فمن الناحية الرسمية انتهت هذه الحرب عام 1977، بسيطرة قوات الردع العربية التي تتألف غالبيتها من قوات سورية. لكن الاشتباكات المختلفة لم تتوقف حتى الآن بصورة نهائية بين الجانبين المتصارعين. والأكثر من ذلك أن هذه الاشتباكات تركزت في الآونة الأخيرة بين القوى المختلفة داخل كل منهما، بصورة تعيد إلى الأذهن صراع عصابات شيكاغو في العشرينيات والثلاثينيات، والمعارك الدموية بين عائلات المافيا.
ففي 7 يوليو، تموز الماضي، قاد بشير الجميل (33 سنة)، القائد العسكري الشاب لميليشيا الكتائب المارونية، والحاكم الفعلي لبيروت الشرقية، حملة تصفية على مراكز شريكه في الجبهة المارونية، كميل شمعون، أطلق عليها ساخرا لقب «الحركة التصحيحية»، وقتل في ساعات قليلة أكثر من 500 من رجال ميليشيا «النمور» التابعة للأخير. وبالنتيجة، وافق شمعون صاغرا على الاشتراك في اجتماعات المجلس العسكري ل «القوات اللبنانية» بقيادة بشير الجميل، مقابل استمرار حصوله على نصيبه من أرباح ميناء ضبية، بالإضافة إلى مليون دولار نقدا.
وقبل أربعة شهور من مذبحة النمور، انفجرت شحنة متفجرات، تعمل بالتحكم النائي، في سيارة بشير الجميل، فأودت بحياة ابنته مايا (3 سنوات) التي ولدت عشية هجوم آخر دبره أبوها على القصر الصيفي للرئيس السابق سليمان فرنجية، في بلدة أهدن، راح ضحيته ابنه الأكبر طوني (36 سنة) وزوجته فيرا (32 سنة) وابنتهما جيهان (3 سنوات).
وقد رافقت هذه المذابح صعود بشير الجميل، وسعيه لفرض زعامته على الجبهة المارونية أو «الجبهة اللبنانية» كما تسمي نفسها، والتي تتألف من قوات بيار الجميل (الكتائب) وشمعون (النمور) وفرنجية (المردة)، فضلا عن شربل قسيس (المجلس الدائم للرهبانيات)، وإتيين صقر (حراس الأرز).
وعلى الناحية الأخرى من الخط الأخضر الذي يفصل شطري العاصمة اللبنانية، تدور معارك مماثلة بين القوى العديدة التي تتألف منها الجبهة المضادة التي تسمى أحيانا بالإسلامية، وأحيانا أخرى بالوطنية، وأحيانا ثالثة بالتقدمية، وأحيانا رابعة باليسارية.
وبالإضافة إلى المنظمات الفلسطينية التي يرتبط بعضها ببلاد عربية متناحرة مثل العراق وسوريا أو السعودية وليبيا، فإن هذه الجبهة تتألف من أحزاب ناصرية يتوزع ولاؤها بين العراق وسوريا وليبيا، وتنظيمين بعثيين يتبع أحدهما العراق، ويسير الآخر خلف القيادة السورية، وآخرين شيوعيين يرفعان راية ماركس ولينين، وحزب اشتراكي يعبر عن الأجنحة الليبرالية في طائفة الدروز، وجماعات إسلامية متفرقة، يمثل بعضها الزعامات التقليدية لطائفتي السنة والشيعة، وهي زعامات شبه إقطاعية تربطها خيوط وثيقة بالأنظمة الملكية في العالم العربي، بينما يمثل البعض الآخر زعامات جديدة لهاتين الطائفتين، يحظى بعضها بمساندة الخميني، ويحظى البعض الآخر بدعم القذافي.
ومن السهل أن تنشب المنازعات بين هذه الجماعات المتباينة، كرد فعل للصراعات القائمة بين الأنظمة العربية، أو بسبب التنازع على مناطق النفوذ. كما أن الشجار التافه في الطريق يمكن أن يؤدي إلى اشتباك واسع النطاق؛ فكل شخص يتبع بصورة أو أخرى أحد التنظيمات أو إحدى الجماعات. وبحكم التفكير العشائري القبلي السائد، لا بد أن تهب الجماعات التي يتبعها إلى نصرته، ظالما أو مظلوما، باللغة الوحيدة السائدة، وهي «لغة المسدس».
وختمت الصحيفة تعليقها قائلة: «إن الساعات القليلة القادمة ستبين ما إذا كان يمكن تطويق الاشتباكات وفرض النظام، أو أن البلاد ستواصل الانحدار إلى هاوية لا يعرف أحد لها قرارا.»
كان السعودي يقرأ صحيفته باهتمام وهو يتطلع إلي بين الفينة والأخرى في قلق، محاولا أن يستشف انطباعي، وتركت وجهي جامدا حتى انتهيت من القراءة، فالتفت إليه وقلت: الظاهر أننا جئنا في الوقت المناسب.
2
صفحه نامشخص