وتحول الجامع إلى مظاهرة، وغادروا المبنى إلى الخارج ليصيروا إلى المئذنة والشيخ عبد العال أقرب، الكلمة تنطلق منه فتكاد بما تحتويه تنير حجب الظلام، يتطلعون، يتأكدون أن من يؤذن حقيقة من البشر وأنه بالتأكيد نفس الشيخ عبد العال، فالحق أن ما يسمعونه كان صوتا لا يمت إلى البشر ولا إلى الأرض وإنما هو قادم مباشرة من السماء.
بل ومن فرط ما سكروا نشوة لم يفطنوا أن الشيخ عبد العال هبط من المئذنة دون أن يؤدي الأذان الشرعي، شاحبا ممصوصا كمن نزف الحياة صوتا ومقاومة هبط، اندفعوا يحيطونه، بإشارة أوقف الاندفاع، من فوره اتجه إلى القبلة، ونوى الصلاة.
أجل، نويت للصلاة.
أنا الآن أهل لها. •••
أهل لها؛ فقد انتصرت، بشائر النصر بدأت حين عدت أمتلك بصري، حين استيقظت «لي لي» من نومها على صوتي المدوي المجلجل، وفي الفراش جلست ، مبعثرة جلست، نفس جلسة أمها على العتبة، نحوي سددت البصر، مدهوشة، مذهولة، ثم مستمتعة بدأت ترنو، أعتصر نفسي أنا، أهرب منها وأتلوى، وهي أيضا تتلوى، أتلوى أنا احتراقا وتمزقا وألما، وتتلوى هي جذلا، حتى قامت تنظر من النافذة، وحينذاك تحولت ببصري وأصبح ملكي وعاد لي الوعي، وجدت نفسي حطام بشر، بقايا حياة.
رفعت عيني إلى السماء، ولم أنطق، فقط ملأت بصري بنظرة شكر، أحسست أن شيئا لي قد حدث، لم أعد أنا، كان في خزين إيمان قوي ذهب، قذفت به كله في أتون المعركة.
منتصرا هبطت، مجرحا، قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت. •••
ظل السجود قائما ومستمرا حتى ملأت الشمس الحديثة صحن الجامع، نام البعض، وشخر آخرون وسرح كل منهم في ملكوته وعالمه، والحجة قائمة وموجودة، هم في انتظار تكبير الشيخ، فوجئوا مرة بضحك هائل غريب، خشن، عرفوه للتو، هو معزة الأفيونجي، الذي كثيرا ما تطرده امرأته ويتخذ المسجد منزلا ومقاما، ضحك استمر حتى نفد كل ما لدى صاحبه من مخزونه لسنوات طوال مقبلة، وجاء بعده كلام، كلام فارغ صحيح، ولكنه جاء، شوفوا الناس المساطيل اللي ساجدة وبتصلي من غير إمام. •••
منتصرا هبطت، مجرحا قلت الصلاة بلسم الجراح، استقبلت القبلة ونويت، فتحت عيني، كانت «لي لي» في منتصف القبلة نائمة، عارية، مبعثرة، مفتحة، يتموج شعرها على جسدها وينحسر، عفوك يا إلهي، فلقد أخفيت عنك الحقيقة، الشيطان انتصر؟!
وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلاله، كنت قد تسللت عبر النافذة الملاصقة للقبلة، وفي لمح البصر كنت أدق غرفة الدور الثاني السطوح في البيت المقابل. «لي لي» وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح، بابتسامة مرعوبة قلت لها وأنا أفك زرار الكاكولة الأعلى: «جئت أعلمك الصلاة.»
صفحه نامشخص