وكانوا يتمتعون جميعا بخاصية البطء الشديد والقلب الميت، ما عدا عم عفيفي المتحمس السريع الذي كان رغم هذا، أكبرهم سنا.
وحدث أن بلغ إعجابي به ذات يوم أن قلت له مادحا إنه أسرع سائق في القاهرة، والحقيقة كان قولا أغبر، فما من مرة ركبت فيها العربة معه بعد هذا إلا وأركبها وأركبني ألف عفريت، حتى لقد كنت أقطع الرحلة وأنا نصف واقف، أكاد لولا الحياء أن أقفز من النافذة أو أستغيث بالمارة، وطبعا كنت لا أسكت، طوال الطريق أستحلفه وأرجوه، وأحيانا أستعمل سلطتي وآمره وأنهره، وعبثا ما كنت أحاول، فقد كان يأخذ كلامي على محمل آخر، يعتقد أني أطلب منه أن يبطئ؛ لأني أشك في قدرته على القيادة السريعة، ولهذا يندفع بسرعة أكبر ليثبت لي أنه لا يزال هو الشخص الذي قلت عنه يوما إنه أحسن سائق بالقاهرة، والنتيجة أن حدث لي ما كان لا بد أن يحدث يوما، ووجدت نفسي ذات مشوار ملقى على الأرض أمام وابور زلط تحت رحمة عجلاته التي لا ترحم، فقد اصطدمت الفورد به صدمة بلغ من شدتها أن حطمت المقدمة - مقدمة عربتنا طبعا - وفتحت أبوابها قسرا، وألقتني أنا أمام الوابور، وجعلت عم عفيفي يغطس في الدواسة.
الدرس القاسي
حكاية صغيرة كما رأيتم، ولكنها لقنتني درسا لا أزال أعيه؛ إذ دلتني يومها على خطورة الكلمة، وبالذات كلمة الثناء، كلمة ثناء صغيرة قد تقولها حتى وأنت غير مؤمن بها ممكن أن تكهرب شخصا بريئا، وممكن أن تدفعه للنجاح الهائل أحيانا، وأحيانا للسقوط في الهاوية، أو على الأقل أمام وابور زلط، بل غيرت هذه الحادثة من مفهومي للغرور، فقد كنت أعتقد قبلا أن الغرور شيء ينبع من داخل النفس ويجعل صاحبه يؤمن بأنه يملك قدرات هو في الحقيقة لا يملكها، تأكد لي يومها أن الغرور شيء يفد على الشخص من الخارج، من المحيطين به واللاصقين، وأنه ينتج عن سماعه لكلمات الثناء فقط، فالكائن منا يتحرك إلى الأمام تحت تأثير قوتين متضادتين متناقضتين؛ قوة ثقته بنفسه وقوة عدم ثقته بها، قوة إيمانه بما لديه من ملكات وقوة إحساسه بنقص ما لديه من ملكات، قوة رضائه عن نفسه وقوة سخطه عليها، قوة إحساسه أنه يصيب وقوة إحساسه أنه يخطئ. والثناء فقط، كالدفع من ناحية واحدة فقط، يجعل خط حركة الإنسان ينحرف إلى الناحية المضادة، ثم لا يلبث بمواصلة الثناء أن يزداد انحرافا إلى درجة تميل حركته الأمامية لتصبح قوسا، ثم دائرة، ثم دائرة مفرغة يتحرك فيها حول نفسه، ويكف عن قلقه لبلوغ الأحسن وإكمال النقص. الغرور إذن نهاية وتوقف وشلل يصيب الكائن الإنسان، سببه تلك الجرعات السامة من الثناء التي يسقيها له أناس يهمهم التقرب إليه، جرعات يتناولها الإنسان بلا إحساس بخطورتها في أول الأمر، ولكنها بمضي الوقت تصبح إدمانا، فيسمع المغرور الثناء الواضح الزيف ومع هذا يطلبه، ويفعل المستحيل ليظفر به حتى وهو يراه رياء وتملقا؛ إذ لا يملك إلا أن يتجرعه؛ ربما ليحس أنه يتحرك، ربما ليخدر وعيه عن شعوره الداخلي العميق بأنه واقف في مكانه ومشلول.
لكي يظل الإنسان ماضيا في حركته إلى الأمام لا بد من كلمة أخرى تقال له، كلمة تدفع من الناحية الأخرى، كلمة النقد. فالثناء من ناحية، والنقد من ناحية أخرى هما الطريقة الوحيدة التي لا يعرف البشر سواها للحركة. فالإنسان لا يتحرك وحده، إنه يتحرك في جماعة، وإذا كان دور الفرد بالنسبة للجماعة أمرا معروفا ومشهورا، فدور الجماعة بالنسبة للفرد دور أكثر أهمية؛ فكلماتها وآراؤها وهمساتها وزجرها هي التي تتغذى عليها نفسه، وبالتالي تستمر تحيا وتتفاعل وتتحرك. وأي فرد في أي جماعة إذا وجدت فيه ناحية تستحق الثناء فلا بد ستوجد فيه ناحية تستحق النقد، وإذا وجدت فيه ناحية تستحق النقد فلا بد أن تجد فيه ناحية تستحق الثناء. (14) بصراحة، نحن نستعذب الشكوى
فليتهمني البعض بأني أتجنى وأطلق أحكاما عامة، وآخذ المجموع بذنب أفراد، ولكن الحقيقة أننا شعب كثير الشكوى، بدأت أومن بها وأنا أتصفح اليوم خطابات جاءتني وأنا أجلس مع الزملاء في الجريدة، وأنا أقضي العيد في البلدة، وأنا في الترام والأتوبيس وفي أي مكان. بدأت أومن أننا توصلنا لحل عبقري يعفينا من مسئولية حل مشاكلنا بأنفسنا، هو الشكوى منها والاكتفاء بالشكوى، بل لا مبالغة إذا قلت: إننا أدمناها واستعذبناها وأصبحت متعة أن يئن أحدنا للآخر بأنين أكثر استدرارا للدمع من أنينه.
إني لأتساءل ماذا حدث لنا؟ المفروض أن الشكوى مثلها مثل البكاء علامة عجز كامل، والمفروض أن يحاول كل منا أن يحل المشكلة التي تواجهه بنفسه، فإذا عجز استعان بأقرب الناس إليه، فإذا عجز طلب العون من المعارف والمجتمع، فإذا فشل هذا كله في حل مشكلته كان له أن يشكو من الزمن والحظ ويتألم، ولكننا نبدأ حل أي مشكلة بالعجز عن حلها بالشكوى منها، فإذا فشلت الشكوى في حلها رحنا نفكر في أنسب شخص ممن نعرفهم لنعهد إليه بمهمة حلها، فإذا لم نجد لجأنا - وأمرنا إلى الله - إلى أنفسنا لحلها، ونفعل هذا كله دون خجل أو حياء، وكأنه ليس عيبا أبدا أن نحمل الآخرين آلامنا ومتاعبنا حتى ونحن ندرك أن لديهم هم أيضا آلامهم ومتاعبهم، عملية تنصل مخجلة من المسئولية، عملية لا يقوم بها إلا العبيد حين كانوا يعتبرون أنفسهم غير مسئولين عن أنفسهم، يعتبرون سيدهم في الماضي، والحكومة أو غيرها في الحاضر، هو المسئول عنهم وعن حل مشاكلهم، فإذا لم نحل لهم المشاكل دون أن يحركوا ساكنا بكوا واشتكوا وطالبوا برفع الظلم. ولماذا لا تتولون أنتم بأنفسكم رفع هذا الظلم؟ لماذا تفعلون كالأطفال وتطلبون من غيركم أن يحقق لكم ما تريدون؟ ولماذا لا تحققون أنتم وبسواعدكم ما تريدون؟
يقولون لك: حاولنا وفشلنا، طيب، وما فائدة الشكوى إذن؟ نحن نفضفض بها يا أخي، أتريد أن ننفجر؟ أجل، هذا هو بالضبط المطلوب من أي إنسان مسئول عن نفسه، أن يغتاظ فعلا، لا إلى درجة الانفجار، وإنما فقط إلى درجة أن يعمل، بل حتى إلى درجة الإحساس بأن مشكلته لن تحل إلا إذا حلها هو بنفسه. هذا هو الفارق الدقيق الخطير بين الطفل والرجل، بين الشعب المستعمر الذليل والشعب الحر المستقل. إني لأسأل كل من سبق وبكى واشتكى: ماذا فعلت الشكوى؟ وأسأل كل من لا يزال يشكو: أي كائن وهمي تطلب منه أن ينصفك ما دمت أنت لا تنصف نفسك وتنوح كالعجزة والأرامل على حالك؟ لقد تحولنا إلى معارض متنقلة للأنين والشكوى. كل منا ينفرد بالآخر ليشكو همه، ليشحذ منه بعض الرثاء، كل منا يتشبث بالآخرين ويستصرخهم لحل مشكلته، والآخرون يستصرخوننا لحل مشاكلهم، والنتيجة أن يضمنا جميعا قيد الشكوى الذليل ويبقينا في أماكننا.
نحن لا يمكن أن نقف كشعب ما لم نقف كأفراد، ولن نقف كأفراد ما لم يؤمن كل منا أن باستطاعته أن يقف فعلا، ويمشي، ويخطي العتبة، دون حاجة إلى دادة، ودون حاجة لاستدرار عطف أناس أولى بالعطف. (15) زيارة السيد البدوي
ما كدت أصبح في طنطا حتى فكرت بطريقة غريزية تلقائية في زيارة السيد البدوي، ولم أكن أتوقع أبدا أن أكتشف خلال الزيارة أعجب وأغرب معجزة عرفتها في حياتي، والذي حدث أنني دخلت الضريح وملست على النحاس، وقرأت الفاتحة وأنا أدور حول المقام، تأملت النسوة المتعلقات بحلقات النحاس يستحلفن السيد البدوي في همس مستميت ملح، وطلبة الأزهر والتوجيهية وهم يذاكرون ويصلون صلاة حارة جدا هدفها النجاح لا ريب، وسرحت قليلا مع الضوء الكهربي الأخضر المنبعث من داخل القبة العالية، والسقا الذي يوزع ماء من قربة غريبة الشكل. ولم يستوقف بصري من هذا كله إلا نحاس المقام؛ إذ كان ناعما جدا ومتآكلا بطريقة تدل على أن مئات الملايين من الأيدي لا بد قد ملست عليه وتشنجت ممسكة بحلقاته.
وإلى هنا كدت أغادر المسجد وأنا غير راض تماما عن الصورة التي رأيتها مفضلا ألف مرة أن أحتفظ لنفسي بالصورة التي رسمتها للضريح في خيالي، لولا أني تذكرت أنهم كانوا يقولون لنا، ونحن صغار، أن ضريح السيد البدوي يوجد به حجر مطبوع عليه آثار أقدام النبي عليه السلام، والحقيقة أني كنت - وحتى وأنا صغير - لا آخذ هذا القول مأخذ الجد، وأعتقد أنه مجرد خرافات وتهاويل، ولكني قلت لنفسي أسأل، وسألت وإذا بي أفاجأ مفاجأة كبرى، فقد كان الأمر صحيحا، وفي ركن من الضريح كانت هناك حقيقة كتلة ضخمة من حجر البازلت الأسود حولها حاجز حديدي سميك، ومطبوع عليه آثار قدمين كبيرتين، وقفت مذهولا أرقب الجمع المتكاثر حول الحاجز، جلابيب وبدل وملاءات سود وكل يحاول أن يدخل يده من حديد السور الضيق ويلمس الحجر ويتبرك به، وقفت مذهولا أستعد لأضخم تغيير سيعتري حياتي حين أنبذ كل علم أو منطق وأبدأ أومن بالخوارق والمعجزات، وأي علم ممكن أن يؤمن به وأمام عينيه آثار أقدام مطبوعة في الصخر بقوة مهولة خفية؟ يستطيع أن يمد أصابعه ويلمسها، ويستطيع أن يلتقط لها صورا ويضع إصبعه في عين كل من يحاول أن ينكر أو يكابر؟
ولكن، ربما بركة السيد هي التي دفعتني لكي أزاحم وأقترب جدا من السور والحجر وأفحص آثار القدمين المطبوعتين، ولم يحتج الأمر فحصا أو تدقيقا، فمن النظرة الأولى أدركت ألا معجزة هناك ولا يحزنون، فقد كان واضحا أن أثر القدمين مطبوع بفعل فاعل، وأنه محفور في الصخر بإزميل حفار بدائي، واضح أيضا أنه لا يعرف الكثير عن شكل الأقدام وتشريحها.
واعتراني الغضب، فقد أدركت أن هؤلاء الناس الطيبين المتزاحمين، وكل الملايين التي زارت الضريح قبل هذا والذين سيزورونه هم ضحية خدعة ساذجة لا أعرف من تسبب فيها، ولكني أعلم تماما من يسأل عنها، فإدارة الجامع الأحمدي أعتقد أنها موكولة لوزارة الأوقاف، وأعتقد أيضا أنها المسئولة عن هذه المعجزة الزائفة وعن الترويج لها، وعن إحاطتها بذلك السور الحديدي المتين.
وشيء غريب هذا، وزارة الأوقاف التي تطلق آلاف وعاظها في المساجد والقرى ينهون الناس عن الغيبة والنميمة والرجس الذي هو من عمل الشيطان، تستحل لنفسها أن ترتكب كبرى الكبائر وتبني معجزة زائفة ليست من الإسلام في شيء، وتخدع بها ملايين البسطاء والسذج وتوهمهم أنها آثار أقدام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكأنها لا تدعو الناس للإيمان بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
على أساس أنه صاحب الرسالة المحمدية الخالدة، ولكن لأنه الرجل الذي سار على الحجر فغاص الحجر بأقدامه؟!
وشيء من اثنين: إما أن هذا الحجر معجزة حقيقية، وعلى وزارة الأوقاف حينئذ أن تخرجه، وتجند نفسها لعرض هذه المعجزة على سكان العالم أجمع باعتبار أنها شيء خارق للعادة، ممكن أن تنسخ أي معتقد آخر وتغير تغييرا جذريا في حياتنا وعلومنا ونظرتنا إلى الكون والواقع والمستقبل، وإما أنها معجزة زائفة وفي هذه الحالة فلا بد من محاكمة المسئولين عن هذه الخدعة الكبرى الذين غرروا بملايين القلوب الطيبة، ولا بد من توضيح حقيقة هذه «المعجزة» وإزالة ذلك الحجر من المسجد، ووضعه في متحف الحضارة الإسلامية على اعتبار أنه نموذج بدائي لفن الحفر على الصخر صنعه فنان مجهول في أحد القرون الهجرية.
وقد يحدث هذا وتزيل الوزارة الحجر، ولكني أشك كثيرا في قدرتها على إزالة «المعجزة» من أذهان الناس، فقد غادرت الجامع الأحمدي وصدري يحفل بأحاسيس كثيرة، أهم ما فيها هو تصوري لكم من ملايين الأيدي واللمسات استلزمها الأمر ليتحول السور الحديدي الذي حول قطعة الحجر، ولتتحول قطعة الحجر نفسها إلى حرير ناعم، تصور جعلني أدرك أن المعجزة الحقيقية ليست هي في آثار الأقدام على الصخر، ولكنها في آثار ملايين الأيدي التي انطبعت على النحاس والحديد وبرته ونعمته، المعجزة الكبرى أيضا، ملايين الناس حين تؤمن فتبري بأيديها النحاس، وحين لا تؤمن فلا يفلح في ردها حديد ولا رصاص. (16) خسارة 80 مليون جنيه
بينما القاهرة تشوي سكانها على أحر نار، كنا نحن في بقعة أخرى من أرض مصر، الحرارة فيها لا تفترق كثيرا عن الحرارة في جهنم، ولأول مرة منذ أن وعيت بالعالم أحس به حارا إلى تلك الدرجة، لأول مرة منذ أن عرفت الهواء أشعر به يهب ناريا لافحا لاسعا بمثل ما كنت أشعر به، كنا في المنيا، وهي أول مرة في حياتي أهبط فيها أرض الصعيد، وتشاء الحكمة أن أختار لهذا الهبوط أو الصعود يوما ضرب الرقم القياسي في درجة لهيبه، فكأنما جاء يوما صعيديا هو الآخر، مغرقا في صعيديته.
وكنت دائما أتلهف على رؤية الصعيد، ليس رؤية عابرة من خلال قطار الأقصر وأسوان، وإنما رؤية حضور واندماج وتأمل، وكنا أربعة في الإستيشن واجن: الدكتور النبوي المهندس وزير الصحة، والدكتور رشوان فهمي نقيب الأطباء، والدكتور حليم جريس أستاذ الجراحة بقصر العيني، وكنت أنا معهم.
ومنذ اللحظة التي غادرنا فيها حدود القاهرة وأنا أتطلع بشغف زائد إلى الأرض والناس والمدن الصغيرة، وكأني في طريقي لرؤية بلاد غريبة لم ترها عين قط، نفس شغفي الذي أحسسته حين زرت أوروبا لأول مرة، إن الصعيد له في أذهاننا معان كثيرة، وقد اكتشفت أنه ليس صعيدا واحدا وإنما «أصعدة» كثيرة، الصعيد الجواني والبراني وبحري أسيوط وقبلي أسيوط والوسطاني. وكل منها يعتقد أنه الصعيد الذي لا صعيد غيره، على أية حال، ومهما كان اسم البلاد التي كنا نراها، فقد كانت بلادا مصرية، وكانت جميلة رائعة الجمال.
أما المستشفيات التي بدأنا نزورها فكانت في المنيا، وسواء أكانت مجهزة خصيصى للزيارة أم هو حالها الدائم، فقط كانت، والشهادة لله، أنظف مستشفيات رأيتها في مصر بما فيها مستشفيات القاهرة، وكان فيها - ويا للغرابة! - زهور موضوعة في الممرات! وداخل هذه المستشفيات والوحدات الريفية كنا نجد زملاء وأطباء وممرضات وحكيمات في هذا القيظ الحارق، شاعرين بدورهم، مدركين أنهم يحاربون في خط النار الأول ضد المرض، حتى لو كانت الحرب تدور في وحدات ضاربة في بطن الجبل أو راقدة كالحمامة البيضاء على حافة الصحراء.
والسبب في دقة إدارة هذه المستشفيات والوحدات بسيط جدا، فاللواء عبد الفتاح فؤاد منذ عامين ضرب عرض الحائط بكل القوانين المالية السخيفة، وأعطى المستشفيات والوحدات استقلالا ماليا ذاتيا، وحين سألته عن نتيجة التجربة وعن عدد الاختلاسات أو السرقات التي حدثت بعد إطلاق الحرية في التصرف، قال لي: إنها خدعة، لقد أفقدنا الاستعمار وأفقدتنا العقليات الرجعية الثقة في أنفسنا، حتى ظننا أننا مجموعة من اللصوص، في حين أن العكس هو الصحيح تماما، فنحن مجموعة من المواطنين الشرفاء، وإنساننا لديه كل مؤهلات الثقة، ولم يحدث إطلاقا منذ أن منحت المستشفيات حرية التصرف في ميزانيتها حادثة مخلة واحدة، في حين أن النتيجة كانت أن الروح ردت إلى هذه المؤسسات، فأصبحت بدلا من الخوف تعمل، ومن التهرب من المسئولية تتحمل المسئولية، ومن الشكل المظهري تؤدي للمواطنين خدمة حقيقية، إنه عمل شجاع ذلك الذي قام به عبد الفتاح فؤاد، وهو ليس الوحيد في أكثر الأعمال الشجاعة التي وجدتها هناك، وآخرها ذلك الذي قام به المحافظ لمقاومة البلهارسيا.
حقائق رهيبة
والمواطنون لديهم حساسية من ذكر الأمراض، وخاصة ذلك المرض اللعين البلهارسيا. إن القراء في المدن لا يهمهم ذلك المرض كثيرا؛ إذ ما دام الواحد منهم يعتقد أنه سليم فما معنى أن يقرأ عن مرض لا يهمه أمره؟ ولكن الحقيقة عكس هذا، فالبلهارسيا تهمنا جميعا كمصريين، ويكفي أن نذكر حقيقة بسيطة عنها لكي ندرك أهميتها، فالبلهارسيا مثلا تجعلنا نخسر كل عام ما قيمته ثمانون مليونا من الجنيهات، والمواطنون المصابون بها في ريفنا ينزفون كل عام ما مقداره حوالي اثنين وعشرين مليون لتر من الدم كل عام، وكأنها دماء أربعة ملايين مواطن نفقدهم كل عام، بمعنى آخر، نحن لا يمكن مهما صنعنا وأممنا أن نبني الاشتراكية وأن نضاعف الدخل القومي، ونحن نخسر سنويا 80 مليون جنيه، وشعبنا ينزف اثنين وعشرين مليون لتر من دمائه كل عام. والمشكلة الأكبر أننا بعد تحويل ري الحياض إلى الري الدائم - ذلك الذي سيبدأ منذ هذا العام - ستدخل ديدان البلهارسيا إلى الصعيد الجواني، وسيصاب نتيجة لهذا أقوى عمال لدينا، أولئك الذين بنوا عماراتنا ومدننا، وأولئك الذين يبنون سدنا العالي، ولقد ذكر لي صديق أن السد العالي لو كان يبنى في وجه بحري بعمال من بحري مصابين بالبلهارسيا حتما، لما أمكن بناؤه؛ فالبلهارسيا تفقد الإنسان نصف طاقته وقدرته على الإنتاج، بحيث لا يمكن لعامل حتى لو كان صعيديا من سوهاج أن يحمل نفس القدر من المونة الذي يحمله كل يوم، وأن يصعد به كل تلك السقالات والسلالم.
لهذا فالبلهارسيا ليست مشكلة طبية وليست مشكلة اجتماعية أو إنسانية فقط، ولكنها أساسا مشكلة سياسية اقتصادية من الدرجة الأولى، أهم بكثير في رأيي من المعادلة الصعبة، وأهم من الحديث عن الإسراف، مشكلة وطنية قومية لا بد لها من حل حاسم وجاد وسريع.
ولست أعرف ما السبب، ولكننا تعودنا أن نظل نترك المشاكل تعالج نفسها، لا نحاول أن نبذل لها من تلقاء أنفسنا حلا حتى تلتفت إليها الدولة بكل ثقلها، وصحيح أن الحل النهائي لمشكلة البلهارسيا والأمراض المتوطنة بشكل عام مسألة تحد حضاري وانتقال المجتمع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، ولكن هذا الانتقال نفسه لن يتم إلا بالقضاء الجزئي على عدونا، المرض الأول، البلهارسيا. ولهذا فمن واجبنا كدولة وشعب - وأساسا كما قال مرة الرئيس جمال عبد الناصر كاتحاد اشتراكي - أن نعلن الحرب على البلهارسيا. إن الصين استطاعت بواسطة حزبها أن تقضي ليس على البلهارسيا، وإنما على الذباب تماما، وفي أكبر دولة في آسيا، فمسألة القضاء على الذباب أو محو الأمية ليست عملا إصلاحيا أو اجتماعيا، إنه عمل سياسي وحضاري من الدرجة الأولى، ولهذا فلو حشد الاتحاد الاشتراكي قوى لجانه حول مشكلة متبلورة - كمشكلة البلهارسيا - لأمكن حتى للوحدة «العقائدية» أن تتم، ربما من خلال مزاولة تجربة حشد المواطنين وتوعيتهم لمنعهم من تلويث الترع والمجاري المائية، فالإنسان كما يقول الدكتور أحمد الجارم، سكرتير جمعية مقاومة البلهارسيا، هو الذي يعدي القواقع؛ أي هو الذي يتولى بنفسه عدوى نفسه وإصابتها، والقضاء على البلهارسيا معناه ببساطة أن نمنع إنساننا من القضاء على نفسه وعلى غيره من المواطنين.
أغرب مؤتمر
في الساعة السابعة مساء والجحيم المضيء بالنهار قد تحول إلى جحيم مظلم، أو بسبيله إلى الإظلام، انعقد في قرية بني عبيد - إحدى قرى محافظة المنيا - مؤتمر شعبي بحضور وزير الصحة ومحافظ المنيا ونقيب الأطباء والدكتور أحمد حافظ موسى أستاذ طب الأمراض المتوطنة ووكيل جمعية مكافحة البلهارسيا، لمناقشة أخطر مشروع تبنته المحافظة والمنطقة الطبية لتطبيقه في خمس قرى لاستئصال البلهارسيا منه، صحيح كانت هناك الهتافات التقليدية مثل أي مؤتمر سياسي، ولكني فرحت أن يحتشد لمناقشة البلهارسيا كل هذا العدد من المواطنين الفلاحين أبناء القرية والقرى المجاورة، وليس هذا غريبا، فقد ذكر لي الدكتور إبراهيم يس عوض أن عدد المترددين على وحدات البلاد بلغ 90 في المائة من المواطنين، وهي نسبة عالية جدا لا يمكن أن تخطر على البال، فالتردد على الوحدات أو المستشفيات من تلقاء النفس ودون قسر أو إرغام مسألة ليست سهلة في ريفنا، ولكن الفلاح يدرك بغريزته أن الدم الذي ينزفه كل يوم مسألة خطيرة لا بد من إيقافها، وهو يرحب بكل جهد يبذل في سبيل علاجه والمحافظة على صحته. إن المشروع يتلخص في علاج المرضى ومنع العدوى، وصحيح أن أحد تلك الإجراءات هو إقامة حمامات سباحة ليعوم فيها أطفال القرية، ولكني أرى أن هذا الإجراء مضحك إلى حد ما؛ إذ لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام وأنا أرى حماما تكلف ألفين من الجنيهات في قرية، ولكنها كما ذكر لي الدكتور أحمد حافظ موسى مجرد تجربة، أعتقد شخصيا أنها لن تنجح؛ فالحمام صغير «10 × 4 أمتار»، والأولاد يفضلون الترعة حيث يمكنهم السباحة دون عائق، ثم إننا لن نستطيع خلال العشر أو العشرين سنة القادمة أن نوفر ألفين من الجنيهات لكل قرية لنقيم فيها حماما للسباحة، وأولى بنا أن ننفق نصف هذا المبلغ أو ربعه على عملية توعية المواطنين أنفسهم وجعلهم يتولون بالوعي حراسة مائهم أن يلوثه طفل أو مريض، ولكنها تجربة أعتقد أنه أولى ألا ننتظر نتائجها، وقد آن الأوان لنلتفت بكليتنا إلى دمائنا التي تنزف، وأكبادنا التي تتلف، وبطون مواطنينا التي تنتفخ وأورام السرطان التي تصيبهم. إنني أضع أمامنا كشعب وكاتحاد اشتراكي هدفا محددا وسريعا، أن نقوم بحملة واسعة النطاق ضد البلهارسيا، وأن نتولى القضاء عليها في عام أو عامين، وقد يبدو هذا إسرافا في الخيال، ولكن الحقيقة المذهلة أن البلهارسيا وغيرها من الأمراض الطفيلية هي الأمراض الوحيدة التي يمكننا القضاء عليها تماما بإرادتنا. فقط بمجرد إرادتنا أن نقضي عليها، فكيف نتردد في هذا؟ كيف تعتبر كارثة القطن التي خسرنا فيه 70 مليونا من الجنيهات كارثة ما زلنا نندبها، في حين أننا نخسر كل عام وبتهاوننا أكثر من ثمانين مليون جنيه؟ كل الفرق أننا لا نشعر بها ولا نحزن من أجلها. (17) تعلموا كيف تصبحون عربا
سمعت وقرأت أن كبار مطربينا وملحنينا بدءوا يفكرون في الخروج من النطاق المحلي الضيق - أي النطاق العربي - إلى النطاق العالمي الواسع، وذلك بترجمة أغانيهم العربية وأدائها بلغات أوروبية.
والغريب أن تصدر فكرة كهذه عن أناس مفروض أنهم أكثرنا معرفة بالغناء والموسيقى؛ إذ فاتهم أن الغناء ليس كالأدب أو الأبحاث العلمية أو الحديث اليومي، معان ممكن ترجمتها إلى لغة أخرى. الغناء لغة في حد ذاته، لغة مثلها مثل اللغة المكتوبة مستمدة من تاريخ كل شعب وملايين العوامل التي أثرت في تكوينه، كل الفرق أن اللغة المكتوبة ترسم على الورق، واللغة المغناة تؤدي بالآلات والحناجر، وكما أن من المستحيل ترجمة حرف الضاد إلى لغة أخرى، فكذلك من المستحيل أن نترجم أي حرف من حروفنا الصوتية إلى أي لغة أخرى، مستحيل كاستحالة ترجمة الجبة والقفطان مثلا إلى ملابس أوروبية، واستحالة أن نترجم اسما ك «بهية» إلى الفرنسية. إذ حتى لو فرضنا جدلا أننا وجدنا الكلمات التي نترجمه بها، فهل الأثر الذي يحدث للفرنسيين لدى سماعه ممكن أن يشبه من قريب أو بعيد الأثر الذي يحدث فينا لدى سماعنا «يا بهية وخبريني ع اللي قتل يس»؟ •••
نحن عرب، والإنجليز إنجليز؛ لأن لنا خصائصنا ولهم خصائصهم، وغناؤنا أحد خصائصنا، ولا يمكن أن نصبح عالميين بترجمة خصائصنا العربية إلى خصائص إنجليزية؛ لأننا بهذه الترجمة نلغي خصائصنا، نلغي كياننا. ولا يمكن أن نصبح عالميين ونحن بلا كيان، تماما كالزنجي الذي يسلخ جلده ويركب لنفسه جلدا أبيض ليصبح عالميا فتكون النتيجة أن يصبح مسلوخا مشوها. الأغنية الهندية لم تصبح عالمية لأنها ترجمت؛ ولكن لأنها ظلت عريقة في هنديتها، والعالم كله يحبها لأنها هندية، ولأنها مؤداة باللغة الأردية، بل الإعجاب يبلغ بها أحيانا حد أن يحفظ الناس كلماتها ويرددوها وهم لا يفهمون معناها.
