شيعها السيد بنظرة ساخطة وهو يلعن الحظ الذي قضى بأن ينكشف أمام كثيرين - خاصة أهله - ممن عرفوه مثالا للجد والرزانة، أجل لم يزل ثمة أمل في ألا يبلغ الحادث أحدا من آله ولكنه أمل ضعيف، ولم يزل ثمة رجاء في ألا يفهموه إذا بلغهم - بما طبعوا عليه من براءة - على حقيقته، ولكنه رجاء غير مضمون لأكثر من سبب، بيد أنه على أسوأ الفروض لا يحق له أن يجزع؛ لأن خضوعهم له من ناحية وسيطرته عليهم من ناحية أخرى أثبت من أن يزعزعهما مزعزع، ولا هذه الفضيحة نفسها، وفضلا عن هذا فإن احتمال انكشاف أمره لدى أحد من أبنائه أو لديهم جميعا لم يكن عنده يوما بالفرض المستحيل، ولكنه لم يقلق لذاك أكثر مما ينبغي؛ لثقته بقوته ولأنه لم يعتمد في تربيتهم على القدوة والإقناع، فيخاف انحرافهم عن الجادة تبعا لما قد يظهر لهم من انحرافه عنها، ولأنه استبعد أن يطلعوا على شيء من أمره قبل أن يبلغوا أشدهم أي حين لا يهمه كثيرا أن ينكشف لهم سره، ولكن شيئا من هذا لم يستطع أن يلطف من أسفه على ما وقع. حقا لم يخل من سرور ومن تيه جنسي؛ إذ إن مجيء امرأة كجليلة بنفسها إلى مجلسه لتهنئه أو لتعابثه أو حتى لتتهكم بعشقه الجديد «حادث» له مغزاه الهام في الأوساط التي تشهد لياليه، وظاهرة لها دلالتها البعيدة لرجل مثله لا يعدل بالهوى والطرب والأنس شيئا، ولكن كم كانت تكون سعادته صافية لو وقع الحادث الجميل بعيدا عن هذه البيئة العائلية!
أما ياسين وفهمي فلم تتحول عيناهما عن باب المنظرة منذ ولجته جليلة، حتى خرجت منه مصحوبة بالسيد محمد عفت. دهش فهمي دهشة بكرا دار لها رأسه كياسين حين سمع زنوبة وهي تجيبه قائلة: «إنه من حينا ولا بد أنك تسمع عنه ... السيد أحمد عبد الجواد ...» على حين ركب ياسين حب استطلاع نهم، فأدرك - في سعادة أيقظت في قلبه نشوة الإعجاب والمشاركة الوجدانية التي شعر بها نحو أبيه في حجرة زنوبة - أن جليلة مغامرة أخرى في حياة أبيه، التي بات يؤمن بأنها سلسلة ذهبية من المغامرات، وأن الرجل فاق كل ما تصوره خياله عنه، ولبث فهمي يأمل ويرجو أن يعلم بين حين وآخر بأن العالمة إنما أرادت مقابلة والده لسبب أو لآخر يتعلق بدعوتها إلى إحياء فرح عائشة، حتى جاء خليل شوكت وأخبرهما ضاحكا بأن جليلة «تداعب السيد»، وبأنها «تتودد إليه تودد الصديق للصديق» وعند ذاك لم يطق ياسين صبرا على كتمان ما عنده من سر، ووثبت نشوة الشراب به إلى الإدلاء بمعلوماته، فانتظر حتى غادر خليل ثم مال على أذن أخيه قائلا، وهو يغالب ضحكه: «كتمت عنك أشياء تحرجت من البوح بها في حينها، أما وقد رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت، فسأبوح لك بها» ومضى يقص عليه ما سمع وما رأى في بيت زبيدة العالمة، وفهمي يقاطعه من آونة لأخرى قائلا في ذهول: «لا تقل هذا ...» «هل فقدت وعيك؟» «كيف تريدني على أن أصدقك» حتى أتى الشاب على قصته بكل تفاصيلها. لم يكن فهمي، بما نشأ عليه من عقيدة ومثالية، على استعداد لفهم - بله هضم - السيرة الخفية التي تنكشف له لأول