وفتحت فمها لترد.
وطويل، هائل الطول هذه المرة، واحد من ذوي الأعين التي رآها الدكتور عويس ومتأكد أنها كانت ترى كل شيء وتعرف، جعجع: ده كان بينه وبينك سبع ركاب، وأنا كنت واقف وراكي وانت اللي عمالة تتحككي، بقي.
وصفعة أخرى، ودفعة، وكوع لكز، وركبة بغل، ضربت، أصوات تداخلت: تستاهل، يعملوا العملة وبعدين يعملوا شرفا. سيدة تعلق: ويعني الشرف حبك قوي، كانت استحملت وبلاش الفضايح، زغدة، كتف، دفعة أشد، أكثر من ذراع، السلم، دفعة ظهر إلى الأرض لا حراك بها فوق الرصيف، حزام الفستان مفكوك، أزراره تفتحت، شرابها تهدل، شعرها انفكت الشريطة التي تضمه، تبعثر كهشيم شعر في كل اتجاه، وما أن استقرت في الخارج حتى هدأت الأصوات الزاعقة، وبدأ كل منهم يتنفس في ارتياح، الحمد لله.
احتاج الأمر إرادة من حديد كي يحول الدكتور عويس بين نفسه وبين أية انفعالات ذاتية، فليرتفع ضغط دمه، فلينفجر غيظا، فليتقطع قلبه إشفاقا، ولكن فليبق هو المراقب، في حدود دوره كعالم، يرى ويلحظ ويسجل، لتبق له مساحة عقلية تكفي ليعرف أيضا ويتساءل، والتساؤل الذي يلح عليه قاس لا يرحم، حادثة السلوك الشاذ من الراكب تفسيرها واضح، مريض، الرجل لا بد في حاجة لعيادة وطبيب، حادثة العيون التي ضبطها تختلس المتعة تفسيرها أبسط، المذهل المحير ليس أن تستغيث فلا تجد المغيث، السؤال الملح هو هذه الرغبة التي لا بد أنها نبتت بتلقائية، وفي كل نفس على حدة، لإثبات كذب المرأة، ونفي الموضوع وكأنه لم يكن، بل والأكثر عقابها الجماعي على تلك الصورة لأنها فتحت الفم ونطقت وبلغت بها الجرأة أن استغاثت وحددت الفاعل.
في ثوان طاف عقل الدكتور عويس بحصيلة ثلاثين عاما من المعرفة والقراءة وحتى التخصص، في ثوان وبكل قوة توهجت كل قدراته على الاستنتاج والجشتالت، وفي ثوان أيضا أدرك أن لا جواب لديه ولن يقدر بذكائه وحده أن يصل إلى جواب.
ولأول مرة مذ وقعت الواقعة، وركب الأوتوبيس يبدأ الموضوع يتخذ في عقله خطورة ما، فقد أدرك أنه فجأة أمام ظاهرة تحدث أمامه، بل وربما في صميم اختصاصه، ولا يملك لها أي تفسير.
وإذا كانت الرغبات هي محركاتنا الأساسية للفعل، فرغبة الدكتور عويس للمعرفة كانت هي قوته الدافعة الأولى، أقوى رغباته جميعا، يكفي أن يحس بها حتى ينسى أي شيء وكل شيء وينتصب أمامه ذلك الهدف الساحر الذي لا يقاوم: أن يعرف. بعد ثوان ستكون الفئران قد اختفت، والإجابة ضاعت وهي لحظة واحدة، وعليه أن يختار.
وفجأة، وسط جو لا يزال مشحونا ملبدا، تنحنح صوت لا علاقة بين نبرته ومقامه وبين كل ما سمع من أصوات وضجيج، بنفس طريقته وهو يرفع الكلفة مع تلاميذه ليأخذهم تحت إبطه ويحظى منهم بالاعتراف، قال: اسمحوا لي بكلمة، أقدم لكم نفسي أولا، أنا الدكتور فلان الفلاني الأستاذ بكلية كذا بجامعة كذا، وعديد آخر من الأوصاف، وأرجوكم لا تعتقدوا أني أقصد التدخل في شئونكم الخاصة، «حب الاستطلاع وصل في جو العربة هنا إلى حد مخيف» وإنما أنا أستاذ مادة الأنثروبولوجيا ولا يهمني ما حدث أبدا من الناحية الأخلاقية أو القانونية، أنا يهمني الناحية العلمية، «تحول حب الاستطلاع إلى شك»، لقد أتاحت لي وقفتي قريبا من هذه المرأة التعسة «كاد سائق الأوتوبيس يضغط على البنزين ويمضي ولكنه عدل، الكمساري كف عن عملية الاطمئنان على نقوده» أن أرى كل شيء وأن أرى أن آخرين غيري يرون نفس الشيء، وليس هذا مهما أبدا عندي.
رمقه رجل مفلفل الشعر بالمشيب مرتكزا إلى عمود الوسط وبنوع من الاستغراب المشبع بالإنذار سأله: أنت عايز إيه يا أستاذ بالضبط، عايز تقول إيه إحنا مش فاضيين؟
بصوت عال واضح قال: عايز أعرف إيه اللي ضايقكم أنتم في تصرف السيدة وفي اتهامها للأفندي؟ زعلتوا ليه؟ حتى الستات، اضايقت ليه؟ لأسباب علمية محضة أرجوكم أن تجيبوني لأن هذا مهم لي في مادتي جدا.
صفحه نامشخص