إذا أردتم أن تصبحوا عالميين فتعلموا كيف تصبحون عربا، ازدادوا محلية وقومية تزدادوا عالمية، كفوا عن الجري وراء الشكل الأوروبي السطحي وغوصوا في أعماقنا نحن أكثر؛ لتعبروا عنا أكثر، لتغنوا آمالنا وأحزاننا وحبنا بعمق أكثر، وبأشكال من صميم كياننا. افعلوا هذا نتول نحن رفعكم أكثر وأكثر حتى يراكم العالم كله. (18) هل الفن حرفة الشواذ؟
بعض الناس يأخذون الفن بسهولة ويعتبرونه حرفة أخرى مثلا أو نوعا راقيا من التخريف والتهريج، كل ما في الأمر أننا نطلق عليه أسماء براقة مثل الخلق والإبداع، ونحيط الفنان بهالة تعطيه مظهر العلماء والمفكرين، وأنا نفسي يراودني هذا الاعتقاد أحيانا، ولكن بين كل حين وحين يصادفني حادث أو أقابل إنسانا، وإذا بي أرتد بسرعة وأدرك مذهولا أن الفنان حقيقة إنسان خارق للعادة، وأن الفن حقيقة إبداع عمالقة وخالقين.
من هذا النوع حادثان هامان وقعا لي وبالصدفة كان بطلهما شخصا واحدا، ولحسن الحظ أنه معروف مشهور، الحادث الأول وقع من ثلاث سنوات حين قررت فرقة المسرح القومي أن تمثل لي روايتي «ملك القطن وجمهورية فرحات»، وكان الأستاذ فتوح نشاطي المخرج قد أسند دور فرحات للممثل فاخر فاخر، وكانت أول تجربة لي في المسرح وكنت غير مهتم بها اهتماما جديا أول الأمر، ولكن بمضي الأيام والبروفات بدأت أحيا التجربة بكل كياني، وبدأت أعصابي تدق في انتظار الافتتاح، وتصوروا مبلغ الصدمة التي تصيبني حين أذهب إلى المسرح قبل عرض الرواية بيوم واحد فأعلم أن والد فاخر فاخر قد توفي، والد البطل الذي يحمل الرواية كلها فوق كتفيه، والدور كوميدي وحفظه واستيعابه مسألة لا يمكن أن تستغرق أقل من أسبوعين.
كانت معرفتي بفاخر لا تتعدى حدود علاقة مؤلف الرواية بممثلها، ولكني كنت قد فقدت أبي أنا الآخر من شهور قليلة ولا أزال أحيا بآلام فقده، ولم أبحث عنه لأعزيه، فقد كنت على يقين أنه سافر إلى البلدة ليحضر المأتم ويتلقى العزاء. كل ما فعلته أني ذهبت إلى الأستاذ أحمد حمروش مدير الفرقة وطلبت منه تأجيل عرض الرواية إلى أن تندمل جروح فاخر البطل، ولكني فوجئت به يؤكد لي أن فاخر لم يسافر، وأنه هو شخصيا وزملاءه ألحوا عليه أن يذهب، ولكنه رفض رفضا باتا وأصر على أن يبقى حتى يتم عرض الرواية في موعدها. ولم أصدق حتى وأنا أحادثه بالتليفون، وقلت له لعله لم يحزن لفقد أبيه مثل حزني لفقد أبي، ولكني وراء الكواليس ليلة الافتتاح قابلته، كان صوته مبحوحا وكانت عيناه محتقنتين والسواد يغمره، وعرفت أننا كلنا أمام فقد الآباء والأمهات سواء حتى لو بلغنا السبعين، نحن نحزن عليهم بأمر مما يحزن به الصغار.
وعصف بي الضيق لمحنة الرجل من ناحية، ولمحنتي الخاصة من ناحية أخرى، محنتي التي سأواجهها حالا حين يرتفع الستار الذي يفصلني عن جمهور مترقب متحفز؛ إذ كانت الليلة التي يدعى إليها النقاد. صحيح طالما قرأت في المجلات أن بعض ممثلينا اجتازوا محنا كهذه وهم على خشبة المسرح، وأضحك بعضهم الجمهور بينما كان يعاني من فقد ابن أو أب، لكني كنت أعتقد أن أشياء كهذه كلام مسل لا يصلح إلا للقراءة في المجلات، فدور فرحات دور صعب، والسيطرة عليه عمل شاق لا يمكن أن يقوم به الممثل إلا وهو بكامل قواه وموهبته ومزاجه.
المفاجأة
اعتقدت أن الرواية «طارت» تماما ولم أعد آبه لأي شيء، فقد فتح الستار وبدأ فاخر يتكلم، وخرج صوته ضعيفا مشحونا بالتأثر والألم، وانهرت على قطعة أكسسوار وأنا ألعن الليلة والمسرح والأنانية التي تدفعني لأن أطلب من إنسان فقد أباه بالأمس أن يضحك لي بروايتي جمهورا خالي الهم والبال، ولكني ما زلت للآن لا أعرف ما حدث بالضبط ولا كيف حدث، فلقد أفقت فوجدت المسرح يضج بالضحك، وما كاد هذا يحدث حتى وجدت فاخرا لم يعد فاخرا الذي كنت أعزيه من هنيهة، كان قد أصبح فاخرا آخر. فرحات الحقيقي كما تخيلته، بل شيئا أكبر من فرحات، في الواقع كان قد أصبح كل شيء في المسرح وفي الصالة ووراء الكواليس وحتى داخل نفسي، لو طاوعت انفعالي ساعتها لبكيت كالأطفال، ولكني تحاملت ومضيت أتفرج وقد نسيت الرواية والموقف، ولم يعد أمامي إلا هذه المعجزة التي حدثت وخلقت من الكائن الحزين هذا الفرحات الذي يعيشني ويبهرني.
أية قوة جبارة استطاع بها فاخر أن يتحول هذا التحول، وينتقل بها من إنسان لإنسان! تساؤل ظل أياما كثيرة يحيرني.
أخيرا قلت لنفسي: لماذا لا يكون السبب هو الفن؟ لماذا لا تكون المعجزة هي في قدرة الفنان الخارقة على الإخلاص لعمله؟ لماذا لا يكون «الفن» هو «قمة الإخلاص» لأي عمل، مهما كان نوع العمل؟
لا يصدقه العقل
والحادثة الثانية وقعت بالأمس، كلنا لا بد قد قرأ عن مرض فاخر الأخير وإرساله للعلاج في لندن على نفقة الدولة، أنا الآخر قرأت عن هذا ولكني بيني وبين نفسي لم أكن أعتقد أبدا، أن حالته تستدعي إرساله للندن للعلاج أو عمل عمليات جراحية، فالذبحة الصدرية معروفة، يمرض بها الآلاف في بلادنا، ويعالجهم أطباؤنا ببراعة لا تقل بأي حال عن براعة الأطباء في الخارج، والعلاج معروف حتى لغير الأطباء، بضعة أدوية توسع الشرايين والراحة التامة.
بنفس هذه الروح قابلت فاخرا بالأمس بعد عودته، وكان اللقاء حافلا خاصة حين طلبت منه أن يشرح لي بالدقة والتفصيل كل ما حدث من لحظة أن غادر أرض الوطن، وبطريقته الخاصة في الحديث مضى يذكر لي كل كبيرة وصغيرة، حتى مباني مستشفى «هامر سميث» وصفها، وجودوين عالم الأمراض الباطنية، وكليفلاند الجراح، وحتى التمرينات الرياضية التي أجريت له عقب العملية، لم يفته منها شيء، والحقيقة أن ما رواه لي أزعجني، وحين اطلعت على التقرير الطبي عن حالته انزعجت أكثر، فالعملية التي أجريت له «استئصال العصب السمبتاوي من الجهتين»، عملية خطيرة جدا، خاصة إذا استؤصل العصب من ناحيتي الصدر مرة واحدة بحيث لا ينجو منها إلا اثنان مثلا أو ثلاثة من خمسة، ولم يكن هذا بالضبط هو سبب انزعاجي، السبب أن التقرير ذكر أن العلاج بالأدوية والعقاقير كان يكفي وحده لشفاء المرض، ولكن العملية أجريت تحت إلحاح المريض وإصراره، وبعد أخذ إقرار عليه بأن المستشفى غير مسئولة عن النتيجة.
وقلت لفاخر منفعلا: لماذا لم تكتف بالأدوية والراحة، وعرضت نفسك لهذه العملية الوعرة؟
فقال: أمال أنا كنت مسافر ليه؟ ما هنا الدكاترة قالوا لازم أستريح، وما قدرتش.
كنت أرقد أسبوع ولا أسبوعين وبعدين أرجع أمثل تاني فأصاب بنكسة. أنا كنت عايز علاج باتر بحيث يشيل حكاية الراحة دي، ويسمح لي بالتمثيل على المسرح.
قلت مذهولا: يعني أصريت على إجراء العملية الخطيرة دي بس علشان يسمح لك بعدها إنك تمثل؟
قال ببساطة، وكأنه لا يدرك خطورة ما يقول: أيوة!
قلت باستنكار: اسمح لي ده جنون، كان ممكن تموت ببساطة. - اسمع، الأعمار بيد الله. وتفتكر إيه فايدة إني أعيش من غير ما أقدر أقف على خشبة المسرح؟ دانا حتى جيت بسرعة علشان أدخل المسابقة.
ألم أقل لكم إن الفن هو قمة الإخلاص؟ أتعرفون قمة أخرى للإخلاص لأي عمل، قمة أخرى غير تعريض النفس للموت المعقم. الموت الذي لا يزال هناك جرحان طويلان رهيبان يمتدان بطول ظهره وكأنهما آثار أظافره البشعة، تعرض لهما فقط لكي يصبح باستطاعته أن يمثل؟ أهناك قمة أخرى؟! (19) «الراهب» والمسيح المصري
والأجراس لا تزال تدق احتفالا بأعياد الميلاد، والأماني تداعب الصدور ونحن على أبواب عام جديد، يخرج علينا الدكتور لويس عوض بمسرحيته الأولى «الراهب» فينقلنا بأستاذيته وبراعته إلى عالم غريب جديد تماما؛ لأنه قديم تماما قدما كاملا من اللحظات الأولى التي بدأت أقرأ فيها المسرحية وجدت شعورا فياضا يجتاحني، نفس الشعور الذي راودني حين زرت مقابر الفراعنة في الضفة الغربية للأقصر، ووجدتني بعد بضعة أمتار قطعتها في الدهاليز الرهيبة التي نحتها أجدادنا بعناد وإصرار منقطعي النظير في باطن الجبل وقلب الصخر، وأقاموا داخلها عالما كاملا على أمل أن يصحو الميت ليحيا فيه، بنفس الرهبة والاندهاش والتوجس مضيت أقرأ مسرحية أستاذنا الدكتور لويس، وشيئا فشيئا أحس أني أغوص في بطن التاريخ وأمتزج امتزاجا وجدانيا كاملا مع مصر القديمة التي تحاول أن تجد ذاتها بين مصر الرومانية ومصر المسيحية ومصر الوثنية، تحاول أن تجد مصر المصرية، ست ساعات قضيتها أقرأ مأخوذا «بالجو» أكاد لا أرى من خلاله شيئا، ثم بعد أن بدأت أتبين وأخرج من دوامة الغرق في عشرات الأسماء والمواقع والمواقف والتفصيلات، إلى الدرجة التي لا أستطيع فيها التمييز بين أبو نوفر الراهب البطل ولوشيوس دوميتيوس دوماتيانوس الشهير بآخيل، وروستيكان وأفريكان وديوجين، إلى أن انتهيت وأسدلت آخر ستار، وبعدها وقعت في الحيرة العظمى.
فالراهب عمل مسرحي عملاق ومن صنع أستاذ! بحر متلاطم الأمواج بالأحداث والمواقف والأقوال يرتفع أحيانا إلى ذروات شكسبيرية ويغوص في أحيان إلى رمزيات برخت، في أحيان إبسني عقلاني محض، وفي أحيان وجداني بدني تنيسي، ولكن المشكلة ليست في هذا، المشكلة الحقيقية هي فيما يهدف إليه لويس عوض بهذه الارتدادة الفنية العملاقة، لقد عودنا كتاب المسرح الكبار حين يرتدون إلى التاريخ أن يفعلوا هذا لكي يناقشوا مثلا مشكلة معاصرة في ثوب تاريخي، أو لكي يفسروا واقعة تاريخية على ضوء جديد، أو لكي يمجدوا بطولة نسيها التاريخ وداستها عجلاته في المسرحيات، وأشهد أني حاولت بكل جهدي أن أعثر في قراءاتي الثانية للمسرحية على رمز كامل محدد فلم أوفق. كلما أمسكت بخيط وقلت إن المؤلف لا بد يقصده تولى المؤلف نفسه إفلات الخيط من يدي وناولني خيطا آخر لا يلبث أن يضيع، وأشهد أنه كان يقدم لي خيوطا كنت أحيانا أرفضها وأرفض تصديقها وأرفض أن تكون وجهة النظر الضيقة تلك صادرة عن أستاذ أومن أن صدره يسعنا جميعا وخلق من أجلنا جميعا، فالكاتب حين يكتب يصبح أكثر إنسانية ورحابة من الكائن الإنساني العادي الذي يحيا بيننا، ولويس عوض في حياته العادية إنسان رحب مثقف مستنير، بل يكاد يكون قديسا. وبعض الخيوط التي رفضتها لا يمكن أن تكون أبدا من صنع قديسين.
وشيء آخر أحب أن أضيفه، ثمة وجهة نظر تبدو في مؤخرة الصورة الشاملة الكاملة لمصر تحت الحكم الروماني، ثمة محاولات تدل على طموح مصر والمصريين إلى السيطرة على الدولة الرومانية كلها، ومن ثم حكم العالم، ثمة محاولات تكاد تشير إلى أن من مصر نبعت المسيحية وسقط شهداؤها، بل يكاد الدكتور لويس عوض يقولها صراحة على لسان «أبا نوفر» الراهب في هذيانه: يا إلهي، لماذا نزلت في بني إسرائيل ولم تنزل في هذا الوادي المقدس؟ محال أن يكون المسيح يهوديا. الله نزل في مصر ... الله نزل في مصر.
وكأن الدكتور «لويس عوض» قد عز عليه هذا، فآثر بعد عشرين قرنا من ميلاد المسيح أن يعيد صياغة التاريخ، ويقدم لنا مسيحا آخر في شخص الراهب «أبا نوفر»، مسيحا مصريا يبشر بالعدل فوق الرحمة، مسيحا يحكم ويسوس، ثم في النهاية يصلب نفسه بالسم؛ لأنه - كالبشر - أخطأ، وكالبطل الدرامي يحب أن يكفر عن خطيئته بالموت؟!
أم أراد أستاذنا الدكتور أن يولي وجهه هذه المرة عبر البحر الأبيض، ويقضي على خرافة الشرق، ويثبت أننا عمود من أعمدة الحضارة المسيحية الأوربية، بل نحن أصل هذه الحضارة. أو كما يقول الإمبراطور قسطنطين الروماني في المسرحية : لن أعود إليكم حتى أجلس على عرش أبي كونستانس النبيل وأحكم بالحق والعدل من بريطانيا إلى إسبانيا، وأسترد عرش روما الذي اغتصبه السفاح مكسيميان، ثم أطرد العبد دفكانوس من بيزنطة المجيدة عرش أمي القديسة هيلانة المصرية، وبعد أن أوحد العالم تحت صولجان واحد أنقل عاصمة ملكي إلى الإسكندرية وألبس تاج أجدادي الفراعنة.
حيرة شديدة توقعك فيها هذه المسرحية الخطيرة، قد تقبل رموزها وقد ترفضها، ولكنك أبدا تحترم كاتبها وتغتفر له هذه المؤخرة التاريخية الأكاديمية التي لم أجد لها داعيا على الإطلاق، تحترم كاتبها وتحس أن دافعه لكتابة ما كتب مثل رائع، بطله الراهب الذي أخذ مصر عقيدة وإيمانا وجعل من نفسه مسيحها الأحق، دافعه هو حبه الشديد لمصر، حب أقوى من الموت وأقوى من الحياة وأقوى من الفن والفكر. إذ هو حب يدفع الدكتور لويس ويدفعنا لأن تصبح هذه الغايات كلها وسائل لتجسيد ذلك الحب وفرضه والتبشير به. (20) الرجل والمثل
لا شك أن الأدب العربي خسر في العقاد كاتبا عملاقا ساهم في نقل العقلية الأدبية العربية من عصورها المظلمة الوسطى إلى العصر الحديث بعلمه ونوره وإدراكه، كان الأدب العربي قبل العقاد وعميد الأدب العربي الحديث طه حسين يعتمد على اللفظ فأصبح له معنى، وكانت قدرة الكاتب تقاس بمقدار ما حفظه ويستطيع تطبيقه من ألفية ابن مالك، فأصبحت قدرة الكاتب تقاس بما يستطيع العقاد أن يهدم شوقي، ولكنه استطاع أن يهدم الأسس التي تمثل نفس الدور في الشعر فارتطم بشوقي، بآخر أجيال المدرسة الشعرية القديمة، كما ترتطم مدارس الغناء الآن بأم كلثوم، ولم يستطع العقاد أن يهدم شوقي ولكنه استطاع أن يهدم الأسس التي قام عليها شعر شوقي، وهكذا انتقل شعرنا من الكلاسيكية إلى الرومانسية.
وكان العقاد أول كاتب عربي يدرك أن الأدب ليس حرفة، وأن الأديب ليس عمله أن يقرأ كتب الأدب واللغة فقط، إنما الأديب موسوعة علمية أدبية إنسانية متحركة، وهكذا ثقف العقاد نفسه، بل بالغ في هذا حتى احترف القراءة احترافا، وبذلك ضرب للجيل الذي تلاه مثلا، وأصبحت «الثقافة العامة» هدفا في حد ذاته من أهداف الكتابة والكتاب، وأعترف أني لم أقرأ كل ما كتبه العقاد، ولكن الكتب التي قرأتها أثبتت لي أن العقاد المؤلف كان مشغولا طول الوقت بمحاولة إثبات وجوده في بيئة أدبية لم تكن تعترف له بحق الوجود، كان مشغولا بأن يتفوق على مدعي التفوق، وفي صميم تخصصهم مشغولية منعته أن يبلور عمله واطلاعه وتجاربه في نظرية كاملة متكاملة، أو في رأي يتبناه ويضيف به جديدا ويبشر به.
لقد فجعت بوفاة العقاد مرتين؛ مرة لأنه مات وتهاوت بموته قمة من قممنا الأدبية القليلة، ومرة ثانية لأنه مات دون أن أراه أو ألقاه، ودون أن أعرف العقاد الإنسان بعد أن عرفت العقاد الكاتب، بل ربما هذه المعرفة الأخيرة نفسها هي التي حدت بي إلى تجنب لقائه؛ فقد كان رحمه الله يحمل للجيل الجديد عصا غليظة طالما لوح بها في وجههم. وخطئي الذي لم أدركه سوى الآن أنني كنت مثل غيري أعتقد أنها عصا من سنط وشوك وحديد، في حين أنها لم تكن إلا عصا الجد أو الأب المشفق دائما، الخائف أبدا أن يعهد بتركته إلى أجيال مهما بلغ علمها فهي في نظره جاهلة، ومهما بلغ عمرها فهي في نظره غير مسئولة، ومهما بلغت قدرتها فهي في نظره أقل مما يجب وأضحل مما يجب.
ولقد مات العقاد الرجل، ولكن العقاد المثل لن يموت، سيظل إلى الأبد حيا في الأذهان. العقاد الجريء المؤمن بقلمه وبرأيه، العنيد في الحق، الواثق تماما من دوره وقدرته، سيظل حيا حتى بعصا الأب يلوح بها في الوجوه ويحنق ولا يعترف، حيا يدفع الأجيال المتتالية الجديدة لا أن تحتذي حذوه وتصبح النسخ المكررة منه، وإنما لكي تصبح نفسها، لكي يصبح كل كاتب عقاد نفسه، لكي يبلغ ما بلغ ويعرف ما عرف ويدرس ما درس ويحقق بوجوده ما حقق. (21) الكاتبة البرجوازية التي لا تؤمن بالتعايش السلمي - أجل يا زميلي العزيز أنا سن هوين، أو الدكتورة إليزابث كورانجا كومير إن شئت الدقة، التي اشتهرت عندكم بمؤلفة قصة «روعة الحب» التي لا أعتبرها أحسن ما كتبت، فليس أشهر ما تكتبه هو دائما أحسن ما تكتبه. وأنا ممن يدعونهم «اليورجينز»
Eurasians
باعتباري مولدة نصفي أوروبي ونصفي صيني، وأنا في الحقيقة لا أعتبر نفسي كاتبة، أنا طبيبة أطفال، أقيم الآن في اتحاد الملايو، وأعتبر هناك واحدة من الجالية الصينية الغنية.
خذ كلامي إذن على اعتبار أني «برجوازية» صينية وكاتبة رومانسية، كما قال عني وفد الصين الشعبية في مؤتمر الكتاب الأفريقي الآسيوي، الذي لم يسمح لي بحضوره إلا بصفة مراقبة، وزيادة في الاحتياط اعتبرت نفسي ولا أزال أعتبرها مجرد سائحة. واسمح لي أن أحتج على الأسئلة التي دأب شبانكم الصحفيون على توجيهها إلي، ما رأيك في سارتر وساجان ومورافيا؟ فلقد دأبت على إجابتهم أني لم أقرأ لهؤلاء ولن أقرأ لهم، فأنتم هنا تهتمون بأوروبا أكثر من اللازم، وتتابعون أخبارها وكأنكم جزء منها. أتعرف ماذا صدمني في القاهرة؟ أوروبيتها الزائدة عن الحد، لم أكن أتوقع هذا أبدا! إنك من القاهرة لا تحس بأفريقيا أو بآسيا، البيوت والأثاث والمأكل والملابس وطريقة الحديث كلها أوروبية. فقط بعد تأمل دام بضعة أيام اكتشفت أنكم من الداخل مختلفون، لا تزال أعماقكم سليمة، وحينئذ عرفت أن الاتجاه إلى أوروبا اتجاه من السطح ليس إلا. إن الحضارة الأوروبية ليست سوى أسلوب واحد من أساليب كثيرة للتحضر والحياة، وأن نترك أسلوبنا الأصيل ونتبنى أساليب الغير تبنيا أعمى شيء يضرنا ويمسخنا. لن نكون أنفسنا إلا إذا حاولنا بجهد ومشقة أن نكون أنفسنا. أنا لم أقرأ لسارتر وساجان ومورافيا، وليس مهما أبدا أن أقرأ لهم. أكثر أهمية أن أقرأ لكتاب من كوريا والجزائر ومصر. ولست أقرأ لهؤلاء فقط كنوع من التحيز الآسيوي الأفريقي، ولكن أيضا لأتعلم أساليب جديدة رائعة أصيلة في التعبير الفني، فمشكلتنا الكبرى أننا غير واثقين بأنفسنا، لا نجد العظمة إلا في كل ما هو أوروبي، وإذا نظرنا إلى أنفسنا لم ننظر بأعيننا نحن، وإنما استعرنا مناظير أوروبية نرى بها بعضنا البعض. إن حضارتنا عريقة جديدة تضرب بجذورها في بطون التاريخ، ومن واجبنا أن نؤمن أن حاضرنا لا يقل عراقة عن ماضينا، وأن تخلفنا في التكنيك وفقرنا لا يعني أن أرواحنا هي الأخرى وأحاسيسنا وطرقنا في التعبير متخلفة، بعضنا يعتقد أن «العالمية» لا يمكن الوصول إليها إلا بالتتلمذ على حضارة أوروبا واستيعابها جيدا ثم سبقها بعد هذا، وفي رأيي أننا نفعل خيرا من هذا لو كففنا عن دراسة أوروبا والتفتنا إلى أنفسنا نحن، إلى مشاكلنا نحن وقضايانا. وأرجوك ألا تحدثني وكأني مواطنة عالمية، حدثني باعتباري مواطنة في اتحاد الملايو الواقع في جنوب شرقي آسيا، والذي يعاني من مشاكل وقضايا سببها وراعيها الاستعمار الأوروبي. إن مشكلتنا الرئيسية نحن المثقفين في آسيا وأفريقيا أن معظم عقولنا ليست سوى نسخ بالكربون لعدة كتب أوروبية إلى درجة أن بعضهم يعتبر الجهل بالثقافة الأوروبية جريمة كبرى، في حين أن الجريمة الأكبر أن نكون جاهلين بثقافتنا نحن وأنفسنا، لندع أوروبا ومشاكلها تنتظر قليلا، ونشغل أنفسنا بأمورنا ومشاكلنا، الجريمة الكبرى أن يكون المواطنون في آسيا وأفريقيا يعرفون أدق وأحدث أخبار مارلين مونرو، وتفصيل ما حدث في افتتاح مسرحية ساجان الأخيرة، بينما هم لا يعرفون شيئا عن الدكتور أجوستيفو نيتو. أتعرف من هو نيتو هذا؟ إنه قائد الجبهة الوطنية التي تحارب الاستعمار البرتغالي في معركة أنجولا التي لا نسمع عنها سوى أقل القليل، هذه هي مأساتنا. وخذني مثلا، لقد جئت إلى القاهرة أحمل معي مشكلة حادة ملتهبة هي مشكلة الساعة في آسيا بجنوبها وغربها وشمالها وشرقها، مشكلة التعايش السلمي الذي ينادي به الاتحاد السوفييتي. أتوافق عليه؟ أترى أنه من الممكن أن تتعايش دولة عمال وفلاحين مع دولة تعادي العمال والفلاحين؟ هل بالإمكان أن يتعايش الاستغلال مع الاشتراكية، أم لا بد أن يستمر الكفاح ولا يهمنا شيء حتى تتحرر كل المستعمرات وحتى تتحقق الاشتراكية؟
أرجوك، هذا مجرد رأيي الخاص باعتباري «برجوازية» و«سائحة» وليس لي أي اعتبار آخر، هكذا قرر مؤتمركم. هذا رأي الصين الشعبية أيضا. هذا صحيح، وأنا لا أخفي تعلقي بالصين الشعبية وبسياستها رغم كل شيء ، رغم كل ما تقوله أنت من أن الوفد الصيني أصر على عدم الاعتراف بي كعضوة في المؤتمر باعتباري برجوازية رومانسية. أنا برجوازية رومانسية ولكني لا أومن بنداء التعايش السلمي بين الظلمة والظالمين، بين إيريان والاستعمار الهولندي وأنجولا والاستعمار البرتغالي والصين الشعبية وشيانج كاي شيك. اشرب قهوتك قبل أن تبرد وقل لي رأيك، أريد أن أعرف رأيك فقد جئت هنا لأعرف آراءكم وأفهمها وأتعلم منكم. اليوم بالذات ذهبت لمقابلة شيخ الأزهر لأني أريد أن أدرس الدين الإسلامي العظيم وأعرف جوهره ومبادئه، فهم عندنا في جنوب شرقي آسيا يستعملونه كسلاح ضد الوطنية والاشتراكية، مع أن دراستي العامة له أقنعتني أن مبادئه تبشر بالعكس وتقف تماما مع حرية الشعوب وحقها في الحياة الكريمة، ولم أعجب حين عرفت أن الرجعية العربية المتعاونة مع الاستعمار في بلادكم تستعمل دينكم العظيم بنفس الطريقة وكأنها خطة استعمارية واحدة، ألم أقل لك إن الاستعمار يرانا كوحدة، ككل، ويستعمل لمحاربتنا نفس الأسلحة، ونحن نترك قضايانا الأساسية ونتعبد في أوروبا ونتنسم أخبارها ونحلم؟ (22) قصة بطلها توفيق الحكيم
أمس كنت أقلب في كتبي، إذا بي أعثر على كتاب «مسرح المجتمع» لتوفيق الحكيم. والكتاب ضخم ومجلد بغلاف فاخر وكان ثمنه أكثر من جنيه، ومع هذا فقد تلقيته كهدية من الأستاذ توفيق الحكيم. فتحت الصفحة التي كتب فيها الإهداء وقرأت كلماته وكدت أضحك.
فالأستاذ «توفيق الحكيم» ليس حريصا فقط على نقوده وكتبه، ولكنه حريص أيضا على كلماته، فهو يهدي كتبه إلى قلة قليلة جدا، وينتقي كلمات الإهداء بعناية شديدة وكأن أحدا سيحاسبه عليها. وهذا الحرص في رأيي أحد خصائص توفيق الحكيم التي لا أملك ولا يملك أحد إلا أن يحبها. وأنا أحب توفيق الحكيم، أحبه كإنسان وكفنان، وأحب ما يكتبه، حتى هذا الذي لا يعجبني أحبه وأحس أنه شيء لا بد منه، أحس أنه الظلال الغامقة التي لا بد منها لكي تتكامل لوحة توفيق الحكيم الرائعة.
بل حدث مرة أني من كثرة حبي له وإعجابي به فكرت أن أؤلف عنه قصة. ليست قصة تصور مكانته الأدبية، أو تجسده حيا كامل القسمات، ولكنها قصة حب. قصة من القصص التي يحلو لنا أن نؤلفها عن الناس كتعبير غير مباشر عن حبنا لهم.
وحدث فعلا أني كتبت القصة، كتبتها لنفسي بلا أية نية لنشرها أو حتى قراءتها لأحد. ولكني ذات يوم وأنا جالس مع الأستاذ توفيق في ركن هادئ من أركان المجلس الأعلى لرعاية الفنون حكيتها له، وضحك لها كثيرا، وقال: يعني بقى ما لقيتش إلا أنا تعملني البطل.
قال هذا وسكت، ثم ضحك وأردف: إنما تعرف بيني وبينك ما حدش ينفع لها إلا أنا. الناس متصوراني كده وأنا كده فعلا.
وقلت له: أعتقد أنها لا تصلح للنشر.
فقال: أبدا ... ولازمته إيه؟ إنما يعني برضه ... يعني وماله؟ ما تنشرها. اكمن بطلها أنا؟ هو لازم البطل يعني يكون عويس ولا محروس. ما احنا برضه ننفع أبطال، مش كده ولا إيه؟! لا ... إذا كنت عايز انشرها.
