برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
برتراند راسل: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
مما لا شك فيه أيضا أن أسلوب مور وشخصيته كانا من العوامل المهمة في السنوات الأولى من الفلسفة التحليلية. وفي مقدمة كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، كتب راسل أن التحليل أدخل إلى الفلسفة ما أدخله جاليليو إلى الفيزياء: «إحلال نتائج تدريجية ومستفيضة وممكن إثباتها محل مبادئ عامة غير مجربة لا يزكيها إلا مخاطبة القدرة على التخيل.» وقد يصلح هذا المقطع أيضا ليكون وصفا لأسلوب مور الدقيق في الفلسفة؛ ففيه يأخذ ادعاء أو فكرة ما ويظل يفكر فيها طويلا بلا كلل حتى يحللها إلى مكوناتها في صياغة منظمة. وهو ليس أسلوبا خلابا، لكنه فعال بطريقته المحدودة. كان لمور عدد كبير من المقلدين، ولكن أهدافه ومناهجه كانت تنزع إلى الانتقاد في المقام الأول؛ فلم يقدم أي اكتشافات فلسفية. ويكمن إرثه الأساسي في أنه منح انتشارا لمفهوم «المغالطة الطبيعية» في علم الأخلاق، وهي تعريف صفة أخلاقية مثل الصلاح من حيث صفة ما طبيعية مثل المتعة. إن مقياس تأثير أي فيلسوف هو مدى الاستفادة من مناهجه وأفكاره بعد أن يقدمها؛ وبهذا المقياس فإن مكانة مور في فلسفة أوائل القرن العشرين لا تضاهي مكانة راسل. ومع ذلك ساعد مور فعلا في تشكيل الجو التحليلي، وقد ساعدت حركته المميزة الشهيرة - شهقة الارتياع التي كان يرد بها على الأقوال الفلسفية التي كانت تبدو له شاذة - في دفع أجيال من التلاميذ والزملاء للتفكير بمزيد من الحرص قبل أن يتكلموا أو يكتبوا.
قد توحي المناقشة السابقة بأن الفلسفة التحليلية ظاهرة حديثة العهد. وهذا صحيح، على صعيد أن الكثير من مصادر إلهام الفلسفة التحليلية وأساليبها مستمد من أسس المنطق الجديد. ولكن على صعيد آخر وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإنها تمثل تطورا مباشرا لتراث هيوم وبيركلي ولوك وأرسطو. وقد أسهم أول مفكرين من هؤلاء المفكرين - ولا سيما الثاني - فضلا عن لايبنتس، في تشكيل قدر كبير من توجه راسل الفلسفي. وليس من الصعب أن نلاحظ التشابه بين راسل وأرسطو؛ إذ إن أرسطو أقام تصوره للميتافيزيقا على تصوره للمنطق، وطور تصوره للمنطق لهذا الغرض، تماما مثلما فعل راسل.
لا يمكن أن يغفل أي تقييم لراسل كفيلسوف فكرة أن أعماله كثيرا ما تكون أقل دقة وحرصا مما كان من الممكن أن تكون عليه إذا كان قد اتبع نصائحه المنهجية. وتتخلل أعماله فعلا مساحات معروفة من الإهمال والسطحية، ومن العجائب الباقية في مجال الفلسفة أن أكثر كتبه نجاحا وانتشارا، وهو كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية»، والذي يعد مصدرا لمعظم الناس لمعرفة الفلسفة - مع كل مزاياه الجمة الأخرى - يتسم بنقص فادح كمناقشة فلسفية في عدة مواضع. كانت له أخطاء أصبح الطلاب حاليا يحترسون منها في محاولاتهم الأولى؛ ومن أمثلة ذلك استخدام الفارق بين «الاستخدام والذكر»، والذي يتناول الاختلاف الشاسع بين استعمال تعبير ما فعلا وبين التحدث عنه؛ ففي الجملة السابقة استخدمت كلمة «تعبير»؛ وأنا الآن أذكرها، وأميز هذه الحقيقة من خلال وضع الكلمة بين علامتي تنصيص. وتحفل المناقشات الفلسفية بالمناسبات التي تتضح فيها أهمية الفارق، وهو أمر من الممكن إثباته بأن نذكر أن لكل من جملتي «شيشرون لديه ستة رسائل» و«كلمة «شيشرون» تتألف من ستة أحرف» معاني مختلفة تماما.
غضب البعض من لامبالاة راسل أحيانا بخصوص ضرورة الحرص على الدقة (وهو واجب محتوم في الفلسفة، إذا كان المرء يسعى إلى الدقة والوضوح. وتتطلب الفلسفة أيضا القدرة على التخيل والإبداع، ولكن إذا لم تتحد القدرة على التخيل مع الدقة، فإنها لا تفيد المرء كثيرا). وقد وصف نورمان مالكوم - في سياق العرض النقدي الذي قدمه عن كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» - هذا بأنه «ثرثرة حواة». ومن المفارقات أن راسل تسبب في رفع معايير المناقشات الفلسفية إلى حد بعيد، ولكن قياسا بالمستويات المتطلبة التي بلغتها تلك المعايير، بات هو نفسه حاليا لا يبلغ المستوى المطلوب أحيانا.
