فقال سلامة بنبرة غاضبة: كان قاتلا ابن قاتل، وقد تقدم به العمر حتى خفت أن يسبقني الموت إليه، ولم يكن يكف الأهل عن مطالبتي بالثأر.
فقهقه دحروج عاليا، ثم قال: وهربت والأوراق محمولة إلى المفتي.
شد سلامة على ذراعه بامتنان قائلا: ووجدت نفسي ضائعا، فقلت ليس لي إلا دحروج صديق صباي فأويتني يا شهم الرجال. - نحن رجال يا سلامة. - على أي حال فالمخزن هنا في حاجة إلى رجل، وإني رجله.
وقطع حديثهم ظهور جنازة في الأفق قادمة من ناحية العمران. مضت تتقدم نحو الطريق المحاذي لسور الخرابة الغربي المفضي في نهايته إلى قرافة الخفير. ووضح النعش مسجى بغطاء من الحرير الأبيض، فتمتمت آمنة: شابة صغيرة يا حسرة عليها.
فقال سلامة: المكان هنا جميل وآمن، فلا عيب فيه إلا أنه في طريق القرافة.
فتساءل دحروج وهو يضحك: أليس طريقنا جميعا؟
لم يطرأ على الخلاء تغير يذكر مذ أعلنت الحرب. ظل ملعبا للشمس من الشروق إلى الغروب، ومعبرا للنعوش، ومعسكرا للصمت. وأطلقت زمارات إنذار في تجارب غارات وهمية. وارتفعت أهمية الراديو القديم الباهت إلى القمة، حتى بات في وسع دحروج أن يحصي القنابل المتبادلة بين سيجفريد وماجينو. وكلما استقبلت حواس سلامة صوتا منغوما أو حركة لاعبة أو نظرة ولو غير مقصودة احترق باطنه بنار شرهة، وغضب في ذات الوقت على نفسه بلا رحمة. وقال دحروج في ضجر: الحال لم تتغير، فأين ما سمعنا عن الحرب؟ - صبرك، ألا تذكر ما قال عميلك اليهودي؟
نظر دحروج نحو أكوام الحديد التي ملأ بها المكان عملا بنصيحة عميله، ثم قال: فلتسرع الأيام. - فلتسرع، ولتلتهم خمسة عشر عاما من الزمن. - خمسة عشر عاما؟ - في آخرها تسقط عني العقوبة. - يا له من عمر! سوف نكون على حافة حرب ثالثة.
وراح يغني بصوت محشرج غريب «يا بهية خبريني»، ثم هتف: معلم دحروج .. لن يبقى من أهلي أحد إلا النساء.
وقال: إن آمنة تلعب بعقله وهي لا تدري، أو وهي تدري، وأنه سيدخل الجحيم قبل أن يدركه الموت. ولم تكن الحرب تهمه في شيء، ولكنه سمع بين فواصل من الأغاني أنباء اجتياح هولندا وبلجيكا وسقوط باريس. وتتابعت أمام العين طوابير اللاجئين، وامتلأ الفراغ بالتنهدات والدموع، ثم إذا بإيطاليا تعلن الحرب. وقال دحروج بقلق: ها هي تدق الأبواب.
صفحه نامشخص