كان هذا من شهور مضت، وكل شيء بأوان كما يقولون. وها هي القصة. (23) الكابوس
تصورت أن الأستاذ توفيق الحكيم صحا من نومه في الأسبوع الماضي، وهو يكاد يختنق من كابوس مخيف. كان جالسا كعادته على قهوته المفضلة في الإسكندرية لا به ولا عليه، والدنيا صيف وعصرية، والجو جميل يغري بالسرحان أو على الأقل بتأمل الحسان، وإذا بأحد معارفه يطب عليه فجأة. سلام عليكم. سلام ورحمة الله ... اتفضل. قعد الرجل ودون انتظار لصفقة توفيق الحكيم صفق هو وجاء الجرسون. هات شيشة ... جاب شيشة. فرد القادم «اللي» وبالكاد حذف أنفاسها وأشعلها، وإذا بصديق آخر يطب. سلام عليكم. سلام ورحمة الله، وقعد وجاء الجرسون. تشرب إيه؟ قهوة. يدوبك شفط شفطتين وإذا بقادم آخر جاء وسلم وصفق وطلب، ورابع وخامس وسادس وعاشر، والقعدة تكبر وتكبر والأستاذ توفيق يشرق ويغرب ويتحدث بحماسه المعهود عن الأدب والفن ووكلاء النيابة والمجتمع اللغوي وأزمة النقد والنقاد، ورغم حماسه الشديد فأهم ما كان يشغله في ذلك الوقت هو الكوب الزجاجي الفارغ الذي يضع فيه الجرسون ورق الحساب؛ إذ كان قريبا جدا منه، وكلما تضخم عدد القادمين كان ورق الحساب يتضخم هو الآخر. ودقات قلب توفيق الحكيم تزداد، فهو متأكد طبعا أنه لن يدفع كل الحساب، ولكن وجود هذه الكومة الضخمة من أوراق الحساب قريبة جدا منه خطر على أية حال، أو هو على الأقل وضع غير مريح بالمرة. وعلى هذا فطوال حديثه عن الأدب والفن كان الأستاذ توفيق الحكيم مشغولا بزحزحة الكوب بدفعات خفيفة غير ملحوظة أحيانا، وبنظراته وبعينيه أحيانا أخرى حتى تصبح المسافة بينه وبين الكوب مأمونة. مأمونة بالقدر الذي لا يسمح لأبرد جرسون أن يأتي ويقف على رأسه ساعة الحساب.
ولكن ساعة الحساب جاءت، وجاء الجرسون الخواجة بسمنته، وسترته البيضاء المتسخة، وهليهليته الإجريجية المعهودة، وتناول الأوراق وظل يحسب: كمسة وكمسة أشرة ... ستين ونس ... تسعين ... مية وكمسة.
وطبعا كان الأستاذ توفيق لا يلقي للرجل ولا لحسابه بالا كثيرا، فهو كان قد أخذ واحد قهوة بشلن. فقط كان ينتظر أن يحاول أحد الجالسين دفع الحساب كله فيحتج ويصر على أن يدفع حسابه على الطريقة الإنجليزية.
ولكن أغرب ما في الأمر أن الجرسون انتهى من حساب فاتورته ووقف ينتظر الدفع، دون أن يتحرك واحد من العشرة الجالسين أو يبدو عليه أنه يهم بدفع الحساب.
قال الأستاذ توفيق لنفسه لا بد أنهم متشاغلون، فلأتشاغل أنا الآخر. وفعلا سرح وسهم، وانتابه ذهول فني حاد، وراح يلعب عصاه ذات اليمين وذات اليسار، أن أحدا من حضرات الجالسين يتحرك من رابع المستحيل. بل حدث ما هو أكثر. الجرسون اللعين اختاره دونا عن بقية الجالسين وتسمر أمامه، وأبى أن يتلحلح ومضى يدعي مسح الترابيزة، ويوجه لتوفيق الحكيم نظراته الجرسونية المعروفة التي لا تعني سوى شيء واحد: إيدك بقى ع الحساب.
وأحس الأستاذ «توفيق الحكيم» أنه أمام مؤامرة خبيثة واسعة النطاق، يشترك فيها هؤلاء العشرة الجالسون والجرسون والقدر، وتريد دفعه إلى أن يتحمل هذا الحساب وحده، سواء أراد أم لم يرد.
وانتاب توفيق الحكيم غيظ شديد. لقد كان مستعدا أن يتحامل على نفسه ويدفع ثمن مشروب آخر، أما أن يتحمل حساب عشرة أناس لا يعرفهم طبوا عليه هكذا فجأة وطلبوا عشرة طلبات، ثمن الواحد منها لا يقل بالبقشيش عن عشرة القروش برزالة ودون أن يعزم هو أن يطلب، وتأتي ساعة الحساب فيبلمون هكذا ويجلسون كالجثث المحنطة، فأمر يفجر الدم من الشرايين.
اغتاظ الأستاذ توفيق جدا، وأحس بالضيق يكتم أنفاسه حتى كاد يبكي كالأطفال، ويقول: والله مانا دافع.
والمصيبة أن المشهد طال وزاد عن حده. الجرسون واقف يتململ ويتمحك ولا يحول أنظاره عنه، والجالسون متشاغلون وكأنهم ليسوا هنا، وهو محرج حرجا شديدا لإحساسه بأنه مطالب وحده بالدفع، ويقينه من أن شيئا كهذا لا يمكن أن يحدث حتى ولو شنقوه، والوضع لا حل له ومع هذا فهو مستمر، وكأن ثمة قوى كونية غامضة قد أوقفت الزمن عند تلك اللحظة الحرجة وأبت عليه أن يتحرك.
وبدأ الأستاذ توفيق يختنق. الغيظ بدأ يضع أيادي حقيقية تلتف حول عنقه وتمضي تضغط وتضغط حتى لقد بدأ جسده يتفصد عرقا، وبدأ يتأزم وينتفض ويحس أنه حالا سيموت، وأخيرا جدا، وبصعوبة شديدة، بدأ يحس وكأن الروح تعود، ووجد نفسه يرى، وكان كل ما رآه ظلاما، وحين أوقد النور وجد نفسه في حجرة نومه حيث لا قعدة ولا جرسون ولا حساب. ولم يصدق أن ما حدث لم يكن إلا حلما مزعجا إلا بعد أن قام وتحرك وأشعل النور وأطفأه مرات ليتأكد. وتأكد حينئذ أن ما حدث كان مجرد كابوس كاد يقضي عليه، وعلى الفور أحس براحة حقيقية تتصاعد من صدره، وانتابه فرح غامر وكأنه أخذ البراءة أو نجا من موت محقق.
وحينئذ فقط استعاذ بالله من الشيطان الرجيم حتى لا يتكرر الكابوس، وقرأ آية الكرسي زيادة في الاحتياط، وغير الجنب الذي كان ينام عليه وأراح رأسه من جديد على المخدة، ثم ابتسم ابتسامة كلها سعادة ونشوة.
وفي براءة الأطفال نام. (24) قابلت سارتر في «الكافتيريا»
2
قاعة «الكونزرت هاوس» في فيينا. مؤتمر وناس قادمون من جميع أنحاء العالم ولجان تجتمع وتتخاصم، وحركة دائبة في القاعة الكبيرة والمسارح الصغرى الملحقة بها. مدخل القاعة مزين بأعلام جميع الدول والشعارات الزرقاء وملابس الرجال والنساء كأنها كرنفال، والوجوه والملامح متحف حي متحرك يعرض صورا للإنسان في كل مكان من قشرة الأرض.
قرأت اسم سارتر ضمن المشتركين في المؤتمر، دخلت أتفرج. طلبت على سبيل المزاح من سكرتيرية المؤتمر أن أقابله وأعطيت اسمي باعتباري كاتبا من مصر. محاولة لم أكن جادا أبدا فيها، ولم أعتقد أنها ستنجح. تركتها وظللت أدور في المدخل والقاعة وأتفرج على الوجوه والأجناس واللغات، وأسمع بشغف صوت المذيعة في إذاعة المؤتمر الداخلية وهو تقول كلما بدأت الكلام: «آختونج. آختونج»، ومعناه «انتباه. انتباه». صوتها قوي وعميق ويحبب الأذن في الألمانية. استغرقني التفرج ومحاولة معرفة ما يدور في المؤتمر حتى نسيت كل شيء عن سارتر والمقابلة، ولكنني فوجئت بصوت المذيعة الألمانية الحلو ينطق مرة اسما خيل إلي أنه اسمي، بل تأكدت. المذيعة الإنجليزية ما لبثت أن قالت: يوسف إدريس يقابل ج. ب. سارتر في الكافيتريا.
شملني اضطراب عظيم وخفت. كنت في السادسة والعشرين، بالكاد نشرت قصة أو قصتين، ما لي أنا ولسارتر العملاق؟ فكرت في التراجع ولكني وجدت نفسي أبحث عن الكافيتريا. وطال بحثي ولم أتصور أبدا أن يكون مكانها تحت خشبة المسرح مباشرة. سألت الجرسون عن «سارتر»، أشار إلى منضدة يحتلها رجلان أحدهما ضخم أحمر الوجه فاخر الثياب جميل التقاطيع، والثاني قصير ربع أحول منظاره من نوع عتيق رخيص. تقدمت من المنضدة وقلبي يدق، خفضت رأسي ومددت يدي بعصبية للرجل المهيب، وقلت: مسييه سارتر؟ حملق في الرجل بهدوء ثم أشار بابتسامة إلى الرجل القصير الجالس بجانبه، وقال بالفرنسية: هذا هو. الواقع بهت وخاب أملي، ولم أعتقد أبدا أن رجلا هذا شأنه لو رأيته في أي مكان آخر لخيل إلي أنه مدرس أحياء في مدرسة أهلية مصرية، هو العظيم سارتر، ولكني سلمت وقدمت نفسي. وقال الرجل كلاما فرنسيا كثيرا لم أفهم منه إلا أنه يقول إنه سارتر، أما الرجل الجالس معه فهو الكاتب الروسي الكبير إليا آهرنبورج. انقلب اضطرابي إلى فزع، يا لي من أحمق! أطلب مقابلة على سبيل العبث وإذا بي مرة واحدة في حضرة اثنين من عمالقة الفكر العالمي، وأجلس معهما، وألمس أيديهما وأكلمهما، ويعاملانني كزميل لا يفرقه عنهما إلا فارق السن!
وربما الفزع هو الذي دفعني للاستهتار بالموقف كله، ودفعني لخوض مناقشات لا قبل لي بها. كنت أطمن نفسي وأقول: فليكونا عمالقة في كل شيء ولكنك أنت الآخر يا ولد تعرف أشياء لا يعرفانها، على الأقل تعرف الإنجليزية التي لا يعرفها سارتر نفسه، وتعرف العربية التي لا يعرفها آهرنبورج.
أنا مضطر أن أتخطى أشياء كثيرة جدا دارت، وكانت جديرة بالذكر لأصل إلى المناقشة. ويا لها من مناقشة يحسدني عليها أنيس منصور! أنا أناقش سارتر في الوجودية، بينما يقوم إيليا آهرنبورج بدور المترجم!
قلت: أنا للأسف لم أقرأ من أعمالك إلا مسرحيات الحائط: ولا مفر، والأيدي القذرة، ومجموعة قصص قصيرة.
قال بدهشة ونوع من الفرحة: قرأتها؟ قرأتها حقيقة؟ في القاهرة! بأية لغة؟
قلت: بالعربية والإنجليزية.
قال: جميل جدا، هل تهتمون بها لديكم؟ ... ماذا يقولون عنها؟ ... وما رأيك أنت فيها؟
قلت لنفسي: حتى سارتر هو الآخر يصنع مثلنا وينتظر بشغف آراء الآخرين في أعماله.
وقلت له: أعمال رائعة كلها، أذهلتني.
قال: وماذا أعجبك فيها؟
قلت: هل تريد الحقيقة؟ أعجبتني لما فيها من فن وليس لما فيها من رأي. إن فيها فنا مذهلا رائعا هو البطل المجهول المتواضع، الذي يختفي وراء الكواليس ليترك الفلسفة والآراء تقف وحدها أمام المتفرجين وتحظى بالمجد والتصفيق.
إني لأتساءل: ماذا يسعد رجلا عظيما مثلك؟ أن يقرأك الناس ككاتب أم كفيلسوف؟
ضحك وقال: أعتقد أن الإنسان يسعد لمجرد أن يقرأ الناس إنتاجه سواء أكان فنا أم فلسفة.
قلت: إذن أحيانا يكون النعيم هو رأي الآخرين.
وضحك آهرنبورج أولا، وحين ترجمها أغرق سارتر في الضحك، إذ إن له رأيا وجوديا مشهورا يقول: إن الجحيم هو الآخرون.
وجرأني الضحك، فقلت: الواقع لو كان وجود الآخرين يخلف التعاسة التي صورتها لقتلنا بعضنا بعضا من زمن بعيد، لا بد هناك أشياء أخرى لم نذكرها هي التي أبقتنا أحياء في مجتمع واحد.
قال: يعجبني أن شابا غريبا مثلك يناقشني بلا حذر أو اصطلاحات فلسفية، بالتأكيد هناك أشياء لم تعرف بعد.
قلت: وقد تغير رأيك إذا عرفت نظرتنا إلى الوجود والإرادة المستقلة.
قال: وقد تغير. ممكن. ممكن جدا.
قلت: لماذا لا نعتبر أي فلسفة إذن مجرد نظرية نتركها تتصارع مع غيرها من النظريات والاكتشافات، بلا تعصب، ودون أن نحاول أن نقيم من أنفسنا محامين لهذه النظرية ومدافعين عنها. فالتعصب لهذه الفلسفة أو تلك ممكن أن يعوق وصولنا إلى الحقيقة.
قال: ولكن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بصراع، والصراع لا يمكن أن يتم إلا بين متعصبين، فاعتناق النظريات والدفاع عنها يقربنا من الحقيقة ولا يبعدنا عنها.
قلت: الصراع بين الوجودية والاشتراكية مثلا، أيقربنا من الحقيقة؟
قال: طبعا، على شرط ألا يتم الصراع في قلب الشارع. أقصد الصراع بين المفكرين الواسعي الأفق.
قلت: مجرد تساؤل قد يكون سخيفا، ولكني أرجو أن يسمح لي به أعظم كاتب اشتراكي وأعظم كاتب وجودي. الوجودية تعتبر الفرد مسئولا عن اختياره وتصرفاته ومصيره، والاشتراكية تعتبر المجتمع هو المسئول. أليس من المحتمل إذن أن تنشأ في القريب نظرية ثالثة تجمع الوجودية والاشتراكية وتملأ الفجوات وتفسر بدرجة أوضح وتحدد بدرجة أدق حركة الفرد بالنسبة لحركة المجتمع، والعلاقة بين الوجود الفردي والوجود الجماعي؟
تولى آهرنبروج الترجمة على دفعات كان يعقبها بابتسامات تخيلت أنها ابتسامات استخفاف، ودار بينهما نقاش بالفرنسية، خفيف ضاحك أول الأمر، ثم شابه بعض الجد والتأمل في النهاية. وأخيرا قال آهرنبروج: صديقي سارتر وأنا مبتهجان لرأيك، ولكن لا تنتظر منا أن نفكر فيه جديا. فإلغاء الوجودية إلغاء لسارتر، وإلغاء الاشتراكية إلغاء لي، فهل أنت قادم من القاهرة لتلغي المعارك الطويلة التي خضناها، وتلغي وجودنا كله بجرة قلم؟
الحديث دار في أحد أيام يناير من سنين، ما زلت أذكره، وما زلت كلما أحسست ببرد يناير تذكرت فيينا وأدق تفاصيل ذلك اللقاء. (25) كامل الشناوي
3
خطر لي خاطر عجيب وأنا جالس تضمني تلك السهرة الجميلة التي يعقدها الأستاذ كامل الشناوي في مكتبه كل مساء.
فالأستاذ كامل على الرغم من قلبه الكبير الذي يسع الفن والفنانين جميعا، وموهبته التي تحيل الشعر إلى شيء ساحر يخطف الأبصار والعقول، حتى عقول أعداء الشعر أنفسهم.
وعلى الرغم من أنه أروع محدث وأكثر الناس ظرفا ولباقة وكياسة، إلا أنه يتمتع بخاصية غريبة قد لا يصدقها أحد، ذلك أنه يخاف من الموت. وكلنا نخاف الموت، ولكن الأستاذ كامل يخاف منه خوفا حقيقيا لا هزل فيه، خوفا يجعله يعامل الموت كما لو كان عدوا شخصيا له من دم ولحم يتربص به لينتهز الفرصة المناسبة وينقض عليه. وقد يرى البعض أن هذه نقيصة، ولكن الواقع أن أستاذنا كامل الشناوي أحالها إلى ميزة كبرى. وإليكم ما يحدث: هو لا يستيقظ في العادة قبل العاشرة، وأول ما يفعله إذا استيقظ أن يقرأ جرائد الصباح، ويقرؤها بالمقلوب بادئا بصفحة الوفيات ليطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام، وأن عدوه اللدود الموت لم يختطف أحدا ممن يعرفهم أو له بهم صلة.
ولكن معارف الأستاذ كامل كثيرون جدا، ولهذا فلا بد أن يجد أن أحدهم قد مات أو على الأقل يحتفلون بذكرى أربعينه. في الحال يتولاه انزعاج عظيم، انزعاج يزوده بطاقات نشاط لا حد لها تجعله يغادر الفراش ويرتدي ملابسه على عجل ويترك البيت. ولولا شبح عدوه اللدود، ما كانت قوة في الأرض تستطيع أن تجعله يغادر الفراش المريح.
يهبط الأستاذ كامل من المنزل ويتخفف من إحساسه بالمسئولية تجاه من مات، فيرسل تلغراف عزاء أو باقة زهور ليجنب نفسه مشقة السير في الجنازة. يتخفف لأنه يعتقد أن ذلك الشخص الذي مات راح ضحية بريئة لعدوه هو، ولهذا فهو يعد نفسه مسئولا أمام ضميره عن ضحايا عدوه.
ولا يطمئن الأستاذ كامل إلا حين يرى الناس في الشارع رائحين غادين لا يخطر لهم الموت على بال، ولكن اطمئنانه لا يطول، إذ ماذا يحدث لو خطر ببال عدوه البغيض أن ينفرد به وسط الشارع وهو وحيد بين أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه؟ لا بد إذن من البحث حالا عن الأصدقاء فبينهم يستطيع أن يطمئن على نفسه. وهكذا؛ النائم من أصدقائه يوقظه، المريض يزوره، والبعيد يدق له تليفونا. ولا بد أيضا من العمل، فالإنتاج هو المصل المضاد للموت. والعمل كثير؛ عمل في الجمهورية، وقصائد يلح عبد الوهاب في طلبها، ويوميات، وكتاب بدأه من سنين ولا يريد أن ينتهي. ويبدأ كامل الشناوي يكتب، ويمسك القلم بيده السمينة الحنونة ويملأ الصفحات. يبدأ الكتابة وفي ذهنه الخوف من الموت، ولكنه لا يلبث أن يغرق فيما يكتبه. ولا تخرج الكلمات من قلمه كلمات، بكل شاعريته يملؤها سحرا ومرحا ويودعها روح الحياة وكأنما يتحدى بها خوفه وخوف الناس من الموت.
وحين ينتهي يكون المساء قد حل، فلا يكاد يبدأ يحس بالوحدة ومن ثم بالانزعاج، حتى يبدأ الأصدقاء والمعارف والزملاء يتوافدون على مكتبه، ومن تلك الساعة يتحول مكتب كامل الشناوي إلى تلك المدرسة الفكرية التي تدخلها فارغا وتخرج منها مكهربا كالبطارية التي أعيد شحنها. كامل الشناوي جالس يتحدث ويفكر ويسخر ويناقش، صوته فيه كل قوة الحياة وجسده فيه كل سخائها وعقله في دقة الجهاز الثمين، ويخرج الآراء ويلقي بالمقترحات.
ومن اختلاف الآراء وتشعب الجدل تتضح عشرات الحقائق، وتنبت في ذهن كل كاتب أو فنان ألف فكرة وفكرة، وينسى كامل الشناوي كل شيء إلا أنه يزاول أحب عمل إليه، يتحدث إلى أناس يحبهم ويتحدثون إليه أحب حديث، حديث الفن والسياسة والأدب.
ولكن الليل يمضي ويتسلل الجالسون واحدا وراء الآخر كالمذنبين تتبعهم سخرية كامل الشناوي وعجبه من قدرتهم الخارقة على النوم المبكر، إذ كيف يستطيعون النوم والدنيا مليئة بأجمل شيء فيها، بليلها؟!
ولكن جلسة المناقشات ما تكاد تنتهي حتى تبدأ جلسة الحلقة الضيقة من الأصدقاء، الموسيقى والأضواء الخافتة وصوت عبد الحليم وألمعية عبد الوهاب، والضحكات. ضحكات هو محدثها ولولاه ما كانت، ضحكات يعبر بها عن فرحه بالحياة ونشوته بالوجود مع أحباب، ضحكات وكأنما يدرأ بها عن نفسه وعن أحبابه وعن الناس جميعا كل ما تبقى عالقا بذهنه من شبح ذلك العدو المبين الذي طارده منذ الصباح.
ويظل الأستاذ كامل محاطا بالأصدقاء الأحباء حتى ينام. وينام وصخبهم وضجيجهم لا يقلقه، بل لولا ضجة أصدقائه ما نام وكأنها الموسيقى الحية التي لا بد منها لينام على وقعها كل مساء. يرشفونها أروع مذاقا من قهوة الصباح، بينما آلاف القلوب والعقول تقرؤه وتحبه وتحب الحياة وتتزود لخوض معركة النهار. يكون الأستاذ كامل يقرأ جرائد الصباح هو الآخر، ويكون أول ما يقرؤه فيها هو صفحة الوفيات. وكالعادة أيضا لا بد أن يكتشف أن أحد أصدقائه أو معارفه أو زملائه القدامى قد مات، ويبدأ شبح العدو ينتصب أمامه، فيتولاه الانزعاج، ويغادر الفراش على عجل. ويسرع ليقذف بنفسه في بحر الأصدقاء والناس والإنتاج، يريد أن يهرب من الموت فيخلق حياة، أروع حياة، تحببه وتحبب معه الأصدقاء والناس في الحياة. (26) قنطرة الذي كفر
ليلة الأمس أمضيتها مع رواية فريدة في أدبنا العربي كله. الرواية كتبها أستاذ له في كل فرع من فروع العلم والمعرفة باع، ولم أكن إلى اليوم أعتقد أن له في الكتابة، ليس هذا الباع الطويل فحسب، ولكن الباع الأصيل. لقد ذهلت وأنا أطالع صفحات الرواية القليلة (107ص) من القطع الصغير. قرأت الرواية كملازم خارجة من المطبعة في جلسة، واحترت قليلا، من يكون هذا الكاتب العملاق الذي كتب هذا العمل؟ فقد دق الباب، وفوجئت بساع يحمل لي حزمة الملازم، وأفتش في الملازم عن اسم للمؤلف فلا أجده. لا أجد إلا مقدمة صغيرة في صفحة واحدة مفادها أن الموضوع عاش مع الكاتب ثلاثين عاما، وأنه لولا نصيحة من الأستاذ محمد عودة ما كان قد أقدم على كتابته.
وحاولت الاتصال بعودة فإذا بعودة في كوبا مع مؤتمر التضامن، وإذا بي وليس أمامي إلا نص من مؤلف مجهول. قرأته فأصبت بالذهول كما قلت، فهذه الرواية القصيرة هي أروع ما كتب في رأيي عن ثورة 19 إذا نحينا جانبا عودة الروح لأستاذنا توفيق الحكيم، والجزء الخاص بالثورة في ثلاثية كاتبنا الكبير نجيب محفوظ. ولكن المشكلة في هذه الرواية الفريدة أنها لا تتحدث عن ثورة 19 متعمدة عامدة كما حدث في عودة الروح وثلاثية محفوظ. إن الحديث عنها يأتي هكذا تلقائيا من داخل نفوس أبطالها ولا يملى عليهم من خارجها، أو توضع الثورة عن عمد هندسي داخل الرواية. وأبطال الرواية أغرب، فهم سكان «ربع» من الأرباع القائمة في المنطقة المسماة «تحت الربع»، وهم بائع صعيدي سريح (كالشعراء في حيه)، وبنت تخدم في المنازل، وأمها العمياء، ورئيس كناسين في التنظيم، ونجار، وخريج دار علوم لا يجد عملا، وفي الوقت الذي تفور فيه البلاد بالثورة هو مشغول بتدبيج قصيدة لرئيس الوزراء الجديد، يمدحه فيها ويلعن الوفد كي يرسله في بعثة لدراسة الفلسفة في فرنسا. نفس هذا الانتهازي الوصولي ينتهي بأن يصبح من تنظيم الوفد السري، وينتهي كمكافح إرهابي يغتال الإنجليز بالمسدس. وقصة حب، أعظم وأروع ما قرأت من قصص الحب الشعبية بين «سيدة» ذات الثمانية عشر ربيعا، والتي تبدأ بأن تصب الماء ليتوضأ الشيخ عبد السلام قنطرة خريج دار العلوم وتتسبب في توهانه عن الصلاة وعن الله، وبين أحمد ابن النجار الذي مات بالشوطة وظلت سيدة في عقدة ذنبها من أنها «قرفت» منه، حتى انتحرت بثمانين قرصا من الأدوية المنومة حين افترسها نجيب باشا عاصم، نفس رئيس الوزراء الذي كان يدبج له الشيخ قنطرة قصيدته، والذي أرسله بالفعل حين نشرت الأهرام قصيدته في بعثة إلى فرنسا. عالم غريب رهيب عالم الربع هذا. وببراعة أصيلة، براعة - على ما أعتقد - مؤلف الرواية تلك التي تحدث التغييرات الخطيرة في الأدب في معظم الأحيان، يرسم الكاتب صورا غريبة وكأنما لعالم خاص مسحور، وكل هذا بلغة عامة لا تحس للحظة واحدة أنها عامية أو أنها غريبة لا على البيئة ولا على الصور الفنية. أدق وأروع ما يمكن أن يصل إليه قلم فنان.
حيرتني الرواية وقرأتها مرة أخرى غير مصدق، وأخيرا تذكرت أن الأستاذ أحمد طه كان قد حدثني في التليفون وأخبرني أنه سيرسل لي رواية للدكتور مصطفى مشرفة لأراها وأقرأها قبل أن تنشر، ومنذ بضع سنوات عرفت الدكتور مشرفة وهو شقيق عالمنا الكبير الذي فقدناه الدكتور علي مصطفى مشرفة، عرفته للأسف وقد أصابه نوع من الالتهاب المفصلي الذي جمد مفاصله كلها، حتى مفاصل فقرات رقبته، فأصبح لا يستطيع أن يتحرك أو يتحرك أي جزء من أجزاء جسده، وإنما هو ينام مستلقيا ليل نهار. فإذا عنت له بعض الخواطر أملاها على أحد الأصدقاء أو على زوجة مخلصة من أخلص الزوجات في العالم على ما أعتقد. فهي رغم شبابها قد وهبت نفسها تماما له ولمطالبه، عارفة مقدرة محبة للعبقرية الكامنة في هذا الجسد الذي أجبره المرض على الرقاد. إني أعرف الدكتور مصطفى مشرفة وأعرف أنه من عائلة مشرفة إحدى العائلات الأرستقراطية في دمياط، فكيف يمكن أن يتأتى للدكتور مصطفى أن يكتب عن شعبنا، عن أقل الدرجات في شعبنا، بكل هذا الصدق والروعة والجمال؟ إن هذا لمما يناقض تماما ما ورد في ميثاق المثقفين من أن أصل الأديب ينضح على إنتاجه، باعتبار معظم الكتاب والفنانين من الطبقة الوسطى. وها هو يكتب عن الشعب، عن أقل الدرجات في شعبنا الكادح بما لا يستطيع أن يفعله عامل أو فلاح، حتى لو أوتي ثقافة جوركي وتولستوي.
أما قنطرة الذي كفر فهو لم يكفر أو شيئا من هذا القبيل، وإنما هناك وصلة نابعة من درب الجماميز كان اسمها «قنطرة كفاريللي» وهو اسم عالم صاحب الحملة الفرنسية - على ما أعتقد - فقلبها الناس إلى قنطرة اللي كفر، ثم إلى قنطرة الذي كفر. وحيث إن أحد أبطال الرواية اسمه الشيخ عبد السلام قنطرة فقد جاء الاسم من هنا، وجاء ليضيف بعدا سحيقا إلى الرجل باعتباره قنطرة فعلا، وقنطرة الذي كفر بالثورة ليعود يؤمن بها.
إن هذه الرواية على ما أعتقد ستكون حدث عام 1966 الأدبي، رغم أن كل عتبي على كاتبها أنه تعسف في إنهائها، ربما لإحساسه أن قارئه لن يتابعه، ولو عرف أن القراء كانوا على استعداد لمتابعته لمئات الصفحات لما وضع لها هذه النهاية الحادة التي جارت على مصير بعض أبطالها، ولكنها ستبقى رغم هذا عملا فريدا لن يتكرر في أدبنا أبدا. (27) نجيب محفوظ ومجاعة النقد
لأني أسهر دائما إلى ساعة متأخرة من الليل، أو في الحقيقة إلى ساعة مبكرة من اليوم التالي، فإني لا أستيقظ مبكرا أبدا، وإنما تأتي يقظتي من التليفون، ذلك الجهاز الذي تتدفق من خلاله الحياة رغما عنك فتجذبك إلى دوامتها حتى من أحلى نومة. ولقد سعدت حقيقة؛ فالمتحدث في ذلك الصباح كان الصديق الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، الذي بعد ثوان من المحادثة كانت تجلجل ضحكاته فتكاد سماعة التليفون تشاركنا، من فرط الإغراء، في القهقهات. والظاهر أنها كانت ممتعة حقيقة، فقد استمرت المحادثة ما يقرب من الساعة والنصف، وكان أهم موضوع «جاد» أثاره كاتبنا الكبير عن النقد، وحزن نجيب محفوظ لرؤيته كبار النقاد وقد انصرفوا تقريبا عن مزاولة واجبهم الأسمى، وتركوا المجال لبعض الصبية الذين فهموا أن عظمة النقد تقاس بمقدار ما ينعيه الناقد من فنون، وبرز هذا واضحا من خلال «تقييمهم» للموسم الأدبي الماضي، فتخصص بعضهم في نعي القصة القصيرة، بينما راح الآخر ينعى الشعر الجديد، ولولا بقية باقية من الحياء لنعوا الرواية هي الأخرى والمسرحية.
