هكذا انضم عنصر جديد، هو العنصر الاجتماعي، إلى الصراع الطائفي الديني الذي أوشك أن يتطور إلى صراع قومي على هوية لبنان. لكن كما ظل الصراع القومي محكوما بالطائفة، بقي الصراع الاجتماعي أيضا في هذا الإطار. وظلت التكتلات والأحزاب السياسية - مهما اتخذت من صور العقائد السياسية أو الاجتماعية - واجهات لطوائف، وأحيانا عائلات وعشائر.
وكان من شأن المد القومي الذي اجتاح الشعوب العربية في بداية الخمسينيات، تحت شعاري التحرر الكامل من الاستعمار والوحدة العربية، إشعال الصراع القومي على هوية لبنان؛ فقد بلغت الحركة القومية ذروتها بقيام ثورة الجزائر، وتأميم عبد الناصر لقناة السويس. وعندما وقع العدوان الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي على مصر سنة 1956، لم يخف الموارنة ورئيس الجمهورية كميل شمعون، تعاطفهم مع العدوان، كما هللت له صحيفة حزب الكتائب.
ومن الطبيعي أن انتصار الحركة القومية بدحر العدوان الثلاثي، أدى إلى تعزيز مواقع الجبهة المعادية للموارنة، كما أدى إلى ظهور الولايات المتحدة على المسرح العربي في دور رئيسي.
وقد ذكر راندال، مراسل «واشنطون بوست»: «قال لي سفير أمريكي سابق عن فترة الخمسينيات: إننا كنا نشتري الناس بالجملة في لبنان، ولن أدهش إذا عرفت أن كل شخصية مهمة في لبنان تلقت أموالا من المخابرات الأمريكية».
ولهذا فما إن افتتحت الولايات المتحدة تحركها لاحتلال مواقع إنجلترا وفرنسا في المشرق العربي بمشروع أيزنهاور سنة 1957، حتى كان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي جرؤ على إعلان قبوله.
لكن المد القومي استمر، فألغت الأردن معاهدتها مع بريطانيا، وفي فبراير (شباط) 1958، أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا، فالتهبت مشاعر العرب كافة. وتدفق آلاف اللبنانيين على دمشق؛ ليحظوا بنظرة من «ناصرهم».
ووجد زعماء السنة والشيعة المتمسحون بجمال عبد الناصر والقومية العربية، وعلى رأسهم السنيان صائب سلام - رجل السعودية الأول في لبنان - ورشيد كرامي، والشيعي كامل الأسعد - المرتبط بالسعودية أيضا - أن الوقت ملائم لاقتطاع جزء أكبر من الكعكة التي يفوز الموارنة بنصيب الأسد فيها، بالرد على عصابات الاغتيال السرية التي شكلها كميل شمعون (الذي افتضح رقمه السري في المخابرات البريطانية في بداية السبعينيات)، فأشعلوا، بالتعاون مع كمال جنبلاط زعيم الدروز، وحليف شمعون السابق ومنافسه على زعامة جبل الشوف، ما عرف بعد ذلك ب «ثورة» 1958، مستندين إلى حماس الشارع القومي، ولجأ المسلمون إلى السلاح رافعين صور جمال عبد الناصر.
وفي 14 يوليو (تموز) 1958، بلغ المد القومي العربي أقصى مداه؛ إذ سقط النظام الملكي في العراق، وانهار حلف بغداد في ثوان، وبدت الوحدة العربية الكاملة في الأفق. وطار عبد الناصر، من عرض البحر الأبيض المتوسط، إلى موسكو استعدادا لمواجهة شاملة مع الاستعمارين؛ القديم والجديد. هنا استنجد شمعون بسفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وجاءه الرد من واشنطون في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي. وفي الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم ذاته - الخامس عشر من يوليو (تموز) - نزل حوالي ألفان من مشاة الأسطول الأمريكي بملابس الميدان، على بعد خمسة أميال إلى الجنوب من بيروت، بزعم حماية لبنان من جمال عبد الناصر. وفي الأيام التالية وصل مجموع القوات الأمريكية في لبنان إلى حوالي خمسة عشر ألف مقاتل.
انتهت «الثورة» باتفاق مصري أمريكي على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا جديدا للجمهورية. وانسحب مشاة الأسطول الأمريكي نتيجة لذلك. إلا أن حزب الكتائب، الذي أنشأه الزعيم الماروني بيار الجميل سنة 1939، على غرار واسم الحزب الفاشستي الإسباني، وفي أعقاب اشتراكه في أولومبياد برلين الشهير سنة 1936، جاعلا له شعارا ذا مغزى هو «الله والوطن والعائلة»، تمرد على الاتفاق. وقام أعضاء الحزب باختطاف أنصار صائب سلام، وكي أجسادهم بعلامة الصليب. ورد أولئك بنفس الأسلوب. ولم تنته الفتنة إلا بدخول بيار الجميل وزيرا في حكومة جديدة.
وباشتراك الجميل في الوزارة بدأت الرحلة الدموية التي قطعتها أسرته من أجل الاستئثار بزعامة الطائفة المارونية والاستحواذ على الحكم. والواقع أنه حتى ذلك الحين، لم يكن اللبنانيون قد أخذوا مأخذ الجد، ذلك الصيدلي الرياضي، ذا القامة المنتصبة، والشعر الأبيض الملتصق بالجمجمة، والميليشيات المضحكة. ومن فرط استهزائهم به، أطلقوا عليه «بيار مانع الحمل»، وهو لقب جلبته له إدارته لصيدلية في ساحة الشهداء، على بعد خطوات من حي الدعارة ببيروت.
صفحه نامشخص