هي نفوس المصريين جميعا، لا تستثني منها نفسا مهما يكن صاحبها؛ فالغني قلق على ثروته؛ لأنه يرى حوله من الأحداث العامة والخاصة ما يزود عن قلبه الأمن، ويصد عن نفسه الطمأنينة، ويدفعه إلى حياة قلقة خائفة، وإذا هو يعرف كيف عاش أمس، ويكاد يعرف كيف يعيش اليوم، ولكنه لا يعرف كيف يعيش غدا أو بعد غد. وليس من الهين على الأغنياء - مهما تكن حظوظ قلوبهم من القسوة واللين - أن يصبحوا محسدين، ويمسوا محسدين، ويحسوا في كل لحظة أن نفوس المحرومين متصلة بنفوسهم هذا الاتصال المخيف الذي يقوم على البغض والحسد، وعلى هذه الأماني التي تعبث بقلوب المعوزين. وليس من اليسير على الأغنياء - مهما تكن حظوظ قلوبهم من القسوة واللين - أن يعلموا أن عيون المحرومين ترمقهم حين يغدون وحين يروحون، وفيها ما فيها من التطلع والطمع، ومن التمني والأمل، ومن الحاجة المكبوتة، والسؤال الذي يعلم أن ليس له جواب.
كل ذلك يخيف، وكل ذلك يقلق، وكل ذلك ينغص الحياة أثناء اليقظة، وينغص الأحلام أثناء النوم. فإذا أضفت إلى ذلك أن أمور الأمن المادي ليست على ما يحب الناس ويشتهون؛ قدرت هذا القلق الذي يأخذ نفوس الأغنياء من جميع وجوهها، ويسعى إليها سعيا متصلا ملحا لا يريح ولا يستريح. ونفوس الموظفين قلقة؛ لأن أجورهم تضيق بأيسر حاجاتهم، فهم يكدون ويكدحون، أو هم يكسلون ولا يعملون، ولكنهم آخر الشهر يقبضون مرتبات أيسر ما توصف به أنها تسد بعض خلاتهم، ولكنها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تسد خلاتهم كلها. فهم قلقون قبل أن يخرجوا من دورهم مع الصبح؛ لأنهم يرون الحاجات الكثيرة التي تريد أن تقضى، والمادة القليلة التي لا تستطيع أن تقضي هذه الحاجات.
وهم قلقون حين يعودون إلى دورهم بعد أن يتقدم النهار؛ لأنهم يرون الفقر والبؤس والضيق، والحاجات التي كانت تريد أن تقضى فقصرت بها المادة القليلة عن القضاء. وهم ينفقون مع أهلهم ساعات قليلة عابسة، ثم تثقل عليهم الحياة في الدور فيخرجون إلى الأندية والقهوات، يلتمسون فيها التعزية والتسلية، فيظفرون بهما كشر ما يظفر الناس بالتسلية والتعزية. يلقون رفاقهم وأترابهم وذوي مودتهم فلا يسمعون منهم إلا شكاة متصلة مثل شكاتهم، وقلقا مزعجا مثل قلقهم؛ فهم يتعزون بالشكاة عن الشكاة، ويتسلون بالقلق المزعج عن القلق المزعج، وهم ينفقون حياتهم في هذا لا يذوقون لأمن النفوس طعما، ولا يحسون لاطمئنان القلوب روحا، وهم من أجل ذلك لا يحسنون التفكير في شيء، ولا يحسنون التقدير لشيء، ولا يحسنون الحكم على شيء، وهم من أجل ذلك يعملون أعمالا قلقة مقلقة، كما يشعرون شعورا قلقا مقلقا.
وغير الموظفين من عامة الشعب قلقون لأسباب تشبه هذه الأسباب: حاجاتهم كثيرة، وأيديهم قصيرة، آمالهم بعيدة واسعة، وأعمالهم قريبة ضيقة، فهم ينكرون هذا التناقض الذي يكرهون على العيش فيه، وأي شيء أثقل من أن تمتد الآمال إلى غير حد، ومن أن تتقاصر الأعمال إلى أضيق حد؟ فإذا أضفت إلى هذا كله أن الحياة العامة ليست خيرا من الحياة الخاصة، وأن الشعب المصري كان وما زال مستيقنا بأن من حقه أن يكون شعبا مستقلا، عزيزا كريما، وكان وما زال مستيقنا أن استقلاله يفتح له أبوابا من النشاط في الحياة العالمية السياسية والثقافية والاقتصادية، وكان وما زال مستيقنا أن من حقه أن يبسط أمله إلى أبعد الآمال والغايات، وأن ينشئ أبناءه على هذه الحياة الواثقة بحاضرها، المطمئنة إلى مستقبلها.