وأشعرني حديث نجيب بخطورة الوضع، فهو يقول هذا في وقت تنشر فيه مجلة الكاتب دراسة عن أعماله من أعظم الدراسات الأدبية المعاصرة أصالة وجدة يكتبها أحمد عباس صالح، دراسة تكاد تكون هي العلامة الوحيدة الباقية الدالة على أن الحياة في الحركة النقدية لا يزال لها بعض النبض. ولكن نجيب محفوظ لم يكن يقصد شخصه فقط أو الدراسات عنه، وإنما كان يذكر الحقيقة بشكل عام. والحقيقة أن ناقدا كبيرا كالدكتور علي الراعي كف عن الكتابة، بينما أستاذ كبير آخر كالدكتور لويس عوض انصرف إلى التأليف والترجمة، وكف الأهرام الأسبوعي عن متابعة الحركة الأدبية كعهده بالنقد والدراسات، وروز اليوسف وصباح الخير أصبحتا تنشران «آراء» وانطباعات ووجهات نظر، ومعظمها عن الأفلام والمسرحيات، وكأن المسألة قد أصبحت بالأسهل، وبينما اختفى النقد الإيجابي القائم على الكدح الذهني وإعمال العقل للتقييم والاكتشاف والمقارنة، ازدهر النقد السلبي الذي لا يكلف الناقد أكثر من سهرة يمضيها في مسرح أو أمام شاشة تليفزيون أو سينما، والصفحة الأدبية لجريدة الجمهورية تعتمد على مساهمة الكتاب من خارجها، وبالتالي فإنها لا تقدم مادة نقدية مبنية على أساس من العمد والخطة. الأستاذ محمود أمين العالم في المصور، والأستاذ رجاء النقاش في الكواكب، يكادان يكونان وحدهما القائمين بمهمة متابعة الإنتاج الأدبي بالنقد والتقييم متابعة أسبوعية، لا تتيح لهما فرصة دراسات أعمق، فحركتنا الأدبية قد نضجت في إنتاجها إلى حد أن بدأت تتكون مدارس ومفهومات. بدأت رواية جديدة تظهر، وقصة قصيرة جديدة، ومسرحية جديدة، وأشكال مختلفة في الشعر الجديد، بل لدى الكاتب أو الشاعر الواحد بدأت تتجمع خصائص وتتكاتف لتكون مرحلة أو انتقالا. هناك محصلة قوى بطبيعة الحال، وكلمة ما تريد الحركة الأدبية الحديثة حبا في النهاية أن تقولها. فما هي تلك الهجرة إلى التاريخ في المسرح، حتى رأينا ثلاث مسرحيات متتابعة لثلاثة كتاب مختلفي النزعات تعود القهقرى إلى التاريخ، وتحوم حول فترة تكاد تكون واحدة هي عصر المماليك؟ ما سببها؟ ما أصلها، ومعناها وفصلها؟ وهل هي علامة صحة أم علامة مرض، وما العلاج؟
نفقد ولا نحظى بجديد
ألف مشكلة ومشكلة ونحن في النقاد نفقد ولا يضاف جديد. فقدنا أستاذنا المرحوم الدكتور مندور، وأستاذنا العقاد، والملتزم الجاد القدير أنور المعداوي، دون أن يضاف للقائمة اسم جديد. بل مع اختفاء الدكتور الراعي اختفى أيضا الدكتور عبد القادر القط، والدكتور رشاد رشدي كف هو الآخر عن النقد، الدكتورة سهير القلماوي تكتفي في أحاديثها الإذاعية تقريبا بكتب التراث، حتى الأستاذ أنيس منصور تحول من نقد الأدب إلى نقد الظواهر الغامضة في الكون. إن الركيزة الأولى لأي «حركة» أدبية هي الناقد الكبير، فبلا ناقد لا يمكن أن توجد حركة، وإنما يتحول الأدب إلى ظاهرة إنتاج فردي، وهو الوضع الذي آلت إليه حركتنا الأدبية التي لم يعد بها إلا منتجون، مصير إنتاجهم محمول على كف عفريت. قد نفقد أجل الأعمال وتئوب إلى الإهمال والنسيان؛ لأن حظها - مجرد حظها - عاثر، وقد تتسلط الأضواء بحكم الصدف وحدها لترفع عملا لا يستحق الذكر. في الحقيقة أصبح مصير أثمن ما تنتجه قرائحنا في الأدب والفن متوقفا على هوى ومزاج أناس غير مسئولين، يزاولون النقد كهواية، وبالمناسبة بلا أي التزام أو فهم أو أساس. معظمهم أناس لديهم الفرصة للكتابة في المجلات والجرائد وممن لهم حق قول الرأي والتوقيع بالاسم. حياة أي عمل فني أو مصيره أصبح معلقا برأي هؤلاء بطريقة كف الجمهور معها عن تصديق ما يكتب أو الإيمان به، فكثيرا ما تحشد من هذه الأقلام مظاهرة تشيد بفيلم أو مسرحية مثلا وترفعها إلى عنان السماء، ويذهب الناس لرؤيتها فإذا بهم يفاجئون بالعمل لا يمت بصلة إلى ما كتب عنه. وخطورة حملة هذه الأقلام، ولأنهم ليسوا نقادا ولا يحملون في صدورهم المسئولية التاريخية عن الحركة الأدبية والفنية ولا يؤرقهم أي التزام، خطورتهم ألا رقيب عليهم فيما يقولون غير ضمائرهم، وفي أحيان كثيرة لا ترتبط ضمائرهم بوجه الحق وحده، إنما ترتبط بوجه المصلحة أو العلاقة الشخصية. وهكذا أصبح مصير عملك، مصير كتابك مثلا أو مسرحيتك، معلقا بعدد معارفك من حملة هذه الأقلام ومبلغ حاجتهم إليك أو خوفهم منك. وفي الماضي حين كان الكبار جميعهم ينقدون، كانت أحكامهم أحيانا تختلف. هذا صحيح، ولكن مهما بلغ اختلاف وجهات نظرهم فإن عملا جادا كان من المستحيل أن يفلته انتباههم، وكان من المستحيل أيضا أن يسمحوا بمرور عمل رديء، فما بالك بتكريمه وتتويجه؟
إن حركتنا الفنية والأدبية اليوم تشبه مباراة كرة بلا حكم، بل إن الأدهى والأمر أن اللعيبة قد أصبحوا الحكام، والكتاب المنتجين قد أصبحوا ينقدون، والنقاد بدءوا ينتجون كتبا وأعمالا سينمائية ومسرحية، ويكاد صوت الحق وسط هذه الفوضى كلها أن يضيع.
وليس الحق وحده. لقد ذكر لي نجيب محفوظ أن النقد بالنسبة إليه كان البوصلة له والمرآة. وقد تحمست وأنا أقره على رأيه، فالكاتب حين يكتب قصة أو قصيدة قد يحيط بكنه ما فعله فيها. ولكن تظل في العمل زوايا وأبعاد لا يمكن أن يدركها من تلقاء نفسه، ولا بد من الناقد الجاد ليدله بالضبط على ما فعل، أين وصل؟ وإلى أي اتجاه هو ذاهب؟ وهل وفق أم كان هيكل عمله «العظمي» ناتئا في بعض أجزائه يتطلب كما أكثر من اللحم والدم ونوعا آخر من العلاج؟ إن الشيء الذي لا يعلمه الناس أن الناقد هو ركيزة الحركة الأدبية الأولى؛ لأنه هو عيون الكاتب وأسماعه، هو الذي يرى له، وبالأمانة المطلقة يخبره.
وهكذا، ومن خلال وجهة نظر الناقد تتحدد للكاتب أحجام عمله وأشكاله وأعماقه، وعلى هدى ما رآه تتضح له العيون الخفية التي لا يدركها سواه، ويغير أو يبدل من خط سيره، أو يطمح في طريق آخر، أو حتى يكف تماما عن الخضوع لمدرسته. باختصار بلا ناقد لا يستطيع الكاتب الجاد أن يواصل عمله. لهذا فالخلق والنقد في الحقيقة عملية واحدة نتيجتها العمل الفني المتكامل. إن الكتابة المتصلة تتصل؛ لأنها محاولة الكاتب المستمرة للاقتراب من الصورة المثلى المرسومة في ذهنه. وإذا كان الكاتب باستطاعته أن يرى الصورة المثلى التي يريد الوصول إليها، فللأسف ليس باستطاعته أن يرى الصورة التي ينفذها فعلا وينتجها. الناقد يراها له، وفي نفس الوقت يراها الناس. إن الناقد «يقرأ» لنا الكاتب، وقد نظن أن باستطاعتنا القراءة بمفردنا، ولكن يكفيك أن تقرأ هاملت شكسبير بمفردك ثم تقرأها بعد أن تكون قد قرأت «نقد» دوفرلسون لها. ستحس أنك كنت كمن لم يقرأها، وكأن دوفر علمنا كيف نقرؤها.
ليست مسألة شخصية
الوضع كما ترى خطير، يستشعر خطره كاتب كنجيب محفوظ. قد يعتقد البعض أنه لم يعد بحاجة إلى النقد أو النقاد، في حين أنه كلما قارب الكاتب من نضجه؛ أي كلما اندفع في تجاربه الفنية إلى أعمق، أحس بالضرورة القصوى للوقوف على كنه ما يفعله، والغريب أني أصبحت كلما أخرجت كتابا يحوي مجموعة قصص وأحسست بحاجتي لنقدها، كان بعض الإجابات من زملائنا النقاد غريبة تدفع للذهول. أكثر من مرة قال لي أكثر من ناقد: الحقيقة أننا نرى أنك لم تعد بحاجة إلى النقد أو الكتابة عنك، ونحن نفضل في هذه الحالة أن نكتب أو ننقد كاتبا ناشئا جديدا. وأن يهتم النقاد بالكتاب الجدد واجب أكيد، ولكن غير المعقول أن يكون هذا الاهتمام على حساب أن قصصي لم تعد بحاجة إلى النقد، وكأن النقد أصبح يفهم على أنه «دعاية» للكاتب أو لأعماله بحيث توجه لمن هو في حاجة أمس إليها. للأسف يغزو المفهوم الغريب للنقد عقول بعض نقادنا، ويحسون - على الأقل بينهم وبين أنفسهم - أن كتابتهم عن فلان دعاية له. وربما من أجل هذا المفهوم نفسه انكمش النقد وتضاءل عدد النقاد؛ إذ لا بد أن عددا منهم أحس أنه لا يفعل أكثر من «الدعاية» لهذا الأديب أو ذاك، فيصبح الأجدى حينئذ أن ينتج هو ويصبح أديبا مثلا، وأن يكف أصلا عن النقد استخسارا لجهده أن ينفقه في تمجيد الآخرين.
هذا هو أخطر ما يمكن أن يصير إليه مفهوم النقد، أن يصبح عملا شخصيا يرتبط بشخص الكاتب أو الناقد، وأن يفقد معناه الحقيقي الموضوعي. إن الكاتب الحقيقي يدعي إذا هو اعتقد للحظة أنه ينتج ليصنع له اسما رنانا كالطبل. إن الكاتب الحقيقي تزعجه في الواقع الشهرة وإن كان يستمتع بجزئه البشري العادي بها، ولكنه لحظة الجد لا بد أن يحس أنه إنما يكتب لأنه يؤمن برسالة ما، أو بجمال ما، أو بقيمة ما، يهب نفسه للتبشير بها وترويجها. والناقد الحقيقي يتناول أعمال الكتاب لا لأن هذا صديقه أو أنه معجب بذاك، وإنما لأن الكتاب وأعمالهم هم مادته الخام التي من خلالها يدعو لرأيه وفلسفته والقيم الروحية والجمالية والفنية التي يؤمن بها. إنه أيضا يستسلم للضعف البشري، إذا هو أحس أنه يكتب عن فلان أو يروج لأعماله بالكتابة عنه، إن المسألة بعيدة كل البعد عن شخص الكاتب وشخص الناقد، إن الحركة الأدبية والفنية تئول إلى جحيم حين يتحول اهتمام القائمين بها من الأعمال والقيم إلى أشخاصهم وأشخاص غيرهم. إن الذاتية والذاتية الغيرية هي عدوة الفن اللدودة، كما هي عدوة العلم والثورة وكل عمل إنساني شريف. بهذا المفهوم الضيق يتحول الحقل الفني المليء بالزهور وأنماط الجمال إلى غابة يصطرع فيها وحوش، كل منها ينشد التهام غيره وتضخيم ذاته. لكي يقر النظام وتحرق الغابة وتنقرض الوحوش وتستحيل إلى بلابل مغردة. لا بد أن يستيقظ النقاد الكبار ويحسوا بخطئهم البشع ومسئوليتهم الكبرى عن الكارثة، ومن جديد يطبقون المقاييس الموضوعية. من جديد يبدأ الحق يسود والعدل، من جديد يبدأ الحماس للخلق، للأصالة، للقيم الفنية المهدرة، من جديد يطغى الإحساس بالفن وحده مهما كان شخص منتجه، من جديد يبدأ الجمهور يثق في كلمة النقد المكتومة، ويؤمن بأن الرأي الصادر لم يصدر إلا عن إيمان حقيقي لا يخالطه الهوى أو الشلة أو المصلحة، من جديد ينكمش عدد هواة النقد المخربين ويزداد عدد الجادين البنائين، من جديد يذهب رعب الكتاب وإشفاقهم على مصير أعمالهم، وجريهم بطريقة مخجلة وراء كسب الأقلام المؤيدة، ويصبح كل عملهم مقصورا على الإنتاج، أما ما بعد فهو مسئولية حركة نقدية كبيرة ملتزمة عاقلة، من جديد يبدأ كاتب كبير كنجيب محفوظ «يرى» ما قدمه كي يعرف طريقه إلى تقديم غيره. (28) وداعا، لهيمنجواي
أحسست بفجيعة تكاد تكون شخصية لوفاة هيمنجواي؛ لا لعظمته ككاتب، ولكن لعظمته فوق كل شيء كرجل، وحقيقة مسلم بها، نادرا ما اجتمعت الموهبة العظيمة مع الشخصية العظيمة، فمعظم الكتاب يكتبون عن البطولة والأبطال؛ لأنهم ليسوا أبطالا وليس في حياتهم بطولة، وقليلون منهم يكتبون عن الأبطال؛ لأنهم أنفسهم من الأبطال، ولأن البطولة عندهم أعمال عادية يزاولونها دون إحساس بأمجادها أو خطورتها. هيمنجواي كان من ذلك النوع، ولم تكن بطولته أنه غزا الأقطار أو أقام إمبراطوريات أو انتزع لنفسه تاج اشتغاله بمعركة الإنسان، بطولته كانت أنه عاش الحياة بجرأة بمثل ما يجب أن تعاش به الحياة، وواجهها، بطولته أنه كفرد وكرجل أدرك مشاكل عصره واقتحمها، وظل يقتحمها، ويؤمن بعمق أن عمله كإنسان، كآلة الحياة الكبرى، أن يظل يواجهها ويقتحمها، حتى في أقسى وأقصى صورها ظل يواجهها.
وحين حدثت النتيجة الثانوية لذلك الهدف وأصبح هيمنجواي كاتبا شهيرا مرموقا، كانت النفس الكامنة فيه أكبر من أن تشغلها متعة الجلوس على عرش المجد والشهرة، وآثر أن يظل لدى نفسه الرجل المقتحم للحياة والمشكلة، ونبذ العرش وحمل البندقية ومضى يحارب بجانب الحق. وحين أدرك أن الحرب بجوار الحق لها نفس بشاعة الحرب بجوار الباطل، سئم حرب الرجال جميعا. وباستطاعتي أن أضيف أنه سئم أيضا عالمهم، ومضى يقتحم عوالم الكائنات الأخرى في أحراشها وحلقات مصارعتها. في أدغالها وبحورها، يؤدي دور الصائد، دور الرجل من قديم الزمان، ويؤديه بكل ما يملك من قدرة وكمال مثلما كان يكتب، فكتابته لم تكن تنبع عن نقص، كانت تصدر عن كمال، وإحساس بالكمال، إن قصصا مشهورة كثيرة لكتاب مشهورين تقرؤها فلا تجد فارقا بين أن يكون كاتبها رجلا أو سيدة أو شابا أو شيخا؛ إذ من الممكن أن يكون أحدهم أو كلهم كتابها. هيمنجواي هو الوحيد الذي تحس إذا قرأت له أنك تقرأ لرجل ناجح خبير، جملته جملة رجل، وحواره حوار رجل، وحبه حب رجال.
وأمثال هيمنجواي، ذلك النوع الذي لا يوجد فاصل بين حياته ومؤلفاته، بين أفعاله وتصرفات أبطاله، أمثال ذلك الرجل تصبح حياتهم في الحقيقة أروع وأعظم أعمالهم الفنية على وجه الإطلاق، فهم لا يحيونها كيفما اتفق، إنهم يؤلفونها قبل أي شيء. وإذا تتبعنا تاريخ حياة هيمنجواي لأدركنا على الفور أنه لم يعش الحياة كما تطفو الخشبة على سطح البحر تحركها الأمواج كيفما تريد، أبدا، لقد كان مزودا بموتور إرادي هائل استطاع به أن يشق البحر، ويخضع ما هو موجود لما يريد ويخطط لحياته وكأنه يخطط أعظم حياة لأعظم بطل. لوجدناه في كل ثانية من عمره الأول يقف، ويصر على أن يقف، لا حيث توجد مصلحته، وإنما كما يقول البطل الآخر كاسترو «حيث يوجد واجبه»، حيث القتال على أشده في إيطاليا، وحيث المعركة من أجل الحرية دائرة في إسبانيا، دائما حيث يقف الرجال.
وكل أعمال هيمنجواي لم تكن إلا المذكرات الشخصية للبطل الذي بإرادته خطط له ورسمه. وكل ما فيها من أمجاد، أمجاد خلقها هيمنجواي الرجل قبل أن يخلقها هيمنجواي الكاتب، أو على وجه أصح نقلها الكاتب عن تجربة الرجل .
أليس من المضحك بعد هذا أن نتساءل: هل انتحر هيمنجواي أم مات قضاء وقدرا؟
أرأينا في حياتنا قصة انتهت قضاء وقدرا؟
أرأينا قصة تنتهي دون أن يتولى كاتبها إنهاءها بنفسه وبإرادته، دون أن يضع لها، وبكل دقة، الخاتمة التي ترتفع بها إلى أقصى درجات الإتقان؟
وهل هناك شك؟ لقد انتحر هيمنجواي، أقصد بيده أنهى حياته، بإرادته وضع خاتمة أعظم أبطاله، نفسه! وإني لأنحني له احتراما، فما أروع الخاتمة وما أليقها بالبطل! وهل كان معقولا أن يظل رجل مثله حتى يهمد ويشيخ ويصيبه الشلل ويصبح نفاية تتولى الشيخوخة والموت وضع النهاية لها؟
هل كان معقولا أن الرجل الذي ظل حياته كلها يحارب الموت والضعف، ينتظر حتى ينهيه الضعف والموت؟ إني لأكاد أحس به في أعظم لحظات حياته. اللحظة التي وقف فيها يتأمل ما سبق من حياته وما سيجيء. اللحظة التي تأمل فيها جسدا جاوز الستين، وروحا بدأت تشيخ، وإرادة دب فيها الوهن وبدأت ترضخ للواقع والموجود، اللحظة التي تأمل فيها ما فعله فوجد أنه حارب إلى جوار الحق حتى يئس من نصرة الحق فبدأ يحيا لنفسه، وببطولة الرجل أيضا حتى أشبع نهمه إلى حياة الصائد، اللحظة التي تأمل فيها العالم من حوله وأحس بمشكلاته أكبر وأسخف وأعقد من أن تحلها جهوده وحده، أو جهود أي إنسان بمفرده، أو حتى باستطاعة أي فرد مهما عظم أن يشارك في حلها، تأمل عالما غير عالم 14و36 و39، عالما جديدا مربكا مخيفا، الرأي فيه يختبئ وراء الصاروخ، والمعارك بين دول جبارة القوة. عالم دول لا رأي فيه لأفراد حتى لو كانوا أفرادا عظاما كهيمنجواي، عالما حين خرج أخيرا للبحث عن الحق فيه تاه في البحر ووجد القارب مثقوبا واصطاد السمكة، ولكن التهمتها منه وحوش «القرش» وعاد متعبا، شيخا، ضعيفا، حزينا. إني لأكاد أحس بهيمنجواي وهو في أعظم لحظات حياته وهو يدرك وهنه الشخصي ويستبشعه ويستنكر أن يعيش مهزوما كجسد، ويدرك كنه العالم من حوله فيجد ألا بقاء فيه إلا أن يرضى من يريد البقاء بنصيب المغلوب، المغلوب على رأيه. فهل يرضى البطل بنصيب المغلوب؟ هل يقبل أن تستمر الحياة لا كانتصار للحياة وإنما كهزيمة لها وضعف؟ وهل يقبل هذا بأي ثمن، ولو كان الغلب على الأمر والرأي؟ هل يقبل الرضوخ للزمن ويقنع من الحياة الماثلة بشيخوخة هادئة، ساذجة لا تحمل الهم؟ أم ينهي القصة هنا، وبالضبط هنا؟ وحسنا وما أروع وأعظم ما فعلت يا هيمنجواي!
وا أسفي عليك أيها العالم، عالمنا، حين يصبح خير ما يفعله الرجل الفرد الواعي بك وبمشاكلك أن يفضل الموت على البقاء حيا فيك. وأسفي أعظم حين تصبح ميتته غير مستنكرة أو ممجوجة، بالعكس شريفة رائعة، ميتة أعظم بكثير من حياة الكثيرين.
إن شجاعة هيمنجواي في إنهاء حياته لا يعادلها في رأيي إلا شجاعته في مزاولتها، أجل، أخيرا، في عالم مطحون بالعدد والمكن والتوتر والحيوانية، ها هو صوت يتصاعد، من أمريكا، وينطق قائلا: أنا بشر، أنا رجل، فقد كان بوسعي أن أظل أعيش ولكني فضلت أن أموت حين رأيت أن حياتي لن تليق بي كبشر وكسيد هذا العالم، كرجل.
أيها الرجل الكبير لقد كانت موتتك مثل موتة الشهداء في الجزائر وفي كل مكان، من أعظم أحداث الإنسان، فأنت بموتك لم تمت وإنما انتصرت على الموت، وعلى الحياة، وعلى عالم الرجال الصغار، اللاأبطال، عالمنا، إني أحسدك! (29) نقاش
قضيت اليوم كله في نقاش مستمر مع يسري، هو يحاول أن يقنعني بالعودة لمزاولة الطب، وأنا أحاول إقناعه بضرورة أن يعود هو للكتابة ومزاولة الأدب.
والغريب أن هذا الموقف ذكرني بموقف متشابه له تماما حدث منذ عشر سنوات حين كنا لا نزال طلبة في الكلية، وكان يسري يحاول إقناعي فيه بضرورة ترك تلك المهنة البغيضة (الطب)، والتفرغ نهائيا لعالم الفن الرحب العريض، وكنت أنا أحاول إقناعه بضرورة مواظبته على الكلية حتى يتخرج ويصبح طبيبا.
وكنت وأنا طالب مثالا للطالب المجد المواظب على حضور العمليات والمحاضرات والمرور، ولم يكن في إلا عيب واحد صغير، هو حبي للقصص إلى درجة لا تليق بطالب طب «دكتور». بل أكثر من هذا كان الضعف يستبد بي إلى درجة أني أحيانا كنت كل ثلاثة شهور أو أربعة أكتب قصة أخفيها في قاع مكتبي ولا أطلع عليها أحدا، فالطلبة من حولي كلهم مشغولون بتلقي أسرار علم الكهنوت الأكبر، يحيون في مجتمع مغلق عليهم وعلى الجثث والمراجع الضخمة، مجتمع نجومه علي إبراهيم وعبد الله الكاتب ومورو، وليلة القدر عند أي منهم أن يصبح نائب جراحة، وأنا سائر معهم مدفوع بحركتهم في سبيل التسابق والتنافس واستيعاب كل ما يمكن استيعابه من الأسماء اللاتينية المعقدة، والمراهنة على اسم عصب صغير مهمل يرقد في مكان ما من فروة الرأس.
ولكني أحس بطريقة ما أن الجو ليس جوي، والهدف هدفهم هم وأنا أجري إليه فقط؛ لأني أرى كل من حولي يجري إليه. في تلك الأثناء قرأت ذات يوم قصة في مجلة القصة لكاتب اسمه محمد يسري أحمد أذهلتني، واعتبرت أن كاتبها لا بد فلتة؛ إذ لم أكن قد سمعت هذا الاسم من قبل أو قرأت له. وظلت القصة وإعجابي بها يملآن علي نفسي إلى أن حدث وعرفني أحد أصدقائي القليلين من الطلبة في جلسة من جلسات البوفيه المشهورة بزميل كان يجلس مقطب الجبين، عازفا عن الاشتراك في حديث الطلبة التافه، وقال محمد يسري أحمد. ولم أصدق أبدا أنه هو كاتب القصة التي أذهلتني، ولم أستطع أبدا أن أهضم أنه هو الآخر طالب في الكلية، بل في نفس الدفعة، بل في مجموعتي التي تبدأ بحرف الميم وتنتهي بحرب الياء. غير أن عجبي زال حين عرفت أنه على عكسي وعكس طلبة الطب جميعا بينه وبين الكلية نوع من سوء التفاهم وعدم الاستلطاف، فهو لا يأتي إليها في العام إلا مرة أو مرتين ليطمئن على أنها لا تزال موجودة لم تلغ بعد، أما بقية الوقت فهو مشغول بأشياء أخرى. ولم يكن هذا أول طالب بلطجي أقابله في الكلية، ولكن البلطجية الآخرين كانوا يتركون الكلية للنساء أو الليالي الحمراء والخضراء، أو أشياء أكثر إغراء من الطب. أما أن تترك الكلية لكتابة القصص فهو نوع غريب حقا من البلطجة!
ومنذ ذلك اللقاء لم نفترق. وبعد أن التقينا عدة مرات ووثقت به تماما، صارحته بأني أحيانا أكتب قصصا ولكني أخاف أن أطلع عليها كائنا من كان. وفوجئت حين لم تبد على ملامحه أية علامة من علامات السخرية - بل حدث العكس - وجدته يبتسم لي في ترحيب شديد، بل وجدت نظرته تحفل بإكبار وإجلال لم أكن أتوقعهما، وأصر على استصحابي لكي نقرأ ما كتبته.
وفي وجل شديد، وبقلب يدق، قرأت له آخر قصة كتبتها. وكدت أعتقد أنه مجنون حين وجدته قد أعجب بها، وظل يتحدث معي بضع ساعات عنها.
ولأول مرة أحسست أن كتابة القصة ليست عيبا أو شيئا مخلا بالشرف، وأهم من هذا هو أن الإقناع جاء من طالب طب زميل. وحين غادرني يسري ليلتها أحسست أني أقف على باب عالم جميل غريب مجهول أهون شيء على الإنسان أن يهب عمره لتفقده وتعرف مخابئه وأسراره وكل ما يحتويه.
وليال طويلة قضيناها يقرأ لي ما كتبه وأقرأ له ما كتبته، وشوارع «المدينة النائمة» نجوبها سيرا على الأقدام جوعى مفلسين، نبحث عن الحقيقة ونناقش الفن والخلود وأصل الكون، والفرق بين رومانسية إيليا أبو ماضي ورومانسية ناجي. وكل موضوع نطرقه نتفق فيه بطريقة غريبة إلا موضوع الكلية. أنا أحاول أن أجعله طالبا مواظبا وهو يحاول إقناعي بترك الكلية نهائيا وإلقاء نفسي في بحر الفن الذي لا يغرق فيه إنسان. ولم ينجح في إقناعي ولم أنجح في إقناعه. وجاء الامتحان وتخرجت. وما كاد يمضي على تخرجي بضعة شهور حتى أدركت أن يسري على حق، وأني لم أخلق للطب، وقذفت بنفسي في بحر الفن لأسبح وحيدا؛ فيسري كان قد اقتنع، ولا أدري كيف، أن المواظبة على الكلية والنجاح ليس عيبا ولا شيئا مخلا بالشرف. وهكذا نجح وأصبح طبيبا، وسرعان ما احتواه عالم الطب وما فيه من أسرار ومشاكل، وترك الكتابة نهائيا.
وافترقنا ...
ومن شهور قليلة جاء يسري من السودان بعد أن زاول الطب حتى شبع، وأقسمت بيني وبين نفسي ألا أدعه يفلت هذه المرة، ولا بد لي من إقناعه بالعودة إلى مجال هو فارسه الأول بلا منازع. ويبدو أنه هو الآخر كان أضمر في نفسه شيئا، فقد وجدت منه إصرارا غريبا على أن أعود لمزاولة الطب. ولكي يتحقق هدفي وهدفه تظاهر كلانا أنه قد اقتنع بوجهة نظر الآخر، وقررنا أن نفتح عيادة معا، يحاول هو أن يجرني بها إلى الطب وأحاول أنا أن أخرجه منها إلى عالم الكتابة.
ولا يزال النقاش بيننا حادا مستعرا، وأخوف ما أخافه أن ينجح يسري في إقناعي وأفشل في إقناعه.
إني لأشفق على عيادتنا المشتركة في عشش الترجمان من الصراع الرهيب الدائر فيها. (30) داخل الصندوق معركة
الكتاب حقيقة صغير في حجمه، ولكني ترددت طويلا وأنا أقلب صفحاته. وكل كتاب في رأيي صندوق مغلق قد تفتحه فتفاجأ بكنز، وقد تضني نفسك فلا تخرج في النهاية إلا بقبضة لآلئ زائفة، ولكني هذه المرة متأكد من صاحب الصندوق، فمحمود أمين العالم قد دخل حياتنا الثقافية والأدبية من أوسع أبوابها، دخل ليحتل المكان المرموق الشاغر، وحياتنا الأدبية الجديدة كانت في حاجة إلى الناقد الجديد الذي يستطيع أن يدرك أبعادها ويفهمها ومنها نفسها يستخرج الجوهر إلى الناس، يحسده ويدافع عنه، كانت في حاجة إلى الناقد الذي ينبع منها ليرعاها، وبأنامله المخلصة المحبة يحدد مواطن القوة فيها، وبقلبه المشفق يلمس مواطن الضعف، وهكذا، وفي أقصر وقت أصبح محمود أمين العالم، هذا الناقد الذي تبوأ مكانه عن جدارة بين رعاة الحركة الأدبية الجديدة التي بشرت بالثورة وتفجرت معها.
