بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
ژانرها
وقد خيم اليأس على نفوس العصبة بعد رد الدوتشي، فإن رده لا يدل على أنه عاد إلى المسالمة والوفاق. وقد قدم هذا الرد لأنه يعلم أن الحبشة لا تقبله، وأن أعضاء العصبة لن يقبلوه، ولم يبق إلا أن تنسحب إيطاليا من العصبة.
وأخذت الأنباء تتسرب بأن بعض أعضاء مجلس الشيوخ، وأركان الحرب
24
في إيطاليا أخذت تتشاءم من الحرب، وتسيء الظن بنتائجها، وتتوقع الشر والسوء من مغبتها، ويتصل بعضهم بجلالة فيكتور عمانوائيل ليقنع جلالته بذلك؛ لما هو مشهور عنه من حب الخير والسلم، وبغض الحرب وإهراق الدماء.
ولا يزال بعض النوكى والحمقى يظنون أن الدوتشي قد يعود إلى المصالحة، ويظنون أعماله من قبيل «البلف» والتهويش، والحقيقة في ذهن العقلاء والمفكرين أن الرجل جاد الجد كله، قد يكون مغامرا، وقد يكون شاعرا بالخطر، ولكنه بلا ريب قد وزن كل الأمور، وحسب لكل شيء حسابه، ولم تفته صغيرة ولا كبيرة، وأن حوله فئة من أهل السياسة والحرب قد عاونوه على الوصول إلى نتيجة تسره وتسرهم، واتخذوا لها أهبتهم، ولسانهم الناطق سنيور جايدا، منشئ جورنالي ديطاليا، وشاعر الفاشستية المداح والهجاء، ورافع لواء المعاداة لإنجلترا، وفاضح أسرار الاستعمار، على زعمه.
وعلى هذا الرأي حكومة الحبشة وشعبها، ومعظم رجال السياسة والصحافة في إنجلترا وألمانيا، بل إن حوادث الأيام نفسها تؤيد صحة عزم الدوتشي ، فلم تر في تاريخ العالم أن عشرة آلاف رجل يرسلون في يوم واحد لميدان الحرب دون أن تكون الحرب مؤكدة وواقعة. وقد وقعت فعلا!
كل هذا حادث وعصبة الأمم مستمرة في أداء عملها، وأعضاؤها يعتقدون أنهم قادرون على منع الحرب، وبعد أن رفضت إيطاليا اقتراحات الخمسة، وقدمت اقتراحات مستحيلة القبول عقدت لجنة الثلاثة عشر المؤلفة من جميع أعضاء مجلس العصبة، ما عدا العضو الإيطالي؛ لوضع تقرير عن النزاع بين إيطاليا والحبشة، فقرر شكر إمبراطور الحبشة؛ لأنه أمر بسحب جنوده ثلاثين كيلومترا وراء الحدود رغبة منه في اجتناب الحوادث، وتلت طلبه البرقي بإرسال لجنة دولية ترقب من يبدأ بالاعتداء، فاتفقت على صيغة الجواب، ووعدته خيرا. ويعد هذان العملان حكما تمهيديا ضد إيطاليا، ولهذا الاجتماع الإجماعي سابقتان في حرب جران شاكو، وفي نزاع الصين واليابان، وستظل دورة انعقاد الجمعية العمومية للعصبة مستمرة إلى أن ينجلي الموقف، فاحتج مندوب إيطاليا على استمرار الاجتماع إلى أجل غير مسمى؛ بحجة أن العصبة غير مرتبطة ارتباطا رسميا بالنزاع الناشب.
ومما يجدر ملاحظته من الوجهتين السياسية والقانونية أن إيطاليا التي تتهدد العصبة بالانسحاب، وتحاول التقليل من قدر قراراتها في نظر العالم، لم تترك ناحية من ناحيات النقد القانوني ضد العصبة إلا تناولتها بكثير من الدهاء والحيطة، كما يفعل أمهر المحامين وأحذقهم، فمن ذلك قولهم: إن الوقت مناسب لتطبيق البند 16 من عهد العصبة على الحبشة، وهو ينص على «إخراج العضو الذي لا يليق أن يبقى في العصبة ...» والبند 22 الخاص بالانتداب، وأن العقوبات لا تفرض إلا في حالة الانشقاق المفاجئ لا في الحالة الراهنة، حيث سبق للمجلس أن تدخل في الأمر، وقد تخلفت إيطاليا عن حضور جلسة 26 سبتمبر؛ لتحتفظ بكامل حريتها فلا يصدر أي قرار في مواجهتها.
وفي وسط هذا التوتر الشديد في أعصاب العالم تكلم سنيور بنديتو موسوليني فقال (27 سبتمبر 1935): «لقد فكرت مليا، وحسبت كثيرا، ووزنت كل شيء، ولن يستطيع أحد وقف مليونين من أبناء إيطاليا يتوقون إلى شرف الذهاب إلى شرقي أفريقيا لخدمة وطنهم، والموت في سبيله إذا قضت الضرورة، وأنا أختار التضحية بالحياة على السلام (كذا).» وقد تقدم الدوتشي بقلمه يكتب بدون توقيع في جريدة المنبر «تريبونا»، التي صدرت في 27 سبتمبر بروما، فقال: «إن العقوبات لا وجود لها في ميثاق العصبة، والمادة 16 تشير فقط إلى قطع العلاقات المالية والتجارية، ولما كانت إيطاليا الفاشستية لم تقترض درهما واحدا في تاريخها، فلا يمكن أن ينكر عليها ما لم تطلبه، والبلاد التي تدعو بإلحاح إلى توقيع العقوبات هي التي تبيعنا أكثر مما تشتري منا، فإذا لم تشأ أن تبيع لنا أو تشتري منا فإننا نشكرها، ولكن إذا حاصرونا فمعنى ذلك الحرب، ونحن نحارب أيضا.»
وقد انتهز خصوم إيطاليا فرصة هذا التصريح وقالوا إن الحبشة قد تصير كابوريتو ثانية، وقد تمسي الحبشة عند ذلك مقبرة الفاشيزم.
صفحه نامشخص