ومع ذلك، فإن هذه الشكاوى غير ذات بال؛ ففي معظم الحالات التي يتجاوز فيها راسل التحفظات والتفاصيل القليلة الأهمية باستخدام نثره البديع، ويسحرنا بخفة ظله وظرفه، تصبح مثل هذه المشكلات التي يتسبب فيها غير فادحة إذا كان القارئ متنبها. وعلى أي حال كان راسل يدرك أنه أحيانا كان يستخدم أسلوبا مفرطا في سرعته. كان يضيق ذرعا بالميل إلى استعراض المعلومات الذي لا يرضى صاحبه إلا إذا أثقل الكتاب بسيل من الحواشي. كان يتلهف على النتائج العملية وعلى وجهة نظر ثابتة وفعالة تعبر عن أفضل معلومات أساسية عن التجربة يستطيع أن يوفرها العلم. وفي بعض أعماله اللاحقة خصوصا، كان موقفه هو أنه إذا أمكن إيجاز المخطط التمهيدي لنظرية ما، أصبح من الممكن إضافة التفاصيل فيما بعد. وحتى في هذه الحالة نجد أن أفكاره محفزة وأحيانا غير مألوفة.
ولكن يلحظ المرء أن هذه الأقوال لا تنطبق على راسل إلا وهو في عجلة من أمره، وكأنه يرسم بأقلام الفحم بدلا من الألوان الزيتية؛ ففي أفضل حالاته تكون أعماله الفلسفية غنية ومستفيضة وبارعة وعميقة. ويصح هذا بالتحديد على ما كتبه في الفترة ما بين عامي 1900 و1914. والأوراق البحثية المجموعة بين دفتي كتاب «المنطق والمعرفة» واضحة بذاتها في هذا الصدد. إن ما يقوله آر إل جودشتاين عن بعض مضمون كتاب «أصول الرياضيات» - «يمثل كتاب «أصول الرياضيات» من بعض النواحي قمة في الإنجاز الفكري؛ إن مفهوم نظرية الأنماط المتشعبة القائمة على بديهية القابلية للاختزال خصوصا من أدق وأذكى المفاهيم على مستوى كل المؤلفات في مجال المنطق والرياضيات» («ما بعد كتاب أصول الرياضيات»، في كتاب «مجلد راسل التذكاري»، من تأليف روبرتس، ص128) - يمكن أن ينطبق على بعض كتابات راسل الفلسفية الأهم. وهذه إشادة بالغة فعلا.
إن الرسم البياني للشهرة له شكل يكاد يكون ثابتا؛ فهو يرتفع أثناء حياة المرء، وحتى إذا انخفض في سنوات الضعف فإنه يرتفع ارتفاعا شديدا عند نشر إعلانات النعي والكتب التذكارية. ثم ينخفض انخفاضا شديدا ويظل راكدا لمدة جيل واحد. ولكن يعود إلى الارتفاع بعد مدة طويلة ويجد مكانته المناسبة في تقدير أجيال المستقبل. توفي راسل عام 1970؛ وعلى مدى العقود التي أعقبت وفاته لوحظ أن اسمه - وليس تأثيره الحقيقي، كما تعرض الصفحات السابقة - لم يكن حاضرا إلا بما يتصل بالموضوعات الفلسفية التي كانت أساسية في عمله، خصوصا في مناقشة الإحالة والأوصاف، ومساعي تحليل الوجود، وفي التاريخ الحديث لنظرية الإدراك. ومن أسباب هذا التراجع إلى هامش التاريخ هو أن الفلسفة اللاحقة لفيتجنشتاين (ويستعصي هذا الفيلسوف على قاعدة الرسم البياني التي أشرت إليها؛ فعقب وفاته مباشرة ظهر مريدون متحمسون له على مدى ثلاثة عقود، ولكن مواهبه كفيلسوف - رغم عظمتها - أصبحت الآن تحظى بتقدير أكثر رصانة واعتدالا) كانت تقدم أسلوبا مناقضا تماما لأسلوب راسل في التحليل؛ ففي الواقع ظل معظم المشتغلين في الفلسفة يواصلون عملهم بأسلوب راسل، ولكن شهرة أفكار فيتجنشتاين وحماس مريديه منح الانطباع المعاكس. ويكمن السر في ذلك فيما قاله رايل عن أن راسل لم يكن يسعى أو يرغب في تأسيس مذهب من المريدين: «علمنا راسل ألا نعتنق أفكاره، بل أن يكون لكل منا تفكيره الفلسفي المستقل؛ فمن ناحية لا يوجد أحد الآن يتبع أسلوب راسل ولن يتبع أحد أبدا أسلوب راسل مرة أخرى؛ ولكن من ناحية أخرى كل منا الآن يتصف بشيء من أسلوب راسل.»
شكل 5-2: صورة شخصية لراسل.
2
بوجه عام يحظى المفكرون بمريدين حين يقدمون أجوبة جذابة للأسئلة الكبرى للفلسفة (وهي الأسئلة الكبرى للحياة، وذلك في مظهر أكثر تبسيطا). كان راسل متشككا في الأجوبة، مع أنه كان يسعى إليها بكل قوة. وفي خاتمة كتاب «مشكلات الفلسفة»، كتب راسل متحدثا عن قيمة الفلسفة:
صفحه نامشخص