وصحيح أن نقاد هذه الحركة كثيرون، بحيث أصبح كل من باستطاعته أن يردد كلمة الحرية أو الاشتراكية أو المضمون التقدمي أو الفن للشعب ناقدا محسوبا عليها، ولكن هؤلاء الجديرين فعلا بكلمة ناقد - تلك التي ترتفع في رأيي إلى مستوى العدل السماوي - قليلون، والموهوبون الذين باستطاعتهم - فوق الإخلاص والصدق - أن يعبروا عن رأيهم هذا تعبيرا يرتفع إلى مستوى الفن لتصبح أعمالهم النقدية أعمالا فنية تستوحي مادتها من الأعمال الفنية للآخرين، هؤلاء الموهوبون أقل. وداخل هذه الدائرة الضيقة تنوعت اهتمامات رعاة الحركة الأدبية الجديدة، فكان اهتمام الدكتور علي الراعي يتجه أكثر إلى التذوق الفني على مستوى رفيع، وكان اهتمام أحمد عباس صالح مركزا أكثر على الحكم الصارم لتحديد مدى قربها أو بعدها عن الفن بمفهوماته المتطورة الجديدة، في حين وهب رجاء النقاش نفسه للدفاع عما ينتقيه ليعتبره النموذج للشكل والمضمون الجديدين معا وما لا يعجبه فهو أصلا لا يكتب عنه، أما الزميل الكبير أحمد رشدي صالح فهو وإن كان من أعمدة هذه الحركة الجديدة إلا أنه في حكمه عليها فإنه لا يختصها بتحيز ولا يفرق في حكمه بين جديد أو قديم، وإنما يتحمس للجيد في رأيه أنى وجد، بل إنه في أحيان يتحفظ وكأنه ناقد من أجيال الشيوخ، فلا يأتي اعترافه بالجديد إلا بصعوبة.
وبقي لهذه الحركة من رعاتها مثلان بارزان على طرفي نقيض، فالدكتور لويس عوض ليس مجرد ناقد لهذه الحركة أو راع، ولكنه وكأنه عالم أدب، فكما يحفر في القديم ليعثر على رموز تخدم المدرسة الفكرية المتكاملة التي يحاول إنشاءها، فهو أيضا في الجديد مشغول إلى درجة عظمى بالتنقيب عن الرموز الجديدة يفكها ويحللها ويصلها بالقديم ويقيم من هذا كله دعائم مدرسته.
الأستاذ محمود أمين العالم هو الآخر صاحب مدرسة تختلف في رأيي اختلافا جذريا عن مدرسة الدكتور لويس عوض وإن كانت تتفق في الوسيلة، فالعالم أساسا فيلسوف. وفي الحركة الأدبية الجديدة من الأعمال ما يجد فيه صاحب فلسفة واضحة محددة مثله ما لا بد أن يأخذ منه موقفا، إما بالإشادة وإما بالرفض. وميزة العالم أن الفلسفة عنده ليست موضوعا أكاديميا أو معادلات رياضية، ولكنها قضية تكاد تصبح - بل تصبح فعلا - قضية حياة أو موت. وقد أخذ البعض على محمود العالم حماسه وهو يعرض آراءه، ولكنها في الحقيقة ليست حماسة، إنها اهتمام رجل وهب نفسه لرأيه وللدفاع عن وجهة نظره، وفعل هذا بكل ذرة قدرة لديه. وهذا هو أروع ما في الموضوع.
الخطورة في حامل الشعار
فليست المشكلة في رأيي هي أي رأي تعتنق، فلتعتنق ما شئت من آراء ولكن المهم هو مدى إخلاصك لهذا الرأي ومدى صدقك مع نفسك ومع الآخرين، فحتى لو كنت مخطئا، حتى لو عاديت الاشتراكية مثلا عن إحساس حقيقي وعن إيمان، فعن طريق إيمانك والمجاهرة به، عن طريق الصدق لا بد حتما أن تصل إلى الصواب. إن الصادقين فقط هم الذين يصلون دائما إلى الحقيقة حتى لو فرض وبدءوا من بداية خاطئة. ومحمود العالم مثله مثل الآلاف من مواطنينا المخلصين لم يولدوا بالآراء التي يعتنقونها الآن، وكثيرون منا بدءوا حياتهم الوطنية والعقائدية بالانضمام إلى مصر الفتاة أو الإخوان، ولكن رغبتهم العارمة في الوصول إلى الحقيقة، صدقهم مع الآخرين ومع أنفسهم كان لا بد أن يقودهم حتما إلى الطريق الصواب. المشكلة في رأيي، بل الجريمة هو ما نراه لدى بعض الناس، أولئك الذين - ويا للغرابة - يضعون أنفسهم في مكان الصدارة من الدفاع عن الحرية والعدالة والاشتراكية، أولئك الذين لا تسمعهم إلا مجعجعين بكلمات طاهرة نقية مثل الشعب والتقدم وشرف الكلمة، الواضعين أنفسهم دائما في مكان القضاة يحكمون على خلق الله بالانحراف أو بالعداء للشعب أو الرجعية أو الانتهازية والنكوص والخيانة والتردد، الذين نصبوا من أنفسهم مبشرين بالأخلاق الفاضلة والسلوك السوي وهم في حقيقتهم نماذج بشعة للالتواء والجبن وكل سلوك أعوج. كم من الناس «يلتزمون» بحناجرهم فقط، تقرأ للواحد منهم أو تسمع فيخيل إليك أنه راهب شعبي يتعبد في محراب التضحية والبطولة والكلمة الشريفة، ولكنك تفجع حين تعرف أنه يتخذ من هذه المعاني تجارة رابحة لا تكلفه إلا ترديد هذه الكلمات بمناسبة وبلا مناسبة.
إنه الشيء الذي يدفع حقيقة للاشمئزاز أن ترى تلك النماذج من الكائنات التي لا تحوي في أعماقها ذرة واحدة من ذرات الخير، بله التقدم، وهي تحمل راية الشعب وتجأر باسمه. نماذج، يا لها من نماذج! لقد عددت بنفسي في مقالة لأحدهم كان ينقد فيها بعض من يعتبرهم شريرين وخبثاء، عددت في فقرة واحدة لا تتعدى السبعين كلمة، اثنتين وعشرين كلمة كلها تدور حول الحقد والبغض والمستنقع والقيح والنتانة والانحطاط والفجر والبشاعة. اثنتين وعشرين كلمة كهذه في فقرة واحدة من مقال يدعو فيها إلى الصفاء والمحبة والخلق السوي!
أعتقد أنه قد آن الأوان أخيرا ألا تظل الشعارات تخطف أبصارنا خاصة وكل الناس والحمد لله قد أصبحوا حملة شعارات براقة خاطفة. المهم أن ندرك جيدا كنه اليد التي ترفع الشعار، والمصدر الذي يردده، إدراك هذا بالغ الأهمية؛ لأن من السهل جدا أن نخدع عن الحقيقة باسم الحقيقة، وعن التقدم وعن شرف الكلمة باسم شرف الكلمة، من السهل ما دمنا نجري وراء الشعار فقط أن يخدعنا حامله، وبنفس الطريقة التي يكذب بها علينا وربما على نفسه، يجرنا إلى مزالق بالغة الخطورة. ولأنه يصدر في دعوته للفضيلة عن حقد ينشر الحقد بيننا دون أن نحس، فالحقد روح تسري ربما من خلال أطيب الألفاظ، وما أكثر ما تسربت روح تشكيك الناس في الآخرين واستعداء البعض على البعض من خلال دعوات صالحة إلى المحبة والتسامح!
ولكنها - والحمد لله أيضا - نماذج قليلة، أصبح أمرها معروفا، حتى ليكاد المواطن البسيط يحددها بالاسم واللقب. وسر إعجابي الشديد ب «محمود أمين العالم»، رغم كل ما قد يكون بيننا من اختلافات، هو أنه النموذج المناقض تماما لهذا النوع الذي ذكرت، إنه الابن الطيب الذي ورث عن هذا الشعب كل تواضعه وبساطته وصدقه الكامل مع نفسه، وحين اعتنق «محمود العالم» رأيه لم يحمله في يده صولجانا يتباهى به على الآخرين ويتهمهم بالتخلف ويشيد بسموه وتقدميته، إنما راح بكل بساطة يعمل من أجل إقناع الآخرين وكسبهم. لم يجعل همه أن يضبط الناس ويسجل عليهم تقاعسهم أو قصورهم، أو ينعى على الضعفاء ضعفهم. لم يحله رأيه إلى قاض أخلاقي يحكم على الآخرين ويندد بهم، وإنما بكل سماحته مضى يبحث في الناس عن مواطن الخير ويحبذها ويمجدها، ويعيش رأيه، فبينه وبين نفسه هو هو بينه وبين الناس، ورأيه في وجهك هو نفس رأيه في غيبتك، وبلا تجارة بشرف الكلمة هو دائما شريف الكلمة، وبلا صراخ أو ضجيج منفعل واتخاذ لموقف الشهيد المعذب ضحى ولم أسمعه مرة يذكر تضحيته، أو أحسست به واعيا أو مدركا لها وكأنها ما حدثت. ولم تكن هذه صفاته هو وحده، إن شعبنا حافل بالملايين من أمثاله، آخرهم وليس أقلهم هو ذلك العامل في السد العالي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ذلك الذي كان بعد أن تنتهي نوبته يظل في مكانه يعمل ولا يطالب أبدا باحتساب أجر عمله الإضافي هذا، ولا سمعه أحد يذكر أنه إنما يضحي من أجل مشروعنا وشعبنا. الخير فينا كثير ولكن المشكلة، الشاذ، هو ذلك النوع من الكائنات الذي آن أوان انقراضه واختفائه كلية من حياتنا.
معارك فكرية ولكن ...
وكتاب محمود العالم «معارك فكرية» صورة مصغرة لشخصه، كل ما في الأمر أنك بعد قراءته تؤمن أن العالم يعتنق رأيه، لا لأنه مع الرايجة أو ليركب موجة الاشتراكية الصاعدة؛ ولكن لأنه وصل إليه بعد رحلة بحث شاقة وعميقة، بعد معاناة جادة ودءوبة لمواطن مثقف أراد أن يعرف الحق والحقيقة، وحين وصل إلى ما آمن أنه الحل الحتمي ليس فقط لمشاكل شعبنا وإنما للعالم والوجود كله، وهب نفسه كلية لهذا الإيمان يدعو له ويناضل في سبيله ويدافع عنه.
والكتاب مذكرة ضليعة أعدها محام قدير مدافعا عن قضية الاشتراكية العلمية، مذكرة تفند في تدفق وقسوة أقوال شهود النفي من براجماتيين ووضعيين منطقيين ووجوديين وغيرهم، وفي نفس الوقت تبشر بتدفق أعظم بكل ما يصلح دليلا للإثبات. وكم كنت أتمنى لو لم يكن الكتاب عددا من المقالات المتفاوتة التواريخ، فقد أدى هذا إلى أن هناك مقالات تحس أن الآراء الواردة بها قديمة والقضايا التي تثيرها قد انتهى الجدل حولها من زمن، في حين أني كنت أطمح من كتاب يكتبه «العالم» اليوم ويتحدث فيه عن الاشتراكية أن يأتي ابن ساعته، ابن أعوامنا هذه وقضايانا. فالجدل حول الاشتراكية لم يعد جدلا حول نفعها أو أهميتها أو تفوقها على كل الفلسفات، ولا عن حتميتها ووحدانيتها كالوسيلة العلمية الوحيدة لحل متناقضات المجتمع البشري بحاضره ومستقبله. كل هذا لم يعد محل جدل كثير، إنما الجديد اليوم هو القضايا التي أثارتها الاشتراكية نفسها لدى تطبيقها، الجديد هو المشاكل التي أثارتها الاشتراكية العلمية في حلها، الجديد هو القضايا التي كانت تعتبر مسائل مسلما بها، والتي لم تعد الآن كذلك، الجديد مثلا هو مشكلة علاقة الفرد والمجتمع؛ إذ إن التطبيق قد أثبت أنه في بعض الأحيان يطغى الوجود الجماعي على الوجود الفردي إلى درجة تهدد الجماعة نفسها، إلى درجة أصبح شغل المفكرين الاشتراكيين الشاعل هو كيفية تحقيق الوجود الفردي داخل الوجود الجماعي دون أن تتضخم الفردية وتطغى، الجديد هو الديمقراطية الاشتراكية لا كشعار، وإنما كحقائق وتطبيقات، الجديد هو التغيرات التي طرأت على موقف الاشتراكية من الداروينية والفرويدية والنسبية. كل هذا كنت ولا أزال أتوقعه من كتاب يكتبه محمود أمين العالم عن الاشتراكية، ولكن الكتاب ليس بالضبط عن الاشتراكية وإنما هو كما يقول عنوانه معارك فكرية، صحيح أنها معارك فكرية يخوضها مفكر وفيلسوف اشتراكي ضد أفكار وفلسفات غير اشتراكية، ولكن رغم دسامة الدراسات وعمقها، رغم أنها ترسم صورة نابضة لجانب هام من جوانب وجودنا الفكري والسياسي، رغم أن موضوعها معروف وموقف كاتبها واضح سلفا، رغم أنها أول كتاب لمحمود أمين العالم، إلا أنني ومعي آلاف من قراء السياسة والفلسفة والمتتبعين لكل ما يمت إلى قضية حياتنا الاشتراكية لا نزال في حاجة ماسة من كافة كتابنا ومفكرينا وفلاسفتنا الاشتراكيين، ومن محمود العالم بالذات، إلى كتاب عن المعارك الجديدة للاشتراكية، وأهمها معركة الاشتراكية والاشتراكيين مع الاشتراكية نفسها، أو بمعنى أدق مع بعض المفهومات الاشتراكية، وبشكل خاص تلك المفهومات التي يتسرب منها الخطأ أثناء التطبيق، والتي نسيت في ظهور الانحرافات الطغيانية وعلى رأسها - دون ريب - العلاقة التي شغلت بال البشرية منذ أتينا إلى لحظتنا الحاضرة، علاقة الفرد بالجماعة والمجتمع والدولة.
إني وإن كنت أعتقد أن كتاب معارك فكرية هو من أخصب وأدسم ما قرأته في حقل الفكر والفلسفة من إنتاج القريحة العربية، إلا أنني أتطلع بشغف كبير إلى الكتاب القادم لمحمود أمين العالم عن معارك الاشتراكية مع الاشتراكية، إذا صح أن تسمي هذه القضايا الخطيرة معارك. (31) الثورة الجزائرية «بومدين»
الحقيقة أن شغفي بالثورة الجزائرية لم يفتر يوما منذ أن اندلعت في أول نوفمبر عام 1954، وقد قدر لهذا الشغف أن يتطور لتصبح القضية الجزائرية قطعة من ذات نفسي وجزءا لا يتجزأ من تاريخ حياتي، وأنا أشهد أحداثها في مراحلها المختلفة، وأرى أبطالها وهم ثوار خنادق وغارات، ثم وهم رجالات سياسة ودولة وأزمات!
وكان أول اتصال حقيقي حدث لي مع الثورة الجزائرية وجيش التحرير، هو ذلك اليوم الذي قرر فيه الدكتور عبد القادر حاتم إيفاد بعثة لعمل تحقيق تليفزيوني مصور كامل عن الثورة الجزائرية، وعهد لي بشرف رئاسة هذه البعثة. وكانت مغامرة العمر، فقد أتيح لي آنذاك أن أحيا مع جيش التحرير الوطني الجزائري وهو يقض مضجع فرنسا بهجومه ومعاركه وغاراته، وقضيت الأيام والأسابيع مع قواته داخل الخنادق المحفورة في بطن الجبل، وفوق الربى والغابات أشهد وأساهم وأتصور بعض معاركه الفاصلة، وعبر الخطوط المكهربة، وأخرج من هذا كله بإصابة الركبة اليمنى، وبفيلم عن الثورة عرضه التليفزيون، وكان أول تحقيق يقوم به جهاز للإعلام العربي عن أعظم ثورة عربية مسلحة، فيلم عرض أكثر من مرة، وبيعت منه أكثر من نسخة إلى محطات التليفزيون العالمية.
قصة طويلة مريرة عامرة بالذكريات ...
المهم الذي أريد أن أذكره هنا هي تلك الليلة التي لا أنساها أبدا، والتي كانت أول وآخر مرة أقابل فيها الكولونيل بومدين في مقر قيادته السرية لجيش التحرير.
كان قد تحدد اليوم - بعد انتظار دام أسبوعا قضيناه على أحر من الجمر في مدينة تونس - وفي الخامسة صباحا جاءت عربة «بيجو» فرنسية ذات سائق مسن صامت، حين لم يعلق على أسئلتنا الكثيرة بأكثر من الابتسامات المؤدبة، آثرنا السكوت وأسلمناه أمر مصيرنا. كنا نعرف أننا في طريقنا إلى مقر قيادة جيش التحرير، ذلك هو كل ما نعلمه. ورحت طوال الرحلة الصامتة الطويلة أحاول أن أتخيل المكان الرهيب الذي تدار منه المعارك، التي تكلف فرنسا ملايين الملايين من الفرنكات ومئات الضحايا. ولم تنته رحلتنا إلا قرب الظهر حين دخلت بنا العربة مدينة تونسية صغيرة نائية قرب الحدود الجزائرية يسمونها جاردماو، في حين أن الاسم العربي لها هو غار الدماء، ولكن هكذا ينطقها الناس هناك جريا على النطق الفرنسي لها، بلدة يقال إنها شهدت معارك مهولة في تاريخها القديم، ولهذا السبب أطلق عليها اسم غار الدماء.
ظلت العربة تجوس خلال شوارع المدينة التي تشبه أحد «المراكز» في ريفنا المصري، وهناك عند نهاية البلدة دخلت بنا بناء يبدو كالمصنع القديم المهجور أو كمدرسة ابتدائية خالية من الطلبة، بناء لا يميزه عن غيره من الأبنية إلا أن ثمة جنديا بملابس جيش التحرير يحرسه من الداخل، أما من الخارج فلا يبدو عليه بالمرة أي لمحة تدل على المهام الخطيرة التي تجري داخله، هذا البناء هو مقر القيادة لجيش التحرير الوطني الجزائري. هناك قابلنا «سي فرحات» ذلك الضابط المتحمس الشاب الصغير ذا المنظار، الذي لا ينام إلا والتومي جن بجوار فراشه، والذي كان يمثل ما يشبه الشئون العامة لجيش التحرير، من تلك اللحظة أصبحت البعثة في عهدة فرحات، «تراه أين هو الآن وماذا صار إليه؟»، وأفهمنا فرحات أننا سنقضي بعض الوقت في القيادة العامة ريثما يدبر أمر رحيلنا إلى الجبهة. وبعد دقائق كنا نغير ملابسنا المدنية بأخرى من ملابس جيش التحرير، وهكذا بعد أقل من نصف ساعة كنا قد قطعنا صلتنا بحياة عريضة بدأناها في القاهرة، ودخلنا في حياة جديدة علينا تماما، أو على الأقل هكذا كنت أحس وأنا محشور داخل بنطلون جندي «صاعقة» وقميصه. أفهمني فرحات أنهما لجندي فرنسي الله وحده يعلم مصيره آنذاك، إذ لم أجد مقاسا يناسبني بين ملابس الجنود الجزائريين الذين يتميزون كسكان الجبال بالقوام الرفيع الصلب.
الإيتاه ماجور
مكثنا ليلة، وفي الليلة التالية أخبرنا فرحات بقرب حلول موعد العشاء، والعشاء كان يحل ساعة غروب الشمس. إننا سنتعشى مع ال
Etat major ، وهو الاسم الذي يطلقونه على القيادة العامة. وحسبت أننا بعد طعام الفلفل الحار المقلي الذي ظللنا نتناوله منذ أن حللنا بجيش التحرير في طريقنا إلى مائدة طعام دسمة. ولشد ما خاب ظني ، فقد قادنا فرحات إلى غرفة عرفت فيما بعد أنها ملحقة بمكتب القائد العام. ذلك المكتب الذي لمحته من خلال الباب الفاصل لا يميزه شيء عن مكتب ناظر مدرسة إلزامية، إلا منضدة كالتي يستعملها الرسامون عليها خرائط. دخلنا، فرحات وعبد الرحمن هندام وعم رجب وأنا (أعضاء البعثة) فوجدنا ثلاثة أو أربعة رجال جالسين إلى طرابيزة من الخشب الكالح لا كراسي حولها، إنما على كل ناحية من نواحيها «دكة» خشبية منخفضة. وقلنا سلام عليكم وردوا السلام وهم يأكلون؛ إذ كانوا فعلا يتناولون الطعام دون انتظار لمقدمنا، وعرفنا حينذاك ألا برتوكولات هناك في جيش التحرير. وجلسنا، وفي الحال جيء لكل منا بطبق من «الكسكس»، وهو الطعام الرسمي والشعبي للجزائريين الحافل بكميات من الفلفل الحراق الهائلة، وكان هو كل العشاء.
ولكن مشكلتي لم تكن الكسكس أو الفلفل أو الطعام، كانت مشكلتي أن أحاول أن أخمن من يكون من بين الثلاثة الموجودين القائد العام؟ كنت أعرف أن قائد جيش التحرير اسمه بومدين، أو الكولونيل بومدين، ولكني لم أكن أعرف صورته. تراه من يكون فيهم؟ تركت مسألة التحديد للحديث، ولكن الحديث الذي دار كان قليلا جدا لم يتعد بضع كلمات ذكرها كل منهم، وعرفت منها أنهم جميعا قد زاروا القاهرة زيارات خاطفة. ولكني من مجرد طريقته في الكلام، من جلسته، من نظراته، خمنت أن القائد العام لا بد أن يكون ذلك الرجل الذي كان يبدو أنه لم يتجاوز الأربعين الجالس أمامي مباشرة. العجيب أن نفس الخاطر كان يدور في عقل زميلي هندام وعم رجب، وأنهما هما الآخران أدركا أنه نفس الشخص الذي خمنته، مع أن الضباط الثلاثة كانوا يرتدون نفس الزي ويتمتعون بنفس الاعتداد والثقة بالنفس. هو ذلك النحيل ذو الشعر الأشقر الأحمر والوجه الرفيع الضامر المشرب بحمرة، كل ما يميزه عن زميليه أنه كان يحادثنا باللغة العربية بلكنة جزائرية وإنما بطلاقة، ثبت لنا معها أنه خير من يتكلم بالعربية في جيش التحرير كله، بل وبين كل القادة الجزائريين على كثرتهم. أما الضابطان الآخران فقد كان مقدرا لهما أن يلعبا دورا خطيرا بعد هذا، فقد كانا هما نفس الضابطين اللذين قبضت عليهما حكومة بن خدة، وادعت أنهما تسللا إلى داخل التراب الجزائري للتمهيد لزعامة بن بيللا وتقوية قبضة جيش التحرير وبومدين على ولايات الداخل، وصنعت من هذا حجة لإصدار قرار بعزل «الإيتاه ماجور» أو بومدين وأركان حربه. وكانت النتيجة تلك الأزمة التي أطاحت بحكومة بن خدة.
فراز الرجال
أذكر أن بومدين سألنا يومها إن كنا جادين في رغبتنا في الاشتراك في معركة يخوضها الجيش مع القوات الفرنسية عند خطوط شارل أو موريس، وحين أكدنا له عزمنا على هذا أجابنا بأنها مسئولية جيش التحرير أن يحافظ على حياتنا، ولكنا أبدينا استعدادنا بكتابة تعهدات على أنفسنا تخلي جيش التحرير من المسئولية. وتفرس فينا بومدين بنظرة فاحصة عميقة لست أدري أكان بها يختبر شجاعتنا وهو القائد الذي دربت عينه على فرز الرجال وسبر غور طبيعتهم، ولكنها والحق يقال نظرة لم نسترح لها كثيرا؛ إذ كانت خالية من الود، حافلة بالموضوعية. وهكذا بومدين، إنه ليس من ذلك النوع الاجتماعي الودود من الرجال الذي يسخر مواهبه ويستنفد قواه في كسب الأصدقاء والأنصار. إنه دائما موضوعي وجاد وعلاقته بالناس يحددها المبدأ أو القضية ولا تحددها أبدا العاطفة الشخصية، وربما يصلح هذا المفتاح لتفسير كنه ما حدث، فالناس لا يزالون للآن يعجبون كيف «ينقلب» بومدين على «صديقه» بن بيللا! إذ ذلك نوع من التصور العاطفي الشخصي للعلاقة، في حين أن علاقات بومدين بالناس كما قلت أساسها أبدا ليس العاطفة أو النوازع الشخصية.
المهم أني خلال اليومين اللذين قضيناهما في «الإيتاه ماجور» نحيا مع بومدين عن قرب، نأكل أحيانا معا، وكثيرا ما نلتقي ونتبادل الأحاديث الخاطفة. أدركت أن قيادة جيش التحرير ليست سوى الجزء الحاضر أو الظاهر من مهمة كبرى لا تزال مستترة يعد لها هذا الرجل القوي المتميز نفسه.
المشهد الغريب
وقد قدر لي أن أعود للقاء بومدين بعد أكثر من عام، أيام الاستقلال وأزمته، حين أوفدتني جريدة الجمهورية لموافاة قرائها بأخبار وتفاصيل الأزمة التي نشأت بين بومدين وبن بيللا من ناحية، وحكومة بن خدة وبوضياف وبلقاسم من ناحية أخرى. كان بن بيللا أيامها في القاهرة لا يزال، وكان بومدين قد دخل بقواته من الحدود التونسية الجزائرية والمغربية الجزائرية، واحتل جيش التحرير نصف الجزائر الغربي الذي تعد وهران عاصمته. رحنا ننتقل مع قوات جيش التحرير وهي تزحف من وجدة «قرب المغرب» إلى تلمسان «مسقط رأس بن بيللا»، ثم نتوغل داخل الولاية الرابعة وهران وتيارت. كان الجيش يتحرك وجبهة التحرير الموالية لبن بيللا وبومدين تعقد الاجتماعات الشعبية، وبن بيللا يستدعى ويأخذ مكانه على رأس الموكب الزاحف. وكان بومدين دائما هناك، وهناك دائما جلسته في جانب من منصة الشرف يرقب ما يحدث بعيون متيقظة كعيون الصقر، وتحس أن وراء جبهته العريضة تصميما مستميتا قاهرا على الانتصار. حتى جاء يوم رأيته فيه في مشهد بالكاد صدقته عيني. كانت عائلته قد انضمت إليه، ورأيته يوما في مؤتمر تيارت وفرحات عباس ومحمدي السعيد ومحمد خيضر وبن بيللا يحتلون مقاعد منصة الشرف الأمامية ويخطبون، بينما هو قابع في مؤخرة المؤتمر يرقب ما يحدث بنظراته الملتهبة الحادة، ولكنه كان هذه المرة يحتضن طفلا في الثامنة أو السادسة من عمره، عرفت لشدة الشبه أنه ابنه. وكان يحدث في أحيان قليلة جدا أن يقطع نظراته المتفحصة الحادة ليرمق الطفل بعيون يتدفق منها فجأة حنان غريب لا تكاد تصدقه، وأبوة صافية خالصة من الصعب أن تتصور أن بومدين - ذلك الرجل الحديدي - هو صاحبها.
ولست أعرف لماذا ورغم الازدحام والخطباء والأسماء الضخمة المتصدرة، ورغم أنه الوحيد الذي كان لا يخطب ولا يتكلم ولا يدلي بأية تصريحات بينما الكل أيامها قد تلبستهم حمى الزعامة وعقد المؤتمرات، والبلاد وإن كانت قد ظفرت بالاستقلال إلا أنها لا تزال بلا حكومة، أو هي بحكومة ك «الملك» في بعض الدول، تملك اسما ولكنها لا تحكم. رغم أن الجزائر أيامها كانت مجرد شعب كبير خرج للتو من سجنه، الدولة فيها لا تزال سديما لم تتحدد معالمه، وجنينا في بطن الغيب لا تعرف ماذا يكون عليه شكله أو كنهه أو مصيره. رغم أن كل شيء كان يغلي ذائبا، لا تستطيع أن تضع يدك على شيء أو شخص صلب له ثقل وكيان فيه، رغم كل هذا فقد كنت لا أستطيع شخصيا أن أحول انتباهي عن بومدين، والابتسامة الجادة التي لا تتغير أو تتطور في ملامحه، معتقدا، بل أكاد أكون مؤمنا إيمانا لا يتزعزع، أنه الرجل الذي يملك في يده مفتاح الموقف، ليس فقط مفتاح الموقف في أزمة ما بعد الاستقلال، ولكن مفتاح الموقف في الجزائر بعدما تستقل، وفي الدولة حين يتجمد كيانها السائل الذائب ويصبح صلبا كهياكل الدول.
كنت دائما على يقين أنه المخرج الحقيقي للرواية، وأن المسألة عنده مسألة وقت وزمن ومجرى طبيعي لا بد أن تجري فيه الأمور. ولكن دائما وأبدا ستحين اللحظة التي سيوقف فيها بإشارة منه الصخب الدائر فوق المسرح، ويتقدم بنفسه هذه المرة ليتولى الزمام.
وهو بالضبط ما كان. (32) أما عن الزنوج في أمريكا
فرق كبير بين أن تقرأ عن قضية كقضية الزنوج في أمريكا وبين أن ترى القضية على الطبيعة، والزنوج الأمريكيون كما رأيتهم بنفسي في شيكاجو بالذات في حالة ثورة وتمرد أكثر بكثير من الثورات التي تجتاح أي بلد مستعمر ليتحرر. لقد شاهدت في يوم أحد مظاهرة قام بها أكثر من مائة ألف زنجي يغنون بصوت منغم رخيم «الحرية ... الحرية»، يغنونها للسماء وللكنيسة ولناطحات السحاب في بلد يعتقد البعض أنه موطن الحرية وراعيها.
