بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
ژانرها
هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها سياسة غاندي ذي الروح الكبيرة الحلوة يعجبنا أن نرددها كل يوم، وبسببها يقول رومان رولان الفرنسوي في كتابه الجديد الجميل: إن «المهاتما أوجد في تاريخ السياسة أقوى وأنفذ حركة شهدها العالم منذ ألفي سنة.» •••
وبينا غاندي وتاغور، وهما مجدا الهند، يتفاهمان ويتعاطفان ويطلبان لوطنهما شيئا واحدا إلا أنهما لا يسلكان لذلك سبيلا واحدا.
غاندي يريد أن يجرد الهند من كل أثر غريب في الصناعة والسياسة والإدارة والثقافة، وأن يعود بها إلى عهد الآباء؛ فتكفي نفسها من نتاج مغزلها ومنوالها، وتعيش عيشة ساذجة هادئة بمعزل عن ضوضاء العمران الأوروبي.
وأما تاغور فيمثل قوة أخرى من القومية الهندية؛ ذلك الشاعر العالم والفيلسوف لم يلق بنفسه في المعمعة السياسية، بل عني بوجه آخر لا يغني عنه الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وهو التهذيب القومي في المدرسة الحرة، وإسماع العالم صوت الهند في آدابها العالية وفلسفتها الزاخرة.
في كتبه خاطبت الهند العالم أجمع، وما زالت تلقي الهيبة في النفوس محرزة بذلك نصرا خالدا، وليكون أثره التهذيبي مباشرا، فقد أنشأ مدرسته «مرفأ السلام» ببلدة بلبار من إقليم البنغال، وهي التي انضمت إليها أخيرا جامعة كبيرة من هاتيك البلاد.
يتخرج النشء في هذا المعهد على آراء تاغور ومذهبه، ولا ريب أنه سيكون قوة كبيرة في تجديد ذلك المحراب العظيم الذي ما زال مستودعا للمثل الأعلى رغم عواصف الحياة وأنوائها.
ويوم الأربعاء من كل أسبوع، وهو يوم الراحة في «مرفأ السلام»، كان تاغور يجمع تلاميذه ويخاطبهم كأخ كبير وصديق رءوف، ومن تلك المحاضرات الاجتماعية والفلسفية والفنية التي ترمي إلى تحقيق كنه الحياة، والوقوف على اتصال الحياة الفردية بالحياة العامة، خرجت مجموعة كتابه «سيدهانا» النفسية، مؤدية صورة حية من روح تاغور النورانية الرحيبة المفعمة جمالا ولوذعية ووطنية وإنسانية.
فكأنه في حين غاندي «النبي السياسي الوديع» يدفع الأيدي العاملة إلى العمل ويحرض على الثورة السلبية، فإن تاغور يقوم على حراسة اللهيب الجوهري في حياة الهند، ويذكيه في مدرسته ويغذيه، ويرسل إلى العالم الوقت بعد الوقت خبرا عنه وصورة محيية منه. •••
كل من غاندي وتاغور متمم للآخر، وإذا كان الحديث عن الهند أشبه ما يكون بحديث عن شرقنا الأدنى لتشابه المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية هنا وهناك، فالدواء العام الذي ينشدونه في تلك الأقطار هو أول ما نحتاج إليه. نحن كالهند نحتاج إلى التوحيد بين العناصر ليتم لنا النهوض والأخذ بأسباب الحياة، نحن كالهند في حاجة إلى إحياء الصناعة الوطنية وترويجها لنتدارك فقرنا، ونكفي حاجتنا قدر المستطاع، وإن لم يكن في الإمكان أن يستغني الآن أي قطر من أقطار المسكونة عن صناعة الأقطار الأخرى أو عن بعض إنتاجها؛ فذلك لا يخلينا من تبعة التهاون في ترويج أقمشتنا ومصنوعاتنا على اختلافها.
ونحن كالهند نحتاج إلى مدارس وطنية حرة - دون أن ننكر فضل مدارس الأجانب - تكيف النفوس على حب البلاد وتتعصب لقوميتها ووحدتها، فرقي الأمم والأفراد يقاس بمبلغ امتلاكها زمام أمورها وحسن إدارتها لمصالحها الحيوية، والتعليم - مع ترقية الصناعة الوطنية وترويجها - في مقدمة هذه المصالح، وعليه المعول الآن في الشرق لتقوم المدرسة مقام المدرسة ومقام العائلة في آن واحد؛ لأن النشء يجد غالبا في المدرسة الراقية الجو المعنوي المثقف الذي لا يجده في البيت.
صفحه نامشخص