ولم يتحرك جعران استهزاء؛ فاقترب عثمان منه خطوات، وسرعان ما تكتل الأعوان حول رجلهم وأمامه، فقال الضابط ساخرا: أرأيت أنك تختبئ وراء جدار من الأنذال؟
وهتف جعران في رجاله: ابعدوا.
فتفرقوا بسرعة كالحمام في أعقاب طلقة. ووثب جعران إلى الأرض، وكان ربعة مدمج الجسد، غليظ الرقبة، ثم تساءل: أين عساكركم؟
فقال الضابط بحنق: سأضربكم بالطريقة التي تضربون بها الناس.
وبمفاجأة صاعقة لطم جعران لطمة مهينة، فصرخ هذا من الغضب وانقض عليه، فاشتبكا في صراع مميت. تلك كانت لحظة مذهلة لم تنسها الحارة حتى اليوم، كالصراع الذي يروى عن الفيل والنمر. وكانت فاصلة في تاريخها كله، فتغير مجراه إلى الأبد. وقرأ كل فتوة من أعوان جعران بل ومن رجال الأعور مصيره فيها.
وأراد جعران بكل وحشية في دمه أن يعصر عثمان بين ذراعيه الحديديتين، ولكن الضابط اعتمد على خفة الحركة واللكمات، وهو فن لم يعرفه جعران أبدا. وأصابت اللكمات فكي عدوه وصدره وبطنه وأنفه المعوج؛ فصرخ في جنون الغضب: ملعون الجحيم إن لم أشرب من دمك!
وصاح الرجال الذين منعتهم تقاليدهم من الاشتراك في المعركة: الموت .. الموت .. يا معلم.
وارتفع الصياح والصراخ والصوات. وتجمهر الحي كله تحت القبو الفاصل بين الحلوجي والفرغانة. ووقفت نعيمة ترتجف من الانفعال، قابضة على يد أبيها بعصبية، وهي تصف له ما يقع مما عجزت عيناه الكليلتان عن رؤيته.
ودار رأس جعران بالضربات المنهالة؛ فبطؤت حركته، وتراخت ذراعاه، وشخصت عيناه إلى الغيب، وهتفت نعيمة بفرح: وقع الوحش على ركبتيه.
أجل قد وقع. ثم سجد حتى انغرز رأسه في التراب فتقوس كالدب، ثم تهاوى على جنبه. وارتفعت عشرات النبابيت فهتف عثمان وهو من التعب في نهاية : يا نسوان!
صفحه نامشخص