ولقد مرت المظاهرة من أمامي واستغرق مرورها أكثر من ساعة، وكنت طوال الوقت أتساءل ممن يطلب الزنوج هذه الحرية؟ أمن الحكومة؟ إنها حكومة البيض، وهي ليست حكومة بيض فقط ولكنها حكومة هؤلاء الذين يعتصرون البيض أنفسهم ويستغلونهم ويحيلونهم إلى عبيد لنظام دقيق رهيب يمثل أذكى ما استطاع الجشع الإنساني أن يقيمه ويشيده وينظمه. أيطلبونها من الكنيسة؟ ولكن الكنيسة أيضا بيضاء، وصحيح أن هناك عددا كبيرا من رجال الدين يعطفون على قضية الزنوج ويؤيدونها، ولكن المشكلة في هذا النظام الرأسمالي الغريب أنه يسمح حقيقة بحرية المعارضة، بل أحيانا يجد أنها مفيدة لعملية الإنتاج الرأسمالي نفسها، باعتبار أن الفرد يحس بهذه الحرية المزيفة ويستمتع كالطفل الأبله بمجرد وجودها ولو على الورق ولو مع إيقاف التنفيذ، ولكن دع هذه الحرية تهدد وجود النظام، دعها ترق إلى مستوى المعارضة الحقيقية حتى لتوشك الأسس أن تتمايل وتضطرب، إذن فستجد الطبقة الحاكمة قد كشرت عن أنيابها واستعملت الحرس والجيش وكل ما تستطيع أن تصل إليه يداها لقمع هذه المعارضة. وهذا هو بالضبط ما يحدث في الجنوب الأمريكي، بل ما يحدث في فيتنام، فالغازات السامة وقنابل النابالم وقتل الأطفال والنساء وتدمير طاقات مجتمع بأسره لا يمكن أن يكون من سمات أي حرية من حريات العالم حتى الحرية الأمريكية. لا يمكن لدولة تؤمن حقا بالحرية، حرية الفرد وحرية الشعب، أن تفعل ما تفعله أمريكا في فيتنام. لا يمكن لدولة أن تكون بوجهين؛ وجه حر في بلادها، ووجه قاتل للحرية وخانقها في بلاد غيرها. إنما هي الحرية المزيفة داخل أمريكا، تسفر عن وجهها الحقيقي خارج أمريكا. لقد ناقشت كثيرا من المسئولين وغير المسئولين في قضية فيتنام فكان جوابهم شبه المتفق عليه؛ أنهم إنما يدافعون عن «حرية» العالم الغربي ضد الزحف «الشيوعي»، وكنت أقول لهم: أية حرية تلك التي تخنق من أجلها ويمثل بها حرية شعب، أية حرية تشترى بدماء الأطفال وبالسناكي تبقر بطون الحوامل إن هي إلا الفاشية مقنعة. إن الحرية كل لا يتجزأ، فإذا أزهقتها في مكان فأنت على الدوام قاتلها. وهذا هو بالضبط ما وجدته في أمريكا، إن المظاهر البراقة للحرية موجودة، الصحافة تنقد جونسون، وبعضها يعارض الحرب في فيتنام، المثقفون يعادون، وكأنما بالغريزة، الطبقة الحاكمة «وإن كانوا يدافعون عن النظام»، حتى لقد تلقى جونسون عريضة موقعا عليها من ثمانية آلاف أستاذ جامعي يطالبون فيها بإيقاف الحرب في فيتنام. التليفزيون بجوار الإعلانات التي تثير الفتيان، ويذيع أحيانا ندوات ينقدون فيها سياسة أمريكا الخارجية والداخلية، ولكن المشكلة الحقيقية أن هذا كله يدور والآلة الرأسمالية الرهيبة سادرة في غيها، سادرة في ضرب فيتنام، سادرة في ضرب حركات التحرر في كل مكان. نجد بعض الأمريكيين يشمئزون من مجرد ذكر وكالة المخابرات المركزية ويهزون أكتافهم، وفي نفس الوقت يعتمد الكونجرس لهذه المخابرات مئات الملايين من الدولارات لتنفق في هدم النظم والمجتمعات الأخرى، باسم الحرية أيضا. الفرد حر في أن يلتحق بهذه الشركة أو تلك، ولكن ادخل في صميم العمل تجد ذلك الفرد وقد فقد تماما حريته، إذ لكل فرد يعمل في الشركة ملف سري خاص يدون به ما لا يمكن أن يخطر بباله من المعلومات عن أصدقائه، ألعابه المفضلة، هوايات زوجته. ولكل شركة جهاز تجسس على العاملين فيها يستحل لنفسه أن يضع مكبرات الصوت في حجرات النوم، وأن يفتش البيوت، وأن يتجسس على المحادثات التليفونية كي يحصل على هذه المعلومات، وكل بند من بنوده يتدخل في ترقيته أو حتى في فصله من الشركة. أجل! الحرية في الدستور موجودة، وفي الظاهر تزاول علنا. ولكني آمنت أن المجتمع الرأسمالي لا يمكن أن يسمح بالحرية الحقيقية؛ إذ لو سمح بها لربما رفضه الناس تماما، إنه يسمح بها في حدود، وبالقدر الذي يكسبه المظهر الحر، وليس أكثر من هذا، أبدا ليس أكثر من هذا.
الخدعة الكبرى
ومن هنا بالضبط تنبع المأساة في قضية الزنوج، منذ أكثر من مائتي عام وهؤلاء الزنوج يكافحون لنيل حريتهم معتقدين تماما أنه حسب الدستور لهم الحق كل الحق في أن يكونوا مواطنين مساوين تماما للبيض في الحقوق والواجبات، تضللهم هذه الخدعة الكبرى، بدءوا المسيرة من أجل الكفاح الدستوري لنيل الحقوق. وحقيقة أنه في بعض الولايات - وفي الشمال بالذات - حصل الزنوج على الحقوق الدستورية للمواطن، فهل معنى هذا أنهم أصبحوا مواطنين من الدرجة الأولى؟ لا. فالزنوج في أمريكا لا يزالون - حتى في الولايات التي نالوا حقوقهم فيها - يعاملون بالتحفظ الشديد من جانب البيض مما يجعلهم يكادون يصبحون مواطنين من الدرجة الثانية، لا يزال هناك الجدار غير المرئي الذي يفصلهم عن البيض، لا يزال هناك التوجس والخوف وعدم الأمان. لا يزال الزنوج يحسون أنهم وإن كانوا قد نالوا بعض الحقوق إلا أن الهوة عميقة، تبدو وكأن لا بعد لها، وقضية الزنوج ليست قضية لون فقط، ولا قضية سيادة أبيض على أسود، ولا قضية أقلية هي عشر الأغلبية البيضاء، ولا قضية مستوى تعليمي أو اقتصادي، إنها أولا وأساسا قضية الحرية في المجتمع الرأسمالي واستحالة التمتع بها، كنت وأنا أتتبع المظاهرة السوداء التي تغني بالحرية للحرية، أراجع في ذاكرتي كل الآراء التي قرأتها عن ضرورة وقرب حل قضية الزنوج وأسخر بها في أعماقي، فقد بدا لي الحل مستحيلا تماما في ظل المجتمع الرأسمالي القائم على التنافس وعلى سيادة الأحسن أو الأذكى أو الأكبر تعليما أو نقودا، إنه مجتمع صراع يكاد يقترب من الحيوانية من أجل البقاء. صراع لا مكان فيه للشفقة أو للعطف أو للإنسانية، صراع إذا استحلت فيه إنسانا ضعت، صراع وإن يكن القانون قد نظمه ووضع عقوبات لكل من يخالفه إلا أن القانون لا يمكن أن ينطبق على ما تزخر به الأعماق، القانون لا يحاسبك عما يدور في رأسك، عن عواطفك، إنه فقط يحاسبك على تصرفاتك، وحتى ليست كل تصرفاتك، ولكن هذا الجزء منها الذي يخالف القانون. وإذا كان جهابذة الثورة الرأسمالية في عصر النهضة قد قالوا: قد أخالفك في الرأي ولكني مستعد أن أضحي بحياتي دفاعا عن حقك في قول رأيك، فلقد كان هذا في القرن التاسع عشر، أيام أن كانت العلاقات الرأسمالية بالنسبة للعلاقات الإقطاعية حلما من أحلام الإنسان. أما الآن وقد نضجت الرأسمالية حتى اقتربت من الشيخوخة فقد تحولت إلى نظام يخاف من نفس قوانينه الأولى، ومن نفس شعاراته، ومنها الحرية؛ إذ لو سادت تماما وحقيقة لانقلب الناس على هذا النظام الذي أصبح يعوق تقدمهم كبشر. ذلك النظام الذي تحول إلى الرشوة، فأصبح همه أن يغرق الكادحين فيه بفيض من البضائع الاستهلاكية والمغريات الصغيرة والتوابل ليحبب إليهم القيد، ويجعلهم يستمرون في المضي تحت سلطانه. ألا ما أتعس ذلك الإنسان وهو يترنح تحت عبء القيد! ألا ما أبشعه وهو يحاول التملص من انفجاراته العنيفة! لقد قرأت وشاهدت في التليفزيون قصة ذلك الطالب الذي صعد إلى برج جامعة تكساس وصرع 23 شخصا ببندقيته، يخيل إلي أنه كان يريد أن يصرع شيئا أكبر من هذا بكثير، كان يريد أن يصرع ذلك النظام الرهيب المختبئ الذي لا تراه ولا تلمسه، المستخفي بطريقة لا تستطيع معها أن تحدده، النظام الذي يحكم علاقات الناس في أمريكا، النظام الرأسمالي الذي لم يعد يصلح لبشر.
لا بد أن ينتهي
وأنا واقف أشهد المظاهرة كنت أقول لنفسي: لا جدوى أيها الأصدقاء، إنكم تطلبون الحرية من قاتليها ومزهقيها، إنكم تطلبون المستحيل. إن الحل الوحيد لقضيتكم ولكل القضايا المعلقة هو أن ينتهي نظام السادة والعبيد، هو أن تسود الحرية بكل معانيها وأبعادها الحقيقية، هو أن يتغير النظام. في ظل الاشتراكية فقط تحل مشكلة السود والصفر والسمر والبيض. في ظل نظام آخر للحياة وليس ذلك النظام الذي يعلو فيه الإنسان إلا على رقاب الآخرين. في ظل نظام آخر غير هذا النظام، نظام يستطيع أن يرحم ويفهم، نظام إنساني، نظام حتى وإن لم يستطع أن يحقق لأفراده الرفاهية المادية فعلى الأقل يحقق لهم الرفاهية الروحية، الرفاهية الإنسانية، الرفاهية الجديرة بالإنسان، فالإنسان قبل أن يكون حيوانا منتجا أو عاملا ضاحكا هو أولا حيوان يحس ويدرك، ويؤذيه الألم ويؤذيه أن يؤذي الآخرين، وحتى يؤذيه أن يبني مركزه الخاص على حساب الآخرين. لقد أدت الرأسمالية دورها التاريخي وآن لها أن تنتهي، وستنتهي بالقوة والقسوة أو بالتسليم، فلا بد أن تنتهي لينتهي الألم في العالم. إن ألم طفل واحد في فيتنام ليعادل في رأيي ويزيد على كل المتعة، التي يحسها عشرات الملايين من مالكي العربات في أمريكا، وتألم زنجي واحد تنهال عليه عصي الحرس الوطني - وهم البيض العاديون المسلحون - لا يمكن أن يعادله في رأيي كل متع هوليود ولاس فيجاس وديزني لاند. (33) لحظة 61
فجأة وجدت مشغوليتي الخاصة تتبخر وأنساها، كان لا بد أن أصل إلى الزيتون في السابعة تماما وكان الموعد هاما جدا، ولكن العربة وقفت ، كان هناك نهر بشري هائل يقسم القاهرة قسمين، والمرور ممنوع، لا بأوامر رجال البوليس والمرور ولكن أولا بحكم هذا البحر الزاخر الذي لا سبيل إلى اختراقه. هبطت وضميري يتململ بالموعد المخلف، ولكني من ناحية أخرى كنت أحس بفرحة الإقبال على تجربة مثيرة، طالما تمنيت أن أقف بين الناس العاديين، جماهير الشعب أثناء مرور جمال عبد الناصر لأعرف ماذا يقولون وبماذا يشعرون، كثيرة هي الصور التي نرى بها الرئيس؛ صوره وهو يخطب، صوره في قراراته كرئيس جمهورية، صوره في مواقفه المختلفة وتصريحاته، صورته وصوته في الراديو أو في التليفزيون. كثيرة هي الصور، ولكني كنت أتمنى دائما أن أراه من خلال الناس، من خلال أبناء شعبنا العاديين.
حاولت اختيار أقل الأمكنة ازدحاما لتتاح لي أكبر فرصة للرؤية، ولم أوفق؛ فكل مكان أكثر ازدحاما من الآخر، وهو ليس ازدحاما فقط ولكنه عملية تأنيس هائلة حدثت لكل شيء لأرض الشارع والجدران وأعمدة النور والشرفات والمقاعد وأسطح العربات. كلها استحال سطحها إلى بشر وكأنما زرعت لتوها بنبات بشري سريع التكاثر غطاها ولم يبق ولم يذر، حتى إني وجدت صعوبة في التعرف على المكان وهل هو حقيقة ناصية الساحة ومحمد فريد، صعوبة سببها هذه الأحراش البشرية التي نبتت فجأة وغيرت جغرافية المدينة.
وقفت كالمذهول أتأمل ما حولي، وألهث كالغريق في بحر الناس. أبدا لم أحس بمثل هذا الإحساس، لا للعدد الهائل من الناس ولكن لما كان يعتمل داخلهم، كم من مواكب الحكام شاهدناها، وكم من هتاف وتصفيق، ولكنه هذه المرة شيء مختلف، إن في الناس الواقفين اضطرابا، إنهم لا يستقرون، قلقون يتحركون ويتفاعلون، ويضحك بعضهم ويتحدث البعض الآخر، وفي العيون بريق الترقب. الصف الأول على شط البحر يصبح بالدفع والتسلل الصف الأخير، ليعود يدفع هو الآخر ويتسلل، والشارع المحروس برجال البوليس يتسع ويضيق في موجات متعاقبة، والواقفون حولي بعضهم صعايدة ينطقون الجيم بالدال، وجدة عجوزة لا تكف عن قولها: هو فين يا خويا ... هو فين؟ وطفل ممتط عنق أبيه وأبوه واقف فوق سقف الأتوبيس لا يكف عن القول: أهه ... أهه، وعمال في فرن يحملون رصص العيش كانوا في طريقهم إلى الدكان فوقفوا وأرغفة الخبز الساخنة بواخها يتصاعد، وشحاذ - أي والله شحاذ - لا يأبه لرائحتها ويزيحها بعيدا عن وجهه وأنفه حتى لا تحول بينه وبين الرؤية، بل وتترى تهديدات الواقفين ببعثرة الخبز أو سرقته أو التهامه لا كجوعى، ولكن فقط لكي يزيلوه من الوجود. وأخيرا بالدفع والجذب والتضييق يتراجع حاملو أقفاص العيش إلى آخر الصف، وسائق الأتوبيس الواقف الطويل الأصلع يقهقه بضحكة عريضة أقسم أني أحسست بها صادرة من قلبه، وأقسم أنه لم يكن لها سبب ظاهر ولا أخرجتها نكتة. والعساكر، أولئك الذين يحمون مجرى النهر من أن تردمه الكتل البشرية يبتسمون، ابتسامات حقيقية، ويقولون للشعب أبو جلاليب: إحنا خدامينكم، إحنا بتوع الشعب. أخيرا عرفت الشوارب الغليظة وأصبحت تنطق - بابتسامة - كلمة الشعب، نطقا يدفع الصعيدي أبو لبدة الواقف بجواري ليقول: ده كلاته من فضل أبو دمال. فيلكزه زميله مصححا: الرئيس دمال ياخينا.
سنراه بأعيننا
وقفت، وبعد أقل من ثانية كانت موجة الانفعالات الموجودة أصلا غمرتني وشملتني، وأنستني الزيتون والحلمية والموعد. وأصبح كل اهتمامي مركزا في وجهي، وكل اهتمامي بوجهي مركزا كالآخرين في أن أعثر على مكان بين العدد اللانهائي من الوجود أستطيع منه أن أرى ... الشغف العارم المكتسح وجدته يشملني، ويصبح همي الأوحد أن أرى جمال عبد الناصر، لا جمال الذي عرفناه، ولكن جمال شعبي، جمال هؤلاء الناس ... جمال الذي قادنا ببراعة منقطعة النظير حتى أرسانا، وأرسى جماهير شعبنا، هذه الجماهير على بر الاشتراكية. إنه من بعيد قادم، وبعد حين سيهل علينا، الرجل الذي نبع منا وبالقوة أقصى المستبدين بنا، وبكل إخلاص الابن البار أعاد الحقوق إلينا ... كاملة يا جمال وغير منقوصة، ها هو بعد قليل سنراه، ابننا وأبونا وأخونا الذي أصبح معجزتنا، بعد قليل سيمر من هنا، من أمامنا، وسنراه بأعيننا، وكأنما سنرى بأعيننا أحلامنا تتهادى في موكب حقيقي، وكأنما سنرى بأعيننا حقوقنا التي كدنا نيأس من ردها وهي ماضية، نلمسها ونعانقها في شوق ونحييها وترد لنا التحية.
ازدادت الحركة إلى درجة دفعت كل واقف منا أن يتخلى عن تحكمه في وقفته ويترك نفسه على سجيتها، يفعل بها الدفع والجذب والتنافس لالتقاط الرؤية الأولى ما يشاء، وسمعنا من ناحية ميدان المحطة تصفيقات، وعلى الفور تصاعدت من بقعتنا عدة من التصفيق، ثم اتضح أنها «سيرينة» موتوسيكل يمتطيه شاويش من الحرس الجمهوري، ولم يفعل ما حدث إلا أن ألهب الترقب، حتى إن بائع كازوزة حاول أن يرفع صوته مناديا على بضاعته فتولى من حوله إسكاته في الحال، ولو لم يسكت لأغلقوا فمه بالقوة. وقال الطفل الراكب أباه مرة: أهه ... أهه، وتصاعد التصفيق وهتاف الصعايدة: «فليعيش» جمال، ولكنه كان قائد المرور في سيارة مكشوفة، وأطلق سائق الأتوبيس ضحكة أخيرة ثم تلفت بعصبية ناحية أتوبيسه فوجد سطحه فوقه أكثر من خمسين، وما لبث أن اتجه إلى الأتوبيس في غضب ظاهر ودخل في مناقشة غير مجدية مع الراكبين بلا تذاكر خوفا على سطح الأتوبيس، وانتهى النقاش إلى أنه صعد معهم، وبدا كأنه رضي تماما بالواقع حيث أفسحوا له مكانا بينهم. وعادت العجوز التي بدا أنها أم صاحب الدكان الذي نقف أمامه وقد أخرج لها «البنك» وجعلها تثبت أقدامها جيدا فوقه، عادت تتساءل: هو فين ياخويا ... هو فين؟ وسمعنا سيرينة أخرى، وصفق الناس، وحدثت حركة هرج ومرج هائلة، وازدادت نوبات ضيق الشارع واتساعه رغم أيدي رجال البوليس التي تشابكت، ورغم أوامر الضابط، وكل هذا ولم يكن الموكب قد بدأ أو بدرت له بادرة.
لحظة عجز
وكدت أبكي عجزا، فيا للعالم الغريب الذي تفتح لي ووقفت على أبوابه! يا لآلاف المعاني المتزاحمة في خاطري من هؤلاء الناس عن أبي الكبير ... هذا الشعب، وعن ابنه البطل ذلك الزعيم! ما أروع ما قرأته في تلك العيون النهمة إلى الرؤية والتطلع! ما أعمق المعاني التي أحسستها وعرق الاضطراب الجماعي تندى به الجبهات! والقلوب أسمعها تدق، في قلبي المنفعل وهو يدق، في الترقب، في التطلع، لكأننا لا نصدق أنه سوف يظهر، ذلك الزعيم، لكنه سيجيئنا من السماء رأسا وعلى هيئة خارقة، ذلك الحب الصادق أين نجده بهذه المحيطية المتدفقة الشاملة، الحب النابع من النفس الكبيرة، نفس الشعب الرابض ملايين السنين فوق وادينا، المظلوم لآلاف السنين، والذي عرف كيف يقاوم الظلمة، وما كان أحد يدري أن باستطاعته أن يحب العدل والعادلين، أو إذا أحبهم أن يعبر عن هذا الحب بأقوى مما قاوم به الظلم، وأن يدرك بغريزته أين الزعيم، وأن يعرفه ويشمله ويحيطه ويرعاه حين يتصرف فعلا كزعيم، ويصبح على استعداد ليفقد المئات والآلاف والملايين ليحافظ على حبة عينه، على أغلى ممتلكاته، على قائده.
وأقبل الهدير، هدير راعد يكتسح، هدير لا تخطئه الأذن، عرفه الطفل وسكت، ولم تتساءل العجوز عن معناه، هدير أخرسنا وأسكتنا وأوقف على رءوسنا طير الدهشة والانبهار، هدير مختلط شنج الأيدي في قبضاتها وسكن حركة النبات البشري المتماوج، ومن بعيد، ومن أبعد بعيد، وبأسهل وأسرع مما كان يتصوره أحد، ورغم عشرات الآلاف من الأيدي التي سبقتنا بالارتفاع والتصفيق ورش الملح والتلويح، طالعنا الوجه الأسمر المبتسم، ورأينا أياديه.
وانفلت الزمام ...
وأقسم أن أحدا لم يع ما فعله في تلك اللحظة ولا إن كان قد هتف أو صفق أو لوح، فثمة هدير آخر مروع شملنا واجتاحنا ... هدير نابع هذه المرة منا، هدير حطم الإطار وألغى الرسميات وكسر جسر البحر ومزج الماء بالشاطئ والموكب بالجماهير وعجلات الموتوسيكلات بالأقدام وزغاريد السيرينات بزغاريد السيدات بجئير الرجال بدمدمة الموتورات برعدة الحناجر، لحظة ... أقل من لحظة ومع هذا فصورتها الشاملة ضخمة ضخامة لا حد لها، ضخامة زعيم لوى بيديه عنق التاريخ، لحظة مزجت كل شيء بكل شيء، وتحولت فيها الأجساد إلى أصوات، والآلاف إلى واحد، والواحد بمفرده إلى آلاف، بالآلاف وبالآلاف من آلاف الأفواه، آلاف الأذرع تمتد، وآلاف الأيدي تتكلم وتصدر آلاف الأصوات، والجو مشحون يهتز آلاف الاهتزازات، والأرض والشجر والشرفات والبيوت والأسطح والقضبان استحالت كائنات تنبض بنبض الجماهير وتهتز، لحظة تداخلت فيها آلاف اللحظات، وفقد فيها كل شيء - بمفرده - قيمته، وأصبحت قيمتها في كلها ككل، في مجموعها كمجموع، في آلاف الانفعالات تنبعث من آلاف الصدور، وكلها في وقت واحد تخاطب جمال، وكأنما كل منها يتصوره له وحده، هذا البطل المنتصر بطله، هو ملكه، لحظة لقاء الزعيم بالجماهير، لحظة تأميم الزعيم، لحظة فرحة الجماهير بالتأميم وفرحة الزعيم بتأميمه، لحظة روعتها في كليتها، في حاضرها المدوي الخاطف، فيما حدث قبلها وبعدها، في سبيلها وفيما سيترتب عليها، في جذورها السحيقة التي تمتد إلى آلاف السنين، وقممها النامية التي ستخرق آلاف السنين، في الأهوال والانتصارات، في الأرض للناس وبالناس، في الوجه الأسمر من ملايين الوجوه السمر، في المناديل البيضاء في الشرفات، في زغاريد الإناث، في عيد الأطفال في الحدث الذي هز الرجال، في الذي تبعثر تماما وسها حامله عنه، في دقات أقدام الطفل القوية القاسية على صدر أبيه لوصول جمال، في العجوز حين عجزت عن الزغرودة فدعت وخرج دعاؤها حبيبا طيبا، يقول: يخليك يا بني لشبابك، ربنا يخليك. في السماء المدمدمة بهدير الطائرات، في الأرض المدمدمة بهتاف صاعد إلى السماء، في مدينة تزأر، في جمهورية تنتفض، في شعب مارد يجد أخيرا جدا، نفسه، روحه، في زعيم!
لحظة ها أنا ذا عاجز عن وصفها، عشتها ورأيت فيها ملايين الرؤى والانفعالات، ولكن أين هي الآن؟ أين اللفحة المقدسة وسحرها؟ اللفحة التي تحيل الحاكم إلى زعيم، والزعيم إلى إنسان يهب عمره كله وما هو أكثر من عمره وحياته ليفتدي اللحظة، ويفتدي الإحساس، ولكي تظل القلوب تنبض له بمثل ما نبضت، وأحلام شعبه تحيط به مثلما أحاطت ... والصدور، آلاف ملايين الصدور تتفتح وتدعوه وترقق من نفسها لتحنو عليه وترعاه مثلما رأيتها تفعل.
لحظة عشتها وكل ما أملك قوله عنها: إني بها أحسست، ربما لأول مرة في حياتي، بشيء حقيقي باهر في حقيقته إلى درجة لا تقبل ترددا أو شكا، بل شيء أقوى من كل حقيقة أو حقيقة عرفتها أو وعيت بها، أقوى من حقيقة وجودي أو حياتي أو ما أؤمن به، أقوى من المدينة الكاملة التي رحت أسير بلا وعي في طرقاتها، أقوى؛ لأنه أخلد من أي مدينة أو بلدة أو عقيدة ، فهو اللحظة التي تخلق المدن والبلاد والعقائد. (34) تجربة عيد جديد
أردت أن أقضي العيد وأقوم بتجربة فريدة في نوعها.
والعيد كلمة، ومناسبة، وبلسم، كالدواء يعالج الكثير من الجروح والمرارات.
وأنا ممن يؤمنون أن مصر هي القرية، ليست القاهرة ولا الإسكندرية، ولا «البدل» والفساتين والمستحضرات وارد الخارج والداخل، وإنما الشعب، ليس الطيب، فشعبنا ليس طيبا بالمعنى الساذج الدارج السخيف للطيبة، وإنما هي طيبة الذكي أو ذكاء الطيب.
وقريتنا ككل قرية في مصر، ككل إنسان، كانت لها مشكلتها الخاصة.
ومشكلة قريتنا الخاصة أنها مكونة من عائلات، بعضها غني، وبعضها قوي، وبعضها كثير العدد فقير، بعضها صاعد، بعضها بدأ يهبط، الموجات الضخمة التي أحدثتها الثورة في حياتنا بدأت تصل إلى القرية منذ بضع سنين، وتغير كثيرا من الأوضاع، وتجعل من كل قرية صورة مصغرة لبلد بأسره يغلي بالثورة ولا يجد الطريق، فالعائلة التي كانت تحكم قريتنا، وهي ليست عائلة إقطاعية عاتية كما قد يتصور البعض، إلا أنها كان منها العمدة «الملك» وشيخ الخفراء «وزير الداخلية»، وأيضا كان منها معظم المثقفين، وقد جاءت الثورة، ومع مجيئها بدأت طبقات كثيرة ترتفع في السلم الاجتماعي، وبدأ تاجر الأسواق الصغير المتنقل دوما بين الأسواق يصبح له دكان، والفلاح يرسل ابنه إلى المدرسة المجانية، وجيوش من المتعلمين وأنصاف المتعلمين والحرفيين تكون ثقلا جديدا، وتيارا جديدا. وما كادت تحدث أول انتخابات حتى أسقطت العائلة العريقة الحاكمة وبدأ لأول مرة فلاحون وحرفيون وموظفون صغار هم هيئة الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي.
ثم تبدأ المشكلة الضخمة حين يحدث الصراع حول من يكون العمدة، وقد أعفي العمدة القديم من منصبه.
باختصار، بدأ صراع رهيب حول من يحكم قريتنا، وإلى من تئول السلطة، هل تئول للطبقات الجديدة التي بدأت توجد على نطاق واسع بتفكير جديد، وبمنطق جديد؟ طبقات معظمها لا ينتمي إلى عائلات، أو تئول للعائلات، وماذا يكون موقف العائلات من الأوضاع الجديدة؟ هل تتحالف مع بعضها ليبقى لها النفوذ ولتقف في وجه التيار الصاعد؟ هل ينسلخ بعضها ويتزعم التيار ضد العائلات المنافسة ؟ وماذا يكون السلاح في هذا الصراع؟ هل يكون القوة الغاشمة؟ هل تكون المسايسة واللين؟ هل يكون المقالب والمآزق والشكاوات والنكايات؟ عشرات وعشرات من الأسئلة والاحتمالات، غليان غريب مفاجئ اجتاح قريتنا حدثت فيه تحزبات لمبادئ أحيانا ولأشخاص، وانقسامات، ومحالفات، ونقض لمحالفات، وأشكال جديدة من أشكال الصراع كان الناس يعجبون لها ويستغربون ويترحمون على الزمن الغابر حين كان هناك السلام والوئام والخضوع والخنوع، واليوم لم يعد أحد «يحترم» أحدا، أو ينزل عن ركوبته إذا قابله، أو ينتفض واقفا إذا مر عليه، اليوم كل إنسان أصبح يقول للآخر: أنا زيي زيك، أنا مثلك، وفي أحيان: أنا أحسن منك!
ولقد ظللت أراقب ما يحدث وأنا سعيد، فهذه الخلافات التي يتصورها أبناء قريتنا، وهذا الشد والجذب، وهذه الخناقات والاجتماعات والتحزبات، هي الثورة، هي عملية الانصهار الضخمة التي تحدث للمجتمع وترفع من درجة حرارته ليعيد تشكيل نفسه من جديد، وعلى أسس جديدة، لتندحر وتزول قيم كانت سائدة ومستشرية، ولتنمو قيم جديدة، وهكذا، وبامتداد ذلك الوضع الطبيعي الصحي في القرية إلى أكثر بكثير من مداه تحول إلى مرض ووباء، وبدلا من أن يؤدي الاختلاف والتحزب إلى العثور على الحقائق الجديدة والحلول الأحسن استحال إلى مرض اسمه التعصب، وانقسمت القرية إلى معسكرات متعصبة متعاندة متحاربة متشاتمة، تعصب لا هدف له إلا التعصب ذاته، بل تنقلب أهدافه في النهاية إلى أضرار، فأي مشروع مفيد يتبناه أحد الأطراف يسارع الطرف الآخر إلى الوقوف ضده وإفشاله لمجرد أنه صادر عن معسكر مخالف أو معاد.
وهكذا أيضا توقفت حركة النمو الطبيعي في القرية، حركة الدفع الذاتي الذي كان لا بد أن يؤدي بهذا المجتمع الصغير إلى الوصول إلى مرحلة التصنيع مثلا كما حدث لمصر المدينة، وحركة الغليان التي كانت تشمل المجتمع كله خمدت بين الجماهير والقاعدة، وظلت مستمرة بين القيادات: من يحكم القرية؟ لمن تكون السلطة؟ استمر الغليان واستمرت القاعدة تتفرج عليه زمنا، وتتناقل أخباره باعتباره مصنعا للأحداث في القرية التي نادرا ما تدور فيها أحداث، ولكن بمضي الوقت ، وبإدراك الناس أن هذا الصراع شخصي وذاتي محض وهدفه السلطة لا أكثر، بدءوا يضيقون به، ثم بدءوا يثورون عليه ثورة صامتة في أحيان، أو آخذة شكل التعليقات المرة الساخرة في أحيان.
