ظل يستمع حتى، من نفسي، سكت، وطبطب على كتفي وكأنه يرضي طفلا أضاع معه وقته وقال: أنا متأسف لأني مضطر أسيبك عشان ألحق الاجتماع، أنا دلوقتي بس أدركت أني ضيعت وقتي معاك أنا بقالي ساعة أحاول أقنعك إنك - بصفتك راجل مهتم بالمشاكل العامة - تقف مع قضية عادلة زي قضية لائحة السلوك العام، إنما الظاهر إني ضيعت وقتنا إحنا الاتنين، عن إذنك ألحق الأوتوبيس. - الله، أنت لسه بتركبه. - طبعا. - و999 برضه. - هو وغيره، ليه لا؟ - وبتشوف برضه تجارب علمية وتسأل و... - ما باشوفش حاجة أبدا، أنا صحيح جبت واحدة جديدة صحيح، إنما عشان أستعملها بس في الحرم الجامعي، إنما خارج كده أنا لا أرى زي ما أنت شايف. - ولا بتسمع استغاثات. - أبدا، أبدا، الظاهر أن الست دي كانت آخر واحدة تشذ وتستغيث، وأنا كنت آخر أحمق يقول أنا شفت، يعني كانت آخر علقة، دلوقتي تركب 999 أو غيره تلاقي كله تمام، اللعبة بتتم في صمت، ولا أحد يخرج على قواعدها، والقاعدة إنك ماتشوفش وإذا شفت كأنك ما شفتش، وإذا حصل لغيرك مالكش دعوة، وحتى إذا حصل لك أنت ولا كأنه حصل لك، حل عبقري مش كده؟
نظرت إليه مذهولا، ليس إلى عويس «الجنونة» أو رسول العناية للإصلاح أو بطل الكفاح من أجل اللائحة، كان ذهولي ربما أكثر بكثير من ذهوله حين وقعت له منذ أسبوع الواقعة. - عن أذنك، 999 بتاعي جه، ولا يهمك بكره لما اللائحة تقر حتشوف.
وعلى طريقته، تخلى عن وقاره العظيم للحظة، وانطلق يجري ولسانه رغما عنه يفلت كلمة «سنوبز» وبقفزة هائلة وضع قدمه فوق السلم، وما كاد يستقر، ويمسك العمود بيد، وقد اندس بين المتشعبطين، حتى استدار ناحيتي وأشار إلي بمحفظة أوراقه السوداء مودعا، وعلى فمه نفس ابتسامة أرسطو المشفقة وهو يرمق بها ثورة القروي الجبلي على «مربعه» المشهور.
حمال الكراسي1
صدقوا أو لا تصدقوا، فمعذرة لا يهمني أبدا رأيكم، يكفي أني رأيته وحادثته وقابلته وشاهدت الكرسي، فاعتبرت أني رأيت معجزة، ولكن المعجزة الأكبر، الكارثة، أن لا الرجل ولا الكرسي ولا القصة كانت تستوقف أحدا لا من المارة في ميدان الأوبرا لحظتها ولا في شارع الجمهورية ولا في القاهرة أو ربما الدنيا كلها، كرسي هائل تراه فتظن أنه قادم من عالم آخر أو أقيم من أجل مهرجان، ضخم كأنه مؤسسة، واسع القاعدة، ناعم، فرشه من جلد النمر، ومسانده من الحرير، وحلمك كله إذا رأيته أن تجلس عليه مرة أو لحظة، كرسي متحرك، يتقدم بتؤدة كأنه موكب المحمل حتى لتظن أنه يتحرك من تلقاء نفسه وتكاد من الرعب أو الذهول تخر أمامه وتعبده وتقدم له القرابين، ولكن في آخر وقت ألمح بين الأرجل الأربع الغليظة المنتهية بحوافر مذهبة تلمع، ساقا خامسة، ضامرة، غريبة على الفخامة والضخامة، ولكن لا، لم تكن ساقا كانت إنسانا نحيفا معروقا قد صنع العرق على جسده ترعا ومصارف وأنبت شعرا وغابات وأحراشا، صدقني فأنا، بالأمانة المقدسة، لا أكذب، ولا أبالغ، بل أنقل في عجز ما رأيت، كيف استطاع نحيف هش كهذا الرجل أن يحمل كرسيا كهذا لا يقل وزنه عن الطن أو ربما أطنان؟ ذلك هو المذهب للعقل وكأنه شغل حواة، ولكنك تتمعن وتعود تتفحص فتجد أن ليس في الأمر خديعة، وأن الرجل حقيقة يحمل الكرسي وحده ويتحرك به.
والأعجب والأغرب والمثير للذعر أن لا أحد من المارة في الأوبرا أو في شارع الجمهورية أو ربما القاهرة كلها يندهش أو يستعجب أو يعامل الأمر إلا وكأنه مسألة عادية مفروغ منها وكأنه كرسي فراشة، يحمله صبي، ويمضي به، أنظر إلى الناس وإلى الكرسي والرجل علي ألمح ارتفاعة حاجب، مصمصة شفاه أو صيحة عجب. لا شيء مطلقا.
وبدأت أحس أن الموقف كله شيء من المرعب استمرار التفكير فيه، وفي تلك اللحظة كان الرجل بحمله قد أصبح على قيد خطوة مني، وأصبحت أرى وجهه الطيب رغم كثرة ما فيه من تجاعيد، ومع هذا لا تستطيع أن تحدد له عمرا، ورأيت ما هو أكثر، فقد كان عاري الجسد لا يغطيه إلا حزام وسط متين يتدلى منه ساتر أمامي وخلفي من قماش قلوع المراكب ولكنك لا بد تتوقف، وتحس بعقلك قد بدأ، كالغرفة الخالية يصنع صدى، إنه يبدو في لباسه غريبا ليس على القاهرة وإنما على العصر كله، تحس أنك رأيت له شبها في كتب التاريخ أو الحفريات، وفوجئت، هكذا، بابتسامة فيها ذلة السؤال، وبصوت، وبكلام. - الله يرحم والديك يا بني، شفتش عمك بتاح رع؟
أهو هيروغليفي منطوق بالعربية أم عربية منطوقة بالهيروغليفية؟ أيكون الرجل من المصريين القدماء؟
وهجمت عليه: اسمع، أوع تقول إنك من المصريين القدماء. - لهو فيه قدماء وجداد؟ أنا من المصريين وبس. - وإيه الكرسي ده؟ - شيلتي، أمال أنا بادور على عمك بتاح رع ليه؟
عشان زي ما أمرني أشيله يؤمرني إني أنزله، أنا اتهد حيلي. - أنت بقالك كتير شايله؟ - كتير أوي ما تعدش. - من سنة؟ - سنة إيه يا بني، قول من ييجي سنة وشوية آلافات. - آلافات إيه؟ - سنين. - من أيام الهرم يعني؟ - من قبل، من أيام النيل. - نيل إيه؟ - من أيام ما سمو النيل نيل، ونقلوا العاصمة من الجبل للضفة، جابني عمك بتاح وقال لي يا شيال: شيل، شلت، وأدور عليه في سلقط في ملقط بعد كده عشان يقول لي: حط، من يوميها للنهارده مش لاقيه.
صفحه نامشخص