قال: هناك على الأقل سبع إذاعات لبنانية تبث الآن وحتى العاشرة مساء، واحدة للكتائب وأخرى لسليمان فرنجية وثالثة تشرف عليها الكنائس الأمريكية، وتنطق باسم دويلة سعد حداد في الجنوب، ثم رابعة ناصرية تذيع أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام ويديرها المرابطون. هذا فضلا عن الإذاعة الرسمية.
جاءنا صوت فيروز فسألته عن هوية الإذاعة. قال: كل الإذاعات تذيع أغاني فيروز. رغم أنها مارونية.
كانت الأخبار مطمئنة؛ فقد مرت جنازة الصباح في هدوء. وتبادلت الأحزاب والتنظيمات التعازي وإعلان الرغبة في استتباب الأمن. وقالت إذاعة المرابطون إن بشير الجميل، القائد العسكري للكتائب، يستعد لإعلان دولة مارونية بالمنطقة الشرقية في عيد الاستقلال الذي يحل بعد أسبوعين. أما الإذاعة الرسمية فقد اهتمت بأنباء الحوادث والجرائم المتفرقة، وأهمها جريمة وقعت في قضاء جبيل، وهو منطقة مسيحية فيما يبدو؛ فقد اعتدى إلياس الشامي على مريم في بلدة عين القويني، وعندما حملت منه تخلى عنها، فقامت ضجة في البلدة، ووافق أحد الأطباء على إجهاض الفتاة، ثم جرى الضغط على إلياس حتى وافق على الزواج منها برغمه، ولم يلبث أن قتلها بسم المبيدات الزراعية، وأسلم نفسه للكتائب.
شربت علبتي بيرة قبل أن يأتينا الطعام في صينية كبيرة مغطاة بقماش نظيف. وكشف الغطاء عن أوان ورقية امتلأت بقطع الشواء الصغيرة، وأطباق عديدة للسلاطة الخضراء والمزات منها واحد للحمص بالطحينة، وآخر للنعناع الأخضر، وثالث للثوم المعجون بالبطاطس، ورابع للخيار المخلل، وخامس للباذنجان المخلل المحشو بالثوم والكزبرة الخضراء. وكانت هناك شوك وملاعق مغلفة بأوراق شفافة، كان كل شيء نظيفا أنيقا يثير الشهية.
أكلنا ونحن نوزع انتباهنا بين الراديو والتليفزيون الذي اختتم فترة الظهيرة بحلقة من مسلسل أمريكي. والتجأ كل منا إلى فراشه لفترة القيلولة. لكني لم أتمكن من الإغفاء، فقمت إلى المطبخ وأعددت كوبا من الشاي، ثم صنعت قهوة لي ولوديع عندما استيقظ. ووضعت زجاجة الويسكي وإناء الثلج فوق المائدة. وجعلنا نقلب بين قنوات التليفزيون، متنقلين بين حلقة بوليسية أمريكية وأخرى مصرية بعنوان «وفاء بلا نهاية» ثم أخبار باللغة الفرنسية. وانتقينا من برامج السهرة فيلما أمريكيا عن البيتلز، فأدرنا الجهاز على القناة الخامسة، وصبرنا على فقرة طويلة من الإعلانات تخللتها القائمة المعهودة من العطور والسجائر والمعاجين الأجنبية، فضلا عن مزايا مروحة توشيبا ذات الريشات الأربع والمصباح الليلي، والتغيرات الجذرية القادمة في المنطقة العربية كما تنبأ بها العاهل الأردني في حديث شامل لإحدى المجلات.
بدأ الفيلم أخيرا فملأت كأسي، وقبل وديع أن يشرب على مضض. وعندما بلغنا منتصف الفيلم كنا قد جرعنا عدة كئوس، وعدنا بالتدريج إلى الستينيات؛ السجن وفيتنام وجمال عبد الناصر و67 وثورة الطلاب، وشي جيفارا، وبريجيت باردو. وما لبث أن استولى علينا شعور جارف بالاكتئاب.
5
حفلت صحف الأحد بأنباء الانفراج الأمني. وبشرت «السفير» بأن الساعات الأربع والعشرين القادمة ستكون حاسمة بالنسبة للوضع الأمني في المنطقة الغربية، وللمعالجة الجذرية والنهائية لما أسمته «التجاوزات على الأمن الشخصي والكرامة والملكية، وعمليات الابتزاز والتهديد، والخوة والنهب، فضلا عن الاشتباكات بين الأفراد والمنظمات، والعناصر غير المنضبطة التي تروع السكان الآمنين وتخطف منهم البقية الباقية من إصرارهم على التمسك بالأرض أو الوطن أو القضية.»
ونشرت الصحيفة صور اللقاءات المتبادلة بين زعماء المنظمات والأحزاب المختلفة في المنطقة الغربية مع زعماء كل من التنظيمين المتقاتلين. وجمعت إحدى الصور بين الجميع وقد توسطهم ياسر عرفات. كما كانت هناك صور لتأبين عبيد وخير بك في إحدى الكنائس، وللجنازة التي تقدمتها صورة فتاة جميلة في العشرينات هي ناهية بجاني.
شجعنا جو الصحف على الخروج بعد الظهر، فذهبنا إلى معرض للصور الشخصية الفوتوغرافية في قاعة أمام الجامعة الأمريكية. كانت الصور جميعا قديمة، من ذلك النوع الذي يعلق على جدران غرف الاستقبال، أو يحفظ في ألبومات سميكة مغلفة بالجلد. واحتفظت صور النوع الأول بإطاراتها العتيقة، الموشاة بالزخارف وماء الذهب، أما الثانية فقد وضعت في إطارات حديثة بسيطة. وجمع بين الاثنين عنوان واحد هو «لبنان أيام زمان».
صفحه نامشخص