وجاءت انتخابات العمودية لتشهد القرية أعنف صراع في تاريخها، صراع لولا زهد القاعدة الجماهيرية فيه لانقلب إلى معركة دموية رهيبة، صراع جعلني أوقن أننا قد آن الأوان للتخلص من نظام العمودية هذا وذاك «المرض العثماني» كما سماه «فهمي أبو عقل» أحد أعضاء الاتحاد الاشتراكي في قريتنا، ذلك النظام الذي يتيح لفرد واحد أن يكون «عمدة» على مجموعة جماهيرية ضخمة، نظام لا بد من استبداله بحيث تكون القيادة والزعامة للجنة، بحيث تكون القيادة والرئاسة جماعية لا أثر فيها لاستبداد الماضي ونظامه الفردي المطلق.
جاءت انتخابات العمودية لتزيد الطين بلة، وليصل المرض إلى حد اليأس والزهد.
وفي ذلك الوقت جاء العيد والقرية قد تقرر إقامة وحدة صحية فيها، ولكن المحافظة تشترط لإقامتها أن تتبرع القرية بثمانية قراريط لتقام عليها الوحدة، وقد حاولت لجنة الاتحاد الاشتراكي من ناحيتها جمع التبرعات لشراء الأرض اللازمة فقضى التعصب على محاولاتها، فما دام الذي سيقوم بجمع التبرعات من هذا الفريق فلا بد للفريق الآخر أن يعارض ويرفض، وميزانية الوحدة معتمدة، ومبلغ يوازي خمسة آلاف جنيه مودع في البنك في انتظار الأرض، والمرضى في القرية كثيرون في حاجة ماسة ملحة إلى العلاج، والتحزب والتعصب يقف حائلا بين القرية وبين تحقيق هذا المشروع وبين بناء مدرسة، وبين إقامة ناد ومصنع، وبينها وبين أي خطوة إلى التطور والتحضر.
وفي العيد - كمحايد - قررت أن أقوم بتجربة، فبدلا من محاولة إصلاح الحال بين الزعماء والقيادات والأحزاب ألجأ إلى جماهير القرية مباشرة، إلى الفقراء والمحتاجين والعاملين الصغار الذين يكونون الآلاف، وأن أجمع منهم، ومن قروشهم، مبلغ الأربعمائة جنيه اللازمة لشراء الأرض.
وهكذا بعد صلاة العيد قمت أدعو الناس للتبرع وأشرح لهم حيوية المشروع، والهوة التي تردت فيها القرية بسبب الخلافات، والحقيقة أني مهما تصورت فلم أكن أبدا أتصور أن الاستجابة ستكون بهذا الحماس، فأنا أكتب هذه الكلمة من قريتنا في ثاني أيام العيد وأمامي ترقد أكثر من ثلاثمائة جنيه جمعت في يوم واحد، من قروش الفقراء، وخمسات قروشهم، وأرباع جنيهاتهم، فجأة تحول العيد إلى حمى، إلى حماس ملتهب من أجل إقامة المستشفى، وسرت الروح إلى كل بيت ورجل. وفي ساعات كان المبلغ يتكاثر بطريقة مذهلة، وإلى ساعة متأخرة من الليل كان باب بيتنا يدق، وشخص يدخل، أفقر حلاق في قريتنا، ذلك الذي لم يتجاوز ما جمعه من قص شعور الناس لحلقة العيد أكثر من خمسين قرشا، يدق الباب ومعه ريال، أجل عشرون قرشا كاملة، يريد وبحماس شديد، أن يضيفها إلى قائمة التبرعات، وكان لا يمكن لحماس هائل كهذا إلا أن يظل يزحف حتى يدخل على الأعيان والقيادات والأحزاب منازلها، فإذا بهم هم الآخرون يتسابقون للتبرع، وقد وجدوا التيار الجماهيري يغادرهم ويتركهم في خلافهم ويندفع ناحية عمل من أجل القرية كلها، وليس من أجل من يرأس، ولا من يتزعم.
وما أذهلني أكثر أن هذه الحملة الاستفتائية التبرعية لم تكشف أن الناس يريدون عملا واضحا محددا فقط، وإنما كشفت أيضا أن الخلافات تظل قائمة ما دام ليس هناك عمل، وحيثما وجد العمل زال الخلاف من تلقاء نفسه. ففجأة أيضا، وبعد خمس سنوات من الصراع الدموي الرهيب الذي سقطت فيه قتلى وجرحى وأنفقت فيه آلاف الجنيهات وترسبت آلاف الأحقاد، فجأة وجدت الأطراف المتنازعة تحس، وقد انسحبت الجماهير من تحت راية التعصب إلى راية العمل، تحس أن خلافها لا أساس له ولا معنى، وأنها غير متحمسة إطلاقا للمضي في هذا الخلاف، وأن المرشحين للعمودية، والذين كان قد تقرر إعادة انتخابهم فيما بينهم، على استعداد للتنازل جميعا عن ترشيح أنفسهم وتناسي كل شيء.
وهكذا في يوم واحد جمعت القرية مبلغ المال اللازم لإقامة المستشفى، وانتهى الصراع حول الحكم.
وفي صلاة الجمعة وجدتني أزف إلى قريتنا أسعد خبر تنتظره، وهو أن جميع قياداتها المتنازعة قد اصطلحت، وأن السلام قد حل في القرية، وآن لها أن تحتفل بالعيد الحقيقي .
إنها تجربة من قريتنا، أهديتها لكل قرية حل أو يحل فيها خلاف. (35) السارق والفزورة
جميل جدا هذا النشاط التثقيفي والترفيهي الذي تحفل به حياتنا، جميل جدا أن يكون لنا ناد للسينما تعرض فيه أروع الأعمال، جميل أن يكون لنا جرائد يومية ومجلات تنشر صورا وأحاديث وقصصا، جميل جدا هذا الجانب من حياتنا، مهم جدا ولازم وضروري، ولكن المشكلة أن حياة الناس والشعوب لا تستقيم أبدا هكذا بساق ثقافية ترفيهية فنية واحدة، لا بد للحياة كي تستقيم من ساقين. الساق الأخرى هي الإنتاج الجدي الدائب الذي نصنع به بلادنا ونقهر به أعداءنا ونبني الغد. ولقد كنا قبل حرب الأيام الستة نعتقد أن هذه الساق الثانية الجادة موجودة ودائبة العمل، كنا نعتقد أننا مهما أسففنا في التهريج أو مهما بالغنا في الترفيه عن أنفسنا، فسيبقى لنا دائما هذا الجانب الجاد ممثلا في محافل علمية جامعية وغير جامعية، وفي قوات مسلحة برجال وعتاد وروح علمية حقيقية، وفي صناعة وطنية تبنى على أسس متينة، تبنى لتعيش مائة عام أو ألفا أو إلى الأبد، ولكن عدوان 5 يونيو أثبت لنا للأسف الشديد أن هذا الجانب العلمي الجاد الخطير غير موجود بالمرة، أو إذا كان موجودا فهو موجود بشكل غير علمي وغير جاد بالمرة، موجود أيضا بشكل سطحي تظاهري ترفيهي مثله مثل ساقنا الفنية الأخرى، وقد كنا ننتظر أن يكون أول حركة لما بعد النكسة هي عملية بناء عاجلة فائقة النشاط، ليس فقط لقواتنا المسلحة، إنما لهذا الجانب الأساسي من جوانب حياتنا كلها، ولكننا اليوم نتلفت لنجد للأسف أن شيئا من هذا لم يحدث، فطاقتنا كلها لا تزال موجهة إلى فنون المسرح والاستعراض والأشكال الفنية الجماهيرية الأولى، لا تزال أهم قضايانا هي حسن الإمام وبين القصرين، ومشكلة الأغنية هي المشكلة الملحة التي لا بد أن نفرد من أجلها الصفحات ويدور النقاش بانفعال صارخ وبحدة، وكأنها مسألة حياة أو موت، لا نزال كما كنا تماما بدليل أني قرأت بعيني رأسي أن مشكلة الغناء في مصر هي أن بسلامته الأستاذ شفيق جلال مريض بالإنفلوانزا وأنه زعلان لأن أحدا من زملائه والمعجبين به لم يسأل عنه، ولذلك فقد تطوع وأعطى لباب أبو نضارة رقم تليفونه ليسأل عنه الناس ويحدثهم عما فعلته الإنفلوانزا الملعونة به.
لو كان ما حدث في 5 يونيو قد حدث لشعب آخر لترك كل شيء في حياته؛ الثقافة والسينما والحب وأي شيء، ونذر نفسه لعملية إثبات وجوده أولا كإنسان يستحق الحياة على ظهر الأرض أو لا يستحقها بالمرة، إن ما حدث ليس أمرا هينا بالمرة أيها السادة.
هكذا صورونا، ملايين من الغوغاء التي تركب كل شيء وجرت أمام إسرائيل الصغيرة ذات المليونين، وصحيح أن شيئا كهذا لم يحدث ولكن العالم معذور إذا صدق الصورة، وإسرائيل في ستة أيام قد أتت على تجهيزات ثلاث دول عربية قامت بها في بحر عشر سنوات وأكثر.
إن أي شعب في الدنيا ما كان باستطاعته الصبر على ما حدث في 5 يونيو. أي شعب كان لا بد سيهب نفسه وكل ذرة قدرة لديه وطاقة في سبيل محو هذه الصورة المشينة وإثبات أنه ليس شجاعا فقط، وليس أقوى بكثير مما يظن أعداؤه، ولكنه قادر على النصر إذا شاء، قادر ليس فقط على استعادة أرضه وحقه وسلاحه، ولكنه قادر على أن يصنع بأرضه ومعداته ومؤسساته وسلاحه حضارة تشع بالنور وتضيف إلى تراث الحضارة في العالم.
وما دامت الفوازير قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من حضارتنا في العصر الراهن، ما دامت قد أصبحت مخزن 13 والسر الذي سنغزو به الحضارات الأخرى ونهزمها مثلما هزمت الحضارة الفرنسية أوروبا الرجعية بمبادئ ثورتها، وغزت إنجلترا العالم بثورتها الصناعية، وأمريكا بالتكنيك، وروسيا باللينينية، ما دمنا سنغزو العالم بفوازيرنا فإليكم فزورة يحتار العقل في حلها ويعجز، الفزورة هي:
كيف استطاعت كوريا الشمالية وتعداد سكانها (10) ملايين نسمة أن توجه هذه اللطمة الرهيبة للمارد الأمريكي العملاق؟ كيف استطاع بلد صغير هذا شأنه، هذا البلد الفقير الذي يبلغ متوسط دخل الفرد فيه مبلغا أقل بكثير من متوسط دخل الفرد في أي بلد عربي، كيف استطاع بلد كهذا أن يهلك من أعدائه في الحرب الكورية مليونا و93 ألفا ما بين مدني وعسكري وقتيل وجريح بما فيهم 397000 جندي أمريكي، وأن يسقطوا 13000 طائرة ويتلفوا 300 دبابة و550 بارجة حربية؟ وكيف استطاعوا اليوم أن يأسروا باخرة التجسس هذه وأن يمرغوا الأنف الأمريكي المهيب في الوحل؟
بعض المتسرعين سيقولون إنها تفعل هذا اعتمادا على حلفائها في الصين والاتحاد السوفيتي، ولهؤلاء أقول: إننا أيضا بوسعنا الاعتماد عليهم بل اعتمدنا عليهم. بعض الناس سيقولون ربما الفرد الكوري أشجع من الفرد العربي، ولهؤلاء أقول: إنه حين يأتي الأمر للشعوب فلا يوجد شعب في العالم أشجع من شعب، فقد يوجد أفراد جبناء لدى كل شعب، هذا صحيح! ولكن هناك دائما عددا أكبر من الشجعان بحيث إن مستوى الشجاعة يتساوى لدى كل الشعوب.
ما هو إذن حل هذه الفزورة الغريبة؟ كيف تملك كوريا ذات عشرة الملايين هذه القدرة الخارقة على مواجهة العدوان الأمريكي، بينما لا نملك نحن، ذوي الثمانين مليونا، قدرة ماثلة، ليس على مواجهة العدوان الأمريكي نفسه وإنما على مواجهة ذيل من ذيول العدوان الأمريكي، إسرائيل ذات المليونين؟
إن حل الفزورة - أيها السادة المستمعون - واضح وبسيط، الحل أن عشرة الملايين هؤلاء لهم قيادة واحدة لا تخاف أمريكا وتربي شعبها على الاستهانة بها.
إن الشعوب لا ذنب لها أبدا، فهي إذا طلب منها البذل تبذل، إذا طلب الموت تموت، إذا طلب الصبر والاحتمال تصبر وتحتمل. المشكلة دائما هي في القيادة، ليس حتى على مستوى الدولة أو الأمة العربية كلها وإنما حتى على مستوى المدينة والقرية والوحدة. إن مشكلتنا هي تلك التي تضعفنا إلى حد العدم، تلك التي تجعل قوتنا تتضاءل إلى حد لا نستطيع معه مواجهة ذيل من ذيول الاستعمار.
ماذا لو قامت الشعوب العربية بالجهد؟ ماذا لو انعقد مؤتمر للقيادات الثقافية والمهنية والعمالية والزراعية في عالمنا العربي، مؤتمر مسئول يساهم في حمل المسئولية مع الملوك والرؤساء، مؤتمر يجعل القضية ليست فقط مسئولية الملوك والرؤساء، وإنما يجعلها مسئولية الشعب كله بكل فئاته وطوائفه؟ أما أن نبقى جميعا مثقفين وعمالا وكتابا وقادة وحكماء ومفكرين. أن تبقى كل إمكانيات هذا الشعب الفكرية والعقائدية والكفاحية والثورية وهي ضخمة هائلة الضخامة، تبقى كل تلك الإمكانيات ويبقى معها الشعب في مدنه وقراه ومزارعه ومصانعه؟
إن على القيادات الشعبية في كافة الدول العربية أن تتحرك لكي يتحرك الشعب العربي ويحمل القضية ويوجد كعامل حاسم في الموقف، فالشعب إلى الآن غير موجود، القضية في حاجة إلى كتف كل فرد من أفراد الشعب العربي وإلى ساعده.
إن على الشعب العربي أن يدخل لنخرج من دائرة الركود والاستسلام تلك التي طالت وأصبح السكوت عليها أمرا لا يطاق ولا يحتمل، وخير لنا أن ندخل الشعب العربي بإرادتنا - أي بإرادة رؤسائه وملوكه - خير ألف مرة من أن ننتظر ونسوف حتى يدخل رغما عن هذه الإرادة، فلم يعد أحد يطيق الانتظار.
والله حتى لو اضطررنا للمشي لقناة السويس وغزة والقدس بأيدينا الجرداء وهراواتنا، ولتحصدنا المدافع ما تشاء، خير ألف مرة من أن نظل هكذا واقفين في انتظار «جودو» أو «يانج» الذي لن يحل المشكلة.
فلنتفق، ولنؤمن أن انتظارنا لحل القضية على يد هيئة الأمم أو الدول الكبرى عبث وسخف وضياع للوقت، حل القضية في يدنا وفي هراواتنا إن عز السلاح، وفي ملاييننا الكثيرة المشتتة الجهد، المكدسة في مدننا وقرانا فاغرة الأفواه تائهة، لا تعرف ما العمل.
فلنتحرك بها صوب القضية قبل أن تتحرك من تلقاء نفسها. (36) الأخلاق القديمة خيانة عظمى
قرأت بإمعان تفاصيل قضية امتحانات الثانوية العامة، أصبت بعد قراءتها بدهشة، فالمتهم الأول، ذلك الموظف الكبير في المطبعة السرية، لم يقدم على جريمته بدافع المال أو الرشوة أو المتعة، أقدم عليها بدافع أغرب، بدافع الشهامة ومحاولة مساعدة ابن صديقه، والمتهم الثاني أو الثالث الابن لم يقدم على جريمته هو الآخر ويوصل الأسئلة لابن عمه إلا بدافع غريب آخر، دافع الحرص على مصلحة ابن عمه.
دوافع غريبة لا شك لارتكاب جريمة، لا تخفف (نظافتها) الظاهرة من بشاعة الجرم، بقدر ما تضاعفها.
وليست هذه أول ولا آخر جريمة ترتكب في بلادنا بسبب هذه الدوافع المجيدة، فالأمثلة كثيرة وتقع تحت سمعنا وبصرنا كل يوم، والشيء الخطير أنها تدل على أن بعضا منا لا يزال يحيا في حدود أسرته ومعارفه وأصدقائه لا يعرف غيرهم، ولا يقيم وزنا لغيرهم، هم الدائرة الوحيدة التي يتحرك داخلها ويحسب لها حسابا، أتتصورون هذا؟ بعد كل معاركنا التي خضناها كشعب، وبعد كل هذه الأحداث الهائلة التي كانت كفيلة بإذابة كل ما بيننا من حدود ذاتية وشخصية ودمجتنا على هيئة أمة واحدة وشعب واحد، بعد كل هذا لا يزال بعض منا لم يحس بأنه قد أصبح فردا في شعب كبير، ولا تزال دائرة أسرته ومعارفه وبلدياته هي شعبه الوحيد الذي ينتمي إليه. الخيانة في نظره أن يخون هذه الدائرة الضيقة، والشهامة أن يقدم على عمل من أجلها حتى لو أودى عمله هذا بمصلحة بقية الشعب.
هؤلاء العائليون لا يزال يحفل بهم مجتمعنا ولم ينقرضوا بعد، ولا تزال علاقتهم بنا كشعب علاقة خوف فقط، وربما لهذا السبب أوصى الموظف ابن صديقه أن يتكتم الأمر حتى لا يفتضح أمره؛ أي تصل أخبار فعلته «الشهمة» إلى أسماع المجتمع الكبير ويعاقبه عليها.
إن الحكم الذي صدر على الجناة في هذه القضية درس من الواجب أن يتدبره كثيرا أولئك العائليون الذين من الممكن أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم ضد مجتمعهم الكبير من أجل مجتمعاتهم الصغيرة الضيقة، أو الذين لا يزالون يرتكبون جرائم كتلك، أو ليس لديهم مانع من ارتكابها على الأقل، إنه درس لمن يضع نفسه قبل عائلته، ومعارفه قبل مدينته أو قريته، وبلدته الصغيرة قبل بلاده الكبيرة، آن الأوان لكي يدرك هؤلاء أننا نحيا في وطن قد تحرر وأصبح كله لنا، ولا بد أن يضع كل منا وطنه هذا قبل بلدته، وبلدته قبل عائلته، وعائلته قبل نفسه. وهذا هو الفارق الأساسي بين ولائنا بالأمس وولائنا اليوم، بيننا كعبيد مستعمرين في الماضي، وأحرار مستقلين في الحاضر، فارق يجب أن يفكر كل منا فيه ويتأمله ويغير مثله في الحياة وفلسفته وأهدافه على هداه، وإلا استيقظ يوما ليجد نفسه مقبوضا عليه بتهمة الخيانة لشعبه ومجتمعه جزاء عمل بطولي قام به نحو أسرته أو نفسه أو الدائرة الضيقة التي يعيش فيها.
وشيء آخر ...
درس ثان خرجت به من قراءتي للقضية، الدرس أن ما يحدث خلف الناس لا بد أن يظهر يوما أمامهم، إن كثيرين منا يقدمون في أحيان على أعمال مخجلة لعل ما يدفعهم أساسا لارتكابها أنهم يعتقدون أن أحدا لن يعرفها وأن أمرها سيبقى سرا لا يصل إليه كائن من كان، ألا يعرف هؤلاء أن العمل الخبيث تفوح رائحته مهما تكتم صاحبه الأمر؟ وأنه إذا كان للإنسان أنف واحد أو عينان فالناس لهم ملايين الأنوف والآذان والعيون مصوبة في كل اتجاه ولا يمكن أن يستغفلهم أو يضحك عليهم أحد؟ هم الذين يضحكون دائما آخر الأمر، ويضحكون كثيرا، يضحكون على الجبناء الذين يطلون وجوههم بأقنعة العفة والطهر بينما هم في الداخل أشد بشاعة من القتلة والمجرمين، لقد أقدم الموظف المحترم على فعلته مثلا وهو ضامن أن الأمر لن يتعدى حدود صديقه وابنه، ولم يكن ليعتقد أبدا أو يحلم أو يتصور أن الأمر سيشيع إلى تلك الدرجة، سذاجة لا شك، ودفن للرءوس في رمال الخفاء التي لا تخفي شيئا، فما يحدث من وراء الظهور لا بد أن يظهر يوما، قد يظل خافيا لفترة، ولكنه لن يظل خافيا إلى الأبد، ولا بد لكل خاف أن يعرف، وقد يعرف ببشاعة أو بطريقة لم تخطر على البال، أو دائما هناك طرق لا تخطر على بال أولئك الذين يتسترون بظهور الناس لارتكاب جرائمهم، أو دائما يفاجئون بالأضواء تنصب عليهم ذات يوم من كل ناحية وهم واقفون، خجلون، محاصرون في ركن، لماذا لا نفكر في طريقة أشرف وأنظف للسلوك؟ لماذا لا يضع كل منا في اعتباره أن يتحمل مسئولية ما يفعله من وراء الناس؟ إنها ليست شجاعة، ولكنها «ألف باء» تصرف أي كائن يريد أن يكون له شرف أن يسمى بإنسان، تحمل المسئولية، وأولها مسئولية الخطأ. لماذا نظهر للناس محاسننا دائما ونخفي أخطاءنا بجبن؟ لماذا نصر على أن يرى الناس نصف وجهنا فقط ونكابر بسخف لكيلا يروا النصف الآخر؟ إنها ليست قيما جوفاء أطالب بها، ولكنها في الحقيقة مسألة عملية محضة، فالمسئولية - بما فيها مسئولية الخطأ - لا يستطيع أحد أبدا أن يهرب منها، إننا نتحملها سواء أردنا أم لم نرد. الفرق أننا حين نتحملها من تلقاء أنفسنا يصفح الناس عنا وينسون، أما حين نكابر ونوغل في الهرب منها فإنها لا تهرب منا، ودائما يأتي اليوم الذي نجبر فيه على حملها علانية وعلى رءوس الملأ والعار يجللنا. هو نفس الفرق لو كان الموظف الكبير قد تقدم من تلقاء نفسه واعترف للوزارة بخطئه وبما فعله، وطلب أن تتغير الامتحانات، وبينه اليوم ورأسه منكس وظهره إلى الحائط ونظرات الاشمئزاز تحيط به من كل جانب.
إني لأشفق على الكثيرين من نفس المصير. (37) أدب ثقيل الدم
لتوي انتهيت من الاطلاع على بضع مجلات شهرية بعضها من القاهرة والآخر من بيروت. وللمرة الألف أحس ذلك الإحساس الذي يراودني كلما طالعت كثيرا من المقالات التي تنشرها المجلات والجرائد، وسأكون صريحا وأنقل بالضبط ذلك الإحساس، ومهمتي سهلة، فإحساس واحد يشملني طيلة القراءة، إحساس - وليعذرني الزملاء والإخوان - بالتصنع، و... «التأدب»! من أول كلمة أحس وكأن الكاتب قد أدرك أنه بسبيله إلى القيام بعملية غير عادية، وأن عليه أن يسوك فمه مثلا بمسواك، ويتأنق ويجلس جلوس الكاهن الأعظم أمام آلاف المريدين والمتعبدين، محترما في جلسته، محترما في إشاراته وإيماءاته. كلماته لا بد أن يختارها من النوع الجاد الوقور، وأسلوبه لا بد أن يحوي كثيرا من أمثال هذه التعبيرات: وعقيدتي أن الوضع لا يتأتى، أو إذا نظرنا إلى المنهج من زاوية أخرى لألفيناه كذا وكيت.
وبحكم هذا الاحترام الزائد والطقوس، ليس من العجيب أن تجدهم قد أطلقوا اسما ثقيل الدم على ما يكتبون؛ إذ هم يسمونه «أدب المقال». ورغم احترامي للتسمية ولهذا النوع من «الأدب»، ولكل أنواع الأدب، ولكتاب أي نوع، إلا أني لا أزال إلى الآن لا أفهم ذلك المسمى بأدب المقال. فأنا أعرف مثلا أن الكاتب حين يريد كتابة قصة يصبح هدفه أن يكتب قصة، وحين يريد تأليف قصيدة يقول شعرا، أما المقال فهو لا يلجأ إليه إلا حين تتراكم لديه أفكار غير قصصية وغير شعرية وغير مسرحية، يعني عنده أخبار مثلا، أو معلومات أو وجهة نظر معينة أو حقيقة علمية يريد إيصالها للقارئ، هو حينئذ ينبذ كل الوسائل غير المباشرة ويلجأ إلى الوسيلة الوحيدة المباشرة ... المقال ... بمعنى أدق إذا كان أدب القصة تقاس جودته بما فيه من فن القص، والشعر بما فيه من تعبير شعري، فأدب المقال مقياس جودته ما له من قدرة على الإيصال المباشر والشفافية، والخلو من كل ما قد يعوق الأفكار عن القارئ؛ أي أدب أن تقول «ما يفهم»، وكلما قلته بأبسط وأسرع وأشف طريقة، اقتربت من روح أدب المقال. بعض إخواننا فهموا ولا يزالون يفهمون أدب المقال على أنه نوع «تنقل» فيه أفكارك إلى زملائك وقرائك، ولكنه النوع الذي تتخذ فيه من زملائك وقرائك موقف المعلم والمدرس وتصطنع فيه وقار الأستاذ، كارثة المقالات عندنا أنها دروس، وليتها من أساتذة كبار حقا، معظمها في الحقيقة من تلاميذ يحاولون أن يوهموا القارئ بأستاذيتهم، إيهاما متعجرفا محشوا حشوا بأسماء الكتاب الأوربيين والفلاسفة، مظهرا عضلات الثقافة في مراهقة صبيانية تحس أن الكاتب خلالها يتقيأ محصول قراءاته قبل أن يصل إلى بلعومه وقبل أن يهضمه ويصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه ونفسه، إنه محصول ضئيل يعمد إلى إظهاره وتضليل القارئ به، وكل همه أن يثبت أنه عالم ويثبت لقارئيه أنهم جهلة، حريصا في الوقت نفسه على طقوس الكتابة أكثر من حرصه على سبب الكتابة وموضوع الكتابة. والمهم في أسلوبه هو بلاغته وليس مهما أبدا طعمه، والهدف الوحيد أن يخرج القارئ من قراءته وهو يحمل للكاتب كل الاحترام والتقدير حتى لو خرج من المقال كما دخل.
ولعله لهذا السبب تتشابه كثير من المقالات التي نراها في الجرائد والمجلات تشابها غريبا وكأنما كتبها كاتب واحد، لا تجد فارقا بين مقال كتبه شيخ وآخر كتبته سيدة أو أنشأه شاب، الكلمات مرصوصة بنفس الطريقة، وإظهار الحجج يتم على نفس النسق، والخيط المستعمل واحد، يبدأ بالمقدمة يليها الدخول في الموضوع ثم قرب النهاية تجد الكاتب يلتقط أنفاسه، وجميعا يفعلون هذا بنفس الطريقة، ويقولون: وبعد ... أو أجل ... إلى آخره.
وعبثا تحاول أن تبحث عن ذاتية الكاتب فيما يعرضه من موضوعات. وبالذاتية لا أقصد أن يفرض الكاتب ذاته على الموضوع الذي يتناوله، ولكني أريد أن أحس أنه هو وليس أحد غيره ذلك الذي يعرض أفكاره، أريد أحيانا أن أراه وهو يفكر، وهو يحاول بطريقته الخاصة أن يصل إلى استنتاج، أريد أن أستمتع بالطريقة التي يرتب بها أفكاره وسرعة بديهته في إيجاد الحل. فإذا كانت ميزة الشاعر تتجلى في كونه يعالج الموضوعات ويعبر عنها بالشعر، ولكنه يفعل هذا بطريقته الخاصة، فكذلك كاتب المقال لا بد له هو الآخر أن يبحث عن طريقته الخاصة في تناول الحقائق، فكتابة المقال فن، وكل فن في حاجة إلى موهبة، أو بالميت في حاجة لدراسة، وقد كنت أعجب وأنا طالب حين أقرأ قائمة الشهادات المدونة تحت أسماء كبار الجراحين والعلماء الذين يؤلفون مراجع العلم والطب، وأجد أن كثيرين منهم قد حصلوا فوق شهاداتهم العلمية، وفقط من أجل أن يجيدوا كتابة المرجع.
وفي هذا المجال أيضا لا أزال أيضا أذكر كيف أننا كنا نحضر محاضرات يلقيها المعيدون والمدرسون والأساتذة، وكنا نلاحظ أن أسهلها في الفهم جميعا هي محاضرات الأستاذ، فقد كان يبدو وكأنه طالب أو رجل شارع متحدث عن أعقد المسائل بأبسط أسلوب، وكان أعقدها وأعسرها على الفهم محاضرات بعض المعيدين حين كانوا يحاولون أن يظهروا في ثوب الأساتذة المعلمين، تماما كبعض إخواننا من كتاب ذلك النوع الذي ثقلوا دمه، أدب المقال! (38) لمن تدق الأجراس؟
كثيرا ما أسأل نفسي: هل فقدت الكتابة وفقد الكتاب أهميتهم في مجتمعنا؟ نحن لا نحيا حياة الشعوب العادية، لا تمضي حياتنا في سلاسة وتؤدة وإنما نحن نحيا في فترة استثنائية في حياة الأمم، فترة بناء الدار وتصنيعها وكفالة حق العمل والحياة والأمن لأفرادها. فترة يبنى فيها كل شيء أمامنا ونحس البناء وهو أساس، ثم وهو يعلو ثم، وهو يتم ويصبح حقيقة مجسدة لا تقبل الجدل، فترة المجد فيها للبناء والمهندسين والمحاربين والعمال والانتصارات.
في مثل هذا الجو النفسي، وفي الفترة التي امتلكنا لأول مرة كشعب إرادتنا بحيث أصبح من حقنا أن نريد، وفي قدرتنا أن نحقق بين يوم وليلة ما نريد، في فترة لا نحلم فيها وإنما نحن مشغولون إلى أقصى طاقتنا بتحقيق الأحلام، في فترة الكل فيها ثوار، الحكم فيها ثوري، والشعب ثائر، وحتى الأفراد كل منهم غير راض عن نفسه ووضعه يريد تحقيق ذاته وتحسين حاله والمطالبة بكل حقوقه، في هذا المهرجان الثوري الحافل الباني الصاعد المكهرب بالسرعة يريد أن يعوض في اللحظة ما تأخره من سنين.