ثم هو ينظر فيرى استقلاله ما زال في درج من أدراج وزارة الخارجية البريطانية سجينا، قد حيل بينه وبين الحرية التي تتيح له أن يعود إلى وادي النيل، فيملأ نفوس أهله وقلوبهم بشرا وبهجة واغتباطا، ثم هو ينظر فيرى القوة البريطانية ما زالت تأخذه من جميع أقطاره، تحتل أرضه في الشرق والجنوب، وترابط على حدوده في الغرب، وتأخذ عليه مسالك البحر في الشمال، فلا يكاد يرى هذا كله حتى تمتلئ نفسه قلقا على حاضره ومستقبله في حياته العامة، كما امتلأت نفوس أفراده قلقا على حاضرهم ومستقبلهم في حياتهم الخاصة.
فكيف تريد أن يستقبل هذا الشعب أيامه راضيا مبتهجا مسرورا والشعوب لا تمارس أمورها بأنفسها؟ وإنما تمارس أمورها بواسطة هؤلاء الناس الذين تنتخبهم؛ ليكونوا لها شيوخا ونوابا، تلقي عليهم أعباء الأمور العامة، ثم يفرغ أفرادها لأمورهم الخاصة حتى يجيء موعد الانتخاب، وهي تمارس أمورها العامة بهؤلاء الناس الذين يتولون فيها الحكم نائبين عن البرلمان، مسئولين أمامه، يؤدون إليه الحساب عن كل ما يأتون وما يدعون. فإذا نظر الشعب فرأى شيوخه ونوابه ووزراءه لا يحتملون الأعباء كما كان ينبغي أن يحملوها، ولا يصرفون الأمور كما كان ينبغي أن يصرفوها، وأنما تثقل عليهم الأعباء فلا يستطيعون أن ينهضوا، وتنتشر عليهم الأمور فلا يستطيعون أن يتصرفوا، وتعجبهم مع ذلك نفوسهم فلا يستطيعون أن يتخلوا عن مناصبهم ومراكزهم، وإنما يظلون جاثمين على صدر الشعب كما يجثم الكابوس الثقيل الطويل ...
إذا نظر الشعب فرأى هذا ورأى أنه لا يستطيع أن يغير من هذا قليلا ولا كثيرا تسلط القلق عليه، فأفسد أمره كله إفسادا منكرا.
فكيف إذا نظر الشعب فرأى الفساد يحيط بمرافقه كلها، ويتغلغل فيها كلها، ويحول بينها وبين أن تنتج له بعض ما كان ينتظر منها، فضلا عن أن تخرجه من الضعف إلى القوة، ومن الانحطاط إلى الرقي، ومن الظلمة إلى النور.
تحدث إلى من شئت من المصريين، واختره من أي طبقة شئت، وتحدث معه في أي موضوع شئت؛ فلن تسمع منه إلا حديث القلق والخطر، لا على حياته الخاصة، بل على كل شيء. بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا؛ وأزعم أنك لن تستطيع أن تتحدث إلى المصريين مهما يكونوا، ومهما تكن طبقتهم، ومهما يكن الموضوع الذي تتحدث إليهم فيه وقد برأت نفسك من القلق ورددتها إلى الأمن، وجعلتها قادرة على أن تبحث وتستقصي غير متأثرة بالقلق العام، ولا مشاركة فيه، لن تستطيع ذلك مهما تكن، ومهما تكن طبقتك؛ لأنك قلق كغيرك من المصريين. فأنت كهؤلاء الموظفين الذين ذكرتهم آنفا؛ تتعزى عن قلقك بقلق مواطنيك، وأنا حين أملي هذا الحديث لم آخذ في إملائه إلا وأنا أجد من القلق مثل ما يجد غيري من المصريين، أو أكثر مما يجد غيري من المصريين. وما أعلم أني صورت قط حياة المصريين تصويرا صادقا كما أصورها في هذا الحديث؛ فهي حياة قد تغلغل القلق فيها حتى أصبحت كلها قلقا.
بقي أن نسأل، ولن نجد من يجيب عن هذا السؤال: لمصلحة من يفرض هذا القلق العام على الشعب المصري؟!
صفحه نامشخص