فراح يجفف وجهه بمنديل ضارب إلى السواد، وهو يقول: التواءة بسيطة ليس إلا.
صاح به مطاردا بلسعة الشمس: أنت أعمى!
وتماسكا بشدة ثم انهالت اللكمات، وجاء عسكري المرور جريا وهو يسب ويلعن.
وتربعت الشمس في كبد السماء كرة من نار تقذف حمما. وانتشرت الصفرة الكئيبة الضاربة إلى الاحمرار لطخات متفرقة في الأديم الضاري. ونفثت الأرض أطنانا من الحرارة اللافحة المركزة بالبخار، وانطلقت الباصات مائلة إلى الجانب الأيمن من ثقل حمولتها، وتلاصقت الأجساد البشرية حتى انصهرت في جسد واحد هائل متعدد الألوان والتقطيبات، متوحد العناء والعذاب، واستقرت في الأعين المتطلعة إلى الطريق نظرة خاملة، مستسلمة، متقززة، متألمة، متصبرة. - العرق يتجمع ويهبط في خطوط كالحشرات، ثم يستقر في الحذاء. - يوم من أيام الجحيم. - إذن كيف يعيش الناس في السعودية؟
ولسبب ما انفجر السائق في غضب قاذفا بسيل من اللعنات الفاحشة، فصكت آذان السيدات والأوانس وكأنهن لم يسمعن ألبتة، وواصلن وجومهن بلا مبالاة.
وأخذ مرسي صاحبه إلى قهوة وبار آسيا، وهو يقول: لن تعرف حقيقة اليوم إلا من جرائد الغد، كم تظن درجة الحرارة؟ - في الظل؟
ضحك مرسي عاليا، وهو يصفق مناديا الجرسون، ثم قال: هاك طريقتي المقتبسة عن الإنجليز الذين يعيشون في المناطق الاستوائية، أن أشرب حتى تلطسني الخمر، هناك لن أفرق بين ديسمبر وبين أغسطس.
وقنع عساف وزوجه من الغذاء بأكلة جبن وبطيخ. وتجرد من ملابسه ثم استلقى - كما ولدته أمه - فوق الكنبة، وفعلت حرمه مثله فوق الفراش. على ذلك لم يهنأ بالنوم لتسرب العرق المالح من جفنيه، وانحداره أحيانا إلى فيه الفاغر. استيقظ مرات ليجفف وجهه ثم يستغرق في النوم، ولكنه صحا أخيرا على ضوضاء وزياط منزعجا حقا. نهض متسخطا فجفف جسده بالفوطة، ومضى إلى الشيش لينظر ماذا يجرى، فرأى الغلمان يلعبون الكرة في الطريق تحت قذائف الشمس. وخلف الهدف مباشرة نام سائقو الكارو على الطوار في ظل الجدران. لعن النسل والتناسل، ثم رجع إلى الكنبة يبتسم ساخرا : يلزمنا جهاز تكييف هوا.
فتردد شخير زوجه عاليا.
وانداحت الصفرة الضاربة إلى الحمرة، وانبثقت منها إشعاعات تحمل رسائل من الكآبة والضجر. وتصاعد التثاؤب والتأوه. ونفد صبر ست عليات زوج بياع الثلج، فوضعت ربع لوح ثلج فوق رأسها، ثم مسحت به عنقها، ثم أرسته فوق صدرها طويلا، ولم تمض ساعة حتى ظهرت عليها أعراض الحمى.
صفحه نامشخص