أين يقف الكاتب من هذا كله؟ وماذا عليه أن يفعل؟ وماذا عليه أن يقول؟
إنني أكاد أسمع الأصوات الهاتفة المتحمسة وهي ترد على السؤال وتجيب: إن على الكاتب أن يتقدم الموكب ويحمل القلم في يده كما يحمل أخوه المدفع أو «البنسة»، وأن يساهم في معركة البناء القائمة على قدم وساق، إن الإجابة تأتي دائما هكذا بسرعة وحسم وبساطة. على الكاتب أن يحمل قلمه ويخوض المعركة ويصور بطولة البنائين وشجاعة المحاربين وزحف الشعب المقدس. بمعنى أدق على الكاتب أن يقوم بدوره كمهلل ومحفز ومحمس، على الشاعر أن ينشد القصائد قبل المعركة ليثير الدماء في العروق، وعليه بعد المعركة أن يمجد بطولات من خاضوها. وعلى القصصي أن يصور بفنه النموذج الإيجابي البطل كي يحذو المواطنون حذوه. لو هكذا فعل الشاعر والكاتب والفنان لأصبح الفن جزءا لا يتجزأ من معركة البناء، ولأصبح حقائق وانتصارات مجسدة مثله مثل أي مصنع يقام أو أي سلعة نفخر أننا صنعناها بأيدينا. هكذا يجيبك المتحمسون ببساطة، وببساطة أيضا يعزون تخلف أشكال الفن والكتابة وعدم أخذها المكانة الجديرة بها في حياتنا إلى تخلف الفنانين والكتاب وتقاعسهم عن القيام بهذا الدور.
فهل القضية بهذه البساطة؟ وهل حلها يتم بهذه السهولة؟ بمجرد أن يشد الكتاب والفنانون «حيلهم» ويخلعوا ثياب التواكل والفتور وتعديهم موجة الحماس؟
الفن ليس نصائح تربوية
الواقع أن القضية أبدا ليست كما يتصور هؤلاء البعض، فالخطأ الأساسي الذي يقعون فيه هو أنهم يتصورون بادئ ذي بدء أن الكتابة - أو الفن - دورها قاصر على تمجيد العمل البشري، وعلى دفع العاملين إلى العمل وحفز هممهم، إنه دور نوع بعينه من أنواع الفن والأدب، دور الأدب المدرسي والتربوي والحواديت التي تقال للأطفال لتحبب إليهم الخير وتبغضهم في الشر. إنه نفس الخطأ الذي يتورط فيه دعاة الفن للفن، والموسيقى من أجل الموسيقى وحدها وليس من أجل ما تحدثه في النفس والناس.
إن الأدب والفن ليسا نصائح تربوية ومدرسية من ناحية، وليسا فنا وأدبا من أجل الفن والأدب فقط، إن الآداب والفنون أهداف كبرى من أهداف الحياة الإنسانية نفسها، مثلها مثل لقمة العيش والرغبة في التناسل وحب الخير وازدراء كل ما هو شر، إن الفن جزء لا يتجزأ من الحياة، ومن أهدافها، لم يوجد مع الإنسان البدائي وحتى الحيوان عبثا، ولا عبثا كل تلك الأهمية والقداسة التي يكنها له الجنس البشري في كل المراحل والعصور. إن الإنسان بغير فن إنسان ناقص، بل بغيره لا يمكن أن يكون إنسانا، وليس في هذا أدنى مبالغة، فلنتصور حياتنا وقد خلت من الموسيقى والأغاني والروايات والقصص والرقص والدموع والضحكات، لنتصورها بغير إذاعة أو مسرح أو سينما أو تليفزيون أو جلسات وتجمعات، إن الخيال نفسه لا يطاوعنا على تصورها. وصحيح أن الفن لا بد أن يدعو لشيء ما، ولا بد أن يحتوي على ترفيه ما، ولكنه أبدا لا يمكن أن يكون فنا إذا اقتصر على الدعاية لشيء ما، حتى لو كان هذا الشيء أقدس المقدسات، أو الترفيه عن الناس حتى لو كان هؤلاء الناس هم جماهير الشعب بأسره، إن في الفن الحقيقي عناصر أخرى وأشياء تخاطب ما هو أعمق من حياتنا اليومية أو السنوية، وما هو أعمق من إثارة عواطفنا الوقتية من مرح أو شجن أو بكاء، كل ما في الأمر أننا لم نكتشف بعد ماذا تحدثه بالضبط هذه العناصر في نفوسنا، ولماذا نحتاجها كل هذا الاحتياج بحيث لا نستطيع الحياة كبشر بدونها، ونحن لم نكتشفها بعد لأن إنتاج الفن واستهلاكه ليست عملية ساذجة بسيطة كما يسذجها ويبسطها هؤلاء الذين ينعون على الكتاب والفنانين تقاعسهم، وإنما هي عملية معقدة، لغزها من لغز الحياة نفسها وسرها.
بناء في حد ذاته
المشكلة إذن أن الفن ليس جزءا متمما ومجملا لعملية البناء الاقتصادي والاجتماعي التي نقوم بها ويستغرقنا الحماس لإتمامها. المشكلة أن الفن نفسه بناء في حد ذاته، هدف لا يقل خطورة وأهمية عن صناعاتنا الخفيفة أو الثقيلة، بل هو أخطر منها بكثير؛ لأنه إذا كان يمت إلى صناعة ما بصلة فهو يمت إلى صناعة الإنسان، أثمن وأغلى وأرقى ما نمتلكه.
المشكلة أننا نوجه إلى الكتاب والفنانين الدعوة الخاطئة، فبدلا من أن ندعوهم إلى بناء فنوننا وإنتاجها ونطلق حريتهم في إثراء هذا البناء واعتصار أنفسهم لإقامته، بدلا من هذا ندعوهم إلى التخلي عن ذلك الدور المقدس كي يقوموا بتمجيد المصانع والمباني والمشروعات، نفس الخطأ الذي نرتكبه حين نطلب من مهندسينا مثلا أن يتخلوا عن دورهم في تشييد المصانع وإقامة المشروعات الحيوية لنا كي يقيموا مشروعات ومصانع الهدف منها تخليد نهضتنا المسرحية أو الموسيقية أو الأدبية.
ويبدو أننا لا نريد أن نتعلم من التاريخ أو حتى من التاريخ القريب، والتاريخ يحدثنا عن ثورات قامت في بلاد من أجل التصنيع والكفاية والعدل، وبنت هذه الثورات موقفها من الفن والأدب على المفهوم الساذج السطحي الدعائي التربوي للفن والأدب، فكانت النتيجة أنه بعد نجاح تلك الثورات اكتشفت الشعوب أنها أقامت بناءات ضخمة عالية لكل شيء ولكنها نسيت أو أجبرت على تناسي أهم شيء، بنائها الروحي والفني، وهكذا لم تخسر تلك الثورات تراثا فنيا حقيقيا فقط، ولكنها خسرت - وهذا هو الأهم - التفاعل بين إنسان الثورة وهذا التراث المفقود، بحيث حكم على جيل أو أجيال أن يخرج إلى الوجود كسيح الروح، وهذا ليس خطأ، بل هو في رأي العلم والحياة والثورة جريمة، جريمة تكرر حدوثها للأسف في التاريخ ومنذ أقدم العصور، إن الحضارة التركية استمرت مسيطرة عسكريا وسياسيا على أهم أجزاء العالم ما يقرب من ألف عام، ولكنها كانت حضارة بلا فن، والنتيجة أن التاريخ لا يذكرها حتى كحضارة وإنما يذكرها كفترة سوداء من فترات القهر والطغيان، بل نحن حتى حين نصفي الحضارات لنعرف ماذا يبقى منها للتاريخ نجد أن كل الأشياء تزول وتتلاشى ويلفها العدم إلا ما حققته تلك الحضارات في الفن والأدب والعلم باعتبارها الثمرات الحقيقية التي تستخلصها البشرية من أي تطور أو تمدين أو ازدهار.
هل من المعقول إذن أننا في ثورتنا الحضارية الكبرى هذه نكرر نفس الخطأ الذي حدث، ونستمع إلى فهم بالغ الخطل والشطط لدور الفن والأدب، لنخرج للعالم حضارة كسيحة الروح؟
إن الصناعات والكهرباء والقوة العسكرية ليست أهدافا بالمرة، إنها ليست سوى وسائل لتأمين إنساننا وتعليمه وتطويره كي تتبدى قدرة هذا الإنسان على الخلق والابتكار، كي يزهر إنساننا ويثمر فنا وأدبا وعلما وثقافة، كي تضيء حياتنا لا من الكهرباء أو الذرة وإنما بالنور الصادر عن عقل إنساننا ووجدانه وقد تحرر واطمأن.
الأولوية للأثر المباشر
إن الخطأ يحدث أحيانا بحسن نية، وبحسن نية يعتقد بعض الناس أننا ما دمنا في ثورة بناء فلا بد أن يكون كل ما يبنى واضحا جليا ظاهرا للعيان له أثره المباشر الملموس، فالمصنع ينشأ اليوم ليعمل فيه العمال غدا، وبعد غد نتسلم منتجاته كتلا وطرودا وأحجاما ملموسة ونستخدمها وتصبح جزءا من حياتنا. ولكن المنشآت الفنية والأدبية أشياء قد لا تكون باهرة الحجم والمظهر ولا هي سريعة المفعول، والذي يروج منها ونحتفل به هو النوع الضخم الواضح الأثر والمفعول، أوبرا مثلا يتكلف إخراجها الشيء الفلاني وفيها غناء ورقص وباليه، أو استعراض يضم ألف راقص وراقصة، أو مسلسلة إذاعية تستغرق شهرا أو عاما أو ربما أعواما، أو رواية بالغة الضخامة وليس مهما لو كانت فقيرة في الخلق، إن ما نحتفل به هو الضخامة وسرعة المفعول وكل ما نستطيع أن نطلق عليه «انتصار »، ولهذا نحن على استعداد أن نطلق اسم سباح أو لاعب كرة على شاطئ بأكمله أو شارع بينما لا يمكن أن يحظى بهذا الشرف مفكر أو عالم أو فنان ربما تغير بضع صفحات يكتبها من مجرى حياتنا وحياة أولادنا. ذلك أن البناء الفني أو العلمي أو الأدبي لا تحفه في الغالب أكاليل الانتصار، ولا يقيمه صاحبه ليصبح نجما من النجوم أو بطلا من الأبطال، وإنما يقوم به أناس جعلوا من فنهم أو علمهم رسالة وهبوا أنفسهم لها، قدرهم أحد أم لم يقدرهم، وصفوا بالبطولة أو اتهموا بالخيبة والتقاعس.
المقياس الوحيد!
إن بناء حياة فكرية وثقافية وفنية حقيقية تكون الزهرة والثمرة الأصيلة لحياتنا كلها وحضارتنا مهمة بالغة المشقة في حاجة إلى رهبان وقديسين، وأشق ما فيها أنها تتم بمعارضة شديدة من أصحاب الحلول الجاهزة السهلة وبغير تشجيع من أحد، فالدولة لا تشجع إلا ما يعود على جماهير الشعب بالأثر السريع المنتج. والشعب مشغول بالنجوم والأبطال والانتصارات، فما أكثر ما قضى من وقت وهو لا يذوق سوى الهزائم! وقد آن له أن يحيا الانتصارات ويخلقها حتى إن لم توجد، ولهذا فعلى قدر ما أصبحت الرياضة وأبطالها نجوما خوارق يحظون بالدعاية الشعبية والرسمية، على قدر ما أصبح البناء والبناة لقبا ومفخرة ونياشين وميداليات، على قدر ما احتلت كل فئة من فئات المجتمع التي تكرس نفسها للتصنيع والتشييد والانتصارات مكانها في سماء حياتنا، على قدر هذا كله فإن مكانة هؤلاء الذين يبنون حياتنا الفكرية والفنية تأخذ أقل الأوضاع. صحيح أن عدد الكتب والمسرحيات والمؤلفات والفرق التمثيلية ومنابر النشر قد ارتفعت وربما تضاعفت عشرات المرات، ولكني هنا لا أتحدث عن «النهضة» في التطبيق والتنفيذ، ولكني أتحدث عن النهضة الحقيقية في التأليف والخلق والتفكير، وعن خالقي هذه النهضة. أتحدث عن هذه القلة القليلة التي لا تحظى بتكريم أحد والتي أوشك مجتمعنا أن يهملها إهمالا تاما، هذه القلة التي كانت جديرة بأن تزين بإنتاجها - واحتفالنا بإنتاجها - صدر حياتنا، وتصبح هي النموذج المحتذى. فإن مقياس حضارة أي أمة أو فترة من فترات التاريخ يستدل عليه بمقدار ما كانت تحظى به هذه القلة من رعاية واهتمام، إنه مقياس التحضر الحقيقي والنهضة الحقيقية، وليس هناك أي مقياس آخر. (39) اصرخ وعش ولا تمت
شعور غريب كان يراودني وأنا واقف مثل أبطال الروايات خلف باب مغلق أروح وأجيء، وقلق أجوف رنان لم أحسه من قبل يتزايد ويغمرني. كنت أعرف بالضبط ما يدور في الداخل، منذ لحظات وجيزة وأنا أخوض تجربة الأبوة الأولى لطفل لم أره بعد، وكل معلوماتي عنه كلمتان اثنتان قالتهما ممرضة مسرعة ملهوفة: مبروك ... ولد.
ولكني عرفت في الحال أنه ابن مع إيقاف التنفيذ، فقد انتظرت أن أسمع صراخه، ولكن صرخة واحدة لم تغادر باب الحجرة المغلقة. ورغم كل المطمئنات، وكمادات الابتسامات المرتسمة على وجه الداخل والخارج لتهدئ من روعي وتقنعني أن كل شيء على ما يرام، فقد كنت عالما تماما أن الباب يفصلني عن حدث بالغ الخطورة، أخطر حدث؛ فالجنين بلا شك يعاني من الاختناق، ولا يتنفس، ومصيره دق حتى أصبح معلقا بخيط أوهى من الدقائق الفاصلة بين الرابعة والرابعة وسبع دقائق. إما أن يجتازها إلى حياة عريضة تعد بعشرات السنين، وإما عودة سريعة إلى الظلام الذي خرج منه، الدقائق القليلة التي يتحول فيها الجنين من سمكة تعوم في ماء إلى إنسان يتنفس هواء، التي تفصل بين رحلة طويلة منذ أن كان ذرة رمل حية إلى أن أصبح كاملا له أمعاء ومخ وأعضاء، والرحلة الأطول تنتظره، والتي سيتعلم فيها كيف يتكلم، وسيجرب ويحب وينتصر وينهزم ويشيب شعره ويتزوج ويقف هو الآخر ينتظر مثلي خلف باب مغلق. الدقائق قليلة جدا ومصيره فيها معلق، والإرادة العليا التي سوف تحدده قد تلبست الآن أيدي الطبيب. والطبيب لم أعرفه من قبل وإن كنت قد سمعت عن براعته وحذقه، ولكن الموقف أصعب موقف، والبراعة لها حدود، والمطلوب براعة تفوق الحدود، براعة من براعة الله تخلق وليدا من الجنين الأزرق الذي لا يتنفس، ورغم وقفتي بالخارج فأكاد أشارك الطبيب شعوره؛ شعور الإنسان بكل محدوديته حين تمنحه الظروف قدرة الله ليصبح بإذنه يستطيع أن يحيا ويصبح خوفه الأكبر أن يموت، حين يصبح إنسانا بمسئولية إله وعواطف بشر، ودقيقة مرت ودقيقتان وأعصابي تحمر وتتوهج ثم تصيبها القشعريرة فتتجمد، لتعود فجأة وتتوهج مع كل فتحة باب، وكل نأمة صوت وكل انبعاثة هرج أو مرج. نفسي تحدثني أن أدخل لأرى، لعل الرؤية تذهب القلق، ولكن مانعا أكبر يمنعني. فأنا عالم تماما بنوع العمل الدقيق الحاسم الساحر الذي يقوم به الدكتور علي في الداخل، كيف أقطع عليه خلوته وهو يعيد الأنفاس إلى جسد يتنفس، وهو يعيد لون الحياة إلى أظافر اختنقت واسودت، كيف أقطع خلوته وهو يقوم بدوره الإلهي! إن مجرد تبادل التحية، مجرد شعوره بدخول غريب، مجرد نظرة تصوب أو إصبع ترتجف قد يفلت لها الزمام، عقارب الساعة تدور، عقرب الدقائق كأنه أصبح عقرب ثوان، وعقرب الثواني كأنه انقلب إلى عقرب كل اختلاجة منه تلدغ. وبعدي عن المعركة الدائرة في جسد الابن الذي لم أره يجعل أعصابي تزداد هوسا في تذبذبها بين التجمد والتوهج. لا يزال الصمت هو الأقوى وهو المسيطر، والوقت المولي هو الأسرع، والإسفكسيا الزرقاء لا بد أنها تتحول الآن إلى إسفكسيا بيضاء لا رجوع فيها ولا منها، لو لم تعد الحياة للجنين فمن المحتم أنها ستفارق أمه أيضا. أية أحلام بنتها، وأي فرحة حملتها وضمتها تسعة أشهر، والملابس التي فصلتها، وقمصانه المفتوحة من الخلف ذات الأكمام التي في حجم الإصبع، خمس دقائق كاملة مرت، دار خلالها العقرب خمس دورات كاملة مرت فوق الأمل، فطحنته وساوته باليأس والأرض واللاأمل، رفة حركة مفاجئة حدثت في الداخل أعقبها أمر باتر سريع من الطبيب، أتراها رفة النجاح التي تسبق الهمود الدائم؟ لا بد أن الموقف يتدهور والأزمة تتيبس، فالأقدام كثرت حركتها ومفتاح أسطوانة الأكسجين وقع على البلاط فأرعد بناء المستشفى كله، ثم الصمت الهائل مرة أخرى، الصمت الكامل. لا بد أن الأحياء بالداخل كفوا عن التنفس هم الآخرون، أنا لم أعد أسمع، سبع دقائق مرت، ها هي الثامنة القاضية في الطريق ، لا بد أني عدت أسمع ، لا بد أنها كحة أو صرخة أو حشرجة أنفاس أو ضجة غريبة المصدر، صرخة، لهثة، صوت أول هواء يدخل إلى الصدر الذي لم يذق للهواء طعما. أجل صرخة، إنها صرخة، صرخات متصلة مبللة بلعاب الاختناق الموشك، أتكون قادمة من مكان آخر؟ أيكون طفلا آخر؟ لا ... بل هو ... لا بد أنه هو ... أقسم أنه هو ... لا ... لا ... لا أريدها ضعيفة هكذا ... أقوى ... مرة أخرى أقوى ... بكل قوتك اصرخ ... يا ولد ... اصرخ يا بني ... تنفس يا أحمق ... بعمق ... تنفس ... افتح صدرك كله وافتح صدري معك وتنفس ... إني معك فتنفس ... أنفاسي معلقة بأنفاسك فتنفس ... واصرخ واملأ الدنيا صراخا ... وتنفس ... بربك لا تكفي أيتها الحياة الصغيرة الجديدة عن الحياة ... لا تتحولي أبدا إلى كتلة ... بكل كيانك انبضي ... وبكل نزقك ارفسي ... ضمي قبضتيك بشدة وتأزمي وقوليها عالية، أعلنيها للدنيا، لكل الأحياء: أنا القادم الجديد ... أنا أخوكم الجديد ... قوليها بصرخة ... قوليها بواء ... واء ... واء! •••
وفقط حين امتد الصراخ حتى أصبح يقينا لا شك فيه، وحين تبينت صوته وقد انتظم واشتد وأصبح يمخر به عباب الدنيا، نافضا عن نفسه الزرقة والإسفكسيا والعدم، حينئذ فقط، فتحت الباب، ورأيته. رجلاه الصغيرتان مضمومتان إلى أعلى في عناد حبيب، وصدره الذي في حجم القبضة منفوخ كصدر الديك، ويداه الدقيقتان تحتضنان الهواء في استماتة غريق في بحر من الهواء.
ورأيت منقذه الدكتور وقد انتهى من دوره المعجز، حبات العرق نابتة بغزارة على جبهته، وأنفاسه هو الآخر تلهث، وملامحه تشع منها فرحة حياة أحيت لتوها حياة.
وما كدت أمد يدي لأصافحه حتى أحسست بشيء يشرح قلبي. إذ يبدو أن التمرجية لم تتمالك نفسها وأطلقت زغرودة، ولأول مرة أحس الزغرودة وكأنها صفارة الحياة تنطلق من القلب لتهز القلب، وتؤذن، وتبشر بالنجاة، وبالحمد لله على السلامة. (40) حين ضاع الولد
هي لمحة هزار من القدر أو إشارة من القوى المجهولة تقول: نحن هنا، ونحن على الدوام بالمرصاد، ولكنها على أية حال تجربة، وإذا كان بعض الناس يستبيحون لأنفسهم أن ينفقوا الأموال والصفحات والمجهودات في حديث معاد عن الكورة والشواكيش والعناتيل والبناطيل. وإذا كان يحلو لبعض الناس أن يتضاربوا، بل ويقتل بعضهم بعضا في حماس أخرق من أجل هذا اللاعب أو ذاك، فمن حقي هنا أن أروي تجربة قد تبدو ذاتية، ولكن على الأقل فيها إنسانية، إذ - فجأة - تفقدت ابني الصغير على البلاج فلم أجده. كنت جالسا أقرأ الجرائد وألاحظه وهو يلعب، وفجأة لم أره، ودرت بعيني دورة سريعة فلم أعثر له على أثر، لجزء من الثانية دق في رأسي الاحتمال:
أيكون قد فقد؟ ولكني استعنت بكل شيء كي تصرخ أعماقي: غير معقول، لا يمكن أن يكون قد فقد، لا بد أنه عند «الدش»، أو عند بائع «الجيلاتي»، أو في مكان ما حول الشمسية، كنت أجلس متعبا، ملولا، أتطلع في بله نفسي إلى كل ما حولي غير مؤمن بالصيف أو بالراحة، وبكل هؤلاء المتزاحمين في جنون متحضر حول رقعة صغيرة من البحر، يفسدون الجو والبحر والطبيعة ليتحدثوا عن «حلاوة» البحر والجو والطبيعة، وكل ما يعزيني أن الأولاد سعداء وأنهم يختزنون في ذاكرتهم الدقيقة صورا لسعادة موهومة ستظل عالقة بها أبد الدهر، وبها ذكرياتنا نحن أيضا من طفولتنا ليست سوى خدعة!
انتفضت واقفا فجأة، من كل اليأس والحيرة والضياع تبدى لي فجأة هدف واحد محدد: أن أعثر على ابني وأن أراه مرة أخرى، أسرعت إلى كل ناحية من النواحي الأربع، إلى العائلات المتجمعة أتطلع، إلى المستحمين في البحر، اللاعبين الكرة خلف الشماسي، الأشياء والكائنات الكبيرة كنت أنبذها، كل صغير ثابت أو متحرك كنت أنظر إليه، وأصبح علي مهمتان: أن أبحث عن بهاء الصغير، وأن أطمئن زوجتي، وكل دقيقة تمضي دون العثور عليه تقريبا بسرعة من فاجعة أنه حتما وبكل تأكيد قد فقد. خلال الدقائق القليلة القادمة إما أن نعثر عليه وإما أن يكون قد ضاع، والوقت ثابت جبان يهرب، ويمضي دافعا إيانا لنواجه الحقيقة، إنه شعور لا يمكن أن نحسه ولا يمكن وصفه، شعور الأب أو الأم حين ينقطع فجأة ذلك «الكابل» الإحساسي الذي يربطهما بابنهما، وهو بالتأكيد عند الأم أقوى ألف مرة، إننا عند الولادة نقطع الحبل السري المادي الواصل بين الأم ووليدها، ولكن يبقى مع هذا حبل لا يمكن قطعه، حبل سري وجداني حقيقي، بل أكاد أقول مادي يصل بين الأم وولدها، الحبل انقطع، لا يوجد على الطرف الآخر كائن حي لذيذ صغير اسمه الولد.
أربع أو خمس مرات ذرعنا الشاطئ طولا وعرضا، كل شيء كما هو عليه، البحر هادئ، الأمواج تتهادى وكأن لم يحدث شيء، المصيفون يثرثرون تحت الشماسي ويتمطون، الرمل ممتد، المضارب تضرب الكور، صراخ المرح ينطلق شارخا الجو بين الحين والحين، كل شيء كما هو إلا الفجيعة الداخلية التي لا يحسها أحد سواك، أنت وحدك الذي يمزقك التناقض الصارخ بين خارجك حين تراه عاديا طبيعيا، وداخلك وأنت تحسه ألما له لسع النار، عشر دقائق مضت ولم يظهر الولد، الحقيقة العارية القاسية ... فقد الولد، مستحيل، لا يمكن أن يكون قد ضاع، لا بد أنه في مكان ما هنا أو هناك، لا يمكن أن يكون قد ضاع، فلتستمت باحثا منقبا، ولكن أي بحث؟! إنك في غابة أشجارها ألوف السيقان وأوراقها مايوهات وشماسي. إنه بحر آدمي كبير ابتلع الولد كما تبتلع المياه أي كائن، وهدأ سطحه والتأم وكأنه لم يبتلع شيئا، الأمل الأخير ... البوليس ... لا بد أنه يعرف الطريق للحصول على الأطفال المفقودين، نقطة الشاطئ غير بعيدة، أسرعت إليها، أربعة عساكر جالسون يدخنون فوق أريكة، وواحد ينظر من الشباك، شاويش يجلس على مكتب محرجا وكأنها أول مرة يجلس فيها إليه: الولد ضاع؟ ولا يهمك ... ولا تخف. سألني الشاويش: هل ضاع اليوم أم أمس؟ أمجنون ذلك الرجل؟ وما الذي يجعلني أنتظر إذا كان قد ضاع بالأمس للتبليغ عنه اليوم؟! ضاع منذ نصف ساعة. منذ نصف ساعة فقط؟ هذه بسيطة جدا، من المحتمل أن يظهر الساعات القليلة القادمة. ولا يهمك، كل يوم يضيع طفل أو طفلان ويظهرون، أحدهم ظهر بعد يوم كامل. لا بد أن الولد مع عائلة مصيفة عثرت عليه وستنتظر بعض الوقت ثم تحضره إلى النقطة . عنوانك، بطاقتك الشخصية. لم أفه بحرف واحد. غادرت النقطة يائسا تماما، ما فائدة البوليس إذن إذا كان الناس هم الذين يعثرون على الآدميين والأشياء المفقودة؟ إذا كان الناس هم البوليس الحقيقي؟ عدت إلى الشاطئ مرة أخرى. لاحظت أن الوقت قد مضى والساعة قد بلغت الثانية والنصف، وأصحاب الشماسي ينصرفون، والشاطئ يبدأ يخلو، هنا الكارثة، فأملي كله هو في وجود الناس على الشاطئ، فأنا أعرف أن الولد بينهم ووجودهم أمل في وجوده، يا رب دع الشمس لا تتحرك، الصراع قوي رهيب شديد، بين تصوري لاحتمال أن يكون قد فقد نهائيا والأمل الضعيف يساورني في ضعفه للعثور عليه. موجات إحساسية تهب وتلهب خيالي بصوره وهو يلعب، وهو يجن جنون الأطفال وهو يغمض عينا ويفتح أخرى إذا ما واجه الشمس، يا رب علق الشمس. الميكروفون، لا بد من عربة بميكروفون. يا أولاد الحلال ولد تايه، ولد لو عرفتم كيف تحملنا في سبيل أن يعيش! كم مرض وعالجناه! كم كاد يهلك وأنقذناه! ولد مهما رأيتم فيه فرأينا فيه أنه ألذ أولاد العالم لأنه ابننا. ولكن الشمس تتحرك إلى الغرب مهددة بالسقوط في البحر، والناس ينصرفون ولم يبق سوى بؤر حياة على الشاطئ، والبحر يبدو مهجورا تعيسا، وكأنما الحياة تختفي نهائيا من فوق سطح الأرض يقتلها يأس كبير أسود يزحف من كل اتجاه، من الماء والسماء والشرق والغرب، مرة أخرى إلى النقطة ... لا، لم يحضر أحد. مرت ساعتان ولم يحضر أحد، لا بد أنه غرق في الماء، في الماء أو في الناس أو في المدينة، إنها كلها أصبحت مجاهل مخيفة، في ثانية ممكن أن تبتلع طفلك أو تبتلعك فلا يظهر له أو لك أثر، بعض شبان البلاج يسخرون من رواحنا ومجيئنا على الشاطئ كمن فقدوا عقولهم، لهم حق؛ إنهم لم يجربوا بعد هذا الطعم، طعم أن تفقد أحب وأصغر المخلوقات إليك. ترى ماذا يفعل الآن وهو تائه؟ وهو يحس أنه ضائع بلا أب أو أم أو أخ؟ وهو يبكي بكاء العاجز؛ فسنه ثلاث سنوات ونصف ، ليسترد أباه وأمه وحياته؟
ساعة ألم أبشع أخرى قضيناها، أو قضيتها وحدي، فالأم كانت قد تركتني ومضت، مدفوعة بعوامل فوق حدود العالم والعقل تبحث في منطقة كان من المستحيل أن يوجد فيها لبعدها الشديد عن المنطقة التي فقد فيها، وكنت مشغولا أفتش عن عربة وميكروفون وكل تلك الإجراءات الشكلية التي لا تجدي، وثبت أن الغريزة هي الأقوى والأحكم، فبعد ساعة ظهرت زوجتي وهي تحمل الولد، وقد عثرت عليه مع بعض أولاد الحلال في تلك المنطقة البعيدة.
الآن فقط أحس بمدى الفجيعة التي كانت ترقد وراء عم إبراهيم، وهو ينادي ونحن صغار: يا ولاد الحلال، ولد ضايع ولابس جلبية بيضا. ذلك الذي كنا نسير وراءه ونردد كلماته أطفالا ونحن في منتهى السعادة، وعلى وجوهنا نفس الابتسامة السعيدة التي كانت مرتسمة على وجه الولد، فهو لم يتصور أبدا أنه ضاع، ولم يحس مطلقا بأية فجيعة.
صفحه نامشخص