مرة خاصة وأن والده نفسه كان من أركان عقيدته ودعائم مثاليته، ولعل ثمة وجها من التشابه بين شعوره وهو يعاني هذا الكشف لأول وهلة وبين شعور الجنين - إن صدق الخيال - وهو ينتقل من مستقر الرحم إلى مضطرب الحياة، ولعله لو كان قيل له إن جامع قلاوون انعكس وضعه فصارت المئذنة أسفل بنائه والضريح عاليه، أو كان قيل له إن محمد فريد خان رسالة مصطفى كامل وباع نفسه للإنجليز لما كان هذا أو ذاك بأدعى إلى إنكاره وانزعاجه. «أبي يذهب إلى بيت زبيدة ليشرب ويغني ويضرب الدف! ... أبي يذعن لمداعبة جليلة وتوددها! ... أبي يقترف السكر والزنا، كيف اجتمعت الثلاث! ... إذن هو غير الأب الذي عرفته في البيت مثالا للورع والقوة! ... أيهما الصحيح؟ ... كأني أسمعه الآن وهو يردد: الله أكبر ... الله أكبر، فكيف ترديده للغناء! ... حياة تمثيل ورياء! ولكنه صادق، صادق إذا رفع رأسه للدعاء، صادق إذا غضب ... أيكون أبي رذيلة أم يكون الفسق فضيلة؟! ...» - ذهلت؟! ... ذهلت أنا أيضا عندما نطقت زنوبة باسمه، ولكن سرعان ما استسخفت نفسي، وسألتها: ماذا عليه من هذا؟! ... كفر! هكذا الرجال جميعا أو هكذا يجب أن يكونوا. «هذا القول جدير بياسين حقا ... ياسين شيء وأبي شيء آخر ... ياسين! ... ما ياسين؟! ... ولكن كيف يحق لي أن أردد هذا الآن وأبي، أبي نفسه، لا يختلف عنه في شيء إن لم يفقه تدهورا ... كلا ليس تدهورا ... ثمة أمر أجهله ... أبي لا يخطئ ... غير قابل للخطأ، فوق الشبهات ... وعلى أي حال فوق الاحتقار.» - ما زلت ذاهلا؟! - لا أتصور شيئا مما قلت! - لماذا؟ ... اضحك وافهم الدنيا، يغني وماذا في الغناء من عيب؟ ويسكر وصدقني أن السكر ألذ من الأكل، ويعشق والعشق كان ملهاة الخلفاء، اقرأ ديوان الحماسة والأخبار التي بهامشه، ليس على أبينا حرج، اهتف معي ليحي السيد أحمد عبد الجواد، ليحي أبونا، سأتركك لحظة ريثما أزور - لهذه المناسبة - الزجاجة التي أخفيتها تحت الكرسي.
بعودة العالمة إلى التخت شاع في الحريم نبأ مقابلتها للسيد أحمد عبد الجواد، فانتقل من لسان إلى لسان حتى تناهى إلى الأم وخديجة وعائشة، ومع أنهن كن يسمعن شيئا كهذا لأول مرة إلا أن سيدات كثيرات - ممن بين بعولهن وبين السيد سبب من أسباب المودة - تلقين النبأ في غير ما دهش، وغمزن بأعينهن باسمات شأن الذي يعرف أكثر مما يقال، ولكن واحدة منهن لم تسول لها نفسها الخوض في الموضوع، إما لأن الخوض فيه جهارا أمر لا يجمل بهن أمام كريماتهن، وإما لأن دواعي المجاملة أملت عليهن بأن يمسكن عنه حيال أمينة وكريمتيها، غير أن حرم المرحوم شوكت قالت لأمينة مداعبة: «حذار يا أمينة هانم؛ فالظاهر أن عين جليلة زاغت إلى السيد أحمد!» فابتسمت أمينة متظاهرة بعدم الاكتراث ودم الحياء والارتباك يخضب وجهها، لأول مرة تلمس دليلا محسوسا على ما قام بنفسها قديما من شكوك، ومع أنها ألفت الصبر والتسليم بما قدر عليها، إلا أن ارتطامها بدليل محسوس حز في قلبها، فأحست عذابا لا عهد لها به، وجرحا داميا في صميم