بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
ژانرها
إن هذا المقدور نفذ في جميع اللغات القديمة حتى التي يتصل عهدها بعهد اللغة العربية؛ لقد ارتفعت اليونانية واللاتينية بارتفاع مدنيتيهما وهبطتا معهما أو بعدهما بزمن يسير. فلماذا خرجت اللغة العربية من حكم ذلك المقدور، فظلت حية كل هذه القرون الطوال بعد تشتت دول الفتوح واندثار العظمة العربية؟ (2) عند اليونان
تاريخ بلاد الإغريق هو الفصل الأول من تاريخ المدنية الحديثة، ومنه استمدت أوروبا مبادئ العلم والفلسفة والآداب، وما كانت تتمتع به المدن اليونانية من حرية واستقلال مثل أعلى يتطلع إليه المفكرون والمصلحون، وتنشده الحكومات الحديثة الحرة؛ ذلك لأن اليونان بدأوا بحل المشاكل الفلسفية والعمرانية ومعالجة بعض القضايا العلمية التي تضطرب لها أجيالنا.
مرت عصور لم يكونوا فيها إلا منفعلين بحضارة الكلدان والمصريين والسوريين؛ إذ كانت شواطئ النيل والفرات منذ زمن بعيد محط مدنيات قد وصلت إلى أوج العظمة والاقتدار، لكن جاء يوم قاموا يناهضون تأثير الفينيقيين فيهم ليفسحوا المجال لمدنيتهم القومية؛ فارتقوا ارتقاء باهرا وبسطوا سلطانهم على شواطئ البحر المتوسط، وبينا جيوشهم تنشر أعلامهم على بلاد يفتحونها ويستعمرونها، كان أهل البلاد اليونانية يعيشون عيشة هنيئة مستمتعين بما وضعته جمهورياتهم من النظامات الديموقراطية والاستقلال القومي.
ولما أن قام الفرس يهددون بلادهم الأوروبية بعد فتح الآسيوية ، نهضت أثينا وإسبارطة لرد غارات المغيرين، وأصبحت أثينا عاصمة المدنية اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
غير أن منافسة إسبارطة لها ولدت بينهما الحرب البيلوبونيزية
1
الشهيرة التي انتهت بانكسار أثينا. ثم قامت طيبة تزاحم إسبارطة. وهذه الحروب المتوالية أضعفت المدن اليونانية ونالت من تضامنها واستقلالها؛ فسطا عليها فيلبس المكدوني وأخضعها لسلطانه، واجتاح ولده الإسكندر مملكة الفرس عدوة اليونان فضمها إلى مملكته الواسعة، إلا أن الإغريق انقسموا بعضهم على بعض بعد موت الإسكندر، فاستنجد الإيتوليون بالرومان فكان ذلك أول النهاية، وصارت بلاد اليونان إقليما لاتينيا منذ عام 146 قبل الميلاد. •••
أما اللغة اليونانية ففرع من طائفة اللغات الهندية الأوروبية كلغات: الفرس، والهند، وأرمينيا، وليتونيا، والقلت، والجرمان، والسلاف. وقد استعملت أولا في بلاد الإغريق الأوروبية، ثم امتدت إلى شواطئ آسيا الصغرى، وإلى الجزر التي كانت تأتيها السفن للاستراحة في رحلاتها بين القارتين الآسيوية والأوروبية. ولما تعددت مستعمرات اليونان على شاطئ البحر المتوسط انتشرت لغتهم؛ فأصبحت لغة إيطاليا الجنوبية، وأكثر جهات صقلية، وبلغت قارة أفريقيا يوم شادوا قيرين، وبلاد غاليا يوم بنوا مرسيليا.
اللغة اليونانية الأولى من أوفر اللغات ثروة، تتجلى الفصاحة في: رناتها الرقيقة، وألفاظها الأنيقة، وأساليبها الفخمة، وقد أكسبها تنوع تشكيلها وتحريك منطوقها رخامة في مقاطع الأصوات، وموسيقى لفظية في التعبير عن الأفكار والعواطف، وقد فازت بما لم تفز به اللغات الأخرى، وهو أن لها مفردات خاصة باللغة الشعرية ومثلها للغة النثرية، وقد كتب بها بعد المتقدمين المدعوين «بالمدرسيين» علماء العهد الإسكندراني، وآباء الكنيسة الشرقية، وأدباء بيزنطية منذ ملك يوستنيانس إلى فتح الأتراك لمدينة القسطنطينية (1435).
ولقد تلقينا مآثر اليونان في الفلسفة والفن والأدب عن طريق هذه اللغة؛ فيها نشأ الشعر القصصي الحماسي
صفحه نامشخص