بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
بين الأسد الأفريقي والنمر الإيطالي: بحث تحليلي تاريخي ونفساني واجتماعي في المشكلة الحبشية الإيطالية
ژانرها
ولا تزال آثار هذا الاختلاط ظاهرة في شمال الحبشة، وأهل هذه المنطقة يسمون أنفسهم «إيتو بيافيان»، وهم الذين أطلق عليهم العرب اسم الأحباش أو «الخليط»، ومن كلمة حبش جاءت كلمة الإفرنج «إبيسنيا».
وما زال العنصر السائد في البلاد هو العنصر الحميري السامي، ولو لم يمتزج هذا العنصر بالزنوج لأمكن الاحتفاظ بكل مقوماته القومية، ولكن خالطته دماء سوداء، وأدى هذا الاختلاط إلى تحول في اللون، وفي شكل الشعر، وتباين التقاطيع في سحنة الرجال والنساء.
1
واللغة الحبشية الرسمية التي يتكلمها المتعلمون فنن من اللغة السامية، وترجع إلى اللغة الحميرية أقدم فروع اللغة السامية، وقد جلبها معهم النزلاء الأول الذين نزحوا من اليمن إلى ضفاف عطبرة ومأرب والنيل الأسود وبحيرة تانا.
وكان الشعب الحبشي يدين بالوثنية الأفريقية، فدخلت عليه معتقدات سامية، ولكن الدين الإسرائيلي لم ينتشر فيه لأسباب كثيرة، إلى أن جاء القرن الرابع المسيحي فأدخل فرمنتيوس السكندري النصراني العقيدة النصرانية، وما زالت ديانتهم إلى الآن. وقد يعجب الإنسان من بعض المفارقات الاجتماعية التي تجمع بين المتناقضات؛ فالنجاشي وهو ملك مطلق أو ملك الملوك يتمتع بسلطة لا تحدها العادات المرعية، وهي قانون عرفي محفوظ غير مكتوب ولا مدون، ويتحتم على كل إنسان أن يحترمه ويرعاه. ويخضع للنجاشي كل الرءوس، وتحت الرءوس الدجازماك والكانيازماك، وهما رئيسا الميمنة والميسرة.
وما زالت بعض الأحكام تصدر بما يخالف القوانين المعمول بها في أنحاء العالم؛ لأن الشعب الحبشي صرف كل جهوده نحو الدفاع عن استقلاله، فلم ينتبه إلى ناحيات الحضارة الإنسانية، فإن بعض ممالك أوروبا وأفريقيا لم تترك له فرصة إلا ليلم شعثه، ويجهز جيشا من المحاربين الأشداء، وعمله الوحيد الذود عن حياض استقلالهم القومي، وحريتهم الوطنية، ثم إن أوروبا هذه التي لم تترك فرصة لهؤلاء المساكين يلتمسون أثناءها وسائل الترقي التي نالتها أوروبا نفسها في هدوء وأمان، منذ القرون الوسطى إلى الآن، نرى أوروبا هذه تعير الأحباش بأنهم لا يطبقون في محاكمهم قوانين بونابرت، وأنهم لا يزالون يستعملون السحر والمندل في اكتشاف المجرمين، ويأخذون بما يقول به طفل منوم على يد قسيس صادق، أو مشعوذ دجال، وأنهم لا يزالون يخلطون بين القتل العمد والقتل الخطأ.
2
وأن مسيحيتهم لا تزال فطرية ولم تخلص من شوائب قديمة ... كل هذا تنسبه بعض ممالك أوروبا للحبشة، وتنسى أنها هي السبب في بقاء تلك العورات التي تضخمها وتبالغ في وصفها، وتهول بها حتى تسيء إلى سمعة الحبشة. ونسيت هذه الممالك الأوروبية أن الحبشة كانت مستقلة ومتمتعة بالحرية عندما كانت تلك الممالك نفسها ترزح تحت نير حكام وطغاة وظالمين مستبدين من أهل البلاد وغيرهم.
إن الأحباش فضلوا أن يعيشوا أحرارا وهم حفاة عراة يقاومون الجوع والظمأ، ويقاسون أهوال الفقر والفاقة، وقد وضعوا الحرية والعزة القومية فوق كل اعتبار آخر. وفي الوقت نفسه تعيش على ظهر هذه الأرض أمم سابحة في بحبوحة من النعم، وسارحة في فردوس من الهناء المادي، ولكنها في الوقت نفسه رازحة تحت نير العبودية، وأفرادها يلبسون الخز والديباج والحرير والسندس، ورجالها يحلون صدورهم بالنياشين والأوسمة، ويحملون ألقاب الشرف المصطنع، والتي يظنون معها أنهم فوق البشر، ويدوسون في رفق ولين بأقدام مكسوة بجوارب من الحرير الناعم، وفي أحذية من جلد ملون لين الملمس على أرض ممهدة لا أشواك فيها، ولا صخور جارحة.
وإنه ليوجد رجال من العقلاء والعلماء والشرفاء، والذين يؤخذ برأيهم، ويقام لقولهم وزن. وهؤلاء الرجال يفضلون في صراحة وشجاعة حياة الأحباش وأخلاقهم على أنهم حفاة وعراة وفقراء، وجائعون وعطشانون؛ لأنهم متمتعون برجولتهم كاملة، ولأنهم يعرفون أسمى حقوق البشر، ويحتفظون بها، ويدافعون عنها. يفضلونهم على هؤلاء الأعيان والنبلاء الناعمين المنعمين «المطقمين»، «المطمرين»، «المجمرين» كأنهم خيول مطهمة أعدت لركوب سادتها في الحرب والسلم، ومع كل تلك النعومة والرشاقة وحسن القيافة تجد هؤلاء السادة بمعزل عن إدراك المثل العليا التي تمجدها أوروبا، والتي أدركتها الحبشة وهي لا تزال على الفطرة الإنسانية.
صفحه نامشخص