كبريائها، وأرادت امرأة أن تعلق على قول حرم المرحوم شوكت بكلمة مجاملة تليق بأم العروس، فقالت: «من يكن له وجه كوجه ست أم فهمي قسامة، فلا يحق لها أن تخشى زيغان عين زوجها إلى امرأة أخرى!» فاهتزت جوانحها للثناء وعاودتها ابتسامتها الحيية، ووجدت - على أي حال - بعض العزاء عما تعانيه من ألم صامت، إلا أنه لما بدأت جليلة أغنية جديدة فملأ صوتها مسمعيها ثار بها غضب مفاجئ، وشعرت ثواني بأن زمام نفسها سيفلت من قبضتها، ولكنها سرعان ما كظمته بقوة خليقة بامرأة لم تعترف لنفسها قط بحق الغضب. هذا على حين تلقت خديجة وعائشة النبأ بدهش فتبادلتا نظرة حائرة، وتساءلتا بعينيهما عما يعنيه الأمر كله، بيد أن دهشهما لم يقترن بانزعاج كما حدث لفهمي ولا بألم كما حدث لأمهما، ولعلهما وجدتا في قيام امرأة كجليلة من تختها وتكبدها مشقة النزول إلى مجلس أبيهما لتحيته ومحادثته شيئا مثيرا للإعجاب حقا، ثم شعرت خديجة برغبة غريزية في استطلاع وجه أمها، فاسترقت إليها النظر، ومع أنها رأتها تبتسم إلا أنها فطنت من أول وهلة إلى أنها تكابد ألما وارتباكا ينغصان عليها صفوها، وأحست بضيق وما لبثت أن حنقت على العالمة وحرم المرحوم شوكت والمجلس كله.
ولما أزفت ساعة الزفة نسي كل همه. أسابيع مضت فشهور وصورة عائشة في ثوب الزفاف لا تبرح الأذهان. •••
بدت الغورية متلفعة بالظلام والصمت حينما غادرت الأسرة بيت العروس عائدة إلى النحاسين. سار السيد أحمد في المقدمة وحده، وتبعه على بعد أمتار فهمي وياسين الذي أفرغ ما في وسعه كيما يتمالك نفسه، ويتحكم في مشيته أن يخونه وعيه الزائغ من فرط الشراب، ثم جاءت في المؤخرة أمينة وخديجة وكمال وأم حنفي، انضم كمال إلى القافلة على رغمه، فلولا الحادي الذي يتقدمها لوجد سبيلا إلى عصيان يد والدته، وانقلب راجعا إلى حيث غادروا عائشة، وجعل لهذا يتلفت بين خطوة وأخرى صوب بوابة المتولي؛ ليودع أسيفا محزونا آخر ما لاح من مظاهر الفرح، ذلك المصباح المضيء الذي رقي عامل في سلم خشبي إليه ؛ ليقتلعه من مربطه فوق مدخل السكرية، لشد ما يقطع قلبه أن ينظر إلى أسرته، فيجدها قد تخلت عن أحب أفرادها إليه بعد أمه، ورفع بصره إلى والدته وسألها هامسا: متى تعود أبلة عائشة إلينا؟
فأجابته بمثل صوته: لا تكرر هذا وادع لها بالسعادة، ستزورنا كثيرا ونزورها كثيرا.
فهمس مرة أخرى محنقا: ضحكتم علي!
فأشارت بيدها إلى الأمام، في اتجاه السيد الذي كادت تبتلعه الظلمة ومطت شفتيها هامسة «هس»، ولكنه كان مشغولا باستحضار صور مما مر به في بيت العرس إلى مخيلته، رأى أنها متناهية في غرابتها، وفيما بعثته في نفسه من حيرة، فجذب يدها إليه ليبتعد بها عن خديجة وأم حنفي، ثم همس متسائلا، وهو يشير إلى الوراء: أما علمت بما يدور هنالك؟ - ماذا تقصد؟ - نظرت من ثقب الباب.
فانقبض قلب الأم جزعا؛ لأنها حدست أي باب يعني، ولكنها سألته مكذبة نفسها: أي باب؟ - باب غرفة العروس!
فقالت المرأة بانزعاج: يا له من عيب أن ينظر الإنسان من ثقوب الأبواب!
صفحه نامشخص